الجمعة 27 / جمادى الأولى / 1446 - 29 / نوفمبر 2024
[51] قوله تعالى: {قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا..} إلى قوله تعالى: {فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ}
تاريخ النشر: ٢٤ / رمضان / ١٤٣٦
التحميل: 1174
مرات الإستماع: 1728

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فسنواصل الحديث في الكلام على هذه الآيات، وما يستخرج من الهدايات فيما قص الله -تبارك وتعالى- من خبر بني إسرائيل وعنتهم على الله -تبارك وتعالى- وعلى رسله -عليهم الصلاة والسلام- ومن جملة ما وقع لهم في هذه القصة التي ذكرها الله في سورة البقرة، حينما أمروا بذبح بقرة؛ ليضرب القتيل ببعض منها فكان منهم هذا العنت: قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ [سورة البقرة:70] هذا هو السؤال الثالث بعدما قابلوه وواجهوه بقولهم: أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا [سورة البقرة:67] فلما اطمأنوا إلى أنه ليس كما ظنوا بظنهم السيئ هذا رجعوا عليه بهذه السؤالات، سألوه عن سنها أولاً ثم سألوه عن لونها، ثم هذا هو السؤال الثالث عن حال هذه البقرة هل هي مروضة بالعمل، وبنفس الطريقة، وبنفس الجفاء قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ كأنه ليس برب لهم.

فمثل هذا ينبؤ عن جفاء وصلف وسوء أدب واستخفاف فهم يقولون: إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ [سورة البقرة:70] يميز لنا هذه البقرة بوصف كاشف لا تلتبس فيه مع غيرها: إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا [سورة البقرة:70] هم أمروا بأن يذبحوا بقرة، والأمر لا يتطلب شيئًا من هذا العنت، ومن ثم فإنه لا مجال للالتباس والتشابه، ولكنهم شددوا على أنفسهم، فشُدد عليهم.

قالوا: وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ [سورة البقرة:70] في هذه المرة الأخيرة ذكروا الاستثناء والمشيئة إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ وذلك لم يقولوه في المرتين قبلها، فهذا حينما توسط بين اسم "إن" وَإِنَّا يعني: وإننا، هذا أصله وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ أصله وإنا لمهتدون، فوسطوا هذا بين طرفي الجملة، هذا يفيد هنا توافق رؤوس الآي: وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ وكذلك للاهتمام بتعليق الأمر بمشيئة الله -تبارك وتعالى- فإنه لا يكون شيء إلا بإرادته ومشيئته وتقدست أسماؤه.

ثم جاء خبر "إن" وَإِنَّا وإننا، هكذا تقدير الكلام إِنْ شَاءَ اللَّهُ الخبر لَمُهْتَدُونَ فجاء مؤكدًا جاء اسمًا، فهذا يدل على الثبوت، وكذلك أيضًا أنه جاء بمؤكدين: وَإِنَّا أصلها كما قلنا: وإننا فـ"إن" مؤكدة واسمها الضمير "نا" وإننا، وكذلك دخول اللام على الخبر لَمُهْتَدُونَ فهذا كله يفيد التوكيد.

وقد قال بعض أهل العلم كما ذكر الحافظ ابن كثير -رحمه الله: أنهم لو لم يقولوا ذلك لما اهتدوا إليها[1] وهذا كما وقع وإن كان مع الفارق ليأجوج ومأجوج حينما ذكر النبي ﷺ أنهم في كل يوم ينقرون في السد ثم يقولون: نعود في الغد من أجل استكماله ولا يستثنون، فلما يكون اليوم أو كان الذي يؤذن لهم في الخروج يقولون: نعود غدًا إن شاء الله[2] يعني من أجل مواصلة النقر والحفر، فيفتحونه ويخرجون على الناس، والله قال عن أصحاب الجنة الذين أقسموا ليصرمنها مصبحين قال: وَلا يَسْتَثْنُونَ [سورة القلم:18] يعني ما قالوا: إن شاء الله.

وقال الله لنبيه ﷺ: وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا ۝ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ [سورة الكهف:23، 24] فاللائق بأهل الإيمان إذا أرادوا أن يتحدثوا عن أمر في المستقبل مما يعزمون على فعله أو تركه أو نحو ذلك أن يعلق ذلك بالمشيئة، فإذا نسي فإنه يقول ذلك تأدبًا مع الله : وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ هذا هو الراجح في معنى هذه الآية وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ يعني: نسيت الاستثناء تأدبًا مع الله -تبارك وتعالى- وليس ذلك بنافع في اليمين من جهة أنه يكون حانثًا أو لا يكون كذلك، يعني لو أنه حلف فقال: إن شاء الله، والله لأفعلن كذا إن شاء الله فإنه إن لم يفعل لا يكون حانثًا بيمينه، وليس عليه كفارة، لكن لو أنه حلف أنه يفعل كذا ولم يذكر المشيئة ثم استثنى بعد مدة بعد انقطاع فإن ذلك إذا حصل له إخلال بهذه اليمين ففعل ما حلف على عدم فعله فإنه يكون حانثًا، هذا هو معنى آية الكهف -والله تعالى أعلم- وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ يعني: نسيت الاستثناء في قولك لشيء أنك تفعله غدًا أو لا تفعله.

ويؤخذ من هذه الآية أيضًا: جهل هؤلاء من بني إسرائيل، يعني هم قالوا لموسى : ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ ۝ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ [سورة البقرة:70، 71] قال لهم موسى : إنها بقرة غير مذللة للعمل قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ أي: الله إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الأَرْضَ يعني: ليست مذللة للعمل في الحرث لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ أيضًا كذلك ليست مذللة بالعمل بالسقي، فهذا على قول لبعض المفسرين.

وبعضهم يقول: إن المعنى قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ [سورة البقرة:71] يعني: فصلوا بين الجملتين قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيهَا فيكون الوقف على قوله: لا ذَلُولٌ على القول الآخر، فيكون من صفتها: أنها تثير الأرض ولا تسقي الحرث، يعني: جاءت الأوصاف مفصلة لربما يصعب عليهم أن يجدوا واحدة بهذه الصفة، لكن المشهور -والله تعالى أعلم- هو الأول، أنها ليست مذللة بالعمل مطلقًا لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْث لا تستعمل في الحرث ولا تستعمل في السقي، هذا هو المشهور، وهو المتبادر الظاهر من السياق -والله تعالى أعلم.

لا شِيَةَ فِيهَا ليس فيها عيب، وليس فيها علامة من لون غير جلدها قَالُوا الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ في هذه البقرة، وإلا لو قصدوا أنه الآن جاء بالحق مطلقًا لكانوا كفارًا، فإنه قد جاءهم بالتوراة، جاءهم بالحق من عند الله إنما يقصدون الآن جئت بالحق في وصف هذه البقرة، بعد هذه الأسئلة والعنت فَذَبَحُوهَا بعد طول المراجعة والتمحل، وما قاربوا يعني: وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ فكاد هذه على المشهور أنها إذا كانت منفية فإن ذلك يدل على وقوع الشيء لكن بصعوبة.

وقد تكلمنا على هذا المعنى في قوله -تبارك وتعالى: لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا [سورة النور:40] في الكلام على الأمثال في القرآن بأنها تدل على وقوع الشيء لكن بصعوبة، تقول: ما كاد فلان يصل، ما كاد يأتي، فهو حصل لكن بصعوبة، فهنا أنهم ذبحوها لكن بعد عنت طويل وتمحل كثير، هكذا شددوا فشدد الله عليهم.

المقصود أنه يؤخذ من هذا جهل هؤلاء من بني إسرائيل، حينما قالوا لنبيهم : الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ وقد جاءهم بالحق من أول مرة إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً [سورة البقرة:67] فلو أخذوا بقرة أي بقرة لحصل المقصود، ولم يكن المجيء بالحق بعد هذا التحقق والمراجعة والعنت، وإنما كان ذلك ابتداءً.

وهكذا أيضًا في قوله -تبارك وتعالى: وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ [سورة البقرة:71]؛ لكثرة عنتهم وعصيانهم وأيضًا تعسر وجود البقرة الموصوفة بهذه الصفات، فإن الأوصاف مقيدة غير الأوصاف الكاشفة، يعني نحن ذكرنا الأوصاف الكاشفة أنها لا تقيد الموصوف، كما في قوله تعالى: وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ [سورة الأنعام:38] فالطائر يطير بجناحية، هذه صفة كاشفة تكشف عن الحقيقية لا تقيد، يعني لا يوجد طائر يطير بجناحية وطائر يطير برجليه، فتسمى هذه الصفة كاشفة.

وهكذا حينما يقول الله : يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ [سورة البقرة:79] يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ [سورة آل عمران:167] هذه صفة كاشفة؛ لأنهم يكتبون بأيديهم ويقولون بأفواههم، لكن إذا كانت الأوصاف وهو الغالب الصفة المقيدة حينما مثل هذه الأوصاف، في البداية بقرة مطلقة، أي بقرة تذبح يحصل بها المقصود، فسألوا عن السِن، فقال: إنها وسط ليست بكبيرة مسنة ولا بكر، فهنا خرج الأبقار المسنات وخرج أيضًا الأبكار، بقي الوسط، فأعادوا سؤالاً عن اللون فقال: صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ [سورة البقرة:69] هذه ثلاثة أوصاف في اللون، فخرج غير الصفراء وخرج الصفراء غير الفاقع لونها، وخرج الصفراء الفاقعة اللون لكن لا تسر الناظرين، لابد من هذه الأوصاف الثلاثة في اللون.

ثم بعد ذلك سألوا هذه السؤال الأخير: هل هي عاملة أو غير عاملة؟ مذللة أو غير مذللة، مروضة أو غير مروضة يعني بالعمل؟ فقال لهم: إنها ليست بمذللة، فوجود بقرة بهذه الأوصاف جميعًا هذه قيود، كما لو قال الإنسان: أريد كتابًا باللغة العربية بقدر مجلد يتحدث عن موضوع السلوك، وفي حسن الخلق خاصة، وبدأ يذكر هذه القيود، فأخرج الكتب الأخرى بغير اللغة العربية، وأخرج كتب التفسير، والحديث، والفقه، والنحو، والتاريخ، وما إلى ذلك، وأخرج كتب السلوك الأخرى التي تتحدث عن قضايا وجوانب غير هذه الجزئية، فهذه قيود.

حينما يقول الإنسان مثلاً: بأنه يريد أن يتزوج امرأة، امرأة مطْلَقة أي امرأة، لكن حينما يقول: امرأة مسلمة، أخرج الكافرات، فإذا قال: تقية، أخرج الفاسقات، فإذا قال: شابة، أخرج الكبيرات، فإذا قال: عربية، أخرج الأعجميات، فإذا قال: طالبة علم، أخرج غير طالبات العلم، فإذا قال: حافظة لكتاب الله، أخرج غير الحافظات، فإذا قال: جميلة، أخرج غير الجميلات، وينتهي في النهاية إلى أوصاف لربما لا يجدها إلا في الحور العين، فالقيود هذه تضيق الموصوف بحيث لا يكاد يوجد أحيانًا.

فهؤلاء ما كادوا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ [سورة البقرة:71] بأي اعتبار؟ كثرة التمرد والأسئلة عنت، عنت، عنت وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ كل مرة يعيدون ويطلبون أوصافًا جديدة، وأيضًا هذه الأوصاف قيل: بأنهم لم يجدوا هذه البقرة إلا عند أيتام، وقيل: عند رجل ليس عنده سواها، فأبى أن يسمح إلا بملء جلدها من الذهب لا ينقص منه شيء، هذه أخبار إسرائيلية، لكن إن كان ذلك صحيحًا فيكون وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ أيضًا لغلاء ثمنها، مع أن ظاهر السياق أنهم ما كادوا يفعلون من أجل كثرة العنت والسؤالات، وهكذا أيضًا لقلة وجود بقرة بهذه الأوصاف، بدأوا يبحثون يفتشون عن بقرة بهذه الصفات النادرة، فهذا كله من سوء الأدب مع الأنبياء والتعامل مع النصوص، واللائق هو المبادرة.

وكثرة التعنت وكثرة التمحل وكثرة السؤال وكثرة القول وكثرة الجدل كل ذلك ينبئ عن قلة العمل، الناس الذين يعملون ليس عندهم وقت لشيء، يحسبون الدقائق والثواني، ما عندهم وقت لشيء، لكن من استرخى وقعد عن العمل عنده أوقات طويلة يبحث عن أحد يجلس معه، عنده معاناة مع الوقت، ومثل هؤلاء تجدهم حتى في العشر الأواخر، افتح في النت أو في تويتر وانظر، وقد يكون بعض هؤلاء ممن سيماهم الخير والصلاح، وتعجب من أين له هذا الوقت، من أين له هذا الوقت؟ تقرأ أحيانًا تبحث في الموسوعة الشاملة وفيها بعض الموسوعات من الشبكة، موسوعات علمية، وتتعجب حينما تنظر إلى الكتابات والتعليقات، أشياء علمية لا بأس، لكن بالعشر الأواخر، والتعليقات: وشكرًا على مرورك، وشكرًا التعليق، فهل هؤلاء يجدون وقتًا في العشر يتفرغون فيه للكتابة في قضايا علمية ومناقشات وما إلى ذلك، وتعليقات، وشكرًا على المرور، يجد وقتًا لهذا في العشر الأواخر، هذا اشتغال بالعلم، فما بالك بمن شغله بغير هذا، القيل والقال، والوقيعة في أعراض الناس، أو من كان شغله في أمور أيضًا أخرى من الباطل.

وهكذا من كان شغله في أمور تافهة فكثرة القول، كثرة الجدل، وكثرة التعنت، وكثرة الأسئلة، هذا ينبئ عن قلة العمل.

وانظروا إلى أسئلة الصحابة  قليلة ولا يوجد عندهم جدل، ولا يعرفون ما يسمى بعلم الكلام والجدل؛ لأن الغالب كان هو العمل، واقرؤوا ما كتبه الحافظ ابن رجب -رحمه الله- في رسالة نفيسة في "فضل علم السلف على علم الخلف" ذكر فيها فضل علم السلف، وأنهم كانوا أهل عمل، وما كانوا أهل جدل، ويطولون الكلام في أمور جدلية، كما وقع المتأخرين حتى عرف طوائف بأهل الكلام، يجادلون في كل شيء مما يليق الجدل به وما لا يليق الجدل به فيما يتصل بذات الله وصفاته، وكأنما يتحدثون عن أحد من المخلوقين، مثل هذا، وملأت الكتب، وتجد للواحد من هؤلاء يُذكر أن له أكثر من مائة كتاب، لكن أين هذه الكتب؟ لا قيمة لها، بل هي كتب ضارة مليئة بمثل هذه المجادلات والردود في أمور لا تعود عليهم بالنفع، ولذلك ما عُرف هؤلاء بكثرة الذكر والعبادة وما إلى ذلك، وإنما قسوة القلوب.

ولهذا أقول: ينبغي أن يكون لدى المؤمن نظر صحيح في مثل هذه القضايا ومسلك صحيح، ابتعد عن الجدل، وإذا رأيت من يضيع الزمان في أمور لا طائل تحتها ممن يريد أن يقر الباطل أو يرد الحق ولا يطلب الحق هو أصلاً، أو يجادل في الواضحات، يأتيك من يريد أن يجادل، الآن نجد أناس يجادلون في أوضح الواضحات، هناك من يقول: بأن عيسى هل كان رسولاً أو كان نبينًا لم يكن رسولاً، أين الدليل على أنه رسول؟ وأسئلة من هذه القبيل في أمور واضحة، فمثل هذا غاية يقال له: كم بلغ سعر الحنطة؟ ثم انصرف، ولا تشتغل به ولا تضيع الزمان، ترد على هذا القضايا الواضحة يريد أن يجادل فيها، والبعض ما عنده قضية واضح.

رأيت من يجادل في الحجاج بن يوسف الثقفي ويتبناه ويدافع عنه ويثير القضية في المجالس، ما عندك غير هذا تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا [سورة البقرة:134] تدافع عنه وتتبناه، وتذب عنه، ثم تشترك معه في فعله وحاله، ما الحاجة لهذا؟

ورأيت من يدافع عن أبي العلاء المعري شاعر الزندقة، ما وجدت غير هذا؟ كل ما جلس في مجلس أثار، يريد يستفز الآخرين، يريد مجادلة، يريد أنه يثير قضية، ما عنده شيء ما وجد إلا المعري.

فيوجد أناس ليس لهم اشتغال بالعمل، ولم يكن لهم من تهذيب النفوس وصلاحها والتقوى ما يحملهم على الإقبال على ما ينفعهم، فيضيع العمر في مماحكات ومجادلات وقضايا ليست تحتها طائل، وهذه الوسائل وسائل التواصل أيها الأحبة وجد فيها الكثيرون سلوة، فصار الواحد منهم يجلس الأوقات الطويلة ليلاً طويلاً وهو لا يشعر بالوقت، ولربما جلس إلى ارتفاع الضحى وهو لا يشعر بالوقت، ولو قيل له: اقرأ وجهًا واحدًا لرأيت الكسل والضعف وقعود الهمم.

ولذلك انظر إلى كثرة السؤال الذي يرد عن حكم وضع وجه من المصحف في اليوم، كل يوم يضعون وجهًا من المصحف، وجه من المصحف لماذا؟ قالوا: من أجل أنه يقرأ في اليوم وجه من المصحف، ثم اللي يقرأ يضع علامة نجمة، تخبرون عن عبادتكم وطاعتكم وأعمالكم، ثم ما هذا؟ فهل غاية ما هنالك غاية الهمة حينما تسمو أن الواحد منكم يقرأ وجهًا من المصحف كل يوم، لكن انظر إلى الجلوس الطويل أمام هذه الوسائل تجد الساعات في الليل والنهار تقضى في مثل هذا، هل خُلق الإنسان لمثل هذا التضييع والتفريط، ثم يأتي يوم القيامة بعمل لا يُسعف، والآخرة دار لا تصلح للمفاليس.

الآخرة تحتاج إلى عمل، فإذا كثر القول وكثر الجدل والاشتغال بما لا ينفع فلا تسأل عن حال أصحابه من قلة العبادة والذكر والعمل الذي يقربهم إلى الله والاشتغال بالعلم النافع -والله المستعان.

ثم أيضًا في قوله -تبارك وتعالى: فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ [سورة البقرة:71] هذا أقرب إلى الذم، هم لا يمدحون بهذا الفعل؛ لأنهم ما فعلوه ولا امتثلوا إلا بعد جهد جهيد، وإنما تكون الاستجابة لأول مرة، والنبي ﷺ قال: إنما الصبر عند الصدمة الأولى[3] فهذا الذي يمدح به الإنسان ويرتفع.

أسأل الله أن يرفعنا وإياكم، ووالدينا، وإخواننا المسلمين في أعلى الجنة، وأن يتقبل منا ومنكم، وأن يرحمنا وأن يدلنا على ما يرضيه، وأن يصلح قلوبنا وأعمالنا، وأن يسدد ألسنتنا وأقلامنا، وأن يعيذنا وإياكم من شر الشيطان وشركه.

  1.  انظر: تفسير ابن كثير (1/295). 
  2.  أخرجه أحمد في المسند، برقم (10632)، وقال محققوه: "إسناده صحيح على شرط الشيخين، وسعيد بن أبي عروبة، رواية روح عنه قبل اختلاطه، ثم هو متابع"، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (2276). 
  3.  أخرجه البخاري، كتاب الجنائز، باب الصبر عند الصدمة الأولى، برقم (1302)، ومسلم، كتاب الجنائز، باب في الصبر على المصيبة عند أول الصدمة، برقم (926). 

مواد ذات صلة