بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فلما ذكر الله -تبارك وتعالى- صفة المتقين الذين يهتدون بالقرآن في قوله: هُدًى لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ [سورة البقرة:2- 4] حكم لهم بعد ذلك بالهداية: أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ [سورة البقرة:5] وحكم لهم بالفلاح: وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [سورة البقرة:5] فأصحاب هذه الصفات يسيرون على نور من الله -تبارك وتعالى- وتوفيق وهداية، وهم الفائزون الذين أدركوا ما طلبوا، ونجوا مما منه فروا وهربوا، وهذه حقيقة الفلاح إدراك المطلوب والنجاة من المرهوب، فحكم لهم بهذا وهذا، أنهم على هدى، وأنهم أهل الفلاح.
فتبين هنا أن الهدى مرتب على هذه الأوصاف، فقد جعل الله -تبارك وتعالى- ذلك هذه الأوصاف بين الهدى الأول هدى للمتقين، ثم ذكر أوصاف هؤلاء المتقين فأعاد ثانية وقال: أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ [سورة البقرة:5] فمن أراد الهدى فعليه أن يتحقق بهذه الصفات، الإيمان بالغيب وما يدخله فيه، وإقام الصلاة، والإنفاق في سبيل الله -تبارك وتعالى- الإنفاق الواجب والنفقات المُستحبة، فهذا يكون صاحبه مع الإيمان وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ [سورة البقرة:4] فمن كان مُستجمعًا لهذه الأمور جميعًا فهو صاحب الهدى، وبقدر ما يتحقق له من هذه الأوصاف يكون له من الهدى والحكم المُعلق على وصف يزيد بزيادته وينقص بنقصانه، بقدر ما يكون من استجماع هذه الصفات يكون لصاحبها من الهدى، الذين يكونون بهذه المثابة يكونون على هدى، فإن حققوها على وجه من الكمال والتمام كانوا على هدى كمال؛ ولهذا نكَّره -تبارك وتعالى- هنا قال: أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [سورة البقرة:5] الهدى التمام، الهدى الكمال، الهدى العظيم، لأن التنكير أحيانًا يُفيد التعظيم وذلك بحسب السياق، على هدى، هدى تمام، وهكذا إذا اختل شيء من هذه الأوصاف نقص من هذا الهدى بحسب ذلك النقص الواقع.
وهذه الآية أيضًا يؤخذ منها أن الإيمان يزيد وينقص، فإن الله -تبارك وتعالى- لما ذكر هذه الأمور جميعًا قال: أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ [سورة البقرة:5] هدى عظيم، فإذا نقص شيء من هذه الأوصاف نقص من هذا الاهتداء، فيكون نقصًا في إيمان العبد، وهذه قضية معلومة مُقررة بدلائل كثيرة من الكتاب والسنة، وعليها إجماع أهل السنة والجماعة، أن الإيمان يزيد وينقص، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية.
ثم تأمل أيضًا الإشارة إليهم بالبعيد أُوْلَئِكَ الذين حققوا هذه الأوصاف فهذا يدل على علو مرتبتهم ورفيع منزلتهم أشار إليهم بإشارة البعيد؛ لأن القريب يُشار إليه بهذا، والمتوسط يُقال له: ذاك، والبعيد يُقال له: ذلك، وهكذا يُقال أيضًا: أولئك للبعيد.
ثم تأمل أيضًا الإتيان بحرف على: أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ [سورة البقرة:5] فحرف "على" يفيد الاستعلاء فهم مستعلون بهذا الهدى، مُتمكنون أيضًا من هذا الهدى فقلوبهم ونفوسهم مستقرة بذلك ثابتة عليه ليس عندهم أدنى تردد وشك وريب فهم على هدى يتيقنونه وهم ثابتون عليه غاية الثبات، فمن أراد الثبات على الهدى فعليه أن يُثبت إيمانه بمثل هذه الأمور المذكورة.
فهذا وما ذُكر بعده يدل على القدر الذي وصل إليه هؤلاء الناس، هذا الإبهام بالهدى، الذي لا يُبلغ كُنهه ولا يُقادر قدره، كما تقول: لو رأيت فلانًا لرأيت رجلاً، يعني رجلاً عظيمًا مستجمعًا لأوصاف الرجولية، وهكذا هؤلاء فهم على هدى، يعني: في غاية الكمال والتمام.
وأتى بتكرار الإشارة في قوله: أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ [سورة البقرة:5] لم يقل: وهم المفلحون، وإنما قال وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [سورة البقرة:5] فهذا يفيد التوكيد؛ توكيد هذه الأوصاف: الهداية والفلاح، وأنهم قد حققوا المرتبة العليا من الهداية وما يترتب عليها من الفلاح ويُبنى عليها، وهذا يدل على عناية أيضًا بشأن هؤلاء المتقين الذين يذكر أوصافهم في هذه الآيات أو الُجمل، وكذلك أيضًا هذا التكرار يدل على أن الهدى الذي هم عليه وكذلك الفلاح كل واحد كأنه مُستقل قد تميزوا به، ونالوا منه ما نالوا من الكمال والتمام، تميزوا بذلك عن غيرهم بكل واحد من هذين الوصفين العظيمين بحيث لو انفرد أحدهما لكفى في التميز بمفرده: أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [سورة البقرة:5] حصلوا هذه الأوصاف العظيمة التي كأنهم انفردوا بها واستجمعوها.
وكذلك أتى بواو العطف أيضًا في قوله: وَأُوْلَئِكَ لم يقل: أولئك على هدى من ربهم، ثم قال: هم مفلحون، مثلاً، أو قال: أولئك مفلحون، ليحكم لهم بالفلاح وإنما جاء بالواو وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [سورة البقرة:5] فهذان خبران أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ [سورة البقرة:5] على هدى هذا الأول وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [سورة البقرة:5] فهذان أمران مُتميزان مقصودان، فهذا كله يرجع إلى ما ذُكر باعتبار أن كل وصف كأنه يقوم بنفسه يتميزون به، ومعلوم أن الشيء لا يُعطف على نفسه أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ [سورة الأعراف:179] في هذه الآية لم يأت بالعاطف وإنما قال الله تعالى: بَلْ هُمْ أَضَلُّ [سورة الأعراف:179] فلو كان الخبر الثاني في معنى الأول في هذه الآية من سورة البقرة: أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [سورة البقرة:5] لم يأت بحرف العطف أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ [سورة الأعراف:179] فهذا كله يرجع إلى أولئك: أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ [سورة الأعراف:179] يعني: أولئك أضل من الأنعام، فكلاهما -كِلا المذكورين- يرجعان إلى الأول الذي هو أولئك، لكن أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى [سورة البقرة:5] هذا مُستقل وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [سورة البقرة:5] هذا أيضًا مُستقل.
ثم أيضًا الإتيان بضمير الفصل في قوله: وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [سورة البقرة:5] فهذا فيه تقوية النسبة بين طرفي الكلام، يعني: أولئك "هم"، يعني: إضافة الهدى إلى هؤلاء ودخول أل على قوله: وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [سورة البقرة:5] يُشعر بالحصر، وكأنهم قد حققوا الوصف الكامل من الفلاح، كأنه لا مُفلح إلا هم، كما تقول زيد هو الشجاع، وزيد هو الشهم، وزيد هو الرجل، يعني: الذي قد استجمع صفات الرجولية أو الشجاعة أو غير ذلك من الأوصاف الكاملة بحسب ما يُذكر.
ثم انظر في هذه الآيات وهذه الصفات وما فيها من حُسن التقسيم فقد استجمعت جميع الأوصاف المحمودة، والعبادات البدنية والمالية التي يعكف عليها أهل الإيمان: أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ [سورة البقرة:5] بعد ما ذكر تلك الأوصاف الكاملة وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [سورة البقرة:5].
نسأل الله أن يجعلنا وإياكم من أهل الهدى، ومن أهل الفلاح، وأن ينفعنا وإياكم بالقرآن العظيم، اللهم ارحم موتانا، واشفي مرضانا وعافي مُبتلانا، واجعل آخرتنا خيرًا من دنيانا، ربنا اغفر لنا ولوالدينا ولإخواننا المسلمين.