الأربعاء 25 / جمادى الأولى / 1446 - 27 / نوفمبر 2024
[3] من قوله تعالى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم مِّن وُجْدِكُمْ} الآية:6 إلى آخر السورة ‏
تاريخ النشر: ٢٢ / محرّم / ١٤٢٧
مرات الإستماع: 9956

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال المفسر -رحمه الله تعالى:

يقول تعالى مبيناً لعدة الآيسة -وهي التي انقطع عنها المحيض لكبرها- أنها ثلاثة أشهر، عوضاً عن الثلاثة القروء في حق من تحيض، كما دلت على ذلك آية البقرة، وكذا الصغار اللائي لم يبلغن سن الحيض أن عدتهن كعدة الآيسة ثلاثة أشهر، ولهذا قال تعالى: وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ [سورة الطلاق:4].

وقوله تعالى: إِنِ ارْتَبْتُمْ [سورة الطلاق:4] فيه قولان، أحدهما: وهو قول طائفة من السلف كمجاهد والزهري وابن زيد: أي إن رأين دماً، وشككتم في كونه حيضاً أو استحاضة وارتبتم فيه.

والقول الثاني: إن ارتبتم في حكم عدتهن ولم تعرفوه فهو ثلاثة أشهر، وهذا مروي عن سعيد بن جبير، وهو اختيار ابن جرير، وهو أظهر في المعنى، واحتج عليه بما رواه عن أبيّ بن كعب -رضي الله تعالى عنه- قال: يا رسول الله إن عِدداً من عِدد النساء لم تذكر في الكتاب: الصغار والكبار وأولات الأحمال، قال: فأنزل الله : وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِن نِّسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُوْلَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ [سورة الطلاق:4]

ورواه ابن أبي حاتم بأبسط من هذا السياق، عن أبيّ بن كعب -رضي الله تعالى عنه- قال: قلت لرسول الله ﷺ: إن ناساً من أهل المدينة لما أنزلت هذه الآية التي في البقرة في عدة النساء، قالوا: لقد بقي من عدة النساء عِدد لم يذكرن في القرآن: الصغار والكبار اللائي قد انقطع منهن الحيض، وذوات الحمل، قال: فأنزلت التي في النساء القُصْرى: وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِن نِّسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ [سورة الطلاق:4].

في هذه الآية ثلاثة أقوال، قلنا: إن أضعفها هو قول من قال: إن ذلك يرجع إلى أول السورة، فالله يقول في أولها: إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ [سورة الطلاق:1]، والمعنى على هذا: فإن حصل لكم ريب فالعدة ثلاثة أشهر، وقلنا: هذا اختيار القرطبي -رحمه الله.

وأما القولان الآخران فهما ما سمعتم، والذي اختاره ابن كثير هو اختيار ابن جرير أيضاً، فعلى قول ابن كثير وابن جرير ومن وافقهما تكون هذه الجملة اعتراضية إِنِ ارْتَبْتُمْ [سورة الطلاق:4] وسبب النزول يوضح ذلك، وعلى القول الآخر: إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ [سورة الطلاق:4] يكون شرطاً، والجواب: فَعِدَّتُهُنَّ  [سورة الطلاق:4] يعني إن حصل لكم ريب في الدم النازل بعد اليأس، أو انقطاع الدم بعد الطلاق، لو انقطع دمها فعدتها ثلاثة أشهر.

وقوله تعالى: وَأُوْلَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ [سورة الطلاق:4] يقول تعالى: ومن كانت حاملاً فعدتها بوضعه، ولو كان بعد الطلاق أو الموت بِفَوَاق ناقة، في قول جمهور العلماء من السلف والخلف، كما هو نص هذه الآية الكريمة، وكما وردت به السنة النبوية.

روى البخاري عن أبي سلمة -رضي الله تعالى عنه- قال: جاء رجل إلى ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما- وأبو هريرة -رضي الله تعالى عنه- جالس، فقال: أفتني في امرأة ولدت بعد زوجها بأربعين ليلة، فقال ابن عباس: آخر الأجلين، قلت أنا: وَأُوْلَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ  [سورة الطلاق:4] قال أبو هريرة: أنا مع ابن أخي -يعني أبا سلمة، فأرسل ابن عباس غلامه كريباً إلى أم سلمة يسألها، فقالت: قتل زوج سبيعة الأسلمية وهي حبلى، فوضعت بعد موته بأربعين ليلة، فخطبت، فأنكحها رسول الله ﷺ، وكان أبو السنابل فيمن خطبها[1].

هكذا أورد البخاري هذا الحديث هاهنا مختصراً، وقد رواه هو ومسلم وأصحاب الكتب مطولاً من وجوه أُخر.

وروى الإمام أحمد عن المِسْور بن مخرمة -رضي الله تعالى عنه: أن سبيعة الأسلمية -رضي الله تعالى عنها- توفي عنها زوجها وهي حامل، فلم تمكث إلا ليالي حتى وضعت، فلما تعلَّت من نفاسها خطبت، فاستأذنت رسول الله ﷺ في النكاح، فأذن لها أن تنكح فنكحت[2]. ورواه البخاري في صحيحه ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه من طرق عنها.

كما روى مسلم بن الحجاج عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة أن أباه كتب إلى عمر بن عبد الله بن الأرقم الزهري يأمره أن يدخل على سبيعة بنت الحارث الأسلمية، فيسألها عن حديثها، وعما قال لها رسول الله  ﷺ حين استفتته، فكتب عمر بن عبد الله يخبره أن سبيعة أخبرته أنها كانت تحت سعد بن خولة، وكان ممن شهد بدراً، فتوفي عنها في حجة الوداع وهي حامل، فلم تنْشَب أن وضعت حملها بعد وفاته، فلما تعلَّت من نفاسها تجملت للخُطاب، فدخل عليها أبو السنابل بن بعكك، فقال لها: ما لي أراك متجملة لعلك ترجين النكاح؟ إنكِ والله ما أنت بناكح حتى تمر عليك أربعة أشهر وعشر.

قالت سبيعة: فلما قال لي ذلك جمعت عليّ ثيابي حين أمسيت، فأتيت رسول الله ﷺ فسألته عن ذلك، فأفتاني بأني قد حللت حين وضعت حملي، وأمرني بالتزويج إن بدا لي[3]. هذا لفظ مسلم، ورواه البخاري مختصراً[4].

هذه الآية فيها القولان المشهوران وَأُوْلَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ [سورة الطلاق:4] هل هي في عموم المطلقات والمتوفى عنهن، أو أنها في خصوص المطلقة؟

فالذي ذهب إليه علي وابن عباس -كما هو مشهور عنهما- أن المتوفى عنها زوجها تبقى أطول الأجلين، فإذا كان بقي عليها من الحمل تسعة أشهر مثلاً، وقد توفي عنها زوجها، فإنها تبقى تسعة أشهر تعتد بالحمل، وإذا كان الباقي عليها أقل من أربعة أشهر وعشر فإنها تبقى أربعة أشهر وعشراً، خلافاً لأبي هريرة وجماعة.

والمسألة معروفة مشهورة في كلام أهل العلم، والذي عليه كثير من السلف والخلف أنها تنقضي عدتها بوضع الحمل، سواء كان متوفى عنها زوجها، أو كانت مطلقة، وهذه الأدلة تدل على ذلك، والله أعلم.

فلو أنه توفي زوجها فوضعت الحمل بعد لحظة من وفاته فإنها تكون قد خرجت من عدتها.

قوله تعالى: وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا [سورة الطلاق:4] أي: يسهل له أمره وييسره عليه، ويجعل له فرجاً قريباً، ومخرجاً عاجلاً، ثم قال تعالى: ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنزَلَهُ إِلَيْكُمْ [سورة الطلاق:5] أي: حكمه وشرعه أنزله إليكم بواسطة رسول الله ﷺ، وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا [سورة الطلاق:5] أي: يُذهب عنه المحذور، ويجزل له الثواب على العمل اليسير.

أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم مِّن وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِن كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُم بِمَعْرُوفٍ وَإِن تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى ۝ لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا [سورة الطلاق:6، 7].

يقول تعالى آمراً عباده إذا طلق أحدهم المرأة أن يسكنها في منزل حتى تنقضي عدتها، فقال: أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم [سورة الطلاق:6] أي: عندكم مِّن وُجْدِكُمْ [سورة الطلاق:6] قال ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما- ومجاهد وغير واحد: يعني سعتكم، حتى قال قتادة: إن لم تجد إلا جنب بيتك فأسكنها فيه.

وقوله تعالى: وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ [سورة الطلاق:6] قال مقاتل بن حيان: يعني يضاجرها لتفتدي منه بمالها، أو تخرج من مسكنه.

وقال الثوري عن منصور عن أبي الضحى: وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ [سورة الطلاق:6] قال: يطلقها فإذا بقي يومان راجعها.

هذا كله من المضارة، يعني بأي وجه كانت الأذية، ولأي سبب، فإنه منهي عنه، وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ [سورة الطلاق:6] من أجل أن تفتدي، أو من أجل أن يتخلص من هذه التبعة في السكنى، أو غير ذلك، فهذا لا يجوز له، والكلام هنا طبعاً في السكنى في المطلقة الرجعية كما سبق؛ لأن البائن لا سكنى لها ولا نفقة.

وقوله تعالى: وَإِن كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ [سورة الطلاق:6] هذه في البائن إن كانت حاملاً أنفق عليها حتى تضع حملها، بدليل أن الرجعية تجب نفقتها سواء كانت حاملاً أو حائلاً.

طالب: في فرق بين الحامل والحائل يا شيخ؟

نعم الحائل هي التي لا حمل في بطنها، يقال: حائل.

وقوله تعالى: فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ [سورة الطلاق:6] أي: إذا وضعن حملهن وهن طوالق فقد بِنّ بانقضاء عدتهن، ولها حينئذٍ أن ترضع الولد، ولها أن تمتنع منه، ولكن بعد أن تغذيه باللّبَأ -وهو باكورة اللبن الذي لا قوام للمولود غالباً إلا به- فإن أرضعت استحقت أجر مثلها، ولها أن تعاقد أباه أو وليه على ما ينفقان عليه من أجرة، ولهذا قال تعالى: فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ [سورة الطلاق:6].

سبق الكلام على هذا المعنى في قوله تعالى في سورة البقرة: لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ [سورة البقرة:233] فالحاصل: أنه لا يجب عليها أن ترضع ولدها إلا في حالة واحدة وهي إذا رفض المراضع، أبى أن يُرضَع، فخيف عليه الضرر فإنه يجب عليها إرضاعه، وإلا فلها أن تشترط أجرة على والده لإرضاعه، والله يقول: وَإِن تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى [سورة الطلاق:6].

ولهذا قال تعالى: فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ [سورة الطلاق:6]، وقوله تعالى: وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُم بِمَعْرُوفٍ [سورة الطلاق:6] أي: ولتكن أموركم فيما بينكم بالمعروف من غير إضرار ولا مضارة، كما قال تعالى في سورة البقرة: لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ [سورة البقرة:233].

لمن يوجه هذا الخطاب وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُم بِمَعْرُوفٍ [سورة الطلاق:6]؟ الأقرب أنه موجه للزوجين الرجل والمرأة، أن يكون بينهما تشاور ونظر في مصلحة الولد، بعيداً عن حظوظ النفس، أو قصد المغالبة ونحو ذلك، فإنه قد تتضافر دواعي المرأة بعد الطلاق على أذية الرجل، أو مضادة رغباته، أو نحو ذلك، فالله يأمرهم أن ينظروا بنظر صحيح، ويتشاوروا فيما تكون فيه مصلحة هذا الولد، فهو خطاب موجه للجميع.

قوله تعالى: وَإِن تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى [سورة الطلاق:6] أي: وإن اختلف الرجل والمرأة فطلبت المرأة في أجرة الرضاع كثيراً ولم يجبها الرجل إلى ذلك، أو بذل الرجل قليلاً ولم توافقه عليه فليسترضع له غيرها، فلو رضيت الأم بما استؤجرت به الأجنبية فهي أحق بولدها.

وقوله تعالى: لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ [سورة الطلاق:7] أي: لينفق على المولود والده أو وليه بحسب قدرته وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا [سورة الطلاق:7] كقوله تعالى: لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا [سورة البقرة:286].

وقوله تعالى: سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا [سورة الطلاق:7] وعدٌ منه تعالى، ووعده حق لا يخلفه، وهذه كقوله تعالى: فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا ۝ إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا [سورة الشرح:5، 6].

وقد روى الإمام أحمد حديثاً يحسن أن نذكره هاهنا، فروى عن أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- قال: بينما رجل وامرأة من السلف الخالي، لا يقدران على شيء، فجاء الرجل من سفره، فدخل على امرأته جائعاً، قد أصابته مسغبة شديدة، فقال لامرأته: عندك شيء؟ قالت: نعم، أبشر أتانا رزق الله، فاستحثها فقال: ويحكِ ابتغي إن كان عندك شيء، قالت: نعم هُنيهة، ترجو رحمة الله، حتى إذا طال عليه الطَّوْل، قال: ويحك قومي فابتغي إن كان عندك شيء، فأتيني به، فإني قد بلغت وجهدت، فقالت: نعم، الآن نفتح التنور فلا تعجل، فلما أن سكت عنها ساعة، وتحينت أن يقول لها قالت من عند نفسها: لو قمت فنظرت إلى تنوري، فقامت فنظرت إلى تنورها ملآن من جُنُوب الغنم، ورحيَيْها تطحنان، فقامت إلى الرحى فنفضتها، واستخرجت ما في تنورها من جُنوب الغنم، قال أبو هريرة: فوالذي نفس أبي القاسم بيده، هو قول محمد ﷺ: لو أخذت ما في رحييها ولم تنفضها لطحنتا إلى يوم القيامة[5].

وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُّكْرًا ۝ فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا ۝ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُوْلِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا ۝ رَّسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِّيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا [سورة الطلاق:8-11].

يقول تعالى متوعداً لمن خالف أمره، وكذب رسله، وسلك غير ما شرعه، ومخبراً عما حل بالأمم السالفة بسبب ذلك، فقال تعالى: وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ [سورة الطلاق:8] أي: تمردت وطغت واستكبرت عن اتباع أمر الله، ومتابعة رسله.

فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُّكْرًا [سورة الطلاق:8] أي: منكراً فظيعاً، فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا [سورة الطلاق:9] أي: غِبّ مخالفتها، وندموا حيث لا ينفعهم الندم وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا ۝ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا [سورة الطلاق:9، 10] أي: في الدار الآخرة، مع ما عجل لهم من العذاب في الدنيا.

ثم قال تعالى بعدما قص من خبر هؤلاء: فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُوْلِي الْأَلْبَابِ [سورة الطلاق:10] أي: الأفهام المستقيمة، لا تكونوا مثلهم، فيصيبكم ما أصابهم يَا أُوْلِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا أي: صدقوا بالله ورسله قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا [سورة الطلاق:10] يعني: القرآن، كقوله تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [سورة الحجر:9].

وقوله تعالى: رَّسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ [سورة الطلاق:11] قال بعضهم: "رسولاً" منصوب على أنه بدل اشتمال وملابسة؛ لأن الرسول هو الذي بلغ الذكر، قال ابن جرير: الصواب: أن الرسول ترجمة عن الذكر، يعني تفسيراً له؛ ولهذا قال تعالى: رَّسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ [سورة الطلاق:11] أي: في حال كونها بينة واضحة جلية.

قوله -تبارك وتعالى- هنا: قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا ۝ رَّسُولًا [سورة الطلاق:10، 11] فعلى قول ابن جرير -رحمه الله: يكون الرسول بدلاً من الذكر، يعني أنه مفسر له، بمعنى أن الذكر فسر بالرسول، وبعضهم يعبر بالرسالة قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا ۝ رَّسُولًا [سورة الطلاق:10، 11] ما هذا الذكر؟ هو الرسول، ويقدره بعضهم هكذا: قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا [سورة الطلاق:10] أرسل رسولاً، وبعضهم يفسر الرسول بالرسالة، يقول: {رسولاً} أي: بمعنى رسالة، قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا [سورة الطلاق:10] هذا الذكر هو الرسالة.

وكل هذا على اعتبار أنه بمعنى الأول، يعني الرسول بمعنى الذكر، أي أن الرسول والذكر شيء واحد، وهذا قول ابن جرير -رحمه الله- عموماً وإن اختلف العلماء في توجيه ذلك.

والقول الآخر الذي أشار إليه الحافظ ابن كثير - رحمه الله - أولاً هو أن الرسول يختلف عن الذكر قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا [سورة الطلاق:10] هو هذا القرآن، وبعضهم يقول: الذكر هنا بمعنى الشرف، وهذا لازم من القول الذي قبله، يعني أن القول بأنه الشرف لازم من القول بأنه القرآن؛ لأن إنزال القرآن عليهم فيه تشريف لهم، لكنه لا يفسر به استقلالاً، ولكن لو عطف عليه عند التفسير وعند ذكر المعنى فالأمر يمكن أن يوجه بهذه الطريقة.

وكأنهم تأولوا قوله -تبارك وتعالى: لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ [سورة الأنبياء:10] يعني: شرفكم، على أحد المعاني المذكورة في الآية، والمعنى الآخر: فِيهِ ذِكْرُكُمْ أي: ما يحصل به التذكير، وطرد الغفلة، وبيان الحق من الباطل، والهدى من الضلال.

فعلى كل حال الذكر يأتي بمعنى الشرف، ويأتي بمعنى التذكر، فالأقرب -والله تعالى أعلم- في تفسير الآية: قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا [سورة الطلاق:10] هو هذا القرآن أو الوحي، ثم قال: رَّسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ [سورة الطلاق:11] هنا وجه ارتباط بين الذكر وبين الرسول؛ لأن الذي يأتي بالذكر هو الرسول، وكأنه أشار إلى هذا المعنى حينما قال: بدل اشتمال لنوع ملابسة، يعني بين الذكر والرسول.

فالحاصل إذا قلنا: إن الذكر غير الرسول، وهو المعنى المشار إليه أولاً، الذي ذكره ابن كثير -رحمه الله- قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا [سورة الطلاق:10] فيعني: القرآن رَّسُولًا [سورة الطلاق:11] يعني: وأرسل رسولاً يتلو عليكم، والعلم عند الله .

لِّيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ [سورة الطلاق:11] كقوله تعالى: كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ [سورة إبراهيم:1]، وقال تعالى: اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ [سورة البقرة:257] أي: من ظلمات الكفر والجهل إلى نور الإيمان والعلم.

وقد سمى الله تعالى الوحي الذي أنزله نوراً لما يحصل به من الهدى، كما سماه روحاً لما يحصل به من حياة القلوب، فقال تعالى: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ [سورة الشورى:52].

وقوله تعالى: وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا [سورة الطلاق:11]، قد تقدم تفسير مثل هذا غير مرة بما أغنى عن إعادته هاهنا ولله الحمد والمنة.

اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا [سورة الطلاق:12].

يقول تعالى مخبراً عن قدرته التامة، وسلطانه العظيم؛ ليكون ذلك باعثاً على تعظيم ما شرع من الدين القويم: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ [سورة الطلاق:12] كقوله تعالى إخباراً عن نوح أنه قال لقومه: أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا [سورة نوح:15]، وقوله تعالى: تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ [سورة الإسراء:44].

وقوله تعالى: وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ [سورة الطلاق:12] أي: سبعاً أيضاً، كما ثبت في الصحيحين: من ظلم قيد شبر من الأرض طوّقه من سبع أرضين[6] وفي صحيح البخاري: خسف به إلى سبع أرضين[7] وقد ذكرت طرقه وألفاظه وعزوه في أول البداية والنهاية عند ذكر خلق الأرض ولله الحمد والمنة، ومن حمل ذلك على سبعة أقاليم فقد أبعد النُّجْعة، وأغرق في النزع، وخالف القرآن والحديث بلا مستند.

آخر تفسير سورة الطلاق، ولله الحمد والمنة. 

اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ [سورة الطلاق:12] خلق سبع سماوات، السماوات إذا ذكرت في القرآن لا تكاد تذكر إلا مجموعة، وأما الأرض فإنها تذكر مفردة (السماوات والأرض) وبعض أهل العلم يوجه هذا باعتبار أنه إن كان المراد بذلك ذكر العلو والسفل فإنه تذكر السماء والأرض مفردة (السماء والأرض) وإذا كان المراد بذلك العدد فإنه تذكر السماوات مجموعة، ويذكر ما يدل على جمع الأرض، كقوله هنا: وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ [سورة الطلاق:12].

وكذلك في السنة: طوقه من سبع أرضين[8] فإن المقصود العدد وليس المقصود العلو والسفل، وإذا قال: فَوَرَبِّ السَّمَاء وَالْأَرْضِ [سورة الذاريات:23] يعني ما علا، ولكن السماوات إذا ذكرت مجموعة، وذكرت الأرض مفردة فمن أهل العلم من يقول: لشرفها وشرف ساكنها، يعني السماء تجمع.

ومنهم من يقول: إن الأرض لما كان الإنسان إنما يرتبط بسطحها وظاهرها وليس لديه من المعرفة والتفاصيل عن بقية الطبقات، وكذلك أيضاً التكليف أو أهل التكليف كانوا على سطحها، وأما السماوات فقد ذكر الله بعض الأمور عنها، وجاء في السنة، فالسماوات تذكر مجموعة، والأرض تذكر مفردة.

وبعضهم يقول: لما كانت الأرض صغيرة جداً بالنسبة للسماء ذكرت مفردة، وذكرت السماوات مجموعة، وعلى كل حال الأرض جنس يصدق على الواحد وعلى العدد، فإذا قال: رَّبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ [سورة الرعد:16] فإن الأرض تصدق على الجميع، والله تعالى أعلم.

  1. أخرجه البخاري في كتاب تفسير القرآن، باب: وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا [سورة الطلاق:4] (6/ 155- 4909).
  2. أخرجه أحمد (31/ 235- 18918) بهذا اللفظ، وهو في البخاري كما أشار المصنف في كتاب الطلاق باب وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ [سورة الطلاق:4] (7/ 57-5320) وفي مسلم في كتاب الطلاق، باب انقضاء عدة المتوفى عنها زوجها، وغيرها بوضع الحمل (2/ 1122- 1485).
  3. أخرجه مسلم في كتاب الطلاق، باب انقضاء عدة المتوفى عنها زوجها، وغيرها بوضع الحمل (2/ 1122- 1484).
  4. أخرجه البخاري في كتاب المغازي (5/ 80- 3991).
  5. أخرجه أحمد (15/ 276 – 9464) وفي سنده شهر بن حوشب، قال الألباني: "وشهر بن حوشب ضعيف، وفي حديثه زيادات منكرة" انظر الضعيفة (5406).
  6. أخرجه البخاري في كتاب المظالم والغصب، باب إثم من ظلم شيئاً من الأرض (3/ 130- 2453).
  7. أخرجه البخاري في كتاب المظالم والغصب، باب إثم من ظلم شيئاً من الأرض (3/ 130- 2454).
  8. أخرجه البخاري في كتاب المظالم والغصب، باب إثم من ظلم شيئاً من الأرض (3/ 130- 2453).

مواد ذات صلة