الثلاثاء 17 / جمادى الأولى / 1446 - 19 / نوفمبر 2024
[1] من قوله تعالى: {الَر} الآية 1 إلى قوله تعالى: {وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ} الآية 9.
تاريخ النشر: ٢٠ / شوّال / ١٤٢٨
التحميل: 2952
مرات الإستماع: 2511

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال المصنف -رحمه الله تعالى:

تفسير سورة إبراهيم وهي مكية.

بسم الله الرحمن الرحيم

الَر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ۝ اللّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَوَيْلٌ لِّلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ ۝ الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُوْلَئِكَ فِي ضَلاَلٍ بَعِيدٍ [سورة إبراهيم:1-3].

قد تقدم الكلام على الحروف المقطعة في أوائل السور، كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ أي: هذا كتاب أنزلناه إليك يا محمد، وهو القرآن العظيم الذي هو أشرف كتاب أنزله الله من السماء، على أشرف رسول بعثه الله في الأرض إلى جميع أهلها عربهم وعجمهم، لِتُخْرِجَ النّاسَ مِنَ الظّلُمَاتِ إِلَى النّورِ أي: إنما بعثناك يا محمد بهذا الكتاب لتخرج الناس مما هم فيه من الضلال والغي إلى الهدى والرشد، كما قال تعالى: اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ [سورة البقرة:257] الآية.

وقال تعالى: هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ [سورة الحديد:9] الآية.

وقوله: بِإِذْنِ رَبِّهِمْ أي: هو الهادي لمن قدر له الهداية على يدي رسوله المبعوث عن أمره يهديهم، إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ أي: العزيز الذين لا يمانَع ولا يغالَب، بل هو القاهر لكل ما سواه، الْحَمِيدِ أي: المحمود في جميع أفعاله وأقواله وشرعه وأمره ونهيه الصادق في خبره.

وقوله: اللّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ [سورة إبراهيم:2] قرأ بعضهم مستأنفاً مرفوعاً وقرأ آخرون على الإتباع صفة للجلالة، كقوله تعالى: قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ [سورة الأعراف:158] الآية.

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فقوله -تبارك وتعالى: كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ [سورة إبراهيم:1] ما يحصل على يد النبي ﷺ من هداية الإرشاد إنما يكون ذلك واقعاً بإذن الله -تبارك وتعالى- فالله هو الذي أمره بذلك، وما يحصل للقلوب من الهداية والتوفيق فإن ذلك لا يكون إلا بإذن الله -تبارك وتعالى- فلا يهتدي أحد إلا أن يكون الله -تبارك وتعالى- قد كتب له الهدى؛ ولهذا قال الله : إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ [سورة القصص:56]، فلا يحصل من النبي ﷺ هداية التوفيق، وإنما الذي يحصل منه هو هداية الإرشاد، قال –تبارك وتعالى- وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ [سورة الشورى:52].

قوله -تبارك وتعالى: اللّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَوَيْلٌ لِّلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ [سورة إبراهيم:2]، قرأ الجمهور اللّهِ بالجر، ويعرب لفظ الجلالة هنا عطف بيان لما قبله.

وقرأ نافع وابن عامر بالرفع اللهُ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ، ويمكن أن يكون خبراً لمبتدأ محذوف، تقديره: هو الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض، ولا إشكال على القراءتين، إلا أن البعض قد يتساءل، ويقول: إن لفظ الجلالة يأتي أولاً وتأتي باقي الأسماء معطوفة عليه أو بعده من غير عطف، فالله هو العزيز الجبار الرحمن الرحيم المتكبر، ولا تقول: المتكبر الرحمن الرحيم الله العزيز الحكيم؛ وذلك أنه أعرف المعارف، كما قال سيبويه -رحمه الله- وقد قيل: إنه رُئي في المنام فقيل له: ما فعل الله بك؟ قال: غفر لي، أو قال: أدخلني الجنة بقولي: إن اسمه "الله" أعرف المعارف.

وجواب ذلك: أنه لا بأس أن يأتي لفظ الجلالة بعد الأسماء إذا لوحظ المعنى فيُذكر اسم قبله على سبيل العلمية مع تضمنه للصفة، ثم يُذكر بعد ذلك ما بعده من الأسماء، ومنها لفظ الجلالة "الله".

وقوله: وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ أي: ويل لهم يوم القيامة إذ خالفوك يا محمد وكذبوك، ثم وصفهم بأنهم يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة أي: يقدمونها ويؤثرونها عليها ويعملون للدنيا، ونسوا الآخرة وتركوها وراء ظهورهم، وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وهي اتباع الرسل، وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً أي: ويحبون أن تكون سبيل الله عوجاً مائلة عائلة، وهي مستقيمة في نفسها لا يضرها من خالفها، ولا من خذلها، فهم في ابتغائهم ذلك في جهل وضلال بعيد من الحق، لا يرجى لهم -والحالة هذه- صلاح.

قوله: وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي عن اتباع الرسل، يصدون عن اتباعهم، والفعل "صدَّ" يأتي لازماً ويأتي متعدياً، ويمكن أن يحمل على المعنيين هنا، فهم يصدون أنفسهم عن اتباع الرسل، ويصدون غيرهم.

قال: وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً أي: يحبون ويريدون أن تكون سبيل الله عوجاً مائلة على أهوائهم وشهواتهم ورغباتهم، كما قال الله : وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ [سورة القلم:9]، وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً [سورة الإسراء:73].

قوله – تبارك وتعالى : وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللّهُ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [سورة إبراهيم:4].

هذا من لطفه تعالى بخلقه أنه يرسل إليهم رسلاً منهم بلغاتهم؛ ليفهموا عنهم ما يريدون، وما أرسلوا به إليهم، وقوله: فَيُضِلُّ اللّهُ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء [سورة إبراهيم:4] أي: بعد البيان وإقامة الحجة عليهم، يضل الله من يشاء عن وجه الهدى، ويهدي من يشاء إلى الحق، وَهُوَ الْعَزِيزُ الذي ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، الْحَكِيمُ في أفعاله، فيضل من يستحق الإضلال ويهدي من هو أهل لذلك، وقد كانت هذه سنته في خلقه أنه ما بعث نبياً في أمة إلا أن يكون بلغتهم، فاختص كل نبي بإبلاغ رسالته إلى أمته دون غيرهم، واختص محمد بن عبد الله رسول الله ﷺ بعموم الرسالة إلى سائر الناس، كما ثبت في الصحيحين عن جابر قال: قال رسول الله ﷺ: أعطيت خمساً لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة[1].

وقال تعالى: قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا [سورة الأعراف:158].

قوله: وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ هذه الآية تتحدث عن الأنبياء السابقين، فكل نبي بعث بلغة قومه، وليست هذه الآية تتحدث عن النبي ﷺ فإنه قد بعث إلى الناس عامة على مختلف لغاتهم.

ومن أهل العلم من يقول: إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ والنبي ﷺ من العرب، وجاء إليهم وامتن الله عليهم بهذا: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ [سورة الجمعة:2]، فكانت أول دعوته -عليه الصلاة والسلام– في العرب.

وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ [سورة إبراهيم:5].

يقول تعالى: وكما أرسلناك يا محمد وأنزلنا عليك الكتاب لتخرج الناس كلهم، تدعوهم إلى الخروج من الظلمات إلى النور، كذلك أرسلنا موسى إلى بني إسرائيل بآياتنا، قال مجاهد: هي التسع الآيات، أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ أي: أمرناه قائلين له: أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظّلُمَاتِ إِلَى النّورِ أي: ادعهم إلى الخير ليخرجوا من ظلمات ما كانوا فيه من الجهل والضلال إلى نور الهدى وبصيرة الإيمان.

وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ أي: بأياديه ونعمه عليهم في إخراجه إياهم من أسر فرعون وقهره وظلمه وغشمه، وإنجائه إياهم من عدوهم، وفلقه لهم البحر، وتظليله إياهم بالغمام، وإنزاله عليهم المن والسلوى، إلى غير ذلك من النعم، قال ذلك مجاهد وقتادة وغير واحد.

قوله –تبارك وتعالى: وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللّهِ أيام الله هي الأيادي، وفسرها بعض أهل العلم بالنقم، وهذا هو اختيار ابن كثير وابن جرير، وقد قال به جماعة من السلف.

ومن أهل العلم من عمم الآية لتشمل النوعين، فنعمه –تبارك وتعالى– ونقمه هي في أيام الله، والأيام ظرف فعبر بها عن النعم والنقم، كما يقول الله : وَاتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً [سورة البقرة:48] واليوم لا يُتقَى، والمقصود اتقوا أهوال يوم.

قال ابن القيم -رحمه الله تعالى: وقد فسرت أيام الله بنعمه وفسرت بنقمه من أهل الكفر والمعاصي، فالأول: تفسير ابن عباس وأبي بن كعب -ا- ومجاهد، والثاني: تفسير مقاتل. 

والصواب: أن أيامه تعم النوعين، وهي وقائعه التي أوقعها بأعدائه، ونعمه التي ساقها إلى أوليائه، وسميت هذه النعم والنقم الكبار المتحدث بها أياماً؛ لأنها ظرف لها، تقول العرب: فلان عالم بأيام العرب وأيام الناس، أي بالوقائع التي كانت في تلك الأيام، فمعرفة هذه الأيام توجب للعبد استبصار العبر، وبحسب معرفته بها تكون عبرته وعظته، قال الله تعالى: لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ [سورة يوسف:111] ولا يتم ذلك إلا بالسلامة من الأغراض وهي متابعة الهوى والانقياد لداعي النفس الأمارة بالسوء، فإن اتباع الهوى يطمس نور العقل ويعمي بصيرة القلب، ويصد عن اتباع الحق، ويضل عن الطريق المستقيم، فلا تحصل بصيرة العبرة معه ألبتة، والعبد إذا اتبع هواه فسد رأيه ونظره، فَأرَتْه نفسه الحسن في صورة القبيح، والقبيح في صورة الحسن، فالتبس عليه الحق بالباطل، فأنّى له الانتفاع بالتذكر أو بالتفكر أو بالعظة[2].

وقوله: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ أي: إن فيما صنعنا بأوليائنا بني إسرائيل حين أنقذناهم من يد فرعون، وأنجيناهم مما كانوا فيه من العذاب المهين لعبرة لِّكُلِّ صَبَّارٍ أي: في الضراء شَكُور أي: في السراء، كما قال قتادة: نعم العبد عبد إذا ابتلي صبر، وإذا أعطي شكر.

وكذا جاء في الصحيح عن رسول الله ﷺ أنه قال: إن أمر المؤمن كله عجب، لا يقضي الله له قضاء إلا كان خيراً له، إن أصابته ضراء صبر، فكان خيراً له، وإن أصابته سراء شكر، فكان خيراً له[3].

وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنجَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ وَفِي ذَلِكُم بَلاء مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ ۝ وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ ۝ وَقَالَ مُوسَى إِن تَكْفُرُواْ أَنتُمْ وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ [سورة إبراهيم:6-8].

يقول تعالى مخبراً عن موسى حين ذكّر قومه بأيام الله عندهم ونعمه عليهم، إذ أنجاهم من آل فرعون، وما كانوا يسومونهم به من العذاب والإذلال، حيث كانوا يذبحون من وجد من أبنائهم، ويتركون إناثهم، فأنقذهم الله من ذلك، وهذه نعمة عظيمة؛ ولهذا قال: وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ أي: نعمة عظيمة منه عليكم في ذلك، أنتم عاجزون عن القيام بشكرها، وقيل: وفيما كان يصنعه بكم قوم فرعون من تلك الأفاعيل بَلاءٌ أي: اختبار عظيم، ويحتمل أن يكون المراد هذا وهذا، والله أعلم، كقوله تعالى: وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [سورة الأعراف:168].

قوله -تبارك وتعالى: إِذْ أَنجَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ [سورة إبراهيم:6]، معنى مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ، أي: من فرعون، ويمكن أن يكون المعنى، أي: من فرعون وملئه.

وقوله: يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ أصل السوم هو الذهاب في طلب الشيء، ومنه السائمة تذهب في طلب الكلأ والعشب، المعنى أي: يبغونكم، ثم فسر هذا العذاب، فقال: وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ، والواو في قوله: وَيُذَبِّحُونَ ليست مقتضية للمغايرة، وإنما ذكر ذلك من جملة العذاب الواقع بهم، وهذا وجه حسن وتفسره آية البقرة، قال –تبارك وتعالى: وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوَءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ وَفِي ذَلِكُم بَلاء مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ [سورة البقرة:49].

وتذبيح الأولاد واضح أنه عذاب، وقوله: وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ، أي: يتركونهن أحياء، وذكر استحياء البنات من جملة العذاب الذي قرنه الله بتذبيح الأولاد؛ لكونه أشد من التذبيح، فالبنت ضعيفة وعورة، وكان العرب في الجاهلية يدفنون بناتهم خوفاً من العار.

قوله: وَفِي ذَلِكُم بَلاء مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ [سورة إبراهيم:6]، أي: إنعام وإفضال من الله -تبارك وتعالى- بإنجائكم وتخليصكم من فرعون وقومه، وقيل: وَفِي ذَلِكُم بَلاء يعني ما كان يفعله فرعون بكم نقمة وأمر شديد، وصعب على النفوس، مؤلم لها غاية الإيلام، وقال ابن كثير- رحمه الله: "ويحتمل أن يكون المراد هذا وهذا، والله أعلم، كقوله تعالى: وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ"، وسبقه الحافظ ابن جرير الطبري –رحمه الله– وقال بهذا القول.

وقوله: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ [سورة إبراهيم:7] أي: آذنكم وأعلمكم بوعده لكم، ويحتمل أن يكون المعنى: وإذ أقسم ربكم وآلى بعزته وجلاله وكبريائه، كقوله تعالى: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ [سورة الأعراف:167].

قوله: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ، تأذن يمكن أن تفسر بأعلم، والمعنى أي: أعلمتكم، ومنه قول الشاعر:

آذنتْنا ببيْنِها أسماءُ رُبَّ ثَاوٍ يُملُّ منه الثَّوَاءُ

وقوله: لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ أي: لئن شكرتم نعمتي عليكم لأزيدنكم منها، وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ أي: كفرتم النعم وسترتموها وجحدتموها إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ وذلك بسلبها عنهم وعقابه إياهم على كفرها، وقد جاء في الحديث: إن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه[4].

وقوله تعالى: وَقَالَ مُوسَى إِن تَكْفُرُواْ أَنتُمْ وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ [سورة إبراهيم:8] أي: هو غني عن شكر عباده، وهو الحميد المحمود وإن كفره من كفره، كقوله: إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ الآية، وقوله: فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوا وَّاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ [سورة التغابن:6].

وفي صحيح مسلم عن أبي ذر عن رسول الله ﷺ فيما يرويه عن ربه أنه قال: يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم، ما زاد ذلك في ملكي شيئاً، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم، ما نقص ذلك في ملكي شيئاً، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني، فأعطيت كل إنسان مسألته، ما نقص ذلك من ملكي شيئاً إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر[5]، ف الغني الحميد.

أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللّهُ جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّواْ أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُواْ إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ [سورة إبراهيم:9]، خبر مستأنف من الله تعالى لهذه الأمة.

قوله: أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ [سورة إبراهيم:9]، يحتمل أن يكون هذا من بقية كلام موسى ﷺ فيذكرهم بنعم الله ويذكرهم بما حل من النقم في الأمم السابقة.

ويحتمل أن يكون خبراً مستأنفاً من الله –تبارك وتعالى- موجهاً إلى هذه الأمة، بعدما قص خبر بني إسرائيل، ذكر ما تحصل به العظة، وهذا أحد المواضع التي يكون فيها الكلام محتملاً لكونه من كلام الله أو أنه من تمام كلام قبله لقائل آخر، وذكرنا أمثلة في بعض المناسبات، ومنه قوله -تبارك وتعالى: وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ [سورة الأنعام:81] هذا من كلام إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- ثم قال –تبارك وتعالى: الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ [سورة الأنعام:82]، وهذا يحتمل أن يكون من كلام إبراهيم -عليه الصلاة والسلام، من تمام كلامه، ويحتمل أن يكون من كلام الله على سبيل الفصل بين الفريقين.

فالله تعالى قد قصَّ علينا خبر قوم نوح وعاد وثمود وغيرهم من الأمم المكذبة للرسل مما لا يحصي عددهم إلا الله جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ أي: بالحجج والدلائل الواضحات الباهرات القاطعات، وقال ابن إسحاق عن عمرو بن ميمون، عن عبد الله أنه قال في قوله: لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ كذب النسابون. وقال عروة بن الزبير: ما وجدنا أحداً يعرف ما بعد معد بن عدنان.

هذه الرواية جاءت عن طريق ابن إسحاق ولو صحت عن ابن مسعود لكان المعنى ما فسره عروة بن الزبير بقوله: "ما وجدنا أحداً يعرف ما بعد معد بن عدنان" يعني أن ما بين معد بن عدنان إلى إسماعيل -عليه الصلاة والسلام- لا يُعرف، والذين يزعمون من الناسبين أنهم يعرفون سلسة النسب ليس لقولهم مستند.

قوله: لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ أي: أن هذه الأمم لا تعرف بذاتها ولا بأسمائها، ولا بأوصافها، ولا بأحوالها وأعمالها، ويحتمل أن يكون المراد بقوله: لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ أي: لا يعلم أحوالهم وأعمالهم وأخلاقهم وأوصافهم إلا الله –تبارك وتعالى.

وقوله: فَرَدُّواْ أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ [سورة إبراهيم:9] قيل: معناه أنهم أشاروا إلى أفواه الرسل بأمرهم بالسكوت عنهم لما دعوهم إلى الله .

وقيل: بل وضعوا أيديهم على أفواههم تكذيباً لهم، وقيل: بل هو عبارة عن سكوتهم عن جواب الرسل، وقيل: معناه عضوا عليها غيظاً، وقال مجاهد ومحمد بن كعب وقتادة: معناه أنهم كذبوهم وردوا عليهم قولهم بأفواههم.

قلت: ويؤيد قولَ مجاهد تفسيرُ ذلك بتمام الكلام: وَقَالُواْ إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ [سورة إبراهيم:9].

وقال العوفي عن ابن عباس -ا: لما سمعوا كلام الله عجبوا ورجعوا بأيديهم إلى أفواههم، وقالوا: إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ [سورة إبراهيم:9] الآية، يقولون: لا نصدقكم فيما جئتم به، فإن عندنا فيه شكاً قوياً.

قوله: فَرَدُّواْ أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ اختلف العلماء في عود الضمير في قوله: أَيْدِيَهُمْ والذي عليه عامة علماء التفسير أن الضمير يرجع إلى المكذبين، ويكون المعنى ردوا أيدي أنفسهم في أفواههم.

وقيل: إنهم ردوا أيدي الرسل في أفواههم، وهذا فيه بعد.

واختلف العلماء في عود الضمير في قوله: أَفْوَاهِهِمْ فقيل: الضمير يرجع إلى أفواه الرسل، وقيل: يعود الضمير إلى أفواه المكذبين، أي فردوا أيديهم في أفواه أنفسهم، فإذا قيل: إن المقصود بالأفواه هي أفواه الرسل، فيكون المعنى أنهم يسكتونهم بوضع أيديهم على أفواههم، وإذا قلنا: إن الضمير يرجع إليهم، فيكون المعنى أنهم ردوا أيديهم في أفواه أنفسهم وفعلوا ذلك على سبيل التعجب والاستغراب كما يفعله المتعجب حينما يغطي فمه لدهشته أو شدة تعجبه.

وقال بعض أهل العلم: إن الكفار ردوا أيديهم في أفواههم؛ لأنهم سخروا وضحكوا من الرسل –عليهم الصلاة والسلام.

والذي عليه جماعة من المحققين أنهم ردوا أيديهم في أفواههم من الحنق والغيظ، ومنه قوله –تبارك وتعالى: وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ [سورة آل عمران:119]، أي: من شدة الحنق عليهم، وهذا اختيار ابن جرير ومحمد الأمين الشنقيطي، والله أعلم.

(مسألة)

هناك فرق بين بلوغ الحجة، وقيام الحجة، وهذه المسألة فيها تفاصيل كثيرة للعلماء، فلو خاطبت شخصاً بالعربية وهو أعجمي ولا يفهم العربية ودعوتَه إلى الإسلام، ولا يوجد مترجم، فهل نقول: إن الحجة قد قامت عليه؟!

وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- عن كثير من اليهود والنصارى: إنه قامت عندهم صوارف وشبهات وأشياء منعتهم من الدخول في الإسلام، لم يتضح لهم حقية ما جاء به النبي ﷺ.

وهذه المسألة من أقدم المسائل ولا نظر فيها إلا لأهل العلم الراسخين، ولم يكن من منهج السلف إطلاق التكفير بدون ضوابط، فكانوا يقولون: القول بخلق القرآن كفر، ولكن الإمام أحمد لم يكفر المعتصم، بل جعله في حلٍ لما فتح عمورية.

  1. رواه البخاري، كتاب التيمم (1 / 128)، برقم (328)، ومسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة (1 / 370)، برقم (521).
  2. مدارج السالكين (1 / 449).
  3. رواه مسلم، كتاب الزهد والرقائق، باب المؤمن أمره كله خير (4 / 2295)، برقم (2999) بلفظ: عجباً لأمر المؤمن، إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له.
  4. رواه أحمد (37 / 68)، (22386).
  5. رواه مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الظلم (4 / 1994)، برقم (2577).

مواد ذات صلة