الخميس 26 / جمادى الأولى / 1446 - 28 / نوفمبر 2024
(215) تتمة قوله تعالى: {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا..} الآية:259
تاريخ النشر: ٢٦ / رجب / ١٤٣٧
التحميل: 1027
مرات الإستماع: 2029

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.

ما زال الحديث متصلاً بالكلام على قوله -تبارك وتعالى: أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [سورة البقرة:259].

وقد تحدثنا عن صدر هذه الآية الكريمة، وما يُستخرج منها من الهدايات، ومن ذلك: أن الله -تبارك وتعالى- يتكلم حقيقة على الوجه اللائق بجلاله وعظمته، قَالَ كَمْ لَبِثْتَ، قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وهذه عقيدة أهل السنة والجماعة التي دل عليها القرآن، ودل عليه سنة رسول الله ﷺ، وهي اعتقاد السلف الصالح ، فالله يتكلم بحرف وصوت يُسمع لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [سورة الشورى:11].

ويُؤخذ من هذه الآية: فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ أنه ينبغي النظر والتفكر في دلائل قدرة الله -تبارك وتعالى- وعظمته فيما نُشاهده في هذا الخلق، فالله أرشده إلى التفكر والاعتبار والنظر فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ يعني: لم يتحول ولم يتغير على مر السنين، والطعام يتغير في أيام، وهذا من غير حفظ في مُبردات ولا غير ذلك، ومع ذلك بقي مائة سنة، فهذا لا يُعقل في مجاري العادات!

وَانظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا أي: كيف تُرفع هذه العظام التي صارت هامدة مفرقة متفتتة، وتُبنى من جديد، ثم تُكسى باللحم، فدلائل القدرة كثيرة، وقد أرشد الله إلى ذلك في مواضع من كتابه ، وتقدست أسماؤه، حيث أرشد إلى النظر في السماء والأرض، والجبال، والإبل كيف خُلقت؟ وهكذا النظر إلى البحار، وإلى ما ركب الله به جسد هذا الإنسان، وما فيه من الغرائب والعجائب، والطير وهي سابحة في الفضاء من الذي يُقيمها؟ والفلك وهي تجري في البحر، والنجوم والأفلاك والكواكب من الذي يُدبرها على مر هذه الدهور المتطاولة؟ فهذا نظر في الآيات المشهودة، والنظر الآخر في الآيات المتلوة بالتدبر والتفكر، واستخراج العِظات والعِبر والهدايات والحِكم والأحكام.

وتبيّن الآية أيضًا مِنة الله على عبده بإظهار ما يقوي اليقين، ويُبرهن على الاعتقاد الصحيح، فالله -تبارك وتعالى- يسوق لعباده من الآيات والدلائل والبراهين على يد الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- معجزات وخوارق العادات، كما قال ﷺ: ما من الأنبياء نبي إلا أعطي ما مثله آمن عليه البشر[1]، يعني: أُعطي من الآيات ما يؤمن البشر على مثله، فالله -تبارك وتعالى- من رحمته بعباده أظهر لهم هذه الآيات تارة لبيان صدق الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام، وتارة لتثبيت المؤمنين؛ ولهذا ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله: أن كرامات الأولياء تكون في آخر الزمان أكثر مما يقع لسلف هذه الأمة من الصحابة [2]، لا لمزية وفضيلة للمتأخرين، ولكن لأنهم بحاجة إلى تثبيت؛ لبُعد العهد والغُربة، بينما الذين كانوا في زمن النبي ﷺ عندهم الرسول، والوحي ينزل، فالتثبيت حاصل بنزول الوحي، وبوجود النبي ﷺ بين أظهرهم، لكن المتأخرين يحصل لهم التثبيت بما يُظهره الله من دلائل صدق النبي ﷺ، وصحة ما دعا إليه.

والمقصود: أن رحمته -تبارك وتعالى- بعباده واسعة، ومن ذلك: ما أظهره الله لهذا الرجل في هذه الآيات العجيبة، وهذا يدل على كمال قدرة الله الذي إذا أراد شيئًا، فإنما يقول له: كن فيكون، فالعبد بحاجة إلى لجأٍ إلى الله، وتوكل عليه، وحُسن ظن به، وثقة به، فهو القادر على أن يرفع ما بالعبد من بلاء وشدة، وهو القادر على نصره وإعانته، وشفائه، ورزقه وزوال المكاره عنه.

فهذا الطعام والشراب بقي مائة سنة ولم يتغير، من يستطيع هذا؟ لا أحد يستطيع غير الله ، كل ما أوتي الناس من وسائل علمية ووسائل الصناعات، وحفظ المواد، وما إلى ذلك لا يستطيعون أن يُبقوا الطعام والشراب مائة سنة دون تغير، لكن الله إذا أراد كان، ومن الذي يستطيع إحياء الميت ورده فَلَوْلا إِنْ كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ ۝ تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ [سورة الواقعة:86، 87] الروح إذا بلغت الحلقوم من الذي يستطيع أن يُرجعها؟

لا أحد يستطيع، ولو كان أقوى الناس وأقدرهم وأغناهم، والله يستطيع أن يرد ذلك إليه بعد ما فارقت الروح بمائة سنة وأكثر بآلاف السنين، فيبعث الناس من قبورهم، وإذا شاء أماتهم وأحياهم، كما في هذا المثال، وإذا شاء أنامهم، كما حصل في أصحاب الكهف ثلاثمائة وتسع سنوات، والجميع يقوم ويقول نفس الجواب؛ لما سأله الله : كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ وأصحاب الكهف ثلاثمائة وتسع سنوات قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ [سورة المؤمنون:113].

وهكذا الذين يقومون في البعث يوم القيامة، تبقى هذه الحياة كلها يوم أو بعض يوم.

فهذا يدل على أن هذه الحياة قصيرة، لا تستحق أن يبذل الإنسان دينه من أجلها، ولا تستحق أن تنقضي هذه الحياة القصيرة بالهم والقلق والضيق، وما أشبه ذلك، فذلك نقص في الحياة، ويعلم العبد أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، وأن حياته الحقيقية هي اللحظة والثانية التي يعيش فيها، ما مضى فات، لا يمكن يُستدرك، ولا يُسترجع بالأحزان والمواجع، وتجديد الآلام، وما سيأتي هو غيب في علم الله ، لا يدري الإنسان ما يصنع الله به؟

فكم من إنسان كان يتخوف الفقر، فأصابه الغنى، وكما إنسان كان يتخوف الفقر فمات قبل ذلك، وكم من إنسان كان يتخوف المرض، فمات بغيره، وكم من مريض مات صحيحًا، وهو على قيد الحياة، ينتظر أجله، فهذه عِبر وعظات، ينبغي على العبد أن يقف عندها.

وأيضًا ينبغي أن يكون نظر العبد بكل طريق مستطاع، فينظر بنظر مُجمل، وينظر بنظر مُفصل؛ ليهتدي ويصل إلى العِظة والعبرة، فيحصل له الانتفاع بذلك.

وتدل هذه القصة أيضًا على: أن الله -تبارك وتعالى- قد يصنع بعبده ما يصير به آية للناس وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ ومن ذلك قوله: وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ [سورة الأنبياء:91].

ويظهر أيضًا من هذا الخلق (خلق الإنسان) كيف جعل الله اللحم كسوة للعظام وَانظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا [سورة البقرة:259] أي: كيف نرفعها، ونبني بعضها على بعض، ثم نكسوها لحمًا، فتُكسى العظام بهذا اللحم، وتصور لو كان الإنسان بلا عظام، قطعة لحم ساقطة، لا يستطيع الانتقال، ولا الحركة، ولا تحصيل مصالحه ومطالبه ولا دفع المكاره عنه، ولو كان الإنسان مجرد هيكل عظمي، فإن ذلك أيضًا يجعله عُرضة للكسر؛ ولهذا كُسيت هذه العظام باللحم ليكون ذلك حماية لها ووقاية، فقد يُصاب اللحم بشيء من الجراح، ونحو ذلك، ويقع عليه الضرب، لكن ذلك أسهل من وقوعه على العظام.

وأيضًا يدل هذا على أن الإنسان بالتدبر والتأمل والنظر في آيات الله -تبارك وتعالى- يظهر له ما كان خافيًا عليه، أو غافلاً عنه، فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [سورة البقرة:259].

ويؤخذ منها أيضًا: أن هذا النظر يورث العلم واليقين؛ ولذلك كان التفكر في آيات الله -تبارك وتعالى- المتلوة والمشاهدة من المطالب الشرعية، فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [سورة البقرة:259] ولاحظ التعبير قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فـ(أعلم) فعل مضارع، وهذا يدل على التجدد والاستمرار، فعلمه بذلك مستمر ومتجدد، فهو عنده أصل هذا العلم، ولكن صار إلى مرتبة من العلم أعلى، فانتقل في إحياء الموتى من علم اليقين إلى عين اليقين.

قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ وفي القراءة الأخرى على صيغة الأمر[3]، أمر بالعلم، فهذا أيضًا أمر من الله لعباده أن يوقنوا بأن الله على كل شيء قدير، والقراءتان إذا كان لكل قراءة معنى، فهما بمنزلة الآيتين، فينبغي على العبد أن يعلم ذلك، وأن يتيقنه، وإذا حصل له مثل هذا العلم حصل له التوكل، والخوف من الله، والرجاء، وحصلت له هذه الأعمال القلبية.

هذا والله تعالى أعلم.

وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.

  1. أخرجه البخاري في كتاب فضائل القرآن، باب كيف نزل الوحي، وأول ما نزل برقم: (4981) ومسلم في الإيمان، باب وجوب الإيمان برسالة نبينا محمد ﷺ برقم: (152).
  2. الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان (ص:166).
  3. معاني القراءات للأزهري (1/ 223) وحجة القراءات (ص:144).

مواد ذات صلة