الخميس 26 / جمادى الأولى / 1446 - 28 / نوفمبر 2024
[18] من قوله تعالى: {رَّبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ} الآية 66 إلى قوله تعالى: {فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى} الآية 72
تاريخ النشر: ٠٩ / صفر / ١٤٢٩
التحميل: 2827
مرات الإستماع: 2309

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال المفسر -رحمه الله تعالى- في تفسير سورة الإسراء:

قال تعالى: رَّبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا [سورة الإسراء:66].

يخبر تعالى عن لطفه بخلقه في تسخيره لعباده الفلك في البحر وتسهيله لمصالح عباده لابتغائهم من فضله في التجارة من إقليم إلى إقليم؛ ولهذا قال: إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا: أي إنما فعل هذا بكم من فضله عليكم ورحمته بكم.

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فقوله -تبارك وتعالى: رَّبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ، الإزجاء: هو السَّوق، يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ: أي: يسوق ويسيّر لكم الفلك وهي السفن، وقوله: لِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ: أي بالتجارة، ويدخل في عمومه ما يحصل لهم من ألوان المنافع كالصيد واستخراج اللؤلؤ وأشباه ذلك مما يكون في البحر، فهذا كله داخل فيه، الله يقول: فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ: يعني الجمعة فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ، [سورة الجمعة:10] المشهور من كلام أهل العلم، قول الجمهور يعني بالبيع والشراء؛ لأنه قال قبله: إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ [سورة الجمعة:9] ثم قال بعده: فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ فذلك يعود إلى ما منعهم منه، وإن قال بعض السلف: إن المقصود به عيادة المريض واتباع الجنائز وصلة الأرحام، وما أشبه ذلك، على كل حال هنا لِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ يشمل كل ما يدخل تحت هذا العموم، وإن كان المشهور من أقوال أهل العلم أن المقصود بذلك التجارة، فهذا لا ينافي ما ذكرته معه؛ لأنه داخل فيه، والله أعلم.

وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُورًا [سورة الإسراء:67].

يخبر -تبارك وتعالى- أن الناس إذا مسهم ضر دعوه منيبين إليه مخلصين له الدين؛ ولهذا قال تعالى: وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ: أي ذهب عن قلوبكم كل ما تعبدون غير الله تعالى.

وقوله تعالى: فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ: أي نسيتم ما عرفتم من توحيده في البحر، وأعرضتم عن دعائه وحده لا شريك له، وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُورًا: أي سجيته هذا، ينسى النعم ويجحدها إلا من عصم الله.

هذا كقوله تعالى في الآيات الأخرى في خصوص ركوب البحر، وما يحصل لهم فيه من المخاوف، فيخلصون الدعاء لله : هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا جَاءتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُاْ اللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [سورة يونس:22]، فهذه عادتهم، فإذا نجاهم الله من هذا رجعوا إلى ما كانوا عليه، وذلك لا يختص بالفلك، وإنما في عموم أحوال الإنسان إذا مسته الشدائد والضراء، وَإِذَآ أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا [سورة الإسراء:83]، وهذا في صفة الإنسان من حيث هو، وأن ذلك يغلب عليه، والله هنا يقول: وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُورًا

الذين كانوا يعبدون غير الله لا شك أنهم داخلون في هذا دخولاً أولياً، ولكن غيرهم أيضاً يدخل فيه باعتبار أن الإنسان ينسى فضل الله عليه في الشدائد، إذا أصابه مرض، أصابته علة، أصابه فقر، جعل يتضرع إلى الله ، فإذا كشف الله عنه الضر نسي ما كان يدعو إليه من قبل، هذه طبيعة الإنسان، وهي غالبة على الناس، وقد لا يصل به الحد إلى الإشراك بالله -تبارك وتعالى، ولكن كلٌّ بحسبه، المشرك يرجع إلى شركه، والغافل يرجع إلى غفلته، فإذا وقع في الشدة تقرب إلى الله بالضراعة والإخبات، وإذا رفعتْ عنه هذه الشدة عاد إلى حاله الأولى، ونسي الإفضال والإنعام، ونسي تلك الشدة، وهذا داخل في معنى الكفران، وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُورًا، فلا يختص ذلك بالكفر الذي هو جحود الوحدانية، أو الإشراك مع الله ، ليشرك آلهة أخرى، وإنما الإعراض عن النعم ونسيان فضل الله -تبارك وتعالى.

أَفَأَمِنتُمْ أَن يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ وَكِيلاً [سورة الإسراء:68].

يقول تعالى: أفحسبتم بخروجكم إلى البر أمنتم من انتقامه وعذابه أن يخسف بكم جانب البر أو يرسل عليكم حاصباً؟!. وهو المطر الذي فيه حجارة، قاله مجاهد وغير واحد. كما قال تعالى: إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا إِلَّا آلَ لُوطٍ نَّجَّيْنَاهُم بِسَحَرٍ ۝ نِعْمَةً مِّنْ عِندِنَا [سورة القمر:34، 35] وقد قال في الآية الأخرى: وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ [سورة الحجر:74] وقال: أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ ۝ أَمْ أَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ، [سورة الملك:16، 17] وقوله: ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ وَكِيلاً: أي ناصراً يرد ذلك عنكم وينقذكم منه.

قوله هنا: أَفَأَمِنتُمْ أَن يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ: جانب البر أي: ناحية البر، بمعنى أنه حينما ينجيهم الله من مخاوف البحر ليس ذلك هو نهاية المطاف، ولا يظن الواحد منهم أنه بقي على أرض صلبة، وأن الخطر قد تجاوزه فهو في مأمن من عذاب الله ، لا، فهذه اليابسة قد تُخسف، وقد يأتيه العذاب من فوقه، فالله -تبارك وتعالى- يقول: أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا يقول هنا: وهو المطر الذي فيه حجارة، وليس المقصود أنه يكون المطر المعروف وفيه حجارة، وإنما المقصود أن يمطر عليهم حجارة، كما قال الله : وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَرًا [سورة الأعراف:84]، فهذا المطر ليس ماء، وإنما من نوع آخر، وهو الحجارة وتفسره الآية الأخرى: إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا: أي قوم لوط، فما جاءهم مطر من ماء معه حجارة، وإنما جاءهم حجارة فقط، رماهم الله بها، وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ مَّنضُودٍ [سورة هود:82]، فالعبارة التي ذكرها الحافظ ابن كثير ذكرها بعض السلف قال: وهو المطر الذي فيه حجارة، وقد يفهم منها أنه المطر المعروف بالماء مصحوباً بالحجارة، وليس هذا مراده، وإنما هذا مطر حباته من الحصى.

وأصل الحاصب: الريح التي تحمل معها الحجارة، والحصباء: الحجارة الصغيرة، تقول: حصبه، يعني رماه بالحصباء، ومنه قيل: المحصب، المكان المعروف في مكة، فهو مكان يوجد فيه الحجارة الصغيرة، فالريح التي ترمي بالحصباء يقال لها: حاصب، فالريح تارة تكون قوية فتحمل معها حبات الرمل، وإذا كان ذلك شديداً ربما أثر حتى في الصخور، وفي البنيان، فكيف إذا كان بالحجارة؟ ألا ترون كيف تقشر البيوت، وكيف يذهب الصدى من الحديد عن طريق ضغط الهواء المصحوب بالرمل، فيعود الحديد جديداً، وتذهب القشرة التي على البيت، التي ربما احتيج لإزالتها إلى جهود مضنية بالهواء، فكيف إذا كانت الحجارة هي التي يرمى بها؟ فعلى كل حال هذا هو المراد -والله تعالى أعلم، يقول: قاله مجاهد وغير واحد، ومن السلف من عبر بغير هذا على كل حال، لكن هذا هو المراد -والله أعلم؛ لأن القرآن يفسر بعضه بعضاً.

أَمْ أَمِنتُمْ أَن يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفا مِّنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُم بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا [سورة الإسراء:69].

يقول -تبارك وتعالى: أَمْ أَمِنتُمْ أيها المعرضون عنا -بعدما اعترفوا بتوحيدنا في البحر، وخرجوا إلى البر- أَن يُعِيدَكُمْ في البحر مرة ثانية فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفا مِّنَ الرِّيحِ: أي يقصف الصواري ويغرق المراكب، قال ابن عباس -ا- وغيره: القاصف ريح البحار التي تكسر المراكب وتغرقها. وقوله: فَيُغْرِقَكُم بِمَا كَفَرْتُمْ: أي بسبب كفركم وإعراضكم عن الله تعالى وقوله: ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا قال ابن عباس -ا: نصيراً، وقال مجاهد: نصيراً ثائراً، أي: يأخذ بثأركم بعدكم. وقال قتادة: ولا نخاف أحداً يتبعنا بشيء من ذلك.

هذه الأقوال التي ذكرها ترجع إلى شيء واحد، الله يقول: ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا، يعني لا تجدوا تابعاً يتبعنا بما فعلنا بكم، بمعنى أنه يطلب الثأر والاقتصاص والانتقام لكم بسبب إهلاكنا إياكم، فالعرب تقول لكل طالب دم يتبع غيره فيه، تقول له: "تَبِيعٌ"، بمعنى تابع، فالله يقول: ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا، لا تجدون طالباً يطلبنا أو تابعاً يتبعنا؛ يطلب بثأركم والانتقام لكم، وهذا معنى ما ذكره بعض السلف من أنه النصير، أو الذي يطلب حقكم أو يأخذ بثأركم، أو نحو ذلك، كما قال الله : فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُم بِذَنبِهِمْ فَسَوَّاهَا ۝ وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا [سورة الشمس:14، 15]، الإنسان قد يبطش وقد ينتقم، لكنه يبقى متوجساً مترقباً خائفاً من ردود الأفعال ومن الانتقام، أما الله فإنه يهلك ويدمر من شاء أن يهلكه، ولا يخاف تابعاً يتبعه أو طالباً يطلب الثأر.

وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً [سورة الإسراء:70].

يخبر تعالى عن تشريفه لبني آدم وتكريمه إياهم في خلقه لهم على أحسن الهيئات وأكملها كقوله تعالى: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ [سورة التين:4] أي يمشي قائماً منتصباً على رجليه ويأكل بيديه، وغيره من الحيوانات يمشي على أربع، ويأكل بفمه، وجعل له سمعاً وبصراً وفؤاداً يفقه بذلك كله وينتفع به ويفرق بين الأشياء ويعرف منافعها وخواصها ومضارها في الأمور الدينية والدنيوية، وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ: أي على الدواب من الأنعام والخيل والبغال وفي البحر أيضاً على السفن الكبار والصغار، وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ أي من زروع وثمار ولحوم وألبان من سائر أنواع الطعوم والألوان المشتهاة اللذيذة، والمناظر الحسنة والملابس الرفيعة من سائر الأنواع على اختلاف أصنافها وألوانها وأشكالها مما يصنعونه لأنفسهم، ويجلبه إليهم غيرهم من أقطار الأقاليم والنواحي، وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً: أي من سائر الحيوانات وأصناف المخلوقات وقد استُدل بهذه الآية الكريمة على أفضلية جنس البشر على جنس الملائكة.

وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ هنا يقول الحافظ -رحمه الله: في خلقه لهم على أحسن الهيئات وأكملها، أي يمشي قائماً منتصباً على رجليه ويأكل بيديه. إلى آخره، هذا مما يدخل في معنى الآية وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ فتكريمه لبني آدم يدخل فيه هذا، ويدخل فيه غيره مما حصل لهذا المخلوق من ألوان التكريم والتفضيل، من ذلك أن الله سخر له ما في الأرض جميعاً، ما في باطنها وما على ظاهرها من الجمادات والحيوانات والنباتات، وخلقه بهذه الهيئة التي تميز بها عن سائر المخلوقات، كما أن الله -تبارك وتعالى- فضله ابتداءً حيث أمر بسجود الملائكة لآدم، وآدم هو أبو البشر، والقاعدة "أن النعمة التي تكون على الآباء تلحق الأبناء"، ولهذا يمتن الله كثيراً في القرآن على الأحفاد والذرية بما حصل من الإفضال والإنعام والتكريم لآبائهم، وهذا كثير يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ [سورة البقرة:47]، يخاطب به الذين كانوا في زمن النبي ﷺ في أمور وقعت لأسلافهم، وهكذا في تكريم الله لبني آدم بأمر الملائكة بالسجود لأبيهم.

وعلى كل حال يدخل فيه كل أنواع التكريم، ولا يختص ذلك بأنه يأكل بيده، وإنما ذلك من صور هذا التكريم أن ميزه الله ، فجعله يأخذ الأشياء، ويعطي ويتبادل، وتحصل المعاوضة بينه وبين بني جنسه، وجعل له لساناً ناطقاً مبيناً عما في صدره، بخلاف العجماوات تمرض ولا تشعر بعلتها، وكذلك أيضاً لا تقوم بمصالحها، ولا تتصرف بشئونها تصرف الإنسان، فالإنسان هو الذي يدير ذلك كله، فالله أخضع له هذه الأمور، وجعله بهذه الصورة من الحسن والجمال والكمال بخلاف الحيوانات، فكل هذا من التكريم، وقوله هنا: وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً هذا كله داخل أيضاً في هذا التكريم، ولكنه ذكر من صوره وأنواعه جُملاً تُبِين عن غيرها.

وقوله: وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً، لا يدل على أن جنس البشر أفضل من جنس الملائكة مثلاً، أو أن الصالحين من بني آدم أفضل من الملائكة؛ لأن الله قال: وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً، وهذه المسألة إذا تطرق إليها العلماء من أهل السنة عادة فإنهم يذكرون عند ذلك أن هذه المسألة لا يترتب عليها عمل، وإنما هي من المسائل التي ينبغي الإعراض عنها، وترك الاشتغال بها، وإنما يدندن حولها ويشتغل بها من أولع بالجدل، والاشتغال الذي لا ينفع، وعلى كل حال توجد مواضع في القرآن يقف عندها بعضهم ويتكلم على هذه المسألة وليس هذا الموضع فحسب، ولكن كما قلت العلماء عادة من أهل السنة ينبهون على هذا المعنى، وأن هذا لم نطالب به، ولا يترتب عليه عمل، وينبغي الإعراض عنه، وليس عليه دليل واضح يمكن أن يوقف عنده فيقال: إن الملائكة أفضل بإطلاق، أو أن الأنبياء أفضل بإطلاق، أو أن الصالحين من بني آدم عموماً أفضل بإطلاق، والإنسان إنما يشتغل بما هو بصدده، إذا عرف أن الصالحين أفضل من الملائكة ما الذي يترتب على هذا؟ لا شيء.

يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُوْلَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً ۝ وَمَن كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً[سورة الإسراء:71، 72].

يخبر -تبارك وتعالى- عن يوم القيامة أنه يحاسب كل أمة بإمامهم، وقد اختلفوا في ذلك، فقال مجاهد وقتادة: أي بنبيّهم، وقال بعض السلف: هذا أكبر شرف لأصحاب الحديث؛ لأن إمامهم النبي ﷺ. وقال ابن زيد: بكتابهم الذي أنزل على نبيهم من التشريع. واختاره ابن جرير، وروي عن ابن أبي نجيح عن مجاهد أنه قال: بكتبهم؛ فيحتمل أن يكون أراد هذا، وأن يكون أراد ما رواه العوفي عن ابن عباس -ا- في قوله: يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ: أي بكتاب أعمالهم.

وكذا قال أبو العالية والحسن والضحاك، وهذا القول هو الأرجح لقوله تعالى: وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ [سورة يس:12]، وقال تعالى: وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ [سورة الكهف:49] الآية، وقال تعالى: وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ۝ هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [سورة الجاثية:28، 29]

وهذا لا ينافي أن يُجاء بالنبي إذا حكم الله بين أمته فإنه لا بد أن يكون شاهداً على أمته بأعمالها، ولكن المراد ههنا بالإمام هو كتاب الأعمال؛ ولهذا قال تعالى: يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُوْلَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ: أي من فرحته وسروره بما فيه من العمل الصالح يقرؤه ويحب قراءته كقوله: فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيهْ [سورة الحاقة:19] إلى قوله: وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيهْ [سورة الحاقة:25] الآيات.

وقوله تعالى: وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً قد تقدم أن الفتيل هو الخيط المستطيل في شق النواة، وقد روى الحافظ أبو بكر البزار حديثاً عن أبي هريرة عن النبي ﷺ في قول الله تعالى: يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ قال: يُدعى أحدُهم فيُعطَى كتابه بيمينه، ويمد له في جسمه، ويبيض وجهه، ويجعل على رأسه تاج من لؤلؤة يتلألأ، فينطلق إلى أصحابه فيرونه من بعيد، فيقولون: اللهم آتنا بهذا، وبارك لنا في هذا، فيأتيهم، فيقول لهم: أبشروا؛ فإن لكل رجل منكم مثل هذا، وأما الكافر فيسود وجهه، ويمد له في جسمه، ويراه أصحابه فيقولون: نعوذ بالله من هذا، أو من شر هذا، اللهم لا تأتنا به، فيأتيهم فيقولون: اللهم اخزه، فيقول: أبعدكم الله؛ فإن لكل رجل منكم مثل هذا[1].

وقوله تعالى: وَمَن كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى الآية، قال ابن عباس -ا- ومجاهد وقتادة وابن زيد: وَمَن كَانَ فِي هَذِهِ: أي في الحياة الدنيا، أَعْمَى: أي عن حجة الله وآياته وبيناته، فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى: أي كذلك يكون وَأَضَلُّ سَبِيلاً: أي وأضل منه، كما كان في الدنيا، عياذاً بالله من ذلك.

قوله -تبارك وتعالى: يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ، الباء في بِإِمَامِهِمْ يحتمل أن تكون للإلصاق، كما تقول: دعوتك باسمك، ويحتمل أن يكون المعنى: نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ متلبسين بإمامهم، أي أن إمامهم معهم، ندعوهم بإمامهم، فيكون ذلك باعتبار أنه متعلق بمحذوف، والأصل كما هو معلوم عدم التقدير، و"إذا دار الكلام بين الاستقلال والإضمار فالأصل الاستقلال"، أما معنى الإمام، فيقول هنا: اختلفوا في ذلك، فقال مجاهد وقتادة: أي بنبيهم، قال بعض السلف: هذا أكبر... إلى آخره، يعني إمام أهل الحديث هو النبي ﷺ، وقال ابن زيد: بكتابهم الذي أنزل على نبيهم، فيقال: يا أهل التوراة، وقول من قال: إنه بنبيهم، يمكن أن يستدل له بمثل قوله تعالى: فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاء شَهِيدًا [سورة النساء:41]، فيؤتى بالرسل -عليهم الصلاة والسلام.

يقول: واختاره ابن جرير، أي أنه بكتابهم الذي أنزل على نبيهم من التشريع، يقول: يا أهل التوراة، يا أهل الإنجيل، يا أهل القرآن، لكن ابن جرير قد لا يكون اختار هذا القول، وإنما اختار أنه الذي يأتمون ويقتدون به في الدنيا، أيًّا كان، من يتبعونه في الدنيا، من مقدم ومطاع سواء كانوا يتبعون نبياً أو يتبعون شيطاناً، أو يتبعون فاجراً من الفجار، كل أناس يؤتى بهم يوم القيامة بمقدمهم ومطاعهم ومتبوعهم الذي كانوا يتبعونه، والإمام في اللغة هو كل من يؤتم به ويتبع، سواء كان ذلك نبياً من الأنبياء أو كتاباً يتبعونه، أو مطاعاً يطيعونه ويقتدون به، كل ذلك يقال له: إمام.

يقول ابن جرير: وأولى هذه الأقوال عندنا بالصواب قول من قال: معنى ذلك يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ الذي كانوا يقتدون به، ويأتمون به في الدنيا؛ لأن الأغلب من استعمال العرب الإمام -هذه طريقة الترجيح، سبب الترجيح كعادته رحمه الله- يقول: لأن الأغلب من استعمال العرب الإمام فيما ائتُمّ واقتُدي به، وتوجيه معاني كلام الله إلى الأشهر أولى ما لم تثبت حجة بخلافه يجب التسليم لها، فكلام ابن جرير بهذا الاعتبار: أنه من يتبعونه ويقتدون به، وليس المقصود الكتاب الذي أنزل عليهم.

وعلى كل حال هذه الأقوال: من يقول بكتبهم إلى آخره، الحافظ ابن كثير -رحمه الله- قال: إن المقصود به كتاب الأعمال، بِإِمَامِهِمْ: أي بكتاب أعمالهم، واحتج له من القرآن، قال: وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ [سورة يس:12]، وهذا هو كتاب الأعمال، وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ فهذا الإمام هو كتاب الأعمال، وليس الكتاب الذي فيه التشريع.

وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا ليس إلى كتابها الذي أنزل وإنما إلى كتاب الأعمال؛ لأن ما بعده يفسره، قال: الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ۝ هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ، ينطق عليهم بما عملوا، فليس المقصود به كتاب التشريع، وشواهد هذا من القرآن كثيرة، فهذا القول الذي اختاره ابن كثير، والقرينة التي ترجحه، مع أن الآية تحتمل أن يكون المقصود به كل متبوع أو كل مطاع، أو أنه النبي، أو أنه الكتاب الذي أنزل عليهم- أن الله قال بعده: فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ، فالإمام هو كتاب الأعمال، فمن أوتيه بيمينه فقد فاز وأفلح، فهذه قرينة من الآية.

والأمر الآخر الذي يرجح هذا القول هو الآيات الأخرى الواردة في القرآن التي توضح هذا المعنى وتقويه، وهذا الذي اختاره ابن كثير -والله تعالى أعلم- هو أرجح هذه الأقوال، وهذه المعاني المشار إليها، والقول بأنه كل من يأتمون ويقتدون به في الدنيا، هذا الذي اختاره ابن جرير، وقال به طائفة من السلف، وممن اختاره من المعاصرين الشيخ محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله، مع أنه ذكر جملة من هذه الأقوال وأيد بعض هذه الأقوال بأدلة من القرآن، واستحسن ما ذكره الحافظ ابن كثير، وأن ما بعده يدل عليه، لكن كأنه يميل إلى ما سبق، مع أنه نقل كلام ابن جرير من كلام ابن كثير هناك، والله أعلم.

أما هذا الحديث الذي ذكره فقد ضعفه الشيخ ناصر الألباني -رحمه الله- في ضعيف الترمذي[2].

قوله: وَمَن كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى، قال ابن عباس ومجاهد وقتادة وابن زيد: مَن كَانَ فِي هَذِهِ: أي في هذه الحياة الدنيا، والإشارة تكون على مرتبتين، وبعضهم يجعلها على ثلاث مراتب، فللقريب هذا، وهذه للمؤنثة، وذاك للمتوسط، وذلك للبعيد، ومن جعلها على مرتبتين يقول: القريب والبعيد، ولا يقول بالمتوسط، فـ(هذه)، في الآية بعض أهل العلم قال: إنها إلى القريب، وترجع إلى ما ذكر قبله: وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا ۝ ... وَمَن كَانَ فِي هَذِهِ النعم أَعْمَى، لكن هذا فيه بعد.

والأقرب والذي عليه عامة المفسرين أنه مَن كَانَ فِي هَذِهِ أي: الدنيا أَعْمَى أعمى عن ماذا؟ قال هنا نقلًا عن جماعة من السلف: أي عن حجة الله وآياته وبيناته، فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى كذلك يكون، فمن أهل العلم من يقول: مَن كَانَ فِي هَذِهِ: يعني الدنيا، أَعْمَى: عن حجج الله وآياته الدالة على أن الله هو الذي خلقها وأوجدها، وأنه هو الذي دبرها هذا التدبير الدقيق، وصرفها هذا التصريف العجيب، الشمس والقمر والنجوم والكواكب والأفلاك، وما يحصل من إنزال المطر، وما يحصل من إخراج النبات، إلى غير ذلك مما يدل على قدرته ، وأنه الخالق وحده والمدبر وحده، وأنه المعبود وحده لا شريك له، فمن كان أعمى عن هذه الحقائق التي يشاهدها، ودلائل القدرة، فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى، فبعضهم يقول: في شأن الآخرة، أي: إذا لم يعرف هذا الذي يشاهد الدلائل الواضحة أن له مدبِّرًا وخالقًا عظيمًا وهو يرى هذا التصريف الدقيق العجيب، كيف يتكون الإنسان من النطفة، ثم العلقة، ثم المضغة، وهو في بطن أمه تتكون له الأذن، وتتكون العين، ويتكون الفم، ويتكون الأنف، مع أنه لا يحتاج إلى الأنف في بطن أمه، ولا إلى الفم، ولا إلى العين، ولا إلى أقدامه في بطن أمه ليمشي على الأرض، ولا إلى أصابعه، ولا إلى يديه، وإنما خُلِق ليخرج إلى مكان آخر يحتاج فيه هذه الأمور جميعًا.

فهذا الخلق، وهذا التقدير وهذا التصريف العجيب يدل على خالق قادر مدبر مصرِّف مريد عليم، سميع بصير ، فمن كان عن هذه الحجج والبراهين الواضحة أعمى فهو عن الآخرة أعمى، وعن أمرها وشأنها وحقيقتها ووجودها، وأنها أمر كائن لا محالة، لأنه إذا كان يعجز عن استكشاف ومعرفة هذا الشيء الذي يراه كل أحد، فكيف بأمر الآخرة التي هي من أمر الغيب؟ فلا شك أنه سيكون أكثر عماية وجهالة وإعراضًا عنها إن كان معرضًا عن هذه الأمور المشهودة، فمن عمِي عن أمر الشهادة فلم يوفق إلى معرفتها، كيف يكون حاله في أمر الغيب؟ فهو عن الآخرة أعمى فهو لا يعرفها ولا يؤمن بها، ولا يرجو لقاء الله ، والبعث بعد الموت والحساب والنشور وما شابه ذلك.

فهذا معنىً ذكره طائفة من أهل العلم في هذه الآية، وهو الذي اختاره كبير المفسرين ابن جرير، والعمى الأول المذكور في قوله: وَمَن كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى ليس المقصود عمى البصر وإنما المقصود عمى البصيرة، وعمى القلب؛ لأن هذا هو العمى الحقيقي، فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [سورة الحج:46]، كما قال بعضهم:

إذا أبصرَ القلبُ المروءةَ والتقَى فإن عمى العينين ليس يضيرُ

يقول ابن عباس -ا- لما كف نظره في آخر حياته:

إنْ يأخذ الله من عينيّ نورَهما ففي فؤادي وقلبي منهما نورُ
قلبي ذكيّ وعقلي غير ذي دخلٍ وفي فمي صارمٌ كالسيف مشهورُ

فالعمى هو عمى القلب، وليس عمى البصر، فإن الإنسان يعمى بصره ويكون عنده من العلم والمعرفة بالله ما لا يكون عند ملايين المبصرين، فالعمى الأول هو عمى البصيرة، والعمى الثاني، في قوله: فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى يحتمل معنيين:

يحتمل أن يكون في الآخرة أعمى عمى البصر، فيحشر أعمى، كما قال تعالى: وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا [سورة الإسراء:97] ويدل عليه قوله -تبارك وتعالى- عن الكافر: قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا[سورة طه:125]، ولم يكن عنده مقصودًا بصرُ القلب في الدنيا، وإنما يقصد بصر العين، فيحشر أعمى، لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا ۝ قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى [سورة طه:125، 126].

ويحتمل أن يكون كما سبق، فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى: أي في شأن الآخرة أعمى لا يبصر ولا يعرف أنها كائنة، وأنها أمر لا بد من وقوعه، وأن الله يجزي النفوس بما قدمت وعملت، وأنه حكَم عدْل، إلى آخره، كما سبق من كلام ابن جرير.

وهل أعمى الثانية بمعنى أفعل التفضيل، أي: أشد عمىً؟ إذا فسرت الآية بمعنى عمى البصر، فليس المقصود به أفعل التفضيل قطعًا، وإنما المقصود به أنه يحشر بهذه الصفة من العمى، تقول: فلان أعمى، وليس المقصود: فلان أعمى من فلان؛ لأن عمى البصر لا يتجزأ، فلا يقال: فلان أعمى من فلان، ولا يصح في اللغة، وإنما يقال ذلك في الأشياء التي تتفاضل، تقول: فلان أعلم من فلان، فلان أصح من فلان، فلان أقوى من فلان، وإذا قصد به عمى القلب والجهالة والغفلة عن حقائق الآخرة ودلائلها فيمكن أن يقع فيه التفاضل، تقول: هذا أعمى من هذا في حقائق الآخرة؛ لأن ذلك يتفاوت؛ فهي ظلمات بعضها فوق بعض، فالمعنى: إذا كان جاهلًا مغيبًا عن حقائق القدرة وبراهين الوحدانية في الدنيا، وأن الله مصرف لهذا الخلق، ومدبر له، وأنه هو الذي أوجد هذه الحياة، وأنه هو الذي يقوم بتدبيرها وتصريفها بهذا التصريف العجيب الدقيق، فهو في شأن الآخرة التي هي من أمر الغيب أشد عمىً، والله تعالى أعلم.

سؤال: قوله تعالى: نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ: هل ترجع كلمة إمام إلى الأم؟

هذا قول لم أذكره؛ لأنه قول في غاية البعد، والحديث الذي ورد في هذا لا يصح بحال، لا يُدعَى الناس يوم القيامة بأسماء أمهاتهم وإنما يدعون، وينسبون إلى آبائهم، كما قال النبي ﷺ: يرفع لكل غادر يوم القيامة لواء يقال: هذه غدرة فلان بن فلان [3]ولم يقل: ابن فلانة، فمن قال: نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ: إن ذلك يرجع إلى الأم، وإنه يُدعى العبد بأمه: فلان ابن فلانة، فهذا باطل لا يصح.

  1. سنن الترمذي: (5/302) باب ومن سورة بني إسرائيل: برقم: (3136) وضعفه الألباني.
  2. تقدم تخريجه.
  3. صحيح البخاري: (5/2285) باب ما يدعى الناس بآبائهم: ( برقم: (5823) ومسلم: (3/1359) باب تحريم الغدر: ( برقم: (1735).

مواد ذات صلة