الثلاثاء 17 / جمادى الأولى / 1446 - 19 / نوفمبر 2024
[4] قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (1)
تاريخ النشر: ٢٤ / جمادى الآخرة / ١٤٣٦
التحميل: 3512
مرات الإستماع: 3433

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.

حديثنا في هذه الليلة -أيها الأحبة- عن قول الله -تبارك وتعالى- في هذه السورة الكريمة (سورة الفاتحة): إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [سورة الفاتحة:5] وهذه الجملة معناها وتفسيرها أي: نخصك وحدك بالعبادة، ونخصك وحدك بالاستعانة في جميع أمورنا، فالأمر كله لله -تبارك وتعالى- فهو الذي يُيسر العسير، ويُقرب البعيد، وهو الذي يوفق للهدى، وهو الذي يُعين على الطاعة، وتحقيق المطالب الدنيوية والأخروية؛ لأنه هو الذي يملك الدنيا والآخرة.

وهذه الآية تدل على أنه لا يجوز للعبد بحال من الأحوال أن يصرف شيئًا من أنواع العبادة إلى غير الله لأنه يقول: إِيَّاكَ نَعْبُدُ كما أنه إذا استعان، فإنما يستعين بربه وخالقه : إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله[1] فالحصر فيها يدل على تخصيصه -تبارك وتعالى- بالاستعانة إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [سورة الفاتحة:5].

فهذه الآية فيها شفاء القلوب من داء التعلق بغير الله -تبارك وتعالى- وفيها الشفاء من عِلل الرياء والعُجب والكِبر، وما إلى ذلك.

أيها الأحبة: سؤال الهداية إلى الصراط المستقيم يُعد من أجل المطالب، وأعلى المواهب، وأسمى الغايات، فلما كان كذلك علّم الله -تبارك وتعالى- عباده كيف يسألون الهداية إلى الصراط المستقيم؛ وذلك بما يتقدم بين يدي هذا السؤال من حمده، والثناء عليه، وتمجيده، ثم ما يذكرون من عبوديتهم وتوحيدهم له، فهاتان وسيلتان إلى مطلوبهم: التوسل إليه بأسمائه وصفاته: الله، الحمد لله، الرب، رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين؛ فهذا كله توسل بأسمائه وصفاته.

والثاني: إِيَّاكَ نَعْبُدُ [سورة الفاتحة:5] توسلٌ إليه بعبوديته، فهاتان الوسيلتان - كما يقول الحافظ ابن القيم -رحمه الله- لا يكاد يُرد معهما الدعاء[2] فانظر إلى هذا الترتيب بين هذه المذكورات إلى هذا الموضع بين يدي السؤال، الشق الآخر من هذه السورة الكريمة للعبد، ومبدأه سؤال الهداية، فيكون سؤال الهداية موطأً بين يديه بالتوسل بأسمائه وصفاته، وبالتوسل بالتذلل إليه بإعلان العبودية، والفقر الكامل، والعجز التام عن تحصيل الحاجات والمطالب، فيكون استعانته بربه وخالقه؛ لأنه لا يستطيع أن يعمل شيئًا، أو يُحقق مطلوبًا، أو نجاحًا أو فلاحًا إلا بإعانة الله له.

فالنصف الأول من هذه السورة الكريمة للرب -تبارك وتعالى- كما في الحديث الذي أشرت إليه في بعض الليالي الماضية قسمت الصلاة - يعني: الفاتحة - بيني وبين عبدي نصفين، فنصفها لي ونصفها لعبدي[3] فنصفها الأول الذي هو للرب -تبارك وتعالى- أوله التحميد، وآخره التعبيد، أي: نصرف العبادة لك وحدك.

إن كل ما بالخلق من النِعم الظاهرة والباطنة فمن الله -تبارك وتعالى- وحده، لا شريك له، ولهذا يأتي الجمع كثيرًا بين الشكر والتوحيد، وكثير من أهل العلم، ومنهم كبير المُفسرين أبو جعفر ابن جرير -رحمه الله- قد فسّر الحمد بالشكر[4] فالله -تبارك وتعالى- يجمع بين الشكر والتوحيد، ففي الفاتحة جمع بين الحمد لله رب العالمين في أولها، وفي وسطها: التوحيد الخالص إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [سورة الفاتحة:5] وهذا له نظائر في كتاب الله -تبارك وتعالى- وقد ذكر هذا المعنى شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- اجتمع فيها الحمد والتوحيد[5].

كذلك في قول ربنا -تبارك وتعالى- مُعلمًا عباده كيف يقولون: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [سورة الفاتحة:5] ما يدل على أن العبد لا بد أن يكون عابدًا لله -تبارك وتعالى- ولا بد أن يكون مُستعينًا به، فلا بد له من العبادة حتى تتحقق له النجاة، ويحصل له الفلاح والنجاح في الدنيا والآخرة، ولا بد له أيضًا من الاستعانة؛ لأنه لا يمكن أن يُحقق العبادة إلا بالاستعانة، وإذا علم العبد أنه لا بد له في كل وقت وحال وحين من مُنتهى يطلبه، وهو إلهه وربه ومليكه، وكذلك مُنتهًا يُستعان به؛ وذلك هو صمده الذي يصمد إليه في استعانته وعبادته.

قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [سورة الإخلاص:1] الواحد في ذاته، وأسمائه، وصفاته، وأفعاله، وفي إلهيته، وربوبيته، وأسمائه، وصفاته اللَّهُ الصَّمَدُ [سورة الإخلاص:2] أي: الذي تصمد إليه الخلائق في حاجاتها ورغباتها وفقرها واستعانتها ومطالبها كلها، فهنا قال: إِيَّاكَ نَعْبُدُ [سورة الفاتحة:5] فهذا هو المُنتهى، وهو تحقيق العبودية وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [سورة الفاتحة:5] فهذا كلام قصير جامع مُحيط، لا يخرج عنه شيء، كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله[6] وانظروا إلى هذه المعاني الجزلة، في هذه الجُمل القصيرة، والقرآن يُعبر به بالألفاظ القليلة، الدالة على المعاني الكثيرة.

ثم أيضًا هذا يُعلِّم العبد أن يكون رغبته وتوجهه كله إلى ربه وخالقه وهو أن يبتغي وجه ربه الأعلى، ومن ثَم فإنه يتوجه بكُليته إلى هذا المعبود مُستحضرًا أن كل ما أوتي، وكل عمل يوفق إليه، وإحسان يقوم به، فإنما ذلك بفضل الله -تبارك وتعالى- عليه، ورحمته، فهو لا يرى له فضلاً، ولا ما يوجب مِنة على ربه -تبارك وتعالى- أو على أحد من خلقه، فيكون عمله كله لله، وبالله، لماذا؟

لأن قوله: إِيَّاكَ نَعْبُدُ [سورة الفاتحة:5] هنا الوِجهة إلى الله وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [سورة الفاتحة:5] يقول: أنا ضعيف عاجز ليس مني شيء، ولا لي شيء، وإنما المِنة والفضل لله وحده، دون ما سواه، نستعين به، لا حول ولا قوة إلا بالله، لا تحول من حال إلى حال إلا بإعانته، فيقول: حينما أتصدق فهذا بإعانة الله، حينما أحج فهذا بتوفيقه وهدايته وإعانته، وحينما أُصلي، أو أصوم، أو أقرأ القرآن، أو أذكر ربي -تبارك وتعالى- فهذا كله من إعانته وهدايته وتوفيقه، وإلا لم يحصل شيء من ذلك لا قليل ولا كثير.

وانظروا إلى حال أولئك الذين هانوا على الله، فثبطهم عن عبادته، وعن القيام بمرضاته، فصاروا في حال من الضياع والتضييع والتفريط وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا [سورة الكهف: 28] مُضيع ومُفرط، فمثل هذا حاله تُقابل حال أولئك الذين حصلت لهم الإعانة، وقاموا بوظائف العبودية، فهذا العبد لا ينتظر من الآخرين جزاءً ولا شكورًا، ويقول: هذا بتوفيق الله، وأنا أعمله لله، ليس لي شيء، ولا مني فضل، ولم أعمل ذلك إلا ابتغاء وجه الله.

إذًا لست أنتظر من الآخرين الشكر والثناء والتقدير والإطراء والتقديم، ونحو ذلك، إنما أريد الجزاء من الله، فإذا رأى منهم جفاء، أو إعراضًا أو تجاهلاً عن إحسانه وإفضاله، سواء كان هؤلاء من قرابته، أو من غيرهم، فهو لا يعتقد أنه من أولي الفضل عليهم، فيجب عليهم أن يقوموا بحقوقه، وأن يؤدوا ما يُقابل هذا الإحسان، وإنما يرى أن الفضل لله، وأنه عمل ذلك لله، فلا يثقل على الآخرين، ولا يتطلع إلى مردودهم، فإن ذلك خلاف الإخلاص إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ إذا كان كذلك لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا [سورة الإنسان:9] ومن ثَم فإن هذا الإنسان لا يمكن أن يمن على الآخرين بأعماله، فهو يعلم أن الله هو المان وحده، فعليه أن يوجه الشكر لله أن وفقه لهذه الأعمال الطيبة، ويسأل ربه أن يتقبل ذلك منه، ويحمد ربه أن يسره لما ينفعه.

ويُؤخذ من هذه الآية إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [سورة الفاتحة:5] أن كل عمل لا يُعين الله -تبارك وتعالى- عليه العبد، لا يمكن أن يكون، وأن كل عمل لا يُتوجه به إلى الله، ولا يُطلب به ما عند الله، فإنه لا ينفع، بل يبطل ويضمحل ويتلاشى، والله قال عن أعمال الكافرين: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا [سورة الفرقان: 23] وقال: مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ [سورة إبراهيم: 18] وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ [سورة النور: 39] وقال عن نفقاتهم الكثيرة التي يصدون بها عن سبيل الله: فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ [سورة الأنفال:36] فهي لا تنفعهم، ولا ترفعهم، فيُذهبها الله ويُبطلها.

ولذلك تجد في القرآن كثيرًا حينما يذكر الله أعمال الكافرين، وجهود الكافرين، وكيد الكافرين، يحكم عليه مُباشرة أنه في ضلال وتباب فهو ذاهب ومُضمحل، فلا تبتأس، ولا تخشى كيدهم ومكرهم، فإن الله يكفي عباده المؤمنين ذلك أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ [سورة الزمر:36] والعبد هنا مُفرد مُضاف إلى المعرفة، يعني: بمعنى الجمع، كما في القراءة الأخرى المتواترة، "أليس الله بكاف عباده"[7] والقراءات يُفسر بعضها بعضًا، فالله يكفيهم كل المخاوف، ومكر الأعداء، والشرور بأنواعها، لكن عليهم أن يعملوا لما خُلقوا له، وهو تحقيق العبودية لله -تبارك وتعالى- فهذا هو الأصل الكبير والأساس.

أما ما لا يُراد به وجهه -تبارك وتعالى- فإنه لا يدوم ولا يبقى، ولا يكون له القبول، ولو كان في لبوس الخير، والعمل الصالح، وقد يكون دعوة أو مشروعًا من المشروعات الخيرية، لكن مبناه على الرياء والسمعة والمقاصد الفاسدة، فيكون ذلك ذاهبًا مُضمحلاً، ولو أنفقت فيه الأموال الطائلة، وقد تكون أعمال قليلة، وبنفقات قليلة، ومع ذلك يُباركها الله -تبارك وتعالى؛ لأنها قد بُنيت على الإخلاص، فالمسجد الذي أُسس على التقوى من أول يوم هذا هو الذي أمر الله نبيه ﷺ أن يقوم فيه أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ [سورة التوبة: 108] ولكن ما لم يُبن على ذلك من المساجد والأعمال والمشروعات، فإنه لا يستحق أن يُقام فيه، فإنه يذهب ويتلاشى.

وهكذا أيضًا فإن قوله -تبارك وتعالى: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [سورة الفاتحة:5] قدّم هنا ما يتعلّق بالعبادة إِيَّاكَ نَعْبُدُ [سورة الفاتحة:5] ثم قال: وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [سورة الفاتحة:5] مع أن الاستعانة هي الوسيلة التي تتحقق بها العبادة، وكيف يُحقق العبادة إلا إذا كان مُستعينًا بالله وعرفنا أن من لم يُعنه ربه -تبارك وتعالى- فإنه لا يستطيع أن يأتي بشيء، ولكن الله هنا قدم العبادة، ولم يُقدم الوسيلة؛ وذلك أن العبادة غاية، فهي أشرف، هذا من جهة.

ومن جهة أخرى فإن العبادة هي حق أو قسم الرب، وعرفنا أن الفاتحة على شطرين: شطر للرب، وشطر للعبد، فأولها للرب إلى قوله: إِيَّاكَ نَعْبُدُ [سورة الفاتحة:5] فالله يقول: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، فنصفها لي، ونصفها لعبدي، فإذا قال: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [سورة الفاتحة:5] قال الله: هذه بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل[8] فقدّم ما يتعلق بحق الرب، وهو العبادة، ثم أخر حق العبد، ثم إنه من الأليق والأكمل أن يُقدم حق الرب، ولو لم يكن الكلام على هذا النسق، يعني ولو لم تكن السورة مقسومة على هذا الاعتبار -وهو أن الشطر الأول للرب- فإن حق الرب مُقدم على ما يتصل بالعبد، فإن العبد يُقدم ما يستوجب رضا المعبود ويستدعي إجابته إذا سأل قبل أن يطلب منه شيئًا؛ وذلك بإظهار التذلل والخضوع بين يديه بالعبادة، فكان إعلان العبودية مظنة لاستجابة السؤال الذي سيأتي بعدها.

وكذلك أيضًا يكون هذا من قبيل تقديم الغاية على الوسيلة؛ وذلك أن العبد لا يستطيع بحال من الأحوال أن يعبد ربه إلا بالله، فالبداية من الله، والنهاية إلى الله، ونحن جميعًا لله، ونحن إليه راجعون، إنا لله وإنا إليه راجعون، فمبدأ الأمر منه، ومنتهاه منه فمبدأ العمل هو الاستعانة، ومنتهاه هو تحقيق العبادة، فذكر المُنتهى والغاية، فيكون ذلك من باب تقديم الغايات على الوسائل، فالعبادة هي غاية العباد التي خلقوا لها، وأما الاستعانة فهي وسيلة، ولا يصح بحال من الأحوال أن تُقدم الوسيلة على الغاية، فتتحول الوسائل إلى أهداف، فهذا من قلب الحقائق.

فالله -تبارك وتعالى- في هذه السورة الكريمة يقول: إِيَّاكَ نَعْبُدُ [سورة الفاتحة:5] وفي الآية قال: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [سورة الذاريات:56] بأقوى صيغة من صيغ الحصر وهي النفي والاستثناء، الذي جاءت به كلمة التوحيد: لا إله إلا الله، تقول: لا كريم إلا زيد، ولا شجاع إلا عمرو، فهذه أقوى صيغة عند الأصوليين، وأهل اللغة، فصارت الغاية التي خلق من أجلها الجن والإنس هي تحقيق العبودية لله، وأول أمر في القرآن هو: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ۝ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [سورة البقرة:21، 22] فيذكرهم بهذه النِعم: خلق الأرض، وجعل الأرض فراشًا، والسماء بناء، وكل ذلك من أجل أن يوحدوه، وأن يقوموا بتحقيق العبودية له.

ولذلك من الغلط الكبير: أن تتحول الوجهة إلى هذه الدنيا الفانية، فتكون هي الغاية، وتكون مطالب الإنسان متوجهةً إليها، ومن الخطأ أن تتحول اهتمامات الدعاة إلى الله -تبارك وتعالى- إلى إرشاد وتوجيه ودلالة على تحقيق هذه الشهوات، والمطالب الدنيوية المتقضية، فالدعاة هم أتباع الرسل -عليهم الصلاة والسلام- والرسل كانوا يأتون لأقوامهم: اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [سورة الأعراف: 59] يأمرون بعبادته -تبارك وتعالى- ولم يتحول الرسل -عليهم الصلاة والسلام- إلى مقدمي دورات في تثمير الأموال، أو في تأنق الطُرق التي يتأنق الناس بها في المطاعم والمشارب والمناكح، وما إلى ذلك، فهذا غلط، وهو انحراف عن الجادة التي هي مسلك الأنبياء والرسل -عليهم الصلاة والسلام.

ولذلك يقول الشاطبي -رحمه الله- بأن هذه المطالب من النكاح والأكل والشرب، وما إلى ذلك، لما كانت مركوزة في النفوس، وقد جُبلت النفوس عليها، فهي تطلبها طلبًا شديدًا قويًا، لم يرد في القرآن الأمر بها مؤكدًا ومُكررًا إطلاقًا، فأين في القرآن الأمر بوطء النساء؟ لا يوجد، إنما جاء ذلك في سياق معين فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ [سورة البقرة:187] بعد أن كان مُحرمًا في ليلة الصيام، فهو على سبيل الإباحة.

وأين في القرآن الأمر بالأكل والشرب، إلا في مقام الامتنان فقط يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا [سورة المؤمنون:51] فقرن بين الأكل من الطيبات والعمل الصالح؛ لأنه عون عليه، فذكره معه؛ ليدل على أنه هو الغاية كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا [سورة المؤمنون:51] يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلالاً طَيِّبًا [سورة البقرة: 168] لكن ماذا قال بعده؟ وبماذا طالبهم؟ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلالاً طَيِّبًا وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ [سورة البقرة:168] مسالكه التي يصدكم بها عن ذكره وطاعته وعبادته، فيقرن بين هذا وهذا، فعموم الناس ذكر لهم: يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلالاً طَيِّبًا [سورة البقرة:168] ذكر الحِل، وأما الرسل -عليهم الصلاة والسلام- فلا يحتاجوا إلى هذا؛ ولهذا قال: مِنَ الطَّيِّبَاتِ.

إذًا العبادة هي الغاية، وهي أول أمر في القرآن أمر الشارع به، وفي هذه السورة التي نُرددها في كل ركعة، جاء فيها: إِيَّاكَ نَعْبُدُ [سورة الفاتحة:5] فحينما تتحول الاهتمامات إلى إقامة هذه الدنيا الفانية، والتهافت عليها، والتركيز على ذلك، فهذا خلاف المقصود، وليس المقصود أن الإنسان يُعرض عن الدنيا فتُهدم، وإنما المطلوب أن تُعمر، لكن تُعمر بماذا؟ بالإيمان، وطاعة الله   ولذلك قال النبي ﷺ: أحب البلاد إلى الله مساجدها، وأبغض البلاد إلى الله أسواقها[9] فهذا أمر لا بد منه، وقال: وَما أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأَسْوَاقِ [سورة الفرقان:20] لكن لا يتحول إلى غاية وهدف، فلما كانت الدواعي مركوزة في الفِطر في طلب هذه الشهوات لم يأمر الشارع بها، وإنما جاء الأمر بالصلاة، والعبادة، والزكاة، وكل ما فيه مشقة على النفوس، كالصبر، جاء الأمر به مُكررًا.

 والإمام أحمد -رحمه الله- ذكر أن الله أمر بالصبر في القرآن في تسعين موضعًا، وقد يزيد على هذا، لماذا؟ لأنها عبادة جليلة شاقة، فدلّ ذلك على أن عبادة الله -تبارك وتعالى- هي الغاية الكبرى، التي ينبغي أن تُسخر لها جميع الطاقات والاهتمامات، فالإنسان حينما يطلب الدنيا، ويسعى لها، ويأكل ويشرب... إلى آخره، ما هي الغاية في النهاية التي يريد أن يصل إليها؟!

من الناس من تكون غايته هي هذا الشبر، وهو أن يملأ المعدة بالطعام والشراب، وكذلك أيضًا أن يشبع ما دونها من شهوة الفرج، ولكن المؤمن إنما يزاول ما يزاول من هذه الدنيا، ويُعافس ما يُعافس من أجل تحقيق العبودية، فهو إن أكل، أكل ليتقوى على طاعة الله وإن نكح، نكح ليستعين بذلك على مطالب عالية، كما قال الله -تبارك وتعالى: فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ [سورة البقرة:187] فلاحظ الاقتران؛ لما ذكر المُباشرة ذكر معه الابتغاء من فضل الله، وبعض أهل العلم يقول: المعنى: ابتغوا ما كتب الله لكم: ليلة القدر، ولا يُلهيكم النِكاح والوطء عنها.

وبعضهم يقول: وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ [سورة البقرة:187]: أي: الولد، الذي يُكاثر به، كما قال النبي ﷺ: تزوجوا الودود الولود، فإني مكاثر بكم الأمم[10] فلاحظ الغايات والمقاصد النبيلة، هو لا يطلب الولد من أجل أن يتسلى به، أو يُلاعب هذا الولد؛ ولذلك قال النبي ﷺ: الخيل لثلاثة[11] وهكذا في سائر المطالب، إنما يفعل ذلك من أجل تحقيق الغاية الكبرى، فهذه وسائل، وليست بغايات، ولا أهداف، ومن الخطأ أن تحول إلى غايات وأهداف، والكلام له تتمات -بإذن الله في هذا الموضع أتحدث عن ذلك في الليلة القادمة.

وأسأل الله أن ينفعني وإياكم بما سمعنا، وأن يجعلنا هداة مُهتدين، اللهم ارحم موتانا، واشفِ مرضانا، وعافِ مُبتلانا، واجعل آخرتنا خيرًا من دنيانا، اللهم اجعل القرآن ربيع قلوبنا، ونور صدورنا، وذهاب أحزاننا، وجلاء همومنا، اللهم ذكرنا منه ما نُسينا، وعلمنا منه ما جهلنا، وارزقنا تلاوته آناء الليل، وأطراف النهار، على الوجه الذي يُرضيك عنا.

  1.  أخرجه الترمذي ت شاكر في أبواب صفة القيامة والرقائق والورع برقم: (2516).
  2.  مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين (1/ 47).
  3.  أخرجه مسلم في كتاب الصلاة، باب وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة، وإنه إذا لم يحسن الفاتحة، ولا أمكنه تعلمها قرأ ما تيسر له من غيرها برقم: (395). 
  4.  تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (1/ 138). 
  5.  الحسنة والسيئة (ص: 156).
  6.  قاعدة جامعة في توحيد الله وإخلاص الوجه والعمل له عبادة واستعانة (ص: 52).
  7.  حجة القراءات (ص: 622).
  8.  سبق تخريجه.
  9.  أخرجه مسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب فضل الجلوس في مصلاه بعد الصبح، وفضل المساجد برقم: (671).
  10.  أخرجه البخاري في كتاب الجهاد والسير، باب الخيل لثلاثة برقم: (2860) ومسلم في الزكاة، باب إثم مانع الزكاة برقم: (987).
  11.  أخرجه أبو داود في كتاب النكاح، باب النهي عن تزويج من لم يلد من النساء برقم: (2050) وقال الألباني: "حسن صحيح".

مواد ذات صلة