بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.
في هذه الليلة نتحدث عن قول الله -تبارك وتعالى- في هذه السورة الكريمة (سورة الفاتحة): الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [سورة الفاتحة:3، 4] فالله -تبارك وتعالى- كما ذكرنا في الكلام على البسملة، هو الرحمن الذي وسعت رحمته كل شيء، وعمت كل حي، كما أنه -تبارك وتعالى- الرحيم بعباده، وذكرنا أن الفرق بين هذين الاسمين على ما ذكره الحافظ ابن القيم -رحمه الله- أن الرحمن قد تضمن من صفة الرحمة ما يعود على الله -تبارك وتعالى- وأن الرحيم دال على الأثر المُتعدي من هذه الصفة إلى المخلوقين[1].
وأن الكثيرين من أهل العلم يقولون: بأن الرحمن هو ذو الرحمة العامة للمؤمنين والكفار، وأن الرحيم هو ذو الرحمة الخاصة بالمؤمنين، وذكرت لكم ما يُشكل على هذا من قوله -تبارك وتعالى- مثلاً: إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ [سورة البقرة:143] فجاء ذلك باعتبار عموم الناس.
وعلى كل حال فكل واحد من هذين الاسمين الكريمين يتضمن صفة الرحمة، وقلنا: إن الرحمن أبلغ من الرحيم؛ وذلك كما قال أبو جعفر ابن جرير -رحمه الله- أنه قد عُدل به عن زنة نظائره، يعني: لم يكن على وزن نظائره؛ وذلك أن الرحيم جاء على هذا الوزن المعهود، وكذلك الكريم والعظيم والسميع والبصير، ونحو ذلك كلها على وزن (فعيل).
وأما الرحمن فهو على وزن (فعلان) وأن المعدول به عن نظائره يكون أبلغ من غيره، بالإضافة إلى أن هذا الوزن (فعلان) يدل على الامتلاء، كما يُقال: غضبان وشبعان، ونحو ذلك، فكل هذا قد مضى، وتأملوا في وصفه -تبارك وتعالى- نفسه بالرحمن الرحيم بعد أن ذكر ربوبيته للعالمين الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [سورة الفاتحة:2، 3] فالربوبية قد يُفهم منها الترهيب، فهو الذي يُدبر أمر الخليقة، ويتصرف بهم كيف يشاء، والرحمن الرحيم يتضمن الترغيب، فيجمع العبد بين الرغبة والرهبة، ويكون ذلك له كالجناحين للطائر، فيكون جامعًا بين الخوف والرجاء، كما يقول القُرطبي -رحمه الله[2].
وكذلك أيضًا يُؤخذ منه أن ربوبيته -تبارك وتعالى- مبنية على الرحمة، فهو رب العالمين، فما نوع هذه الربوبية التي عمت العالم العلوي والسُفلي؟ هل هي ربوبية أخذٍ وانتقام أم ربوبية رحمة وإنعام؟ فجاء بالرحمن الرحيم ليُبين أن ربوبيته مبنية على الرحمة، فهذا الرب الذي يتصرف بنا، ويُدبر شؤوننا، هو رب رحيم، ولا شك أن ذلك يجذب القلوب إليه، فتُحبه وتُجله وتُعظمه ويكون ذلك فيها بحيث لا يُزاحمه محبة أحد سواه، فتكون العبادة والحمد والشكر، وما إلى ذلك، كله مع محبة، فلا تكون عبادة العبد مبنية على مجرد الخوف والرهبة، بل يعبد ربه أيضًا بمحبة، فيُقبل عليه بكُليته، فيكون ربه وخالقه هو محبوبه الأول، يُحبه أكثر مما يُحب نفسه، وهو أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين، وإذا تعلقت القلوب بربها وفاطرها على هذا النهج، فإن هذه القلوب تسعد وتنعم وتُسر وتلتذ بعبادته، والتقرب إليه، وإن وقع لها مكروه فإنها أيضًا تستشعر أن هذا المكروه جاء من محبوبها، ومن ربها الذي هو أرحم بها، فاختار لها ذلك ليرفعها، فلا يكون العبد بحال من التثاقل والتبرم بالعبادة، ولا يكون أيضًا بحال من التسخط حال المُصيبة.
الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [سورة الفاتحة:3، 4] هو سبحانه -تبارك وتعالى- وحده الذي يملك يوم الدين، وهو يوم القيامة، يوم الجزاء والحساب، الذي يُجازى الناس فيه على أعمالهم، وحينما يقرأ المسلم هذه الآية في كل ركعة من صلاته، فإن ذلك يُذكره دومًا بذلك اليوم، من أجل أن يُعد له عُدته، فيكون العبد في حال استعداد دائم للقاء ربه -تبارك وتعالى- ففي أي لحظة يحين أجله يكون قد تهيأ للقاء لله -تبارك وتعالى- فلا يكون مُضيعًا مُقصرًا غافلاً ناسيًا لذلك اليوم، ثم بعد ذلك يفجأه الموت، فيُقدم على الله -تبارك وتعالى- إقدام المفاليس، والآخرة دار لا تحصل للمفاليس، فيكون هذا الذكر سائقًا له للطاعة، والتزود من العبادة والقُربة، ويكون أيضًا زاجرًا له عن المعاصي، وما لا يليق، فيحفظ لسانه وبصره وجوارحه، ويحفظ قبل ذلك قلبه من كل ما لا يحل، فيكون في حال من الصيانة، مع مُلازمة الطاعة.
مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [سورة الفاتحة:4] لا ينساه أبدًا، فهو يتذكره صباح مساء، بل يذكره ما بين ذلك، والله -تبارك وتعالى- يملك الدنيا والآخرة، فلماذا خصَّ يوم الدين؟ خص ذلك اليوم، كما يقول أهل العلم، كشيخ الإسلام[3] وغيره؛ لأنه لا يدعي فيه أحد الملك سوى الله -تبارك وتعالى، لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ [سورة غافر: 16] وكما جاء في الحديث: يطوي الله السماوات يوم القيامة، ثم يأخذهن بيده اليمنى، ثم يقول: أنا الملك، أين الجبارون؟ أين المتكبرون، ثم يطوي الأرضين بشماله، ثم يقول: أنا الملك أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟[4] والكل خاضع لله -تبارك وتعالى- وذليل في ذلك اليوم.
وإذا كان ذلك اليوم العظيم الهائل الذي تقع فيه الأوجال والأهوال: يملكه ربنا -تبارك وتعالى- فهو لما دونه أملك، إذا ملك ذلك اليوم الفظيع العظيم الذي تستكين فيه الخلائق، فلا ترى إلا الخضوع الكامل وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ [سورة طه:111] فتكون الخلائق بأجمعها في حال من الاستكانة لله -تبارك وتعالى- والخضوع والذُل له، فإذا كان يملك هذا اليوم فما دونه من الأيام من باب أولى.
كما أنه أضاف ذلك إلى يوم الدين مَالِكِ يَوْمِ [سورة الفاتحة:4] ولم يقل: مالك الدين، يعني: مالك الجزاء والحساب؛ ليُعرفنا بأن للجزاء يومًا يمتاز عن سائر الأيام، وهو يوم وأي يوم؟! يُحاسب الله فيه الخلائق في ذلك اليوم الذي يشتد عليهم، ويقع فيه ما يقع، مما قصّ لنا ربنا -تبارك وتعالى- وأخبرنا عنه نبينا ﷺ من أحوال الناس في ذلك اليوم، وما يُصيبهم من الكرب والشدة والعرق، وما يقع لأقوام في ذلك اليوم، وكيف يخرجون من قبروهم سِراعى، كأنهم إلى نُصب يوفضون، وكذلك يقوم أقوام ويُصرعون، كالذي يتخبطه الشيطان من المس، وهم أكلة الربا، ويكون أقوام، كأمثال الذر، يطأهم الناس، وهم أهل الكبر، ويأتي أقوام وقد طوق من طوق منهم من الأراضين بحسب ما اقتطع منها، وآخرون يحملون على متونهم وأعناقهم وظهورهم ما غلت أيديهم في هذه الحياة الدنيا، فهذا يحمل جمالاً، وهذا يحمل أبقارًا، وهذا يحمل غنمًا، وذاك يحمل أثاثًا، ورابع يحمل معادن، إلى غير ذلك، فتظهر الفضائح في ذلك اليوم، ولكل غادر لواء يُعرف به، ويفتضح به أمام الخلائق، فالله مالك لذلك اليوم.
ثم تأملوا كيف تضمنت هذه الآية مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [سورة الفاتحة:4] إثبات المعاد البعث والنشور؛ وذلك حينما يُعاد الناس من جديد بعد أن صارت أجسامهم تُرابًا، كما تضمنت أيضًا أمرًا آخر، وهو جزاء العباد على الأعمال الحسن والسيء، كما تضمنت أيضًا تفرده -تبارك وتعالى- بالحكم بين الناس في ذلك اليوم، فهو يحكم بين الخلائق الحكم العدل، والجزاء بمثاقيل الذر فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه [سورة الزلزلة:7، 8] الحكم بمثاقيل الذر، وهذا لا يوجد في هذه الدنيا، والخير والشر بمثاقيل الذر.
وقد جاء عن معاوية بن قُرة، وهو من التابعين، أنه أُهدي إليه طعام، فأكل منه، وترك بعضه، فاسود من الذَّر، فنظر إليه حينما أصبح فوزنه بالذر، ثم نفض الذر عنه، ثم وزنه ثانية، فلم يتغير وزنه"، اسود من الذر، والله يُجازي بالذرة الواحدة.
وآخر يُدعى بأبي العباس، جاء بحبة خردل، ووضع بإزائها خمسًا وعشرين ذرة، فرجحت حبة الخردل على الذر، فالله -تبارك وتعالى- يجزي العباد في ذلك اليوم، ويحكم بينهم الحكم العدل، الذي لا ظلم فيه الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ [سورة غافر:17] كل نفس، فلا يخرج أحد من هذا، تُجزى بماذا؟ تُجزى بأعمالها بما كسبت وعملت لا ظُلْمَ الْيَوْمَ [سورة غافر:17].
وقوله: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [سورة الفاتحة:4] فيه: حث على العمل، من أجل أن يلقى الإنسان الجزاء، فالدين هو الجزاء، فإذا عرف العبد أنه سيُجازى على أعماله، فإنه يترقب، وينتظر الأجر والثواب من الله -تبارك وتعالى- فتكون أعماله من أجل الثواب، وتكون أعماله لربه وخالقه من أجل الأجر، ورضا الله فلا ينتظر عائدة من الناس أن يُطروه، أو أن يثنوا عليه، أو أن يشكروه، أو أن يُجازوه على هذه الأعمال، هو يعمل ليوم الدين، يوم الجزاء، فالجزاء هناك، وليس في هذه الحياة الدنيا.
كما أن هذا فيه ما فيه من التسلية، تسلية المظلوم حينما يذهب حقه، ويذهب ماله، ولربما يُظلم في نفسه، وفي بدنه وفي ولده أو في غير ذلك، فإن لم يستطع أن يقتص في هذه الحياة الدنيا ممن ظلمه، فهناك يوم يُقتص فيه للشاة الجلحاء من الشاة القرناء التي كانت تنطحها في الدنيا، فيُقتص بالكلمة، ويُقتص بالنظرة، ويُقتص بالضربة، ويُقتص بأخذ واقتطاع الحقوق والأموال، وما إلى ذلك.
ثم تأملوا أيضًا في قوله -تبارك وتعالى: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [سورة الفاتحة:4] فخصّص اليوم بالإضافة (يوم الدين) فيحتمل أن يكون ذلك لتهويل ذلك اليوم، أو لتفرد الله -تبارك وتعالى- في الحكم فيه، وأنه لا يدعي أحد في ذلك ملكًا، ولا حكمًا، ولا غير ذلك.
وهكذا أيضًا قوله -تبارك وتعالى: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [سورة الفاتحة:4] تأملوا كيف ذكر -تبارك وتعالى- قبل إلهيته وربوبيته ورحمته، وهنا ذكر مُلكه ليوم الدين الذي هو اليوم الكبير العظيم الهائل فهو -كما سبق- لما دونه أملك، فذكر هذه الأربعة، الإلهية، والربوبية، والرحمة، والمُلك، فهذه الأسماء أو الأوصاف الأربع ذكر الحافظ ابن القيم -رحمه الله- أنها مُستلزمة لجميع صفات كمال الله -تبارك وتعالى[5].
قوله -تبارك وتعالى: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [سورة الفاتحة:4] بعد أن ذكر هذه الأوصاف الأربع، كأنه -تبارك وتعالى- يقول: يا عبادي إن كنتم تحمدون وتُعظِّمون للكمال الذاتي والصفاتي، فاحمدوني، فإني أنا الله، يعني الكامل في ذاته وصفاته وأفعاله، فهو مُستحق للحمد لذاته، وإن كنتم تحمدون للإحسان والتربية والإنعام، فإني أنا رب العالمين، أُربيكم بالنِعم الظاهرة والباطنة، وأُنشأوكم فيها، وإن كان ذلك الحمد للرجاء والطمع في المُستقبل، فأنا الرحمن الرحيم، وإن كان للخوف، فأنا مالك يوم الدين، فمن كان بهذه المثابة فينبغي أن يكون كامل الحمد على كل حال، ومن كل وجه، والله تعالى أعلم.
هذا فيما يتعلق بهاتين الآيتين.
هذا فيما يتعلق بالجهر بالبسملة: الشافعي -رحمه الله- يرى أنها آية من كل سورة، عدا براءة[6] وأنها يُجهر بها في القراءة، في الفاتحة، وفي غير الفاتحة.
- بدائع الفوائد (1/ 24).
- تفسير القرطبي (1/ 139).
- جامع الرسائل لابن تيمية - رشاد سالم (2/ 68).
- أخرجه مسلم في كتاب صفة القيامة والجنة والنار برقم: (2788).
- مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين (1/ 49).
- المجموع شرح المهذب (3/ 334).