الثلاثاء 17 / جمادى الأولى / 1446 - 19 / نوفمبر 2024
[10] قوله تعالى: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ..} (2)
تاريخ النشر: ٠٤ / رجب / ١٤٣٦
التحميل: 2916
مرات الإستماع: 2072

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.

نواصل الحديث هذه الليلة في الفوائد المُستخرجة من قوله -تبارك وتعالى- في آخر هذه السورة الكريمة (سورة الفاتحة) من قوله -تبارك وتعالى: صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ [سورة الفاتحة:7] فمن ذلك:

ما يُؤخذ من إضافة الصراط إلى المُنعم عليهم، وإضافة الإنعام إلى الله -تبارك وتعالى- عند ذكر صفة هذا الصراط صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ [سورة الفاتحة:7] فيؤخذ من هذا أن هذا الصراط المستقيم نعمة من الله -تبارك وتعالى- كما يُؤخذ منه أيضًا أن الهداية نعمة منه على عباده، وهي أعظم النِعم؛ لأنه إذا حصلت الهداية للعبد تتابعت عليه الخيرات في الدنيا والآخرة، فلا فوز ولا نعيم ولا فلاح ولا نجاح إذا كان العبد غير مُهتدٍ إلى صراط الله المُستقيم.

فهذه الهداية لا يحصلها العبد بذكائه وجُهده، ونحو ذلك، وإنما هي منحة من الله -تبارك وتعالى- والله -تبارك وتعالى- أعلم بأحوال خلقه وبقلوبهم وبأعمالهم، وقد أخبرنا أن من أعطى واتقى، قال عنه: فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى [سورة الليل:7] وأخبرنا عن الآخر الذي بخل واستغنى فقال: فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى [سورة الليل:10] وقال: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ [سورة التوبة:115] وأخبرنا عن أولئك الذين رفضوا الهداية أن الله -تبارك وتعالى- جازاهم بإزاغة قلوبهم، وخاطب عباده بقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ [سورة الأنفال:24].

فمن رد الهداية فقد يكون هذا الرد سببًا للحيلولة بينه وبين قلبه فلا يهتدي، والله -تبارك وتعالى- أخبرنا عن أولئك الذين أزاغ قلوبهم بأن ذلك كان جزاء وِفاقًا وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ [سورة الأنعام: 110] فيُقلب الله -تبارك وتعالى- قلوبهم عن الحق، ويصرفها عنه، ويصرف بصائرهم فلا ترى هذا الحق، والسبب في ذلك على أرجح الأقوال من أقوال المفسرين في كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ أي: جزاء وفاقًا؛ لأنهم ردوا الحق أول مرة، فجازاهم وعاقبهم بتقليب القلوب والأبصار، فلا ترى الحق، فالله -تبارك وتعالى- هو المُنعم المتفضل والهادي إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [سورة القصص:56] فالمُعلم والمُربي والوالد إنما هو باذر يضع البذور، وقد يكون المحل غير قابل لهذا البذر، فلا يستتم، ولا يخرج منه بطائل، وتجد البنتين أو الابنين في البيت الواحد تلقوا تربية واحدة، وتجد هذا في حال من القبول والصلاح والإقبال، وتجد الآخر في غاية الانصراف والإعراض.

وهكذا تجد ذلك في المحاضن التربوية وغيرها، فالاستجابة والهداية من الله، ويكفي في ذلك ما قاله الله لنبيه ﷺ لما كان يعرض الدعوة على أبي طالب فكانت النهاية أن مات على الكفر على ملة عبد المطلب إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [سورة القصص:56] فإذا كان ربنا -تبارك وتعالى- يقول لنبيه وصفيه -عليه الصلاة والسلام- وهو أفضل الخلق، وأعلم الخلق بربه، وأنصح الخلق، وأسباب الاهتداء والهداية التي هي من قبيل التعليم والإرشاد مُتحققة فيه؛ لأن ذلك يتطلب علمًا ومعرفة، فهو أكمل الناس علمًا -عليه الصلاة والسلام- ويتطلب بيانًا والنبي ﷺ أعظم الناس بيانًا، وأفصحهم لسانًا، فقد يتخلف المطلوب؛ لأن صاحب الحق لا يستطيع أن يُعبر عنه، لكن النبي ﷺ هو أفصح الأمة.

وكذلك أيضًا ما يُطلب من النُصح، وقصد الهداية للمنصوح، والرغبة في نفعه، والأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- أكمل الناس في ذلك، حتى كان ربنا -تبارك وتعالى- يهون عليه ما يلحقه من الحُزن، حينما يُعرض هؤلاء عن الهداية فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ [سورة الكهف:6] يعني: على آثار هؤلاء الذين لا يهتدون ولا يستجيبون إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا [سورة الكهف:6] تأسف عليهم، وتحزن لعدم الاهتداء، وقال: فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ [سورة فاطر: 8] فهذا يدل على شدة ما كان يُصيب النبي ﷺ بسبب إعراض المُعرضين.

فالأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- قد استجمعوا الأسباب التي يحصل بها كمال هداية الإرشاد، ومع ذلك سمع أقوام من النبي ﷺ وكانوا يرون الوحي ينزل عليه، ومع ذلك لم ينتفعوا به، وكم من أقوام أوتوا من الذكاء ما كان سببًا لغوايتهم وضلالهم، إذا أوتي العبد الذكاء من غير زكاء، فقد يكون هذا الذكاء سببًا للحرمان، وكذلك أيضًا كم من أقوام أوتوا من العلوم والفهوم، ولكنه ما نفعتهم، ففرحوا بما عندهم من العلم، فرأوا أنهم بذلك يستغنون عن الوحي، فكانت هذه العلوم سببًا لضلالهم وإعراضهم.

فهنا يحتاج العبد إلى أن يستبين هذه المعاني، ويعرف قدر نعمة الله عليه إذا هداه واجتباه وحباه، فهذه نعمة يتمسك بأهدابها، ولا يُفرط بها بحال من الأحوال.

ثم تأملوا قوله -تبارك وتعالى: صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ [سورة الفاتحة:7] ففي الإنعام أضاف ذلك إلى الله أَنْعَمْتَ وفي الغضب لم يُضفه إليه، وإنما جاء بالفعل مبنيًا للمجهول الْمَغْضُوبِ من الذي غضب؟ هو الله الذي غضب عليهم، فمثل هذا قد يكون موضعًا للسؤال، لماذا أضاف الإنعام إلى الله، وجاء بالغضب بهذه الصيغة المبنية للمجهول؟ فلماذا لم يقل مثلاً: غير الذين غضبت عليهم، كما قال: صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ [سورة الفاتحة:7]؟

العلماء - رحمهم الله - يُجيبون عن هذا بأجوبة منها:

أن النعمة هي الخير والفضل، كما أن الغضب من دواعي الانتقام، والله -تبارك وتعالى- يوصف بالغضب، وهي من صفاته -تبارك وتعالى- الثابتة في الكتاب والسنة، فيغضب غضبًا يليق بجلاله وعظمته، والغضب معروف، وغضبه لا يكون مُماثلاً لغضب المخلوقين، فهذا الغضب صفة مُستدعية للعقوبة والانتقام، ومعلوم أن رحمته -تبارك وتعالى- تسبق غضبه، فأضاف إلى نفسه -تبارك وتعالى- أكمل الأمرين، وأسبقهما، وأقواهما، وهو الإنعام.

وهذا كثير في القرآن: أن أفعال الإحسان والرحمة والجود تُضاف إلى الله -تبارك وتعالى- فيُذكر فاعلها منسوبة إليه، ولا يُبنى الفعل معها للمجهول، فإذا جيء بأفعال الجزاء والعدل والعقوبة حُذف الفاعل، وبُني الفعل معها للمفعول أدبًا في الخطاب، وإلا فالذي غضب عليهم هو الله، والذي يُعاقبهم هو الله، والذي ينتقم منهم هو الله، لكن من باب التأدب في العبارة، وإضافة أشرف قسمي أفعاله -تبارك وتعالى- إليه صراحة، مع أن ذلك جميعًا هو من أفعاله.

وهذا له نظائر في القرآن غير هذا الموضع، إبراهيم قص الله علينا خبره وقوله: الَّذِي خَلَقَنِي [سورة الشعراء:78] أضاف الخلق إلى الله فَهُوَ يَهْدِينِ أضاف الهداية إلى الله، كما هنا صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ [سورة الفاتحة:7] وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ [سورة الشعراء:79] فأضاف ذلك جميعًا إلى الله وَإِذَا مَرِضْتُ [سورة الشعراء:80] فلم يقل: وإذا أمرضني، وإنما قال: وَإِذَا مَرِضْتُ [سورة الشعراء:80] فأضاف المرض إلى نفسه، بينما أضاف الشفاء إلى الله فَهُوَ يَشْفِينِ [سورة الشعراء:80] مع أن المرض والشفاء كل ذلك من الله -تبارك وتعالى- لكن من باب التأدب في العبارة.

وهكذا أيضًا في غير هذا الموضع، كقول الجن: وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأَرْضِ [سورة الجن:10] فلما ذكروا الشر قالوا: أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأَرْضِ فجاء الفعل بالبناء للمفعول ولم يقالوا: أم أُريد بهم الرشد، وإنما قالوا: أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا [سورة الجن:10] فنسبوا إرادة الرشد إلى الله، وحذفوا فاعل إرادة الشر، فبُني الفعل للمفعول، وهذا كما قال النبي ﷺ: والشر ليس إليك[1] يعني: أنه ليس في أفعاله شر -تبارك وتعالى- وإنما يقع الشر في مفعولاته، وأما أفعاله فكلها خير، وهي على الكمال، كما هو معروف.

وانظروا إلى قول الخضر حينما ذكر العيب للسفينة: أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا [سورة الكهف:79] فأضاف العيب إلى نفسه، ولم يقل: فأراد الله عيبها، وإنما قال: فأردت أن أعيبها، ولكن لما ذكر ما يتعلق بمصلحة اليتيمين، بحفظ مالهما، وكنزهما، حتى يبلغا أشدهما، ويستخرجا هذا الكنز، قال: فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ [سورة الكهف:82] فهنا لما كان هذا التلطف والرحمة وحفظ مال هؤلاء الأيتام، قال: فأراد ربك، ففي العيب أضافه إلى نفسه، وفي هذا الإفضال والإنعام أضافه إلى الله -تبارك وتعالى- المُتكفل بمصالح الخلق.

ثم أيضًا تأملوا صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ [سورة الفاتحة:7] كثير من الناس إذا رأى في التفسير، وكما جاء عن النبي ﷺ: أن المغضوب عليهم هم اليهود، وأن النصارى هم الضالون[2] ربما يتوهم أن ذلك يختص بهم، مع أننا مأمورون بقراءة الفاتحة في كل ركعة، وهذه السورة الوحيدة التي يجب على المصلي أن يقرأها، وقد ذهب طائفة من أهل العلم إلى أنها رُكن في الصلاة، وأطلقه بعضهم فقالوا: للمأموم، والإمام، والمنفرد، أنها ركن في الصلاة في الجهرية والسرية، فهذه السورة بهذه المثابة نُرددها، فهل يكون المراد بالمغضوب عليهم اليهود فقط، وأن أهل الضلال هم النصارى فقط؟

هذا غير صحيح، وليس هو المراد بهذه الآية على سبيل الحصر، ولا شك أن اليهود هم أهل غضب، وهم داخلون في ذلك دخولاً أوليًّا، وقد فسرها النبي ﷺ بهذا، ولكن ذلك لا ينفيه عن غيرهم ممن شابههم، واتصف بشيء من أوصافهم، التي استوجبوا بها هذا الغضب، وكذلك النصارى، فيدخل في المغضوب عليهم من لم يعمل بعلمه، وترك الحق على علم، فهذا له نصيب من هذا الوصف (المغضوب عليهم) ومن عمل بلا عِلم فله نصيب من قوله: وَلا الضَّالِّينَ كما ذكر ذلك جمع من أهل العلم، كالشيخ محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله- في تفسيره لسورة الفاتحة[3] وذكر ذلك غيره، حتى قال بعض أهل العلم: "من فسد من عبّادنا ففيه شبه من النصارى، ومن فسد من علمائنا ففيه شبه من اليهود"[4].

فيدخل في قوله -تبارك وتعالى: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ [سورة الفاتحة:7] كل من انحرف عن الحق مع علمه به، ومن انحرف عنه بسبب جهله وتفريطه، فهو من أهل الضلال، فلا يختص ذلك باليهود والنصارى؛ ولهذا قالوا: لو نفع العلم بلا عمل لما ذم الله أحبار اليهود، ولو نفع العمل بلا علم لما ذم الله رُهبان النصارى، فهم مذمومون لذلك، والله تعالى أعلم.

وشيخ الإسلام -رحمه الله- يقول: "من اتبع هواه وذوقه ووجده مع علمه أنه مخالف للكتاب والسنة فهو من المغضوب عليهم، وإن كان لا يعلم ذلك فهو من الضالين"[5] يعني: يتبع هواه وذوقه وهو لا يعلم أنه لا يخالف الكتاب والسنة، فهو من أهل الضلال، وأولئك الذين يعلمون نصوص الكتاب والسنة، ولكنه يقول: هذه النصوص والآيات والأحاديث لا توافق عقلي، فهذا له نصيب من صفة هؤلاء أهل الغضب؛ لأنه عرف النصوص، ومع ذلك أعرض عنها.

وأما الذي يخبط في عمى، ويعمل على غير علم، فله نصيب من الضلال؛ ولذلك أقول: بأن هذا الموضوع يحتاج العبد إلى أن يتبينه؛ لأن أحوال الناس لا تخلو من ثلاثة: إما أهل الهداية، وهم أهل الإنعام، وإما أهل الضلال، فإما أن يكون على علم، فهؤلاء أهل غضب، وإما أن يكون على جهالة، فهؤلاء أهل ضلال، فالطوائف ثلاث، لا رابع لها من هذه الحيثية -والله أعلم.

وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.

  1.  أخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الدعاء في صلاة الليل وقيامه برقم: (771). 
  2.  أخرجه أحمد ط الرسالة برقم: (20351) وقال محققو المسند: "إسناده صحيح". 
  3.  تفسير سورة الفاتحة (ص: 53) ط دار الحرمين، ت: فهد الرومي.
  4.  هذا قول سفيان عيينة ينظر: إغاثة اللهفان (1/ 32).
  5.  الفتاوى الكبرى لابن تيمية (1/ 194). 

مواد ذات صلة