الثلاثاء 17 / جمادى الأولى / 1446 - 19 / نوفمبر 2024
[7] قوله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} (1)
تاريخ النشر: ٢٩ / جمادى الآخرة / ١٤٣٦
التحميل: 4331
مرات الإستماع: 2391

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.

حديثنا في هذه الليلة على ما تضمنه قوله -تبارك وتعالى: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [سورة الفاتحة:6].

فقوله -تبارك وتعالى: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [سورة الفاتحة:6] يقول ذلك تعليمًا لعباده كيف يقولون؟ أي: دلنا وأرشدنا ووفقنا وثبتنا، فكل ذلك داخل في سؤال الهداية هنا، كما سيتبين -إن شاء الله تعالى.

دلنا إلى الصراط، ووفقنا إلى الطريق المستقيم الذي رسمته لعبادك من أجل سلوكه، وثبتنا عليه حتى نلقاك، وهو الإسلام الذي هو الطريق الواضح، الموصل إلى رضوان الله -تبارك وتعالى- وإلى جنته، وهو الذي دل عليه النبي ﷺ ودل عليه الأنبياء قبله، فلا سبيل إلى الفلاح والسعادة والنجح إلا بلزومه وسلوكه، والاستقامة عليه، فهذا معنى اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [سورة الفاتحة:6].

نُلاحظ أن هذه الآية نقرأها في كل ركعة اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [سورة الفاتحة:6] وذلك والله أعلم أنها تضمنت أنفع الدعاء وأعظمه وأحكمه كما قال شيخ الإسلام -رحمه الله[1] فإن الله -تبارك وتعالى- إذا هدى العبد إلى الصراط المستقيم أعانه على طاعته، وترك معصيته، فسلم من الشرور في الدنيا والآخرة، وحصلت له السلامة، وحصل له الفوز والنعيم والراحة والروح، وحصلت له الحياة الكاملة بحسب لزومه لهذا الصراط المستقيم، فأعظم الدعاء أن يدعو العبد ربه أن يهديه صراطه المستقيم.

ولاحظوا هذا الفعل (اهدنا) هو فعل أمر، ولكن العلماء -رحمهم الله- يقولون: إذا صدر فعل الأمر من الأدنى إلى الأعلى، فإنه يكون من قبيل الالتماس والدعاء، فالعبد لا يأمر ربه، وإنما يدعوه بذلك، فيقول: ربي اغفر لي، ربي ارحمني، ربي اجبرني، فليس هذا بأمر لله وإنما هو دعاء، وإذا صدر ذلك إلى من دونه، فهذا أمر، كما يقول الرجل لولده: افعل كذا، أو يقول الرب لعبده: أقم الصلاة، أو نحو ذلك.

ثم لاحظوا أيضًا هذا الفعل (اهدنا) كيف عُدي بنفسه، يعني لم يُعد بحرف الجر، مع أنه يمكن أن يُقال: اهدنا إلى الصراط، اهدنا إلى كذا، ويمكن أن يُقال: اهدنا في الصراط، أو اهدنا على الصراط، والفعل يُفهم معناه بحسب تعديته، كما قال ذلك أهل العلم، لا سيما فقهاء النُحاة من البصريين، فهذا الفعل هنا لم يُعد بحرف، فلم يقل الله: اهدنا إلى الصراط المستقيم، وإنما عداه بنفسه اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [سورة الفاتحة:6] وذلك -والله أعلم- من أجل أن يتضمن هذا الدعاء أنواع الهداية، كل الهداية التي تريدها تدخل فيه، فهل نتبصر بما نقول؟!

والهداية على نوعين:

النوع الأول: هداية العلم والإرشاد.

والنوع الثاني: هداية التوفيق، وهداية العلم، وأن يعرف العبد الحق، وأن يُميز بين معدن الحق ومعدن الشبهات، وكذا هداية العلم وهي أن يُميز العبد الأعمال فيعرف فاضلها من مفضولها إلى غير ذلك من أنواع الهدايات.

وما كل من هُدي إلى العلم الصحيح يُهدى إلى العمل بمُقتضاه، فكثيرون يعلمون من حقائق الدين والشرع أشياء كثيرة، ولكنهم عن القيام بها وتحقيقها بمعزِل، فالخلق جميعًا يحتاجون إلى هداية أخرى وهي هداية التوفيق: الكفار، والفراعنة، وغير الفراعنة، ماذا قال الله عنهم؟ وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا [سورة النمل:14] تكبرًا، وهكذا اليهود: يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ [سورة البقرة:146] ولم يقل: كما يعرفون أنفسهم؛ لأن الإنسان لا يعرف نفسه إلا بعد مدة من ولادته، لكن هو يعرف أولاده مُباشرة، الشبه هو الشبه، لا يُخطئه يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ [سورة البقرة:146] ومع ذلك أقل الناس دخولاً في الإسلام هم اليهود، منذ بُعث النبي ﷺ ؛ لأنهم معدن الكِبر والحسد، وقتلة الأنبياء، ونقضة العهود، ومن ثَم -أيها الأحبة- نجد أن الكثيرين ما تبعوا ﷺ مع معرفتهم بصدق ما جاء به، فهذا عمه أبو طالب الذي دافع عنه، ووقف معه، وبذل في نُصرته ما لم يبذله أكثر المسلمين، من منا قدم ودافع عن الإسلام وأهله كما قدم أبو طالب، ومع ذلك كان يقول:

ولقد علمت أن دين محمد من خير أديان البرية دينا[2].

في قصيدة مشهورة معروفة ذكرها الحافظ ابن كثير -رحمه الله- في تاريخه.

فلم يُسلم، لكنه كان يُحاذر الملامة من قومه، والمسبة الذي يتوهم لحوقها به؛ ولذلك لما مات وكان النبي ﷺ يدعوه إلى الدخول في الإسلام كلمة أُحاج لك بها عند الله[3] قال: هو يموت على دين عبد المطلب، يقول ذلك، ويموت عليه، فلاحظ فعل الهداية اهْدِنَا الصِّرَاطَ ففعل الهداية هذا - كما يقول الحافظ ابن القيم -رحمه الله[4]: متى عُدي بـ(إلى) تضمن الإيصال إلى الغاية المطلوبة، فـ(إلى) تُفيد الغاية، ومتى عُدي باللام: اهدنا للصراط، أو هديت فلانًا لكذا، تضمن التخصيص بالشيء المطلوب، فيكون خاصًا، وإذا عُدي بنفسه اهْدِنَا الصِّرَاطَ تضمن المعنى الجامع لذلك كله، وهو التعرف على الصراط، والبيان والإلهام الذي هو التوفيق أن يُلهم اتباع هذا الصراط، أن يشرح الله صدره لذلك، فإذا قال العبد: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [سورة الفاتحة:6] فهو بقوله هذا ودعائه يطلب من الله -تبارك وتعالى- أن يُعرفه هذا الصراط، وأن يُبينه له، وأن يُلهمه إياه، فيوفق إلى سلوكه، ويُعان، وتكون أحواله مهيأة، وقدرته حاصلة لاتباعه ولزومه، والسير عليه، فيجعل الله علم هذا الصراط في قلبه، ويبعث قلبه على طلبه وإرادته مع القدرة عليه.

فجُرد هذا الفعل (اهدنا) من الحرف، فلا يُعدى بشيء من الحروف؛ ليتضمن هذه المراتب جميعًا، فيكون ذلك سؤالاً للهداية بجميع أنواعها، وسنبين بعد قليل - إن شاء الله - هذه الهدايات الداخلة تحت هذا الدعاء.

وأيضًا من هُدي في هذه الدار إلى الصراط المستقيم الذي أرسل الله به رسله، وأنزل به كتبه، هُدي هناك إلى الصراط المُستقيم، الموصل إلى جنته، ودار ثوابه، فالجزاء من جنس العمل، كما قال الحافظ ابن القيم -رحمه الله: على قدر ثبوت قدم العبد على هذا الصراط الذي نصبه الله لعباده في هذه الدار ليكون طريقًا لهم يسلكونه؛ يكون ثبوت قدمه هناك على الصراط المنصوب على متن جهنم، وعلى قدر سيره على هذا الصراط يكون سيره على ذاك الصراط، فمنهم من يمر كالبرق[5] لأنه في الدنيا كان يمشي على الصراط كالبرق، يُسارع في الخيرات، ومنهم من يمر كالطرف، ومنهم من يمر كالريح، ومنهم من يمر كشد الركاب، ومنهم من يسعى سعيًا، ومنهم من يمشي مشيًا، ومنهم من يحبو حبوًا، ومنهم المخدوش المُسلم، ومنهم المُكردس في النار.

فلينظر العبد سيره على ذلك الصراط من سيره على هذا الصراط، حذو القُذة بالقذة، جزاء وفاقًا؛ لأن الجزاء من جنس العمل، فينظر العبد في حاله وإقباله على الطاعات، ومراقبته لربه -تبارك وتعالى- وصلاح العمل والحال والنية والقصد والقلب، وحفظ الجوارح عن مساخط الله -تبارك وتعالى- والقيام بوظائف العبودية، فيجد ويجتهد ليكون سيره هناك جادًا حثيثًا، وتكون مرتبته عند الله -تبارك وتعالى- في أعلى المراتب، إن الذي يزرع الشوك لا يُرجي أن يحصد العِنب، والذي يشتغل في دنياه بالمعاصي والآثام يحمل قلبًا مُظلمًا، فما الذي يُرجيه في الآخرة إن لم يتداركه الله -تبارك وتعالى- برحمته وعفوه وألطافه. 

والله -تبارك وتعالى- في آيات كثيرة يذكر فيها أن ذلك يكون بحسب الأعمال يُنَبَّأُ الإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ ۝ بَلِ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ ۝ وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ [سورة القيامة: 13 - 15] فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى ۝ يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الإِنسَانُ مَا سَعَى ۝ وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى ۝ فَأَمَّا مَنْ طَغَى ۝ وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ۝ فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى ۝ وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى ۝ فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى [سورة النازعات:34- 41].

وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنثُورًا ۝ وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا ۝ عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا ۝ إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا [سورة الإنسان:19- 22] جزاء على ماذا؟ على الفجور! على الآثام؟! الجزاء على الأعمال الصالحة، وكان سعيكم، أي سعي؟ السعي في طاعة الله فالدنيا معبر تمضي على الصحيح والمريض والغني والفقير، ولكن الحياة هناك، والراحة هناك، والشقاء هناك، فالعاقل من سخر أنفاسه في استجلاب تلك الراحة والنعيم؛ ليكون من هؤلاء الذين وصف الله -تبارك وتعالى: إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا [سورة الإنسان:22].

هذا الصراط هو الطريق المُحدد المُعتدل الذي يصل بسالكه إلى مطلوبه بأقرب وأسرع ما يكون.

والله -تبارك وتعالى- ذكر صراطه المُستقيم في غير موضع، ويُسميه بالصراط، ولم يُسم الله -تبارك وتعالى- طريق الشيطان بالصراط، وإنما يُسميه سُبلاً وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ [سورة الأنعام:153] فهذا يُقال لصراط الله التي رسمها لعباده.

ووصفه بالاستقامة اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [سورة الفاتحة:6] مع أن أهل العلم كالحافظ ابن القيم -رحمه الله- يقولون: إن الصراط لا يكون كذلك إلا إذا كان مُستقيمًا[6] فلا بد فيه من استجماع شروط:

أن يكون مُتسعًا للمارة، وأن يكون موصوفًا بالاستقامة، فإذا كان الصراط يعني الاستقامة، فلماذا وصفه بالاستقامة؟ يُقال: هذه صفة كاشفة، وليست مُقيدة، يعني: لو كان هناك صراط مستقيم وصراط آخر غير مُستقيم، تكون هذه صفة مُقيدة، كما تقول: رجل طويل؛ لأنه يوجد رجل غير طويل، لكن حينما تقول: رجل ذكر، فهذه يُقال لها: صفة كاشفة تكشف الحقيقة فقط، ولا تُقيد الموصوف، لكن حينما تقول: رجل مؤمن، يوجد رجل غير مؤمن.

فهذه صفة كاشفة، وكقوله: وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ [سورة آل عمران:21] فهل يوجد أحد يقتل نبي بحق؟ لا، إذًا هذه صفة كاشفة، تكون للتأكيد، ولبيان شناعة هذا الفعل في هذا الموضع، وكذلك: وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ [سورة المؤمنون:117] فهل يوجد أحد يمكن أن يدعو مع الله إلهًا آخر، له به بُرهان ودليل؟ لا يوجد، لكنه ذكر ذلك توكيدًا وإبرازًا لهذا المعنى، وأن أولئك الذين يدعون مع الله آلهة أخرى هؤلاء في الواقع لا بُرهان لهم بذلك، ولا علم لهم به.

وهكذا في قوله -تبارك وتعالى: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ [سورة الأنعام:38] ولا يوجد طائر يطير برجليه مثلاً، فذكر الجناحين، فهذا للتوكيد، وليس المقصود ما قد يستعمله العرب من ذكر الإسراع بالطيران، تقول: طاروا إليه زرافات ووحِدانا، لكن هنا وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ الطائر الحقيقي يطير بجناحيه، وفي هذا آية كيف يُحلق هذا الطائر، فذلك من آيات الله -تبارك وتعالى- صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ [سورة الملك:19] يعني: للأجنحة، وهذا في نظائر من كتاب الله -تبارك وتعالى- كقوله: يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ [سورة آل عمران:167] مع أن الإنسان لا يقول إلا بفيه.

وكقوله: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ [سورة البقرة:79] والإنسان إنما يكتب بيده، لكن هذا لتسجيل ذلك عليهم، وفي ذكر الأفواه أنه قول لا يتجاوز الأفواه، أو لتسجيل هذا الجُرم عليهم: وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ [سورة النور:15] لأنه قول لا حقيقة له في الواقع، إنما هو قول لا يتجاوز تلك الأفواه المتفوه به.

وهنا قال: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [سورة الفاتحة:6] فأضافه إلى الاستقامة وعرفه؛ لأنه معروف لدى المُخاطب، وفي موضع آخر يقول: وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا [سورة الفتح:2] جاء به مُنكرًا (صراطًا) فلما عرّفه أنه يهديه صراطًا علمه كيف يدعو، اهدنا الصراط الذي أخبرتنا عنه، ووعدتنا بالهداية إليه، كما قال الله في مكة البلد الحرام في دعاء إبراهيم : اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا [سورة البقرة:126] لم يكن بلد، ولم تكن مكة بلدًا حينما قال إبراهيم ذلك، جاء إلى وادٍ غير ذي زرع، فوضع هاجر -رحمها الله- في هذا المكان، مع ابنها إسماعيل فلما صار بلدًا قال الله -تبارك وتعالى: اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا [سورة إبراهيم:35] فهذا لما وجد البلد، وهكذا.

ثم أيضًا هذا الصراط أضافه -تبارك وتعالى- في بعض المواضع إلى نفسه صِرَاطِ اللَّهِ [سورة الشورى:53] باعتبار أنه هو الذي رسمه، وأمر بسلوكه، وفي بعض المواضع أضافه إلى السالكين صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ [سورة الفاتحة:7] لأنهم أهل سلوكه، فتارة يُضاف إلى من رسمه وسنه، وهدى إليه، وأمر بلزومه وسلوكه، وهو الله -تبارك وتعالى- وتارة يُنسب إلى السالكين، وفي موضع آخر أخبر بقوله: وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [سورة الشورى:52] باعتبار أن النبي ﷺ يُرشد، فالهداية المنسوبة إلى النبي ﷺ هي هداية العلم والإرشاد والتعليم.

فالصراط المستقيم -أيها الأحبة- هو طريق أهل الإيمان واليقين، وطريق أهل الهدى والفلاح، ودونه مفاوز ومطالب، ومُتطلبات من المُجاهدات والمُكابدة ومشقات تحتاج إلى صبر، وفي الحديث: لما خلق الله الجنة والنار، أرسل جبريل إلى الجنة، فقال: انظر إليها وإلى ما أعددت لأهلها فيها، قال: فجاءها ونظر إليها، وإلى ما أعد الله لأهلها فيها، قال: فرجع إليه، قال: فوعزتك لا يسمع بها أحد إلا دخلها، فأمر بها فحفت بالمكاره، فقال: ارجع إليها فانظر إلى ما أعددت لأهلها فيها، قال: فرجع إليها، فإذا هي قد حفت بالمكاره، فرجع إليه فقال: وعزتك لقد خفت أن لا يدخلها أحد، قال: اذهب إلى النار، فانظر إليها وإلى ما أعددت لأهلها فيها، فإذا هي يركب بعضها بعضًا، فرجع إليه فقال: وعزتك لا يسمع بها أحد فيدخلها، فأمر بها فحفت بالشهوات، فقال: ارجع إليها، فرجع إليها، فقال: وعزتك لقد خشيت أن لا ينجو منها أحد إلا دخلها[7]، فالكسب الحرام، واللذة الحرام، والشهوات المحرمة، والأصوات المحرمة، والصور المحرمة، وأنواع المُتع المحرمة، هذا هو الطُعم إلى النار، كل طُعم يدعو إلى ما بعده، ويجذبه حتى يصل إلى النار.

ثم لما خلق الجنة أرسل جبريل فنظر إليها بما فيها من البهجة والنعيم والسرور وأنواع اللذات، فقال: وعزتك لا يسمع بها أحد إلا دخلها، فحفها بالمكاره الصبر بأنواعه، والقيام بالطاعات وترك المعاصي فحفها بالمكاره فنظر إليها جبريل فقال: وعزتك لقد خشيت أن لا يدخلها أحد.

فهذا الصراط المستقيم هو طريق أهل الفلاح وهو محفوف بالمكاره، ودونه مفاوز تحتاج إلى مُجاهدات، فإذا صبر العبد فإنه بذلك ينال تاج النِعم، ويصل إلى المُعسكر الآمن الذي لا يجد بعده ألمًا ولا همًا ولا حُزنًا ولا صُداعًا ولا مرضًا ولا خوفًا ولا كدرًا، بأي نوع من أنواع الأكدار، وإنما اللذات الكاملة، في الحياة الدائمة الأبدية السرمدية، تلك الحياة التي تستحق أن يُضحى من أجلها بشهوات مُتقضية مُتكدرة في هذه الحياة الدنيا، فينبغي للعاقل أن يفتح بصيرته، ويسعى إلى ذلك، وأن يُكثر من الدعاء واللهج أن يهديه ربه إلى الصراط المستقيم.

وأيضًا في قوله -تبارك وتعالى: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [سورة الفاتحة:6] في كل ركعة يتبين شدة الحاجة إلى الهداية إلى هذا الصراط، أعظم من الحاجة إلى الرزق أو النصر، بل لا نسبة بين الهداية إلى الصراط المستقيم، وتحصيل الأرزاق والأقوات، وما إلى ذلك؛ لأنه إذا حصلت له الهداية، فلا تسأل عن حاله، لا تسأل عن حاله وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا ۝ وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ [سورة الطلاق:2، 3].

وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ [سورة الأعراف:96].

وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ [سورة المائدة:66] لا قلق من شُح في الأموال والأرزاق ومشكلات اقتصادية وقلة في الأمطار، أو تنزل الأمطار، ولا تُخرج الأرض الزروع والثمار لنزع البركات، فإذا وجدت التقوى ساق الله ألطافه إلى هؤلاء المتقين.

ولذلك لما مُنع الكفار من المجيء إلى الحرم، ودخول البلد الحرام، ونودي على ذلك في الموسم في السنة التاسعة للهجرة إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً يعني: فقرًا فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ [سورة التوبة:28] وعد بالإغناء، لماذا؟ لأن المشركين كانوا يأتون من أطراف البلاد، ومعهم التجارات فتقوم سوق حافلة في مكة ونواحيها وما جاورها، فخافوا أن يُسبب لهم ذلك مشكلة اقتصادية، حينما يُمنع المشركون من المجيء إلى الحرم في موسم الحج، وتكون تلك الأسواق كاسدة، فقال: وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ [سورة التوبة:28] لا تقلق من هذا الجانب، فالذي وضع لك وأنت في بطن أمك حبل السُرة يصل إليك الغذاء، بلا عمل إنسان، ولا عمل يديك، واليد مُعطلة هكذا، هو الذي خلقنا سيوصل إلينا الأرزاق، ولن يُضيعنا، لكن الكلام على الهداية، فإن ركوب الضلالة هو سبب للمشكلات والعُسر والشدائد في الدنيا والآخرة.

وهذه الآية اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [سورة الفاتحة:6] هي خُلاصة المُقدمات التي قبلها من الحمد، والثناء، والتمجيد، وذكر العبادة، والاستعانة بالله -تبارك وتعالى- فهذا ثمرة تلك الخُلاصة، وتلك الهداية التي تملأ قلب العبد، فيكون في جنة في الدنيا، قبل جنة الآخرة، والله أعلم.

وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.

  1.  الحسنة والسيئة (ص: 83).
  2.  أخرجه البخاري في كتاب مناقب الأنصار، باب قصة أبي طالب برقم: (3884). 
  3.  البداية والنهاية ط إحياء التراث (3/ 56). 
  4.  بدائع الفوائد (2/ 22). 
  5.  مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين (1/ 33). 
  6.  البداية والنهاية ط إحياء التراث (3/ 56). 
  7. أخرجه الترمذي ت شاكر في أبواب صفة الجنة، باب ما جاء حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات برقم: (2560) وقال الألباني: "حسن صحيح". 

مواد ذات صلة