الخميس 26 / جمادى الأولى / 1446 - 28 / نوفمبر 2024
(134) قوله تعالى: {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ...} الآية121
تاريخ النشر: ٢٧ / ربيع الآخر / ١٤٣٨
التحميل: 523
مرات الإستماع: 986

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

ففي السياق السابق الطويل الذي يبلغ عشرين ومائة آية، ذلك السياق يتحدث عن أهل الكتاب في مُجمله، وإلا فإن أهل العلم يذكرون عادة أن الآيات التي نزلت في وفد نصارى نجران تبلغ بضعًا وثمانين آية، مع أن الروايات في ذلك كما ذكرت في أول الكلام على هذه السورة لا تصح من جهة الإسناد، لكن يبقى أن الآيات أيضًا بعدها تتعلق بأهل الكتاب في مُجملها إلى مائة وعشرين آية، فهذا انقضى عند قوله -تبارك وتعالى-: إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيط [آل عمران:120]، هذا في أهل الكتاب، وإذا كان ذلك في أهل الكتاب فهو في غيرهم من باب أولى، إذا كان هؤلاء وهم الناس كما قال النبي ﷺ لما قال: لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرا شبرا، وذراعا بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب تبعتموهم، قلنا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: فمن[1]، يعني: فمن يكون إذن؟!، فإذا كان هؤلاء لا يضر كيدهم المؤمنين شيئًا إذا صبروا واتقوا فغيرهم من أهل الأوثان من باب أولى؛ لأن أهل الأوثان لا يملكون من مقومات النصر شيئًا.

ثم جاء السياق الآخر بعد ذلك في غزوة أحد وهو أيضًا سياق طويل، وفيه دروس مهمة للأمة، وهي أحوج ما تكون إليها في هذا العصر، وتربية لأهل الإيمان، وفيها أيضًا تعزية، وفيها أيضًا تعزيز للنفوس، وشحذ للهمم، ورفع للمعنويات في وقت الهزيمة، لكن تجدون في هذه الآيات من التعزية اللطيفة التي تدل دلالة واضحة على عِظم عناية الله بهذه الأمة، وأن ما يقع لهم من مكروه كالهزيمة والقتل وما إلى ذلك أن ذلك ليس لأجل أن يكسرهم، وأن يُذلهم، وإنما من أجل أن يُمحصهم من أجل أن يرفعهم، التمحيص والرفعة، وتكفير السيئات، واتخاذ الشهداء، ومحق الظالمين، وما إلى ذلك، وسيأتي ذلك كله، إن شاء الله تعالى.

فأول هذا الحديث هو قوله -تبارك وتعالى-: وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيم [آل عمران:121]، وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ، ومثل هذا التركيب يكون متعقلاً بمقدر محذوف، يعني: واذكر إذ غدوت من أهلك، تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ، خرجت من بيتك، والغدو هو الخروج في أول النهار كما هو معلوم.

وبعض أهل العلم يُقيد ذلك فيما يكون ما بين الفجر وطلوع الشمس.

وهنا: وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ، هو معلوم كما ذكرنا في الكلام على "التسهيل" أعني: تفسير ابن جُزي -رحمه الله- في هذا الموضع أن خروج النبي ﷺ كان بعد صلاة الجمعة، وهذا وقت الرواح الروحة، الروحة تكون في المساء في آخر النهار، الشق الثاني من النهار، في أول النهار يكون الغدو تغدوا خماصا وتروح بطانا[2]، فتغدوا الطيور في أول النهار ثم تروح ترجع إلى أوكارها بطانا، يعني ممتلئة البطون، فإذا كان النبي ﷺ خرج بعد صلاة الجمعة فكيف عُبر عنه بالغدو، قال: وَإِذْ غَدَوْتَ، ما قال: وإذ رُحت؟

فهذا موضع سؤال، وأجاب عنه بعلماء بإجابات متعددة:

منهم من قال: بأن ذلك وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ، خرج بعد الظهر يوم الجمعة وكانت المعركة يوم السبت.

فبعضهم يقول: قال ذلك تجوزًا.

ولكن يمكن أن يُقال أحسن من هذا ومن غيره مما ذُكر، ولسنا هنا نذكر التفاصيل والأقوال، أن يقال: إن العرب يتوسعون في الاستعمال في هذه الألفاظ، فهي في أصلها تُقال للخروج في أول النهار؛ ولكن العرب يتوسعون فيها فيقولون ذلك لمُطلق الخروج: وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ، يعني: حينما خرجت من أهلك ولا يتقيد ذلك بكونه في أول النهار؛ لأن خروج النبي ﷺ كان بعد صلاة الجمعة، ولا يُقال بأن المقصود بذلك ما كان في يوم السبت من تعبئة الصفوف والمقاتلين قبل بدأ المعركة، فإن ذلك لم يكن لمجرد خروجه من أهله.

وبعضهم قال: كان خروجه مقدمة لهذه التعبئة المُشار إليها في الآية: تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ، تعبئة الجيش، فأُطلق عليه ذلك، لكن الأحسن هو ما ذكرت، -والله أعلم-، أن العرب تتوسع في الاستعمال، فيُعبرون بمثل هذا ويقصدون به مطلق الخروج ولو كان في آخر النهار، كل الناس يغدو فبائع نفسه معتقها[3]، هذا الحديث: كل الناس يغدو، قد يكون خروج بعض الناس بعد منتصف النهار، المقصود أن كل أحد يخرج ينطلق، ويُقال: أنه باعتبار الغالب أن الناس يخرجون في أول النهار، لكن التوسع في الاستعمال متحقق في كلام العرب وموجود، وعكس هذا ما جاء في الجمعة والخروج إليها والتبكير: من راح في الساعة الأولى...[4]، الساعة الأولى من يوم الجمعة الساعة الأولى تكون بعد شروق الشمس، فتبدأ ساعات يوم الجمعة من بعد الإشراق وتحسب ست ساعات، ليست الساعات الساعة تبلغ ستين دقيقة كما هو الآن، لا، وإنما هي مقادير من الوقت تزيد وتطول وتنقص صيفًا وشتاءً.

فمن راح في الساعة الأولى، الرواح يُطلق على الخروج بعد زوال الشمس في المساء يعني المساء يبدأ بعد الزوال، فهنا في الجمعة قال: من راح، فهل المقصود أن الساعة الأولى تبدأ بعد الزوال؟

هكذا فهم الإمام مالك -رحمه الله-، ولكن الذي عليه السواد الأعظم من أهل العلم من الفقهاء والشُراح وغيرهم أن ذلك يكون في أول النهار، وإنما أُطلق الرواح من باب التوسع في الاستعمال استعمال هذه اللفظة، فهي في الأصل تكون للخروج في المساء، يعني من بعد الزوال فما بعده، ولكن العرب يتوسعون في مناحي الكلام والخطاب، والقرآن نزل على لغة العرب: وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ، ومثل هذا لربما يأتي من يبحث عن الغرائب والأشياء الشاذة ويُذيع ذلك في الناس ويُسبب لهم شيء من البلبلة، فيأتي ويقول: حضور الجمعة مُبكرًا قبل الزوال لا أصل له شرعًا وإنما التبكير الساعة الأولى تبدأ بعد الزوال، قد يفرح بهذا بعض الناس الذي يُحبون الغرائب، ويُحبون الإثارة، والبحث عن الأمور الغريبة الشاذة التي تجعل الناس في معترك يأتيهم بما لم يسمعوا وما لم يكن معهودًا عندهم فيما تلقوه وعرفوه من علمائهم وعرفه آباءهم وأجدادهم، وهذا مسلك منحرف لا يُفضي بصاحبه إلى خير، ومن رأيته يتتبع مثل هذه الأشياء فلا تُرجي منه فلاحًا، ولو كان ذكيًّا.

وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ، يعني: تُبوئ المؤمنين، تُنزل المقاتلين في منازلهم كل مقاتل في موضعه الذي يلزمه، والمباءة اتخاذ المكان، يعني: يُعبأ الجيش، فهذا هنا في الوسط وهذا في الميمنة، وهؤلاء في الميسرة، وهؤلاء في القلب، وهؤلاء في الساقة، بحيث يُنظم المقاتلين.

والقتال في الإسلام يكون مُنظمًا ويكون المقاتلون صفوفًا، وكان النبي ﷺ يسويهم في صف القتال كما يسويهم في صف الصلاة، وهذا معلوم ثابت من هديه ﷺ، فلا يتقدم أحد في الصف ولا يتأخر وإنما في غاية الاستواء، ومضى المسلمون على هذا بخلاف هيشات أهل الجاهلية فلربما خرجوا أوزاعًا يتقاطرون هذا معه سيف، وهذا معه رمح، وهذا معه حديدة، وهذا معه خشبه، وغير ذلك فهذه مع أصوات صاخبة مرتفعة مما كان عليه عامتهم.

وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيم، سميع لكل الأصوات، عليم بكل شيء، لا يخفى عليه خافية.

يؤخذ من هذه الآية الكريمة من الهدايات أهمية هذا الحدث الكبير الذي سطره القرآن في هذا السياق الطويل، فذكر غزوة أحد بهذه التفاصيل بهذه السورة الكريمة الزهراء له دلالة واضحة على أهمية الحدث، هذا بالإضافة إلى مثل هذه التعبيرات والألفاظ وَإِذْ غَدَوْتَ، يعني: واذكر إذ غدوت، فإن الذكر لا يكون إلا لشيء له أهمية، والله -تبارك وتعالى- يُذكر عباده بالأمور التي ينبغي أن تكون حاضرة في أذهانهم من النِعم، وآيات الله وأيامه، وما أشبه ذلك: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا [سورة الأحزاب:9]، يُذكرهم بهذا وبغيره كثير.

ويؤخذ من قوله: وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ، فضل النبي ﷺ، وعظيم منزلته، ومكانته، ورفيع درجته، وشجاعته حيث كان يُعبئ الجيش بنفسه ولا يكون ذلك إلا من ذي دراية وخبرة بالقتال، فلم يكن النبي ﷺ مجرد معلم لهم للآيات التي يوحي الله  إليه بها، وإنما كان موجهًا، وكان قدوة في أقواله وأعماله وأحواله، وكان هو الذي يُدير شؤونهم، ويُرسل السرايا والبعوث إلى الملوك أيضًا، والكتب، وكذلك أيضًا يُعبئ الجيش وهذا لا يكون إلا من ذوي المعرفة والحذق والخبرة في مثل هذه الأمور، ومن لا عهد له بالحرب فإنه لا يستطيع أن يُعبئ الجيش وأن يُنظمه بطريقة محكمة، فهذا يخضع لخطط وتجارب خبرات، ثم كان النبي ﷺ يوجههم قبل بدأ الحرب، كيف يدفعون هؤلاء الأعداء، وبماذا يبدؤون.

وسيأتي في هذه السورة: وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ [آل عمران:153]، هذا يدل أيضًا على كمال شجاعته ﷺ، يعني: إذا كان في وقت الهزيمة هو الآخر معنى ذلك أنه هو أقرب واحد إلى العدو، وقد جاء عن علي : "كنا إذا حمي الوطيس نلوذ برسول الله ﷺ"[5]، يعني: يكونون خلفه إذا اشتد القتال يبحث الإنسان عن شيء يختفي خلفه يختبأ يحتمي به، رأيتم الصغير إذا خاف عادية أحد كيف يفعل، يبحث عن شيء عن أمه عن أبيه ليلوذ به من خلفه، فعلي من أشجع أصحاب النبي ﷺ كما هو معلوم، ويقول: "كنا إذا حمي الوطيس نلوذ برسول الله ﷺ"، فكان ما يتقدم إليه أحد خطوة إلا تقدم إليه لا يتراجع ﷺ، وهذه الآية توضح هذا: وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ [آل عمران:153]، يعني: في آخر الجيش حاشا وكلا لا يكون منهزمًا، وأما الذي يكون في أول المنهزمين في أول الجيش هذا يكون الأكثر خوفًا وضعفًا وجُبنًا، لكن الذي يبقى في الآخر ويدعوهم إليّ عباد الله ويثبت هذا لا يكون إلا لأشجع الناس.

فهنا: وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ، ويؤخذ منه أيضًا أن الزوجة يُقال لها: أهل فكان النبي ﷺ يخرج من بيوت أزواجه، وهذا معلوم، وقد يُطلق ذلك على ما هو أوسع من هذا: رَحْمَةُ اللّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ [هود:73]، ونحن حينما نقول: "اللهم صل على محمد وعلى آل محمد"، يدخل أزواجه في ذلك بلا شك.

إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ [الأحزاب:33]، والآيات في السياق في سورة الأحزاب إنما هي في أزواج النبي ﷺ.

ويؤخذ من قوله تعالى: وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ، ما ينبغي للقائد -قائد المعركة- تعبئة الجيش، والقيام بما يجب مما يحصل به انتظام المقاتلين، ويضع كل واحد في مقامه اللائق المناسب، ففي حروب الردة لما كانت وقعت اليمامة كان المسلمون يتضعضعون في كل مرة، ولقوا من بني حنيفة أصحاب مسيلمة بأسًا وشدة وجلدًا عظيمًا في القتال، فكان جيش المسلمين يتضعضع، وحصل مقتلة كبيرة في القراء وغيرهم، والقراء يعني أهل العلم كانوا حملة القرآن إلى أن جاء خالد بن الوليد فنحى الأعراب الذين كانوا في مقدم الجيش، وجمع أصحاب النبي ﷺ من أهل بدر وأهل بيعة الرضوان وجعلهم في أول الجيش في مقدمه؛ فحصل النصر العظيم الساحق على هؤلاء، وقُتل مسيلمة الكذاب.

وقوله -تبارك وتعالى-: وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ، من خلال اللفظ "مقاعد"، "تبوئ" قلنا من اتخاذ المباءة، "مقاعد" هذا يدل على الثبوت، فهذا يدل على لزوم ثبات المقاتلين في مواضعهم أو مواقعهم بحيث لا يتخلون عنها، وما وقع في هذه الغزوة كما سيأتي غزوة أحد لما تخلى كثير من الرماة عن مواقعهم بعد أن حذرهم النبي ﷺ من هذا وأمرهم بلزومها فكانت سببًا للهزيمة.

وقوله -تبارك وتعالى-: وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيم، يدخل فيه دخولاً أوليًّا سمع ما كان من النبي ﷺ وأصحابه، وكذلك العلم بأحوالهم: وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ [يونس:61]، فيستشعر المؤمن أن الله مطلع عليه في جميع أحواله لا يخفى عليه منه خافية، الناس قد يخفى عليهم الكثير ولكن الله لا يخفى عليه شيء، فالتعامل مع من يتصف بهذه الصفات، "سميع" هذه صيغة مبالغة أي عظيم السمع شديد السمع يسمع الهمس، يسمع دبيب الذر، ولو حاول الإنسان إخفاء هذا الكلام عن الناس فالله يسمعه، فالسر عنده علانية.

و"عليم" شديد العلم؛ صيغة مبالغة، يعلم ما في الصدور، وما يدور في قلب الإنسان من الخواطر والنيات والمقاصد، ففيه دعوة إلى تصحيح المقاصد والنيات، وإرادة ما عند الله -تبارك وتعالى-، وأن لا يُضمر الإنسان في نفسه إلا ما يُرضي الله، وأن لا يكون له خبيئة من عمل سيء؛ لأن الله مُطلع على ذلك، فذكر السمع والبصر يدل على ماذا؟، أو السمع والعلم يدل على طلب المراقبة لله في السر والعلانية، إذا كنت تتعامل مع رب هذه صفته فلا سبيل إلا بتصحيح الحال وأن يكون السر كالعلانية سواء؛ لأن الله مُطلع على كل شيء وسيُجازي عليه، الناس ليس لهم إلا الظاهر وقد ينخدعون بهذا الظاهر، ولكن الله -تبارك وتعالى- مُطلع على الضمائر والسرائر، فيكون الإنسان مُصححًا لعمله وحاله وقصده ونيته لاسيما في صف القتال، أحوج ما يكون الإنسان إلى استشعار هذا المعنى، وأن ينخلع من حظوظ نفسه، ويبتعد عن الفخر ورؤية النفس، والاعتزاز بقدراته وإمكاناته، والفخر بها والتعاظم وما أشبه ذلك، يبتعد عن هذا، فلا يكون ذلك مجالاً لرياء ولا سمعة، فمن رآى رآى الله به، ومن سمّع سمّع الله به، فيحتاج إلى تجرد وإخلاص، وهذا من أعظم دعائم النصر.

وهو أيضًا أصل في القبول والشهادة، الرجل الذي كان يُقاتل حميّة عن قومه لما قُتل لما قال النبي ﷺ: هو في النار، قبل أن يُقتل فتبعه بعضهم حتى إذا أصابته جراح شديدة تحامل على نفسه استعجل الموت، وضع ذُباب السيف بين ثدييه وتحامل عليه، الشاهد أنه ذكر ذلك قال: إنه كان يُقاتل حمية عن قومه[6]، يعني: ليس قتاله في سبيل الله إنما كان يُقاتل حمية، ومن قاتل حمية فمات فميتة جاهلية[7].

وهكذا في كل الأعمال والمشروعات والبرامج سواء كان ذلك في مجال العلم أو الدعوة، أو غير هذا، الإنسان يتجرد ويُصلح حاله وقصده وقلبه، فالتعامل مع رب لا تفوت عليه هذه الأشياء، والله أعلم.

وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.

  1. أخرجه البخاري، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((لتتبعن سنن من كان قبلكم))، برقم (7320)، ومسلم، كتاب العلم، باب اتباع سنن اليهود والنصارى، برقم (2669).
  2. أخرجه الترمذي، باب الزهد، باب في التوكل على الله، برقم (2344)، وقال: "هذا حديث حسن صحيح"، وابن ماجه، أبواب الزهد، باب التوكل واليقين، برقم (4164)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة، برقم (310).
  3. أخرجه مسلم، كتاب الطهارة، باب فضل الوضوء، برقم (223).
  4. أخرجه البخاري، كتاب الجمعة، باب فضل الجمعة، برقم (881)، ومسلم، كتاب الجمعة، باب الطيب والسواك يوم الجمعة، برقم (850).
  5. أخرجه أحمد في المسند، برقم (1347)، وقال محققوه: "إسناده صحيح، رجاله ثقات رجال الشيخين غير حارثة بن مضرب، فمن رجال أصحاب السنن، وهو ثقة".
  6. أخرجه البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب لا يقول فلان شهيد، برقم (2898)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب غلظ تحريم قتل الإنسان نفسه، وأن من قتل نفسه بشيء عذب به في النار، وأنه لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة، برقم (112).
  7. أخرجه مسلم بلفظ: ((ومن قاتل تحت راية عمية يغضب لعصبة، أو يدعو إلى عصبة، أو ينصر عصبة، فقتل، فقتلة جاهلية))، كتاب الإمارة، باب الأمر بلزوم الجماعة عند ظهور الفتن وتحذير الدعاة إلى الكفر، برقم (1848).

مواد ذات صلة