الخميس 26 / جمادى الأولى / 1446 - 28 / نوفمبر 2024
[19] من قوله تعالى: {وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ} الآية 73 إلى قوله تعالى: {عَسَىَ أَن يَبْعَثَكَ رَبّكَ مَقَاماً مّحْمُوداً} الآية 79
تاريخ النشر: ١٠ / صفر / ١٤٢٩
التحميل: 2452
مرات الإستماع: 2150

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال المصنف -رحمه الله تعالى- في تفسير قوله تعالى:

وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً ۝ وَلَوْلاَ أَن ثَبّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً ۝ إِذاً لأذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً [سورة الإسراء:73-75].

يخبر تعالى عن تأييده رسوله -صلوات الله عليه وسلامه، وتثبيته وعصمته وسلامته من شر الأشرار وكيد الفجار، وأنه تعالى هو المتولي أمره ونصره، وأنه لا يكله إلى أحد من خلقه بل هو وليه وحافظه وناصره مؤيده ومظفره ومظهر دينه على من عاداه وخالفه وناوأه في مشارق الأرض ومغاربها، ﷺ تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فقوله -تبارك وتعالى: وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ، ”كاد“ تأتي لمقاربة الشيء دون وقوعه؛ ولهذا قال بعده: وَلَوْلاَ أَن ثَبّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً، و”لولا“ هذه حرف امتناع لوجود، يعني لولا وجود التثبيت من الله لوقع الركون إليهم، وهذا الركون إليهم مع أنه قليل -كما وصفه الله تعالى- إلا أن الله توعد نبيه ﷺ بهذا الوعيد الشديد إِذاً لأذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ، ضِعْفَ الْحَيَاةِ أي: عذاباً ضعفاً في الحياة، وعذاباً ضعفاً في الممات، هذا معنى ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ.

ليس المقصود أن حياته تكون مضاعفة، وإنما أن العذاب الذي يكون في الدنيا يكون مضاعفاً، ضعف الحياة، يعني أن الله يعذبه في الدنيا وفي الآخرة عذاباً مضاعفاً، ذلك أنه كما قيل: على قدر المقام يكون الملام، فإذا علت مرتبة الإنسان كان اللوم المتوجه إليه بسبب المخالفة أكبر؛ ولهذا قال الله تعالى: يَا نِسَاء النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاء إِنِ اتَّقَيْتُنَّ [سورة الأحزاب:32]، وكان مما ذكر منزلتهن وشرفهن على سائر النساء، فقال ضمن ذلك: مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ [سورة الأحزاب:30]. 

وقال أيضاً في الثواب: وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُّؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ [سورة الأحزاب:31]، فكان العذاب مضاعفاً لها لمنزلتها ورفعة درجتها، وقربها من رسول الله ﷺ، فإن تدنيس شرف رسول الله -عليه الصلاة والسلام- ليس كتدنيس شرف غيره.

وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزّونَكَ مِنَ الأرْضِ لِيُخْرِجوكَ مِنْهَا وَإِذاً لاّ يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاّ قَلِيلاً ۝ سُنّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِن رّسُلِنَا وَلاَ تَجِدُ لِسُنّتِنَا تَحْوِيلاً [سورة الإسراء:76، 77].

نزلت في كفار قريش لما هموا بإخراج رسول الله ﷺ من بين أظهرهم، فتوعدهم الله بهذه الآية، وأنهم لو أخرجوه لما لبثوا بعده بمكة إلا يسيراً، وكذلك وقع، فإنه لم يكن بعد هجرته من بين أظهرهم بعدما اشتد أذاهم له إلا سنة ونصف، حتى جمعهم الله وإياه ببدر على غير ميعاد، فأمكنه منهم وسلطه عليهم وأظفره بهم، فقتل أشرافهم وسبى ذراريهم؛ ولهذا قال تعالى: سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا الآية، أي هكذا عادتنا في الذين كفروا برسلنا وآذوهم بخروج الرسول من بين أظهرهم يأتيهم العذاب، ولولا أنه -صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم- رسول الرحمة لجاءهم من النقم في الدنيا ما لا قبل لأحد به؛ ولهذا قال تعالى: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ [سورة الأنفال:33] الآية.

قوله: وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزّونَكَ مِنَ الأرْضِ لِيُخْرِجوكَ مِنْهَا وَإِذاً لاّ يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاّ قَلِيلاً، ظاهر كلام الحافظ ابن كثير -رحمه الله- الذي فسر به الآية أن ذلك وقع منهم، وأن العقوبة التي توعدهم الله بها حلت بهم في يوم بدر، ولكن هذا الكلام لا يخلو من إشكال لوجوه متعددة، فمن هذه الوجوه:

أن الله قال: وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزّونَكَ مِنَ الأرْضِ، ومعلوم أن ”كاد“ تدل على المقاربة دون وقوع الشيء، فذلك لم يقع، ومعنى الاستفزاز: الإزعاج، كَادُواْ لَيَسْتَفِزّونَكَ بمعنى أنهم يزعجونه ﷺ إزعاجاً يخرجه من بين أظهرهم، مِنَ الأرْضِ المقصود بالأرض يعني أرض مكة، فـ”ال“ عهدية.

والأمر الآخر: أن الله قال: وَإِذًا لاَّ يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاَّ قَلِيلاً، في القراءة الأخرى المتواترة قراءة نافع وابن كثير وأبي عمرو خلفك، والمعنى واحد.

سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِن رُّسُلِنَا يمكن أن يكون منصوباً على نزع الخافض، أو يمكن أن يكون بمقدر محذوف، يعني: سَنّ بهم مثلاً سنة من قد أرسلنا، وسنة الله -تبارك وتعالى- في الأمم السابقة نزول العذاب المستأصل الذي يقطع دابرهم، وهذا لم يقع لأهل مكة، فهذا هو الأمر الثاني، قال: وَإِذًا لاَّ يَلْبَثُونَ خِلافَكَ، لا يلبثون، إِلاَّ قَلِيلاً، فمعنى ذلك أنه يَنزِل عليهم عذابٌ يقطع دابرهم، وهذا لم يقع، وسنته -تبارك وتعالى- في الأمم المكذبة السابقة التي نزلت بها المَثُلات والعقوبات العامة المستأصلة لم تحصل في هذه الأمة، ومعلوم أن النبي ﷺ عرض عليه الملَكُ أن يطبق عليهم الأخشبين، فالنبي ﷺ رفض رجاء أن يخرج الله من أصلابهم من يوحد الله  لا يشرك به شيئاً.

فالمعنى الذي ذكره الحافظ ابن كثير لا يخلو من إشكال، والذي عليه عامة المفسرين أن ذلك لم يقع، ولا يفسر بيوم بدر، وقد يقول قائل: إن النبي ﷺ خرج من بين أظهرهم، اضطروه للخروج، والله أضاف ذلك إليهم وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِّن قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ [سورة محمد:13]، فأضاف الخروج إليهم، يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ [سورة الممتحنة:1]، وتارة يضيف الخروج إلى المؤمنين، وتارة يورِد ذلك بالبناء للمجهول الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ [سورة الحج:40]

فالشاهد أن خروج النبي ﷺ كان بأمر الله في وقتٍ وقّته، ولهذا لم يهاجر النبي ﷺ لمجرد أنهم أزعجوه أو اضطروه إلى الخروج، أو أنهم قاموا بإخراجه فعلاً، وإنما كان يصبر على الأذى ويتحمل، ويأمر أصحابه بالصبر، ثم أمرهم فهاجروا إلى الحبشة، وبقي النبي ﷺ ينتظر أمر الله، ثم بعد ذلك جاءه الأمر بالخروج فعرض ذلك على أبي بكر كما هو معلوم- أن يصحبه معه في سفر الهجرة، فهذا هو الجواب الذي يذكر على هذا الإيراد أو السؤال أو الإشكال، فيكون الإخراج المقصود في الآية هو أن يقوم هؤلاء الكفار بإخراجه فعلاً، وأما خروجه ﷺ فكان بأمر الله -تبارك وتعالى، والله أعلم.

أَقِمِ الصّلاَةَ لِدُلُوكِ الشّمْسِ إِلَىَ غَسَقِ الْلّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً ۝ وَمِنَ الْلّيْلِ فَتَهَجّدْ بِهِ نَافِلَةً لّكَ عَسَىَ أَن يَبْعَثَكَ رَبّكَ مَقَاماً مّحْمُوداً [سورة الإسراء:78، 79].

يقول -تبارك وتعالى- لرسوله ﷺ آمراً له بإقامة الصلوات المكتوبات في أوقاتها: أَقِمِ الصّلاَةَ لِدُلُوكِ الشّمْسِ.

وقال هشيم عن مغيرة عن الشعبي عن ابن عباس -ا: دلوكها زوالها، ورواه نافع عن ابن عمر -ا، ورواه مالك في تفسيره عن الزهري عن ابن عمر، وقاله أبو برزة الأسلمي ومجاهد، وبه قال الحسن والضحاك وأبو جعفر الباقر وقتادة، ومما استشهد عليه ما رواه ابن جرير عن جابر بن عبد الله -ا- قال: دعوت رسول الله ﷺ ومن شاء من أصحابه فطعموا عندي، ثم خرجوا حين زالت الشمس، فخرج النبي ﷺ فقال: اخرج يا أبا بكر، فهذا حين دلكت الشمس[1]، فعلى هذا تكون هذه الآية دخل فيها أوقات الصلوات الخمس فمن قوله: لِدُلُوكِ الشّمْسِ إِلَىَ غَسَقِ الْلّيْلِ وهو ظلامه -وقيل غروب الشمس- أخذ منه الظهر والعصر والمغرب والعشاء.

وقوله: وَقُرْآنَ الْفَجْرِ يعني: صلاة الفجر، وقد ثبتت السنة عن رسول الله ﷺ تواتراً من أفعاله وأقواله بتفاصيل هذه الأوقات على ما عليه أهل الإسلام اليوم مما تلقوه خلفاً عن سلف، وقرناً بعد قرن، كما هو مقرر في مواضعه، ولله الحمد.

قوله تعالى: أَقِمِ الصّلاَةَ لِدُلُوكِ الشّمْسِ نقل بعض أهل العلم الإجماع على أن هذه الآية في مواقيت الصلاة المكتوبة، وقد مضى بعض الآيات التي تتعلق بهذا المعنى، والدلوك أصله الميل، أَقِمِ الصّلاَةَ لِدُلُوكِ الشّمْسِ أي: لميلها، والذي عليه عامة المفسرين كما نقله عن طائفة من السلف - وأرضاهم- أن الدلوك هو الزوال، وهذا الذي اختاره جمع من أهل اللغة كالأزهري، وكبير المفسرين ابن جرير، وغير هؤلاء كثير، هذا هو المشهور.

والقول الآخر: أن الدلوك بمعنى الغروب، وهذا أيضاً قال به بعض أهل اللغة، قال به طائفة من السلف، إلا أن القول الأول أشهر، والحافظ ابن القيم -رحمه الله- جمع بين القولين فذهب إلى أن الدلوك يصدق على هذا وهذا، وأن ذلك من جهة الدلوك له مبدأ ومنتهى، فمبدؤه ميل الشمس عند الزوال، ومنتهاه الغروب، فيدخل بدلوك الشمس في قوله: أَقِمِ الصّلاَةَ لِدُلُوكِ الشّمْسِ -إذا مالت عن كبد السماء بعد الظهر- صلاة الظهر وصلاة العصر.

إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ أي: ظلامه، إذا أقبل الليل بظلامه فذاك غسقه، فيدخل فيه المغرب والعشاء، وَقُرْآنَ الْفَجْرِ صلاة الفجر هذا هو المشهور، -والله تعالى أعلم، ومن أهل العلم من يقول: إن أصل كلمة ”غسق“ بمعنى السيلان، غسقتْ أي سالت، والمقصود بإقبال الليل ظلامه، ونحو هذا من العبارات التي يذكرها السلف -، قال: لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وهو ظلامه، وقيل: غروب الشمس، أخذ منه الظهر والعصر.. إلى آخره”.

وقوله: وقيل: غروب الشمس، يحتمل أنه يقصد القول الثاني في المسألة، معنى دلوك الشمس، قيل: الزوال، وقيل: غروب الشمس، فيكون ذكر القولين، ويكون غروب الشمس تفسيراً لغسق الليل، هذا قال به بعضهم، ولا منافاة، فإن غروب الشمس يعني إقبال الليل، كما قال الله : وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ [سورة الفلق:3] الغاسق قيل: القمر إذا غاب، وقيل: إذا طلع، وبعضهم فسر الغاسق بالليل، وهذان القولان متلازمان، بمعنى أن القمر آية الليل، فإذا ظهر القمر فمعنى ذلك أن الظلام قد وُجد وأن الليل قد حل، غَسَقِ اللَّيْلِ أي: ظلامه، وقيل: غروب الشمس، فالقولان متلازمان، أخذ منه الظهر والعصر والمغرب والعشاء، يعني إلى هذا القدر، أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ، أربعة فروض.

وَقُرْآنَ الْفَجْرِ قال: يعني صلاة الفجر، وقد ثبت بالسنة عن النبي ﷺ.. إلى آخره.

وتسمية صلاة الفجر بقرآن الفجر هو تسمية للشيء بجزئه، وهذا يدل على أن القراءة في الصلاة مطلوبة، وأنها ركن فيها؛ لأن القاعدة أن الشيء لا يسمى بجزئه إلا إذا كان هذا الجزء لا ينفك، كما يقال عن الإنسان: إنه رقبة، ولا يقال عنه: إنه يد، فاليد من الممكن أن ُتقطع ويعيش الإنسان، لكن إذا قطعت الرقبة لا يعيش، فإنما يطلق على الشيء بجزء منه إذا كان هذا الجزء غير منفك، ومن هنا أُخذ استنباط أن القراءة في الصلاة ركن، ولا شك أن القدر الذي يصدق عليه هذا هو قراءة سورة الفاتحة، فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها، وَقُرْآنَ الْفَجْرِ، وليس المقصود به القراءة خارج الصلاة أو في السنّة الراتبة، وإنما قرآن الفجر هو القراءة في صلاة الفجر.

وقول الله : وَقُرْآنَ الْفَجْرِ فـقُرْآنَ منصوبة؛ لأنها معطوفة على الصلاة، أقم الصلاة وأقم قرآن الفجر، يكون هذا المعنى: أمر بإقامة الصلاة وإقامة قرآن الفجر، ويكون هذا تأكيداً له؛ لأنه داخل في عموم الصلاة، لكن الله ذكر في الأول الفروض الأربعة، من قوله: لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ ثم قال: وَقُرْآنَ الْفَجْرِ وصلاة الفجر، وبعضهم يقول: منصوب على الإغراء: وعليك قرآن الفجر.

إِنّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً عن ابن مسعود عن أبي هريرة -ا- عن النبي ﷺ في هذه الآية وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً قال: تشهده ملائكة الليل وملائكة النهار[2]، وروى البخاري عن أبي هريرة أن النبي ﷺ قال: فضل صلاة الجميع على صلاة الواحد خمس وعشرون درجة، وتجتمع ملائكة الليل وملائكة النهار في صلاة الفجر يقول أبو هريرة: اقرءوا إن شئتم وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً[3].

وروى الإمام أحمد عن ابن مسعود وأبي هريرة -ا- عن النبي ﷺ في قوله: وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً قال: تشهده ملائكة الليل وملائكة النهار[4]، ورواه الترمذي والنسائي وابن ماجه، وقال الترمذي: حسن صحيح.

وفي لفظ في الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال: يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، ويجتمعون في صلاة الصبح وفي صلاة العصر، فيعرج الذين باتوا فيكم فيسألهم ربهم -وهو أعلم بكم- كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: أتيناهم وهم يصلون، وتركناهم وهم يصلون[5]، وقال عبد الله بن مسعود: يجتمع الحرسان في صلاة الفجر، فيصعد هؤلاء ويقيم هؤلاء، وكذا قال إبراهيم النخعي ومجاهد وقتادة وغير واحد في تفسير هذه الآية.

قوله: إِنّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً تشهده ملائكة الليل وملائكة النهار، وهذا تدل عليه الأحاديث، والقول الآخر: أي يشهده الله -تبارك وتعالى- وتشهده ملائكته، هذا القول قد تدل عليه بعض الروايات الواردة في حديث النزول فإن في بعضها: حتى يضيء الفجر، وفي بعضها حتى يسطع، فحتى يضيء الفجر: إذا أضاء الفجر فهذا هو وقت الصلاة، وكان النبي ﷺ يصلي الصبح بغلس، وحينما ينصرف كان النساء لا يُعرفن من الغلس، من الظلام، وقد جاء في رواية عند الإمام أحمد من حديث أبي هريرة في حديث النزول: ينزل الله إلى سماء الدنيا لنصف الليل الآخر أو الثلث الآخر يقول: من ذا الذي يدعوني فأستجيب له؟ إلى أن قال: حتى يطلع الفجر أو ينصرف القارئ من صلاة الصبح[6]، وهذا الحديث صححه الشيخ الألباني -رحمه الله- في تعليقه على السنة لابن أبي عاصم، وقوله: أو ينصرف القارئ يحتمل أن الذي قال هذه الجملة: أو ينصرف النبي ﷺ، يعني بهذا السياق، ويحتمل أن يكون ذلك شكًّا من الراوي.

فالحاصل أن مثل هذا الحديث يمكن أن يستدل به على هذا القول: يشهده الله والملائكة، فالله ينزل إلى سماء الدنيا فيقول: من يدعوني إلى آخره، حتى ينصرف القارئ من صلاة الصبح،... يكون هذا تفسيراً لقوله: إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا، يشهده الله وملائكته، والأمر كما قال بعض أهل العلم: إنه لا منافاة بين القولين، يشهده ملائكة الليل وملائكة النهار، ويشهده الله ، فأصحاب هذا القول ما نفوا القول الآخر بل أثبتوه وزادوا عليه، وهذا معنىً كبير ليس بالشيء السهل، فالله جعل هذه الشهود، وإلا فإن الله على كل شيء شهيد، مطلع على الخلق، سامعٌ لأقوالهم، مبصرٌ لجميع أعمالهم، وحركاتهم وسكناتهم، نافذ البصر فيهم، لكن هذا شهود خاص لصلاة الصبح.

وقوله تعالى: وَمِنَ الْلّيْلِ فَتَهَجّدْ بِهِ نَافِلَةً لّكَ أمْرٌ له بقيام الليل بعد المكتوبة، كما ورد في صحيح مسلم عن أبي هريرة عن رسول الله ﷺ أنه سئل أي الصلاة أفضل بعد المكتوبة؟ قال: صلاة الليل[7]؛ ولهذا أمر تعالى رسوله بعد المكتوبات بقيام الليل، فإن التهجد ما كان بعد نوم. قاله علقمة والأسود وإبراهيم النخعي وغير واحد، وهو المعروف في لغة العرب، وكذلك ثبتت الأحاديث عن رسول الله ﷺ أنه كان يتهجد بعد نومه، عن ابن عباس وعائشة وغير واحد من الصحابة -، كما هو مبسوط في موضعه، ولله الحمد والمنة.

قوله تعالى: وَمِنَ الْلّيْلِ فَتَهَجّدْ بِهِ نَافِلَةً لّكَ، ”مِن“ هذه تبعيضية؛ لأنه لا يطالب بقيام كل الليل، ذكر طائفة من أهل العلم أن الضمير عائد إلى القرآن، تهجدْ به، أي بالقرآن، وتَهَجّدْ من الهجود، والهجود كما قال ابن الأعرابي -وهو إمام كبير من أئمة اللغة المتقدمين، من أهل السنة: إن ذلك من الأضداد، أي إنها تدل على المعنى وضده، فتقول: هجد بمعنى نام، ويقال أيضاً: الهجود بمعنى السهر، فهو يقول: إن هذه اللفظة هنا فَتَهَجّدْ بِهِ لفظة تهجد أو هجد تدل على معنيين متضادين.

والأزهري -رحمه الله- وهو إمام من أئمة اللغة وهو من أهل السنة- يقول: إن أصل ذلك من النوم، تقول: هجد، اهجد، هجدوا يعني ناموا، لكن التفعُّل، تهجّدْ يدل على التباعد، كما تقول: تأثّمْ وتحرّجْ، الحرج معروف، والإثم معروف، فتحرجْ يعني تجافَ عن الحرج، وتأثمْ تجافَ عن الإثم، فتكون تهجدْ بمعني تجافَ عن الهجود، كما قال الله : تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ [سورة السجدة:16] فهو يتباعد عن الهجود عن النوم ليقوم يصلي، وهذا المعنى الذي ذكره حسن.

فَتَهَجّدْ بِهِ نَافِلَةً لّكَ، وكون هذه اللفظة تدل على قول من قال: إنه يكون بعد النوم لا ينفي عن كون الصلاة التي يصليها الإنسان من بعد العشاء، ولو قبل النوم، أو لم ينم أصلاً طول الليل، فلو قام من وسطه أو آخره أو أوله، لا ينفي أن كل هذا من قيام الليل، وقوله -تبارك وتعالى: إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئا وَأَقْوَمُ قِيلًا [سورة المزمل:6]، بعض أهل العلم فسر الناشئة بالصلاة التي تكون بعد النوم، والتهجد غالباً ما يعبر به على الصلاة أو القيام الذي يكون بعد نوم، ولا شك أن هذا أفضل من الصلاة التي لا تكون بعد نوم -والله تعالى أعلم، وذلك من وجهين:

الوجه الأول: لما يتطلبه ذلك من المجاهدة، وورد في هذا أحاديث في القيام من النوم ليصلي الإنسان، فيمن يضحك له الله -تبارك وتعالى، وأن ذلك يكون أدعى للاستحضار، حضور القلب، فإن الإنسان إذا نام واستراح كان ذلك أصفى ما يكون في الذهن، ولهذا العلماء يذكرون فيما يتعلق بالعلم والتعلم والحفظ وما أشبه ذلك، يذكرون السَّحَر، بحيث يكون الإنسان قد استراح، أما بعد العشاء فالإنسان يكون مشوشاً فكره بسبب سائر أعمال اليوم، ويكون في غاية الإجهاد، يحتاج إلى الراحة، فالذهن يكون في حالٍ من الضعف والكلال، بخلاف ما إذا نام، فإنه يكون قد استعاد نشاطه وقوته، ويكون أدعى لحضور القلب، وهو الذي اختاره ابن جرير، والأزهري -رحمهما الله، والله المستعان.

  1. جامع البيان في تأويل القرآن، للإمام الطبري (17/518).
  2. رواه ابن ماجه، كتاب الصلاة، باب وقت صلاة الفجر، برقم (670)، والحاكم في المستدرك (1/330)، برقم (763)، وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وصححه الألباني في تحقيق مشكاة المصابيح (635).
  3. رواه البخاري، كتاب التفسير، باب إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا، برقم (4440).
  4. رواه الترمذي، كتاب تفسير القرآن عن رسول الله ﷺ، باب ومن سورة بني إسرائيل، برقم (3135)، وقال: هذا حديث حسن صحيح، وابن ماجه، كتاب الصلاة، باب وقت صلاة الفجر، برقم (670)، والحاكم في المستدرك (1/330)، برقم (763)، وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ومسلم بلفظ قريب منه، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب فضل صلاة الجماعة وبيان التشديد في التخلف عنها، برقم (649).
  5. رواه البخاري، كتاب مواقيت الصلاة، باب فضل صلاة العصر، برقم (530)، ومسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب فضل صلاتي الصبح والعصر، برقم (632).
  6. رواه أحمد في المسند (16/320)، برقم (10544)، وقال محققوه: صحيح دون قوله: "أو ينصرف القارئ... إلخ"، وصححه الألباني في تحقيق ظلال الجنة برقم (498).
  7. رواه مسلم، كتاب الصيام، باب فضل صوم المحرم، برقم (1163).

مواد ذات صلة