الخميس 26 / جمادى الأولى / 1446 - 28 / نوفمبر 2024
(216) قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِـي الْمَوْتَى..} الآية:260
تاريخ النشر: ٢٧ / رجب / ١٤٣٧
التحميل: 1096
مرات الإستماع: 2404

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

في هذه الليلة نتحدث أيضًا عن دليل من دلائل قدرة الله -تبارك وتعالى- على إحياء الموتى، مما جاء في هذه السورة الكريمة (سورة البقرة) يقول الله : وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [سورة البقرة:260].

فقوله: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ يعني: واذكر إذ قال إبراهيم، حيث سأل ربه -تبارك وتعالى- أن يريه إحياء الموتى، فيُشاهد ذلك، فقال الله -تبارك وتعالى- له: أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي أي: لأزداد من اليقين، فأراد -كما سبق- أن ينتقل من علم اليقين إلى عين اليقين، وهي مرتبة المشاهدة، فيُشاهد إحياء الموتى بعد أن كان معلومًا له متيقنًا، فأمره الله -تبارك وتعالى- أن يأخذ أربعة من الطير، ولم يُحدد أنواع هذه الطيور الأربعة، ولم يرد ذلك عن رسول الله ﷺ، وما ورد فيه من الإخبار فهو مُتلقى عن بني إسرائيل، فلا يعول عليه، ولا فائدة من معرفته.

فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ يعني: فضممهن إليك، واذبحهن، وقطعهن، ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا فتكون هذه القِطع والأجزاء على هذه الجبال، ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا يأتينك مسرعات، ففعل إبراهيم ما أمره الله به، فجاءه، فعاد كل جزء من أجزاء هذه الطيور بأمر الله -تبارك وتعالى- الرأس إلى الجزء الذي يتصل به، والرجل، وهكذا الجناح، ونحو ذلك، فالتأمت واجتمعت، ثم جاءته مُجيبة إلى موضعه حيث دعاها، قال: وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ لا يُغالب، حَكِيمٌ في أقواله وأفعاله وشرعه، يضع الأمور في مواضعها، ويوقعها في مواقعها، فهو عزيز قادر على أن يُحيي الموتى، وأن يُعيدهم من جديد، وهو حكيم أيضًا حيث جعل هذه الحياة للابتلاء والاختبار، ثم يُعيد الأجساد ثانية من أجل الجزاء والحساب، وإقامة العدل، وما إلى ذلك.

وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ فتوسل إليه -تبارك وتعالى- بهذا الاسم الكريم، وهو اسم الرب الذي يجمع صفات الأفعال، وأكثر دعاء الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- في القرآن بهذا الاسم الكريم (ربي) لأن من معاني الرب الإحياء والإماتة والرزق والعطاء والمنع والنفع، وما إلى ذلك، وكل هذا من معاني ربوبيته، فالمؤمن يمكن أن يدعو في كل شأنٍ بما يتفق معه من أسماء الله ، كأنه يقول: يا رزاق ارزقني، يا غفور اغفر لي، يا رحيم ارحمني، ويمكن أن يدعو بهذا الاسم الكريم يقول: يا رب اغفر لي، يا رب ارحمني، وهكذا، فهذا يصلح مع كل مسألة، ولجميع الحاجات، فإجابة الدعاء من معاني الربوبية، والتوسل بهذا الاسم بين يدي هذا الدعاء مبالغة في استدعاء الإجابة.

وهذا الطلب من إبراهيم رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى إنما هو طلب زيادة اليقين، فالإنسان يمكن أن يطلب ما يزداد به يقينه، وكما ذكرنا أن العلم مراتب، فطلب إبراهيم هذه المرتبة الأعلى، ولم يكن شاكًا في قدرة الله على البعث، وإحياء الموتى، وهو إمام الحنفاء، وأبو الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام.

فقال الله له: قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى يعني: لم يقل: بلى آمنت يا رب، مع أن (لم) في قوله: أَوَلَمْ تُؤْمِنْ نافية، والهمزة للاستفهام، والجواب في مثل هذا أن يُقال: بلى، وإذا سئل الإنسان: هل آمنت؟ يكون الجواب: نعم، لكن من الناس من إذا قيل له: أليس الله بقادر على إحياء الموتى؟ يقول: نعم، وهذا غلط؛ لأن قول: نعم في مثل المقام في النفي هو تقرير للنفي (أليس) والصحيح أن يقول: بلى، كما جاء في الحديث: أن رجلاً كان يصلي فوق بيته، وكان إذا قرأ: أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى [سورة القيامة:40] قال: "سبحانك، فبلى"[1]، فإذا قلت لإنسان مثلاً: أولم أُعطك؟ فقال: نعم، فمعناه: أنك لم تعطه، فيكون الإثبات تقريرًا للنفي، فالصحيح أن يقول: بلى، وحينما يُقال: أفهمت؟ إذا قلت: نعم، فالجواب صحيح، لكن حينما يُقال: أو لم تتضح لك المسألة؟ فإذا قلت: نعم، معناه: أنها لم تتضح، فأنت تُقر النفي، والصحيح أن تقول: بلى، يعني: اتضحت.

فإبراهيم قال: بلى، وهذا أيضًا يدل على أنه يجوز الاقتصار على مثل ذلك في الإقرار، يعني: حينما يقول الإنسان مثلاً لغيره: أنكحتك موليتي، فيقول: نعم، فهذا يعتبر قبول، يعني: لا يحتاج أن يقول: قبلت نكاحها، أو قبلتها زوجة، فيكفي أن يقول: نعم، وحينما يُقال: ألا توافق على بيع هذه السعة بكذا؟ فإذا قال: بلى، فهذا إقرار، يعني: لا يحتاج أن يقول: بعتها لك، أو قبلت البيع، أو نحو ذلك، فيكفي أن يقول: بلى، فهنا إبراهيم اقتصر على ذلك، فقال: بلى، ولو قيل لإنسان: ألم تُطلق امرأتك؟ إذا قال: نعم، معناه: أنه لم يُطلق، وإذا قال: بلى، معناه: أنه طلق.

ويُؤخذ أيضًا من هذه الآية: إثبات صفة الكلام لله -تبارك وتعالى: قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ، قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ هذا كلام الله -تبارك وتعالى- يخاطب به إبراهيم ، فالله يتكلم متى شاء، وكيف شاء، وكما يليق بجلاله وعظمته، يتكلم بحرف وصوت يُسمع، فسمع إبراهيم كلام الله.

ويُؤخذ أيضًا من هذه الآية: رحمة الرب -تبارك وتعالى- بعباده، حيث يؤيدهم بالبراهين والدلائل الدالة على قدرته، وأنه يُحيي الموتى، فالله أجاب إبراهيم على هذا الطلب والسؤال، فأمره أن يأخذ أربعة من الطير، وعلمه كيف يصنع، فيُقطع هذه الأربعة، ويجعل على كل جبل منها جزءًا، ثم يدعوها إليه، فتأتيه سعيًا؛ ولماذا قال: سعيًا ولم يقل مثلاً: فتأتيه طيرانًا؟ والسعي يُقال للمشي، ويقال لضرب من المشي، وهو الإسراع في المشي، أجاب عن هذا بعض أهل العلم، كالبغوي -رحمه الله- إذ يقول: "والحكمة في المشي دون الطيران كونه أبعد عن الشبهة؛ لأنها لو طارت لتوهم متوهم أنها غير تلك الطير، وأن أرجلها غير سليمة، لم تحلها الحياة، والله أعلم"[2]، وأيضًا قد تطير وهي ناقصة الأعضاء والأبعاض، قد يكون لا أرجل لها، ولم تلتئم أرجلها، فلا تستطيع المشي، فجاءته تسعى، فهذا أبلغ، والله تعالى أعلم.

ثم قال: وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ أمره أن يعلم، وهذا توكيد، و(أن) هذه بمنزلة إعادة الجملة مرتين أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ولم يقل: واعلم أني عزيز حكيم، وإنما أظهر لفظ الجلالة لما فيه من تربية المهابة، فهذا مقام عظمة لله -تبارك وتعالى، وهو إحياء للموتى، ولا أحد يستطيع أن يُحي الموتى إلا الله -تبارك وتعالى.

وجاء بالجملة الاسمية وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ التي تدل على الثبوت، فهذه أوصاف ثابتة لله -تبارك وتعالى، وكذلك (العزيز) و(الحكيم) كل ذلك على وزن (فعيل) يعني صيغة مبالغة، فالله -تبارك وتعالى- بالغ العزة، وهو أيضًا بالغ الحكمة، لا يُغالب ، وأيضًا يضع الأمور في مواضعها، ويوقعها في مواقعها، واجتماع هذين الاسمين فيه كمال ثالث، وهو أن العزة في المخلوقين قد تكون سببًا لشيء من العسف والقهر والتسلط بغير حق والظلم، ونحو ذلك، لكن إذا كان معها حكمة، فهذا هو الكمال، فتكون هذه العزة مزمومة بالحكمة.

وكذلك قد توجد الحكمة بالنسبة للمخلوقين، لكن ليس معها عزة، فيكون ضعيفًا، ولا رأي لمن لا يُطاع مهما كانت حكمته، لكن إذا كان معها عزة، فيستطيع أن يُحقق بها ما يُريد، فهذا لا شك أنه غاية الكمال، فلا تكتمل الحكمة إلا مع العزة، ولا العزة إلا مع الحكمة.

وهنا طي في الكلام، فالله -تبارك وتعالى- قال له: فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا فهو فعل هذا، فجعل على كل جبل منهم جزءًا، فطوى هذا ولم يذكره، فلم يقل: فقام إبراهيم، وأخذ مجموعة من الطيور وقطعها، ثم جعل على كل جبل منها جزءًا، ثم دعاها فجاءته سعيًا، أعرض عن هذا اختصارًا للكلام؛ لأنه مفهوم على طريقة العرب في البلاغة والاختصار في الكلام، فالعرب تطوي من الكلام ثقة بفهم المخاطب، وهذا كثير في القرآن.

وهذا التعدد هذه الطيور فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ لزيادة التحقق في الإحياء، فحينما تكون متعددة، ويحصل لها الإحياء في لحظة واحدة، تأتيه سعيًا، بمجرد ما يدعوها، وهو مخلوق بأمر الله ، فهذا أدل على القدرة، سواء كانت هذه الطيور من نوع واحد، أو كانت من أنواع شتى، فذلك أبلغ من الطائر الواحد؛ لئلا يتوهم متوهم أن ذلك ممكن بالنسبة للواحد، لكنه يتعسر ويتعذر بالنسبة للمجموع، هذا ما ذكره بعض أهل العلم، والله تعالى أعلم.

وأيضًا في قوله: وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي فهذا إمام الحنفاء، وأبو الأنبياء -عليه الصلاة والسلام، وخليل الرحمن، ويقول: وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي فهو يبحث عن ما يطمئن به قلبه، وما يُثبت إيمانه، فهكذا شأن الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- يطلبون ما يُثبت الإيمان، وكان النبي ﷺ يُكثر من الدعاء يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك[3] لكن ذَكَرَ الله فئة أخرى من الناس، وهم الذين في قلوبهم زيغ، قال عنهم: فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ [سورة آل عمران:7].

وقد قال النبي ﷺ كما في حديث عائشة -رضي الله عنها: إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه، فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم[4] فشتان بين من يطلب اليقين، وكماله، وبين من يتتبع الشبهات، ويُنقر عنها، فيورثه ذلك الشكوك، وزعزعة الإيمان، فمن الناس -للأسف- من يتتبع هذا، ويقرأ في مواقع الشُبه، ويستمع لأصحاب الشُبه، وإذا قرأ القرآن صار يبحث عن مواطن الإشكالات، التي تُشكل عليه، ثم يطلب الجواب عنها، وقد لا يقتنع، وقد يكون فهمه سقيمًا، وملكته في اللغة سقيمة، وليس له ذوق لغوي، ثم بعد ذلك يستشكل هذه الأمور؛ ولماذا ذكر الله كذا بعد كذا؟ وهو لا يُحسن مثل ذلك، فمثل هذا لا يُحسن به أن يتتبع هذا؛ لأنه لا يوجد عنده أهلية أصلاً، وقد يُشرح له، ولا تصل معه إلى الحد الذي يفهم ويفقه فيه ذلك؛ لعدم وجود الملكة أصلاً، الذوق اللغوي مفقود، والله المستعان.

هذا ما يتعلق بهذه الآية الكريمة، وأسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، ويجعلنا وإياكم هداة مهتدين.

والله أعلم.

وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.

  1. أخرجه أبو داود في باب تفريع أبواب الركوع والسجود، باب الدعاء في الصلاة برقم (884) وصححه الألباني.
  2. تفسير البغوي - إحياء التراث (1/ 359).
  3. أخرجه الترمذي في أبواب القدر، باب ما جاء أن القلوب بين أصبعي الرحمن برقم: (2140) وصححه الألباني.
  4. أخرجه البخاري في كتاب تفسير القرآن، باب: مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ [سورة آل عمران: 7] برقم: (4547) ومسلم في العلم، باب النهي عن اتباع متشابه القرآن برقم: (2665).

مواد ذات صلة