الخميس 26 / جمادى الأولى / 1446 - 28 / نوفمبر 2024
(158) تتمة قوله تعالى: {وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ...} الآية 146
تاريخ النشر: ٠٦ / جمادى الآخرة / ١٤٣٨
التحميل: 466
مرات الإستماع: 1051

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

ما زال الحديث متصلاً بقوله -تبارك وتعالى-: وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِين [آل عمران:146]، مضى الكلام على معنى هذه الآية، والقراءات الواردة فيها، وتوجيه كل قراءة من هذه القراءات مع ذكر جملة من الفوائد والمعاني والهدايات، ومن ذلك أن هذا الإخبار عن هؤلاء الربيين الذين كانوا بهذه المثابة من الصبر والثبات فيه تعريض بالمخاطبين الذين أصابهم ما أصابهم من الوهن لما أُشيع أن رسول الله ﷺ قد قُتل يوم أحد، فبعضهم وضع السلاح، وبعضهم انهزم من أرض المعركة، وكان النبي ﷺ يدعوهم إلى الثبات ومواجهة العدو، ولكن كانوا لا يلوون على شيء.

كذلك أيضًا فإن هذه الآية: فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِين، في هذا دلالة على أن الذين تنثني عزائمهم، ويحصل لهم الانكسار أمام عدوهم، ويحصل لهم التراجع، وفتور العزائم أن هؤلاء غير محمودين، فالمؤمن ينبغي أن يكون في غاية الثبات والصبر والاحتمال، هو منهي عن أن يُعرض نفسه للبلاء، والنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- قال: لا تتمنوا لقاء العدو، واسألوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاصبروا[1].

فالثبات أمام الشدائد، سواء كان ذلك في قتال أعداء الله -تبارك وتعالى-، أو كان ذلك بسبب ما يلقاه الإنسان من الأذى في سبيل الله أيًّا كان هذا الأذى، أو كان ذلك بسبب ما يقع له من الآلام والمصائب والعِلل والأوصاب والفقد، وما إلى ذلك فإن هذا هو الطريق لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَد [البلد:4]، أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُواْ [التوبة:16]، أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ [آل عمران:142]، فهذه أمور لا بد من وقعها، فلا بد إذًا من توطين النفس على الصبر والاحتمال والثبات على الحق حتى يلقى العبد ربه -تبارك وتعالى- غير مُبدل ولا مُغير.

وفي أوقات الفتن -كما ذكرنا في بعض المناسبات- يتراجع الكثيرون، ويبدلون، ويتحولون، ويتغيرون، ولذلك نجد في عبارات بعض المؤرخين حينما تحصل أحداث عِظام يقولون: "وظهر قرن النفاق" بمعنى أنه يبدأ التلون والتحول وبيع المبادئ، وهذه من صفة المنافقين، وهذا التلون -أيها الأحبة-! من صفات المنافقين.

والله -تبارك وتعالى- قال في سورة الأحزاب عن المنافقين وَلَوْ دُخِلَتْ، يعني: المدينة، عَلَيْهِم مِّنْ أَقْطَارِهَا من نواحيها، ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلاَّ يَسِيرًا [الأحزاب:14]، يعني: هم على أتم الاستعداد أن يبذلوا دينهم؛ ليكونوا مع من غلب على أي دين، وأي حال كان، فهم ليسوا بأصحاب ثبات، ولا بأصحاب مبدأ يثبتون عليه.

كذلك يؤخذ من هذه الآية في الثناء على هؤلاء في هذا السياق، أعني الربيين قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ سواء كان ذلك لمقتل نبيهم، أو لما وقع فيهم من القتل والجراح أو الهزيمة، فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أن هؤلاء كانوا على حال من الاستقامة، والإخلاص لله -تبارك وتعالى- في أعمالهم وجهادهم ومزاولاتهم؛ لأن الله قال: فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ.

ويؤخذ من ذلك أيضًا: أن العمل إذا كان لله وفي الله فإن ذلك من دواعي الثبات، والله -تبارك وتعالى- لما ذكر يوسف كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلِصِين [يوسف:24]، على هذه القراءة المتواترة، فكان الإخلاص سببًا للخلاص.

ولذلك فإن القراءة الأخرى المتواترة (المُخلَصين) الذين خلصهم الله ، فدل ذلك على أن الإخلاص هو طريق النجاة، وهو المركب الذي يركبه المؤمن ليحصل له الثبات، ويبلغ مأمنه، ولا يحصل له انتكاسة، وإنما يكون ذلك لأصحاب النيات التي خلطوا فيها.

والإنسان قد يغفل عن هذا كثيرًا لاسيما في هذه الأوقات، مع وسائل الإعلام الجديد، فهو لربما كانت عينه حولاء، ينظر في جموع هؤلاء المتابعين، وماذا قالوا عنه؟ ومن منهم قد صدر وأعاد إرسال هذه الكتابات التي يكتبها؟ فهذه فتنة للتابع، وفتنة للمتبوع، ويصعب معها الإخلاص جدًّا عند الكتابة، وبعد الكتابة، وقبل الكتابة، وفيما بين ذلك أيضًا؛ لأن هذا شيء يُحرك النفس -والله المستعان- فمثل هذا يُخشى أن يغفل الإنسان معه عن نيته وقصده، فيكون له سعي وعمل وبذل آناء الليل وأطراف النهار، ثم بعد ذلك لربما ينكسر إذا كانت الأمور على غير ما يريد، والله المستعان.

ثم كذلك أيضًا: فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِين لاحظ هذه الأوصاف كيف جاءت مرتبة على اختلاف أقوال المفسرين -كما ذكرنا في توجيهها ومعناها، والتفريق بينها- فهنا ذكر الوهن والضعف، ثم ذكر الاستكانة؛ وهي الخضوع للعدو، الذل للأعداء وترك مدافعة هؤلاء الأشرار، وهذه كما يقول بعض أهل العلم: جاءت مرتبة بحسب الوقوع، فإذا خارت العزيمة، وحل الوهن، عند ذلك تفشل الأعضاء، قلنا بأن هذا الذي يضعف وَمَا ضَعُفُواْ، الوهن في العزائم، والضعف أن يكون أداء الضعيف، عمل الضعيف، بذل الضعفاء نتيجة لوهن العزيمة، ثم يعقب ذلك ثالثًا الترك والاستسلام والاستخذاء للعدو.

وكذلك أيضًا: فإن هذه الآية الكريمة تدل على أن هؤلاء حصل لهم الكمال من الجهتين، حصل لهم أنواع الكمال، وذلك بأنهم كانوا على حال من ثبات القلوب، وكانوا أيضًا على حال من قوة الأبدان، والبذل الذي يكون بالجوارح، فكانوا في حال من التماسك.

والله -تبارك وتعالى- كما ذكرنا في مجلس غير هذا في قوله -تبارك وتعالى-: وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِي الأَيْدِي وَالأَبْصَار [ص:45]، وقلنا هناك: بأن الأيدي، يعني: القوة، والأبصار: أصحاب بصائر، فجمعوا بين القوتين: القوة العملية، والقوة العلمية، فجاءت أعمالهم مسددة، لم يكونوا بأصحاب تخليط مع جلد في عمل الأبدان؛ لضعف بصائرهم، ولم يكونوا أصحاب بصائر من غير عمل، وقوة في العبادة، والسعي في مرضاة الله -تبارك وتعالى-.

وكذلك أيضًا فإنه يؤخذ من هذه الآية الكريمة: وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِين إثبات صفة المحبة لله ، وهذه لها أثرها البالغ في النفوس، تصور بعض أصحاب البدع الذين لا يؤمنون أصلاً بأن الله يُحِب، ولا يُحَب، لا يؤمنون بهذا، والمحبة كما قال الحافظ ابن القيم -رحمه الله- كرأس الطائر، والخوف والرجاء هما الجناحان فلا يطير إلا بهذه الأمور الثلاثة فإذا قُطع الرأس فذلك يعني الهلاك والموت، فلا تتصور العبادة من غير محبة[2].

وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِين، وهنا ذكر الصبر، وأطلقه، فيدخل فيه دخولاً أوليًّا الصبر في مقارعة الأعداء؛ لأن السياق في ذلك، ويدخل فيه أيضًا أنواع الصبر، وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِين يحب الذين يصبرون على المكاره، والذين يصبرون على طاعة الله ، والذين يصبرون عن معصيته.

وكذلك أيضًا هذه المحبة حينما تُذكر في آخر هذه الآية، وختمها وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِين في مقام الألم والجراح والقتل والخوف، فإن ذلك يكون كالمسح لذلك كله، فيُنسى، ويُتلاشى، فتكون الآلام التي تُصيب الإنسان في سبيل المحبوب، تكون لذات.

ولذلك كان الصحابة لربما يفرح الواحد منهم، يُطعن، فيدخل الرُمح من صدره، ويخرج من ظهره، ويتلقى الدم، ويقول: فزت ورب الكعبة، فتكون هذه الكلمة مُذهلة، ومُدهشة، وسببًا لإسلام بعض من حضر ذلك، يُطعن، وينفذ فيه الرُمح، ويقول: فُزت ورب الكعبة.

فهؤلاء كانوا بهذه المثابة، وفي الميدان الآخر أيضًا نجد أنهم إذا أُصيب الواحد منهم بمرض خطير، كالطاعون يُقبل بثرة الطاعون على المنبر فرحًا، واستبشارًا، أعني: معاذ بن جبل ، وبعض هؤلاء كان عمر يدعوهم إلى المدينة لما وقع الطاعون في أرض الشام، فكانوا يعتذرون إليه، ويتلطفون بالاعتذار علهم، ينالون الشهادة بموت، بسبب هذا المرض؛ لأن الذي يُصيبه الطاعون، فيموت، يكون شهيدًا.

كذلك أيضًا: فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ، ما قال: وهو يحب الصابرين؛ لأن اسم الجلالة مذكور قبل ذلك، فأظهره هنا، وكما عرفنا أن الإظهار في مقام يصح فيه الإضمار يكون لنُكتة بلاغية، فهنا يمكن أن يُقال: هذا لمزيد التفخيم والتعظيم لمحبته لهؤلاء من أهل الصبر، والثناء على هؤلاء بحُسن صبرهم، والإشعار بعلة الحكم وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِين.

والحكم المعلق على وصف -كما ذكرنا- مرارًا يزيد بزيادته، وينقص بنقصانه، يقوى بقوته، ويضعف بضعف هذا الوصف، فهنا وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِين، فالصبر وصف، والحكم المرتب عليه هو محبة الله وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِين، فبقدر ما يكون عند الإنسان من الصبر؛ يكون له من محبة الله ، فإذا ضعُف صبره؛ ضعُفت محبة الله له.

هذه معاني كبار -أيها الأحبة-، يقولها الإنسان في حال العافية، ونسأل الله أن يشملنا وإياكم بعافيته، لكن إذا وقع البلاء، واستشعر الإنسان المرارة التي يتجرعها من الصبر، ففي هذه الحالة قد لا يتمالك، وينسى هذه المعاني والمفاهيم.

فنسأل الله أن يربط على قلوبنا، وأن يُثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد، وفي هذا أيضًا تأكيد لهذه بالجُملة الاسمية وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِين، فالجملة الاسمية تدل على الثبوت، فهذا أمر ثابت لهم.

هذا ما يتعلق بهذه الآية الكريمة.

وأسأل الله -تبارك وتعالى- أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، وأن يجعلنا وإياكم هداة مهتدين، اللهم ارحم موتانا، واشفِ مرضانا، وعافِ مبتلانا، واجعل آخرتنا خيرًا من دنيانا، والله أعلم.

وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.

  1. أخرجه البخاري، كتاب الجهاد، والسير، باب كان النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا لم يقاتل أول النهار أخر القتال حتى تزول الشمس، برقم (2965)، ومسلم، كتاب الجهاد، والسير، باب كراهة تمني لقاء العدو، والأمر بالصبر عند اللقاء، برقم (1742).
  2. انظر: مدارج السالكين، (1/513).

مواد ذات صلة