الخميس 26 / جمادى الأولى / 1446 - 28 / نوفمبر 2024
(159) قوله تعالى: {وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَن قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا...} الآية 147
تاريخ النشر: ٠٧ / جمادى الآخرة / ١٤٣٨
التحميل: 508
مرات الإستماع: 1096

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

لما ذكر الله -تبارك وتعالى- حال هؤلاء من الربيين الذين كانوا في غاية الصبر والثبات وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِين [آل عمران:146]، قال الله تعالى بعدها: وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِين [آل عمران:147]، ما كان قول هؤلاء الربيين الذين كانوا في غاية الصبر إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا هذا هو مطلوبهم، وهذه هي غايتهم أن يستر هذه الذنوب، وأن يقيهم تبعتها، فلا يُعاقبون عليها، وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا، ما وقع من التجاوز سواء كان ذلك في حال التفريط، أو كان ذلك في حال الإفراط.

وبعض أهل العلم فسر الأول اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا أنها الصغائر، وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا أنها الكبائر، وعلى كل حال، غفران الذنوب معروف، والإسراف في الأمر يدل على التوسع، وهذا يقع بفعل الكبائر، ويقع أيضًا بالإكثار من الصغائر والإصرار عليها.

وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا يعني: في أرض المعركة، وانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِين فهذه مطالبهم.

يؤخذ من هذه الآية الكريمة من الهدايات: أن هؤلاء الموصوفين بهذه الصفات جمعوا بين الصبر وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِين.

وكذلك أيضًا الاستغفار، وهذا هو المأمور به في حال المصائب كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-، أن يصبر وأن يستغفر؛ لأن ذلك إنما وقع له بسبب ذنوبه فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ [الشورى:30][1]، قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ [آل عمران:165]، مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ [النساء:79].

فالعبد في حال المصيبة، والشدة بحاجة إلى صبر، فلا يكون في حال من الجزع، ويكون أيضًا في حال من الاستغفار؛ لأن ذلك بسبب ذنوبه، وهذا من أبدع المعاني، ونغفل عنه كثيرًا، إذا وقع البلاء، فكثير من الناس يغفل عن هذا، ولربما كان نظره في ذلك ماديًّا بحتًا، فيطلب الدواء والعلاج عند الأطباء، وهذا لا إشكال فيه، ولكن لا يقتصر على هذا، يحتاج العبد إلى صبر، ويحتاج إلى استغفار وتوبة، فيكون ذلك سببًا لرفع ما نزل به من البلاء "ما نزل بلاء إلا بذنب، وما رُفع إلا بتوبة"[2].

وتأمل قوله -تبارك وتعالى-: وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ هذه الصيغة تفيد الحصر، بل هي أقوى صيغ الحصر، فهم ليس لهم مطلوب إلا هذا، ولاحظ أن هذا المطلوب لا يتعلق به شيء من حظوظ النفس الدنيوية البحتة، ما قالوا أعطنا الأولاد والأموال والضيعات، وإنما اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِين، هذه مطالب شرعية.

وإذا تأملت في دعاء الأنبياء في القرآن تجد أنه من هذه البابة، مطالبهم تليق بهممهم، الهمم العالية، وذلك لا يختص بالسؤال والدعاء والطلب، بل كما قال الحافظ ابن القيم -رحمه الله- حتى في التوكل، توكل أصحاب الهمم العالية بنصر الدين وإعزازه، وتوكل أصحاب النفوس التي هي دون هؤلاء لربما في تحصيل رغيف وأكلة يأكلها، أو نحو ذلك[3]، وكل ذلك يُطلب فيه التوكل لكن أن ينحصر مطلوب الإنسان وتوكله في لقمة يأكلها ورغيف يسد به جوعه هذا توكل أصحاب الهمم الضعيفة، هذا لابد منه، ولكن حينما ينحصر هذا السقف الذي لا يتجاوزه هؤلاء هذا يدل على ماذا؟ يدل على همم منحطة.

فالهمم وانحطاطها يكون ذلك في مطالبها، سواء كانت هذه المطالب مطالب دنيوية، أو مطالب أُخروية، فانظر في دعاء هؤلاء، ودعاء الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- في القرآن، كل ذلك يدل على هذا المعنى، ولذلك ينبغي للإنسان إذا سأل ودعا الله أن يُعلي همته في هذا الدعاء.

ثم أيضًا هؤلاء علموا أن الذنوب والإسراف في المخالفة سواء كان ذلك من جهة الإفراط أو التفريط أنه أعظم سبب للخذلان، أعظم الأسباب لكون الإنسان يُخذل ويُغلب هي الذنوب والخطايا، ولذلك فإن المؤمن العاقل الراشد هو الذي يعلم أنه لا ينتصر بعدد ولا عُدة، وإنما أول عُدة هي المدد الإلهي، وذلك يكون بقوة الصِلة بالله بطاعته والثقة به والتوكل عليه وترك المعاصي.

ومن تعرف على الله -تبارك وتعالى- في حال الرخاء عرفه الله في حال الشدة، أن يكون الناس على حال من الاستقامة والطاعة في حال الرخاء فإذا جاءت الشدائد قال: يا رب، فهنا يكون ممن عرف ربه في رخاءه فيعرفه ربه بالإجابة في حال شدته، وأقبح من هذا كله من لم يعرف ربه لا في الرخاء ولا في الشدة.

والناس في هذا مراتب، ومنهم من يعرف ربه في الشدة ولا يعرف ربه في الرخاء كما كان المشركون الذين بُعث فيهم النبي ﷺ إذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين، بدؤوا يتضرعون، ولجأوا إلى الله، وتضرعوا.

فلا بد من هذا الحصن المنيع، وهو حصن التقوى، والإيمان هذا أعظم حصن يكون به مدافعة الأعداء وتحصين النفوس والأموال والأمة بكاملها، الإيمان بالله -تبارك وتعالى- والتقوى له، وإذا تخلى الناس عن هذا الحصن كان ذلك سببًا لغلبة عدوهم وتمكنه منهم، فهم تخلو عن أقوى سلاح يُدافعون به هذا العدو، والعدو يعلم ذلك جيدًا، ولذلك فإن هذا العدو لا يفتأ يحاول أن يصرفهم وأن يصدهم عن دينهم بكل مستطاع من أجل أن يخلو الطريق أمامه ويكون ممهدًا؛ فيأخذ ما في أيديهم، ويكون هؤلاء تحت قهره وتصرفه من غير ممانعة ولا مقاومة.

كذلك أيضًا لاحظ هنا أنهم ابتدأوا بطلب الغفران اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا، لاحظ السؤال ربَّنَا، وذكرنا من قبل بأن دعاء الأنبياء، وأكثر الدعاء في القرآن بهذا الاسم الكريم الرب؛ لأن من معانيه: العطاء والمنع والمدد والنصر، كلها ترجع إلى معنى الرب، فيُقال: يا رب، ومن معانيه: التربية والتربيب، فهو يُربي هؤلاء بما يحصل به قوام حياتهم ومعايشهم ومصالحهم، وما إلى ذلك من التربيب والتربية، فيدفع عنهم ما يضرهم، ويوالي ألطافه عليهم، ويُمدهم بعونه وقوته ونصره وأفضاله، هذه كلها من معاني الرب، فيقول العبد يا رب إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا.

لاحظ أنهم طلبوا الغفران أولاً؛ ليتأهلوا لطلب النصر اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا، بعد ذلك يأتي النصر وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا، هذه كلها أسباب؛ لأن هذه الذنوب والمعاصي كما قال الحافظ ابن القيم -رحمه الله- هي جنود وكتائب يُجندها الإنسان على نفسه، يُرسلها على نفسه مع عدوه[4] فهذه الذنوب تغزوه مع العدو فإذا كثُرت كثُرت كتائب الغزو التي تستهدف هذا المسكين، وهو لا يشعر.

فهنا طلبوا الغفران من أجل أن يتأهلوا لما بعده، وهو الظفر والنصر، وذلك أنهم إن تطهروا من الذنوب؛ ترجحوا على عدوهم، العدو ملطخ ومليء بالكفر والشرك والموبقات، قد يكون أكثر منهم عددًا وعُدة كما هي العادة عبر التاريخ، ولكن إذا كانوا في حال من الطهارة والنظافة من هذه الذنوب والموبقات كانوا راجحين على عدوهم؛ وبذلك يطلبون النصر.

ولاحظ أن هؤلاء من الربيين كثرة كاثرة؛ لأن الربيين فُسر بالجماعات الكثيرة، أتباع كثير للأنبياء وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ، ولاحظ أنه وصفهم بهذا، يعني لم يكتف بقوله: قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ، الرُبيون فُسر بالجماعات الكثيرة، أو بالأتباع الكُثر، أو نحو ذلك، لا، قال: رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ [آل عمران:146]، فهم على كثرتهم لم يركنوا إلى هذه الكثرة، ولم يعتمدوا عليها، ولم يثقوا بها، وهذا يدل على فقههم.

وإنما رجعوا إلى سبب الخذلان الأول الذنوب والمعاصي والإسراف في الأمر اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا، ثم علموا أن النصر من الله وانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِين، فالكثرة ليست هي التي تجلب النصر، وذكرنا مدد الملائكة وَمَا جَعَلَهُ اللّهُ إِلاَّ بُشْرَى [آل عمران:126]، فليس النصر منهم وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ [آل عمران:126].

وكذلك أيضًا فإن الكثرة التي كانت في يوم حُنين إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِين [التوبة:25]، فالكثرة لم تكن جالبة للنصر، قال قائلهم: لن نُغلب اليوم من قلة، فماذا كانت النتيجة!

بينما انظر في يوم بدر قلة، وما خرجوا لقتال، وقلة عتاد، وانظر إلى ضراعة النبي ﷺ يتضرع، ويدعوا، وهو أشرف الخلق، حتى يسقط رداءه من على منكبه، يتضرع، فهؤلاء يتضرعون إلى الله، فالأمة بحاجة إلى الضراعة، بحاجة إلى الرجوع إلى الله، إلى القُرب منه، إلى الصِلة به لاسيما في أوقات الشرور وإحاطة الأعداء، وظهور عداوة هؤلاء وتربص المتربصين.

هنا لا بد من الفزع إلى الله، والتوبة إليه، والتخلي عن الذنوب والخطايا التي تكون سببًا لتسليط هؤلاء الأعداء، وسببًا لغلبتهم، وسببًا لقهر الأمة، فهذا هو الطريق، وهذا هو اللائق، وهذا هو الذي يفعله من عنده شيء من عقل، ونظر إذا كان أهل الإشراك يلجؤون إلى الله، ويتضرعون إليه في حال الشدائد، فأهل الإيمان أولى بذلك، فهؤلاء طلبوا الثبات من الله طلبوا كل شيء من الله.

اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا، يعترفون بالتقصير، أما أن يكون المجاهد هو ينشط إذا كانت كاميرات التصوير تلاحقه، ويشتد رميه وضربه ونحو ذلك مع هذه الكاميرات، وتجد عبارات غير مناسبة تدل على اعتداد شديد بالنفس، أو اعتداد شديد بالسلاح، أو اعتداد شديد بالأتباع، أو نحو ذلك، هذا ما يليق، وإنما اللائق الإخبات والتخلي عن العُجب، وعن الالتفات إلى النفس، وما عند الإنسان من قوة، ونحو ذلك، حتى نعرف أسباب ما نحن فيه.

انظروا إلى هذه المذابح في بلاد الشام وفي غيرها، من أين تؤتى الأمة؟

للأسف أن الأمة لا زالت تحتاج إيقاظ، وتنبيه إلى أسباب هذا البلاء، الأسباب الحقيقية، ومن أعظمها التفرق، والاختلاف، هذا الذي نُشاهده للأسف أحوال لا تخفى على العدو، ولا الصديق، ويلعب العدو على هذه المُتناقضات، من أين يأتي النصر؟

لا يمكن أن يأتي النصر بهذه الأحوال، فهؤلاء ينخلعون من كل شيء، ويطلبون من الله أن يرفع عنهم ذلك.

انتهى الوقت، أتوقف عند هذا، وغدًا -إن شاء الله تعالى- أواصل الحديث عن الآية.

وأسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، ويجعلنا وإياكم هداة مهتدين، اللهم ارحم موتانا، واشفِ مرضانا، وعافِ مبتلانا، واجعل آخرتنا خيرًا من دنيانا، والله أعلم.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وآله وصحبه.

  1. انظر: جامع المسائل، (1/168).
  2. هذا الأثر عن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-، انظر: الداء والدواء، (74).
  3. انظر: مدارج السالكين، (2/114).
  4. انظر: الجواب الكافي، (102).

مواد ذات صلة