بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.
من المواضع الدالة على التوحيد، وأصول الاعتقاد، المُستنبطة من سورة الفاتحة، في (الحمد) (أل) تُفيد الاستغراق، التي تُضاف إليه جميع المحامد، هو الكامل من كل وجه، في ذاته، وصفاته، وأفعاله، وكامل في إلهيته، وربوبيته، وأسمائه، وصفاته، والذي يكون كاملاً من كل وجه هو الذي يستحق أن يُعبد وحده دون من سواه، والذي يكون كاملاً من كل وجه هو الذي يصح أن يتوجه إليه بالرغبة والرهبة، فيكون التوكل عليه وحده، والخوف منه وحده، والرجاء له وحده، وما إلى ذلك، فهذا فيه إثبات جميع صفات الكمال من (الحمد) لأنه لا يُحمد من كل وجه إلا من كان كاملاً من كل وجه، ومن كان كاملاً من كل وجه، فهو المُستحق لأن يُعبد.
(الله) هذا الاسم مُتضمن لصفة الإلهية، والإلهية هي العبادة، والإله هو المعبود، فهذا متضمن لتوحيد العبادة، وهو أحد أنواع التوحيد الثلاثة، والإله يتضمن صفة الإلهية، وصفة الإلهية أوسع الصفات، وأعظم الصفات؛ وذلك أنها مُتضمنة لجميع صفات الكمال، كما ذكرنا، فكل الأسماء الحسنى تعود إلى هذا الاسم الكريم (الله) لفظًا ومعنى، لفظًا بمعنى أنها تُعطف عليه، ولا يُعطف على شيء منها، ومعنى باعتبار أن صفة الإلهية مُستجمعة لجميع أوصاف الكمال؛ ولذلك فالإلهية متضمنة للربوبية، ولهذا يقولون: إن توحيد الإلهية يتضمن توحيد الربوبية، فإذا قلت: الله هو المألوه والمعبود وحده، وهو الإله، فهذا يعني أنه هو الرب؛ لأنه لا يُعبد إلا من كان خالقًا رازقًا مُحييًا مُميتًا مُدبرًا، وما إلى ذلك.
وفيه أيضًا دخول لام الاستحقاق، ويقولون أيضًا الاختصاص في هذا الموضع يدل على هو المُستحق للمحامد كلها، فهو الذي يستحق أن يُحمد على كل الأحوال، في السراء والضراء.
وتقديم الإلهية يدل على أنه التوحيد الذي بُعث به الرُسل، فهو الأهم، وهو الذي حصل فيه النزاع بين الرسل -عليهم الصلاة والسلام- وأقوامهم، حيث كانوا يُقرون بالربوبية في الجملة، ولكنهم كانوا يُنازعون في توحيد الإلهية أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ [سورة ص:5] لكن إذا سألوا عمن خلق السماوات والأرض مُباشرة يجيبون: الله، فتقديم الإلهية يدل على منزلة هذا التوحيد.
رَبِّ الْعَالَمِينَ [سورة الفاتحة:2] يدل على توحيد الربوبية، ويدل على جميع الصفات المتعلقة صفات الكمال التي تتعلق بالإحسان والإعطاء والمنع والنفع والدفع، والخلق الرزق، وما إلى ذلك، فكل ما يتعلق بمعاني الربوبية داخل في هذا.
وأيضًا الربوبية توحيد الله بأفعاله، والإلهية توحيد الله بأفعالك أنت، فتصلي له وحده، وتصوم له وحده، وهكذا، والربوبية تقول: لا خالق إلا الله، ولا رازق إلا الله، وهكذا.
فتوحيد الربوبية يستلزم توحيد الإلهية، إذا قلت: لا خالق إلا الله، ولا رازق إلا الله، ولا مُحيي إلا الله، ولا نافع إلا الله، ولا مُعطي إلا الله، ولا ضار إلا الله، إذًا ما الحاجة لغيره أن يُعبد، هذا يقتضي أن تتوجه إليه بالعبادة، فإذا كان هو الذي يملك النفع والضر، فالعبادة ينبغي أن توجه إليه، فهذا معنى توحيد الربوبية يستلزم ويقتضي توحيد الإلهية.
ومن معاني الرب: السيد والمُدبر والمُتصرف في شؤون المربوبين والمالك لهم، والذي يُربيهم بصنوف النعم... إلى آخره، فهو ربهم يُربيهم بالنِعم بأنواعها النِعم المتعلقة بالأرواح، تربية الأرواح، وتربية الأبدان، تربية الأرواح بماذا؟ بالوحي، فهذا فيه إثبات الوحي والنبوة، وإرسال الرسل -عليهم الصلاة والسلام- إنه يُرسل إليهم رسلاً، ويُنزل عليهم كُتبًا، فالتربية تكون للأرواح وللأبدان، للأرواح بالوحي والهدى، والأبدان بما يغذوها به، مما يحصل بها نماؤها وكمالها، ونحو ذلك.
وفيه: إثبات الصفات الاختيارية لله لأنه يُصرف أمورهم، ويُربيهم بالنِعم، ويتولى شؤونهم، فمعنى ذلك أنه يوالي عليهم نِعمه وأفضاله، وما إلى ذلك، فهذا فيه إثبات الصفات الاختيارية.
والرب -تبارك وتعالى- والسيد لا يتركهم هملاً، ولم يخلقهم سُدى، ففيه إثبات المعاد من هذه الجهة، لا بد من غاية ونهاية، ويوم يحصل بهم به الجزاء والحساب.
ومن الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [سورة الفاتحة:3] إثبات صفة الرحمة، وأن هذه الرحمة تتعدى إلى المخلوقين، على قول: بأن الرحمن أعم يكون للمؤمنين ولغيرهم، وذكرت لكم قول ابن القيم: أن الرحمن يعود إلى القدر الذي يعود إلى الله من هذه الصفة، والرحيم يدل على الجانب المُتعدي إلى المخلوقين.
مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [سورة الفاتحة:4] في قراءة الجمهور إثبات صفة المُلك، وصفة المِلك، المُلك هو كمال التصرف المُطلق، وأما المِلك فهو مُغاير له، فالمِلك هو ملك الشيء، بمعنى أنه صار يملكه، وصار مُلكًا له، يتصرف فيه، لكنه لا يكون بذلك ملكًا.
وفي مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ إثبات المعاد، وإذا كان فيه إثبات المعاد، فهذا فيه إثبات أيضًا الرسل والرسالات، والكتب؛ لأن يوم المعاد والجزاء والحساب، فالله لا يُعذب الناس إلا إذا أقام عليهم الحجة، بإرسال الرُسل، وإنزال الكتب رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ [سورة النساء:165].
وإثبات كمال مُلكه كونه يملك يوم الدين، وفيه إثبات الجزاء والحساب، وما يكون من جزاء ذلك الجنة والنار، وإثبات علم الله وإحاطته، وسمعه، وبصره؛ لأنه عالم ما هم عليهم، وقد أثبت ذلك جميعًا، فيُحاسبهم بذلك، حيث أحصى أعمالهم.
ويمكن أن تقول: فيه إثبات القدر باعتبار أن الله -تبارك وتعالى- جعل لهذه الحياة أمدًا، حياة الإنسان بمفرده، وحياة المجموع، وحياة الدنيا نهايتها، ثم بعد ذلك ما يكون في الآخرة، وما يكون من مصائر الناس، أهل السعادة وأهل الشقاوة، فكل ذلك بقدر الله .
وفيه إثبات كمال عدله -تبارك وتعالى- وأن الإنسان يلقى جزاءه، ويحصل به الاقتصاص من الظالم للمظلوم.
وهذه الأسماء الأربعة: الله، والرب، والرحمن، الرحيم، والمالك، تدور عليها جميع الأسماء والصفات، والكمالات جميعًا ترجع إليها، الصفات المتعلقة بالإلهية، والمتعلقة بالربوبية والمتعلقة بالرحمة، والصفات المتعلقة بالمُلك.
إِيَّاكَ نَعْبُدُ [سورة الفاتحة:5] فيه إثبات هذا الأصل الكبير، وهو توحيد العبادة، وتقديم المعمول على العامل يدل على إفراده بذلك، فالعبادة لا يصح أن توجه أيًا كان نوعها، سواء كان ذلك نذرًا، أو ذبحًا، أو غير ذلك إلا لله -تبارك وتعالى.
فقدم العبادة على الاستعانة، باعتبارها حق الله -تبارك وتعالى- وأن العبادة غاية، والاستعانة وسيلة.
وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ يُؤخذ منه أن الاستعانة: قطع التعلق بالمخلوقين، والافتقار إليهم، وقد بايع النبي ﷺ بعض أصحابه أن لا يسألوا أحدًا من الناس شيئًا، فكان السوط يسقط من أحدهم، ولا يقول لصاحبه: ناولنيه[1] فهذه مرتبة عالية، لا يُطالب بها كل الناس، يصح يجوز الاستعانة بالمخلوق فيما يقدر عليه، لكن الأكمل أن يكون فقر الإنسان إلى ربه -تبارك وتعالى- ولذلك قال شيخ الإسلام: بأن الأولى أن لا يطلب الدعاء من غيره؛ لأن فيه نوع افتقار، مع تزكية لهذا الذي يُطلب منه، مع ترك ما طُلب العبد به من الدعاء، والتقرب إلى الله به، ويكل ذلك إلى غيره، لكنه استثنى من ذلك حالاً، وهي ما إذا قصد بطلب الدعاء من هذا الإنسان قصد نفع المطلوب منه، من أجل أن يقول له الملك: ولك بمثل[2] من الذي يُفكر بهذه الطريقة، حينما يقول: ادعُ لي، أن يقصد نفع المطلوب منه؟!
فالنبي ﷺ بايع بعض أصحابه: ألا يسألوا أحدًا من الناس شيئًا مُطلقًا، فيكون فقره إلى الله، لا يكون في قلبه أدنى افتقار إلى المخلوقين، فهذا حال بعيدة عمن أنزل حاجاته كلها بالمخلوقين، فهو لا يفعل شيئًا إلا باللجوء إلى فلان وفلان، ويحاول أن يُكوِّن علاقات، ونحو ذلك من أجل أن يكون له سند من الناس، فهذا غلط، وربما بعضهم يُخطط لهذا من وقت مُبكر، فيذهب بولده إلى مدارس يدرس بها من يتوقع أن يكون هؤلاء لهم مكانة في المستقبل، بحيث يكون هذا الولد له علاقات يمكن أن تنفعه في يوم من الدهر.
لاحظ التخطيط المُبكر، يُدرسه في مدارس قد تكون باهظة الثمن، ولا يتحمل التبعات والتكاليف، لكنه يُخطط لهذا، يقول: من أجل أن يكون هؤلاء زملاء دراسة للولد، غدًا إذا صار الواحد منهم مسئولاً يمكن أن ينتفع هذا الولد، وما علم أنه يضر الولد من جهات كثيرة، جوانب نفسية، وجوانب اجتماعية، وغير ذلك، فهذا الولد يرى ما لا قِبل له به، ولا يستطيع أن يُجاريهم في نفقاتهم وتصرفاتهم، وما إلى ذلك، ولا في مراكبهم، ولا مساكنهم، فإما أن يبقى في حسرة وشعور دائمًا بالحِرمان، أو ربما يحاول أن يحصل على الأموال بطرق غير مشروعة، أو أنه يتعود الكذب، ويمتهن الكذب، فيكذب، فيتشبع بما لم يُعط، وأن عندهم كذا، وعندهم كذا، ويسكنون في كذا، ويركبون كذا، وقد اشتروا كذا، ونحو ذلك، مما لا حقيقة له.
وفي إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ التخلص من الأدواء، التي تقدح في العمل، وتُبطله، كالرياء والسمعة، فـإِيَّاكَ نَعْبُدُ علاج: الشرك، ووَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ علاج العُجب، الذي يُبطل العمل، ورؤية النفس، والترفع بالأعمال.
اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [سورة الفاتحة:6] أن الذي يملك الهداية هو الله، وباب الهدى والضلال مُتعلق بباب القدر.
وصراط المستقيم هو تحقيق العبودية لله ويدخل فيه أيضًا الشريعة بكاملها؛ لأنها تفاصيل للصراط المستقيم، ويدخل فيه إثبات الرسل، والكتب، فتفاصيل الشريعة من أين جاءت؟ عن طريق الرسل -عليهم الصلاة والسلام- والكتب التي تشرح ذلك.
ووحّد الصراط المستقيم؛ لأن الطريق إلى الله واحد وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ [سورة الأنعام:153].
وأنه صراط الذين أنعم عليهم فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ [سورة النساء:69] فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ [سورة الأنعام:90].
وفي قوله: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ [سورة الفاتحة:7] إثبات صفة الغضب، وصفة الإنعام، والبراءة من المشركين، وإثبات الصفات الاختيارية لله، فالغضب من الصفات الاختيارية، التي تتعلق بمشيئته وإرادته، والإنعام كذلك.
وإثبات فعل العبد، فنسب الضلال إليهم، فالعبد له فعل، وإرادة، وقُدرة، وهذا من مُتعلقات باب القدر، يُرد على الجبرية، الذين يقولون: الإنسان كالريشة في مهب الريح، فنسب الضلال إليهم.
وعلى كل حال هذا الذي ذُكر قليل من كثير، ويُمكن أن تراجعوا في ذلك ما يذكره الحافظ ابن القيم في كتبه، لا سيما "مدارج السالكين" وتجدون في كتاب "اللُباب في تفسير فاتحة الكتاب"[3] أشياء كثيرة مما يتعلق بدلالاتها على التوحيد، وقد مضى في مضامين المجالس السابقة أشياء من هذا.
هذا وأسأل الله لي ولكم السداد، وأن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، والله أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
- أخرجه مسلم في كتاب الزكاة، باب كراهة المسألة للناس برقم: (1043) عن أبي إدريس الخولاني، عن أبي مسلم الخولاني، قال: حدثني الحبيب الأمين، أما هو فحبيب إلي، وأما هو عندي، فأمين عوف بن مالك الأشجعي، قال: كنا عند رسول الله ﷺ تسعة أو ثمانية أو سبعة، فقال: ألا تبايعون رسول الله؟ وكنا حديث عهد ببيعة، فقلنا: قد بايعناك يا رسول الله، ثم قال: ألا تبايعون رسول الله؟ فقلنا: قد بايعناك يا رسول الله، ثم قال: ألا تبايعون رسول الله؟ قال: فبسطنا أيدينا، وقلنا: قد بايعناك يا رسول الله، فعلام نبايعك؟ قال: على أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئًا، والصلوات الخمس، وتطيعوا - وأسر كلمة خفية - ولا تسألوا الناس شيئًا فلقد رأيت بعض أولئك النفر يسقط سوط أحدهم، فما يسأل أحدا يناوله إياه.
- قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة (1/ 284).
- هو كتاب (اللباب في تفسير الاستعاذة والبسملة وفاتحة الكتاب) للمؤلف: سليمان بن إبراهيم بن عبد الله اللاحم، نشرته: دار المسلم للنشر والتوزيع، الرياض، المملكة العربية السعودية، الطبعة: الأولى، 1420 هـ - 1999م.