الخميس 26 / جمادى الأولى / 1446 - 28 / نوفمبر 2024
[5] من قوله تعالى: {قَالَ آمَنتُمْ لَهُ} الآية 71 إلى قوله تعالى: {ثُمَّ اهْتَدَى} الآية 82
تاريخ النشر: ٢٥ / ربيع الآخر / ١٤٢٩
التحميل: 3138
مرات الإستماع: 11350

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين:

قال المصنف -رحمه الله- في تفسير قوله  تعالى:

قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذن لَكُمْ إِنّهُ لَكَبِيرُكُمُ الّذِي عَلّمَكُمُ السّحْرَ فَلأُقَطّعَنّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مّنْ خِلاَفٍ وَلأُصَلّبَنّكُمْ فِي جُذُوعِ النّخْلِ وَلَتَعْلَمُنّ أَيّنَا أَشَدّ عَذَاباً وَأَبْقَىَ ۝ قَالُواْ لَن نّؤْثِرَكَ عَلَىَ مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيّنَاتِ وَالّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدّنْيَا ۝ إِنّا آمَنّا بِرَبّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السّحْرِ وَاللّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَىَ [سورة طه:71-73]

يقول تعالى مخبراً عن كفر فرعون وعناده وبغيه ومكابرته الحق بالباطل حين رأى ما رأى من المعجزة الباهرة والآية العظيمة، ورأى الذين قد استنصر بهم قد آمنوا بحضرة الناس كلهم، وغُلب كل الغَلب شرع في المكابرة والبهت، وعدل إلى استعمال جاهه وسلطانه في السحرة فتهددهم وتوعدهم وقال: آمَنتُمْ لَهُ، أي: صدقتموه قَبْلَ أَنْ آذن لَكُمْ، أي: ما أمرتكم بذلك وافْتتُّم عليّ في ذلك، وقال قولاً يعلم هو والسحرة والخلق كلهم أنه بهت وكذب إِنّهُ لَكَبِيرُكُمُ الّذِي عَلّمَكُمُ السّحْرَ، أي: أنتم إنما أخذتم السحر عن موسى واتفقتم أنتم وإياه عليّ وعلى رعيتي لتظهروه، كما قال تعالى في الآية الأخرى: إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ، ثم أخذ يتهددهم فقال: فَلأُقَطّعَنّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مّنْ خِلاَفٍ وَلأُصَلّبَنّكُمْ فِي جُذُوعِ النّخْلِ، أي: لأجعلنكم مُثلة، ولأقتلنكم ولأشهرنكم، قال ابن عباس -ا: فكان أول من فعل ذلك، رواه ابن أبي حاتم.

وقوله: وَلَتَعْلَمُنّ أَيّنَا أَشَدّ عَذَاباً وَأَبْقَىَ، أي: أنتم تقولون: إني وقومي على ضلالة وأنتم مع موسى وقومه على الهدى، فسوف تعلمون من يكون له العذاب ويبقى فيه، فلما صال عليهم بذلك وتوعدهم هانت عليهم أنفسهم في الله و قَالُواْ لَن نّؤْثِرَكَ عَلَىَ مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيّنَاتِ، أي: لن نختارك على ما حصل لنا من الهدى واليقين، وَالّذِي فَطَرَنَا يحتمل أن يكون قسماً، ويحتمل أن يكون معطوفاً على البينات، يعنون: لا نختارك على فاطرنا وخالقنا الذي أنشأنا من العدم المبتدئ خلقنا من الطين فهو المستحق للعبادة والخضوع لا أنت، فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ، أي: فافعل ما شئت وما وصلت إليه يدك، إِنّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدّنْيَا، أي: إنما لك تسلط في هذه الدار وهي دار الزوال، ونحن قد رغبنا في دار القرار، إِنّا آمَنّا بِرَبّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا، أي: ما كان من الآثام خصوصاً ما أكرهتنا عليه من السحر لتعارض به آية الله تعالى ومعجزة نبيه.

وروى ابن أبي حاتم عن ابن عباس -ا- في قوله تعالى: وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السّحْرِ آمَنّا بِرَبّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السّحْرِ، وكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وقوله: وَاللّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَىَ، أي: خير لنا منك وَأَبْقَىَ، أي: أدوم ثواباً مما كنت وعدتنا ومنّيتنا، والظاهر أن فرعون -لعنه الله- صمم على ذلك وفعله بهم رحمة لهم من الله، ولهذا قال ابن عباس -ا- وغيره من السلف: أصبحوا سحرة وأمسوا شهداء.

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فقوله -تبارك وتعالى- عن قول فرعون: قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذن لَكُمْ إِنّهُ لَكَبِيرُكُمُ الّذِي عَلّمَكُمُ السّحْرَ إنه لكبيركم، يقول الكسائي: في الحجاز يقول الصبي إذا جاء من معلمه أتيت من كبيري، وعلى هذا فالكسائي يقصد أن كبيرهم معلمهم، بحيث إن الكبير يطلق على المعلم، وبعضهم يقول: لَكَبِيرُكُمُ، أي: لعظيمكم، ولا منافاة، فمعلمهم يقال له ذلك ورئيسهم ومقدمهم وقائدهم يقال له هذا إِنّهُ لَكَبِيرُكُمُ الّذِي عَلّمَكُمُ السّحْرَ.

وقوله: فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلَافٍ، يعني: أنه يقطع مثلاً اليد اليمنى والرجل اليسرى، ولا تخفى النكاية التي تحصل بهذا حيث يضعف كل جانب منه، وقوله: وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ، الصلب: هو أن يشد الإنسان إلى خشبة أو جذع أو نحو ذلك، وهو حي فيقتل كما فعل بخبيب بن عدي ، أو يقتل ثم يصلب، ولهذا كثير من أهل العلم يقولون: إن قوله تعالى: إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ [سورة المائدة:33] يقولون: يقتل ثم يصلب، وبعضهم يقول: إنه إن قتل ثم صلب فهو لا يشعر بشيء، فالعقوبة لا تردعه ولا تؤلمه؛ لأنه لا يشعر بهذا، ولهذا فإن بعضهم يرى أنه يصلب قبل القتل، وليس هذا محل اتفاق، فالأولون يقولون: إن صلبه بعد القتل يكون من أجل أن يراه الناس فيرتدعوا ويعتبروا.

يقول بعض أهل العلم: إن "في" هنا بمعنى "على" في قوله: وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ، وهذا لا إشكال فيه، لكن كما قال ابن القيم -رحمه الله: إنه إذا استعمل حرف مكان حرف وناب عنه فإنه يبقى فيه من رائحة الحرف الأول ومعناه، ولهذا فإن بعضهم يقول: إن التعبير بـ "في" هنا يدل على شدة الربط، فكأنه يربطهم ربطاً شديداً ويوثقهم بحيث كأنه يدخلهم في وسط الجذع من شدة الربط، قال: لأن "في" تدل على الظرفية.

وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ، وهو في الواقع يصلبه على الجذع وليس في داخل الجذع، قالوا: لشدة الربط كأنه أدخله في داخل الجذع، وجذوع النخل هي أشد إيلاماً إذا ربط الإنسان إليها، فلا يكون ذلك كربطه إلى جذع شجرة أخرى.

ويقول: وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى، كأن موسى -عليه الصلاة والسلام- لم يتوعدهم بأن يعذبهم ولا يملك هذا، فبعضهم يقول: إن فرعون قال ذلك: وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى من باب الرد على موسى -عليه الصلاة والسلام- حيث ذكرهم بعذاب الله ، فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ [سورة طه:61]، وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ وبعضهم قال: هذا ابتداءً، وإن كان موسى -عليه الصلاة والسلام- لم يتوعدهم بعذاب، لكن أراد أن يقرر شدة نكاله وأليم عقوبته، وقوله: قَالُوا لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا يحتمل معنيين كما أشار الحافظ ابن كثير -رحمه الله، وَالَّذِي فَطَرَنَا، يعني: لا نؤثرك على هذه الآيات والبينات والبراهين وما يستدعيه هذا من اتباع الحق وعلى الذي فطرنا، فيكونون قصدوا أنهم لا يؤثرونه على الدلائل ولا على الله .

والمعنى الثاني: أنهم لا يؤثرونه على هذه البينات والدلائل والبراهين، لن نقدمك على هذه الأشياء الدامغة ثم أقسموا وَالَّذِي فَطَرَنَا، أي: لا نفعل، فالآية تحتمل المعنيين، والله تعالى أعلم.

وقوله: إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ، هل أكرههم فرعون على السحر وقد جاءوا وهم يطمعون في عائدته وجائزته؟ وقالوا له: أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِن كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ، والأثر الذي ذكره الحافظ ابن كثير رحمه الله عن ابن عباس -ا- يدل على أن الإكراه وقع لبعضهم وهم هؤلاء الصغار الذين أمر بتعليمهم، أخذوا من أهلهم من أجل أن يُعلَّموا، وبه قال ابن زيد، وهذا من حيث كلام العرب، يصح، يعني باعتبار أن السحرة غير هؤلاء أيضاً، ابن عباس لا يقصد أن السحرة هم فقط مجموعة من الصغار أُخذوا وعلموا، وابن عباس لا يقصد أنه جيء بالتلاميذ، وأنهم أكرهوا، فيَرِدُ على هذا القول سؤال أنه كيف نسب إليهم الإكراه إلى المجموع، وإنما أكره هؤلاء فقط، هذه المجموعة التي عُلمت والبقية ما أكرهوا، بقية السحرة؟ فهذا يمكن أن يخرج تخريجاً يصح وجهه في كلام العرب، وهو أنه قد ينسب إلى الطائفة ما قد صدر من بعضها.

وهذا له نظائر في كلام الله وفي كلام العرب، فالله يقول: فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ [سورة البقرة:191] قراءة نقرأ بها، وهناك قراءة: {فإن قتلوكم فاقتلوهم} فالمعنى فإن قتلوا بعضكم فاقتلوهم، يعني: من بقي منهم حياً فيقتلون أولائك، وهكذا في قوله -تبارك وتعالى: وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللّهِ [سورة التوبة:30]، مع أنه لم يقل بهذا جميع اليهود، وإنما صدر من بعضهم، وهكذا في قول النصارى المسيح ابن الله، النصارى معروف أنهم اختلفوا في المسيح، فبعضهم قالوا: هو الله، وبعضهم قالوا: هو ابن الله، وبعضهم قالوا: هو ثالث ثلاثة، فيصح أن ينسب إلى الطائفة الفعل الذي يصدر من بعضها، فيكون هنا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ صدر هذا من طائفة أُكرهوا على السحر ولم يُكرَه الجميع عليه.

لكن يبقى إشكال من جهة أخرى وهو أنه الآن يريد أن يواجه موسى -عليه الصلاة والسلام، وموسى وعدهم بيوم الزينة، ويوم الزينة هذا كأقصى حد، أقصى مدة، يعني: يوم الزينة يوم معلوم يأتي، فلو كان هذا الكلام وقع في يوم الزينة وأنه ما يأتي بالعام إلا مرة واحدة مثلاً، فأقصى أمد سنة، مع أن الغالب أن ذلك الموعد لا يكون بعد سنة؛ لأن فرعون محتدم النفس، غاضب ويريد الخلاص منهم والمفاصلة، وقد ضاق بهم ذرعاً، فوعدوه في وقت في الغالب لا يطول، ولهذا قال الله : فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى [سورة طه:60] الفاء تدل على التعقيب المباشر.

فالشاهد أن هذه المدة ولو كانت سنة لا يمكن لأناس صغار أن يتعلموا بحيث يكونون مهرة في السحر وحُذّاقاً به، وأرسل في المدائن من أجل يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ [سورة الأعراف:112]، يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ [سورة الشعراء: 37]، فالله أعلم.

بعض أهل العلم يقول: إن فرعون أكرههم على المجيء؛ لأنه أرسل في المدائن من يحشرهم، ويأتي بهم، لكن حينما جاءوا ما أكرهم على فعل السحر وإنما هم يزاولون صنعتهم، ومهنتهم المحببة إلى نفوسهم، وطمعوا بما عند فرعون وقالوا له ما قالوا: أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِن كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ [سورة الشعراء:41]، فالإكراه قالوا حصل أولاً، وقالوا له هذا، وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى خير منك ومن عدتك وجائزتك وأبقى منك ومن عطائك، وكل هذا يدخل فيه، وروي عن ابن عباس -ا: "أصبحوا سحرة وأمسوا شهداء"؛ لأنه قتلهم، وبعضهم يقول: إنه لم يقتلهم، وليس عندنا دليل يدل على أنه قتلهم أو لم يقتلهم.

لكن الغالب فيمن كان بمثل هذه المنزلة أنه ينفذ هذا الوعيد، لاسيما أن هذا الأمر الذي وقع هو بالنسبة إليه يعتبر كارثة، فخرج أهل البلد يتفرجون فرأوا هذه الآية العظيمة، ورأوا السحرة يسجدون فهو أراد أن يتخلص من هذا بقول وفعل، القول قال لهم: إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ [سورة الأعراف:123] القضية كانت مدبرة ومرتبة ومخطط لها من أجل المكابرة، يقول للناس: هذا الذي ترونه تمثيلية لا حقيقة لها، والفعل: هو القضاء على هؤلاء السحرة والنكال بهم، والنكال أيضاً بموسى -عليه الصلاة والسلام- وبني إسرائيل، ولهذا قال له الملأ: أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ [سورة الأعراف:127]، هو فرعون بحاجة إلى من يحرضه؟! لكن الملأ قذر مثله، وهم خاصته وحاشيته.

أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ، ولهذا قال موسى -عليه الصلاة والسلام- لقومه: اسْتَعِينُوا بِاللّهِ وَاصْبِرُواْ إِنَّ الأَرْضَ لِلّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ۝ قَالُواْ أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِيَنَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ [سورة الأعراف:128، 129] فالشاهد أن أهل العلم اختلفوا في هذا هل قُتل هؤلاء السحرة أو لم يقتلوا؟ فالله تعالى أعلم.

قال الشنقيطي -رحمه الله تعالى: "وفي آية طه هذا سؤال معروف، وهو أن يقال: قولهم: وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ، يدّل على أنه أكرههم عليه، مع أنه دلّت آيات أخر على أنهم فعلوه طائعين غير مكرهين، كقوله في طه: فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى ۝ قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى ۝ فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفّاً وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى [سورةطه:62-64]، فقولهم: فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفّاً صريح في أنهم غير مكرهين، وكذلك قوله عنهم في الشعراء: قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِن كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ ۝ قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ [سورة الشعراء:41، 42]، وقوله في الأعراف: قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ ۝ قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ [سورة الأعراف:113، 114]، فتلك الآيات تدّل على أنهم غير مكرهين.

وللعلماء عن هذا السؤال أجوبة معروفة:

منها: أنهم أكرههم على الشخوص من أماكنهم ليعارضوا موسى بسحرهم، فلما أكرهوا على القدوم وأُمروا بالسحر أتوه طائعين، فإكراههم بالنسبة إلى أول الأمر وطوعهم بالنسبة إلى آخر الأمر، فانفكت الجهة وبذلك ينتفي التعارض، ويدّل لهذا قوله: وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ [سورة الشعراء:36]، وقوله: وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ [سورة الأعراف:111].

ومنها: أنه كان يكرههم على تعليم أولادهم السحر في حال صغرهم، وأن ذلك هو مرادهم بإكراههم على السحر، ولا ينافي ذلك أنهم فعلوا ما فعلوا من السحر بعد تعلمهم وكبرهم طائعين.

ومنها: أنهم قالوا لفرعون: أرنا موسى نائماً، ففعل فوجدوه تحرسه عصاه، فقالوا: ما هذا بسحر الساحر؛ لأن الساحر إذا نام بطل سحره، فأبى إلا أن يعارضوه، وألزمهم بذلك، فلما لم يجدوا بُداً من ذلك فعلوه طائعين. وأظهرها عندي الأول، والعلم عند الله تعالى"[1].

وقال رحمه الله في قوله تعالى: وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ: "ذكر -جل وعلا- في هذه الآية الكريمة أن سحرة فرعون لما آمنوا برب هارون وموسى قال لهم فرعون منكراً عليهم: آمَنْتُمْ لَهُ، أي: صدقتموه في أنه نبي مرسل من الله، وآمنتم بالله قبل أن آذن لكم، يعني: أنهم لم يكفوا عن الإيمان حتى يأذن لهم، لأنه يزعم أنه لا يحق لهم أن يفعلوا شيئاً إلا بعد إذنه هو لهم، وقال لهم أيضاً: إن موسى هو كبيرهم، أي: كبير السحرة وأستاذهم الذي علمهم السحر، ثم هددهم مقسماً على أنه يقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف: يعني اليد اليمنى والرجل اليسرى مثلاً؛ لأنه أشد على الإنسان من قطعهما من جهة واحدة؛ لأنه إن كان قطعهما من جهة واحدة يبقى عنده شق كامل صحيح، بخلاف قطعهما من خلاف، فالجنب الأيمن يضعف بقطع اليد، والأيسر يضعف بقطع الرجل كما هو معلوم، وأنه يصلبهم في جذوع النخل"[2].

وقال الشنقيطي -رحمه الله تعالى: "واعلم أن العلماء اختلفوا: هل فعل بهم فرعون ما توعدهم به، أو لم يفعله بهم؟ فقال قوم: قتلهم وصلبهم، وقوم أنكروا ذلك، وأظهرهما عندي: أنه لم يقتلهم، وأن الله عصمهم منه لأجل إيمانهم الراسخ بالله تعالى؛ لأن الله يقول لموسى وهارون: أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ [سورة القصص:35] والعلم عند الله تعالى"[3].

والقول بأنه لم يقتلهم باعتبار أن الله قال: فَآَمَنَت طَّائِفَةٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَت طَّائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ [سورة الصف:14]، وكثير من أهل العلم من يقول بأنه لم يكن لأصحاب المسيح -عليه الصلاة والسلام- ولأتباعه من أهل التوحيد ظهور، وهذا صحيح، إنما كان ظهورهم ببعث النبي ﷺ فحصل ما حصل لليهود من هزيمة، وقتل، وما إلى ذلك، وبعضهم يقول: الذين ظهروا هم من لهم شائبة في اتباع المسيح -عليه الصلاة والسلام- وإن لم يكونوا على الحق، الذين ظهروا هم أهل الإشراك، أهل التثليث أتباع قسطنطين الملك الذي دخل في النصرانية فأفسدها.

وقوله: إِنّهُ مَن يَأْتِ رَبّهُ مُجْرِماً فَإِنّ لَهُ جَهَنّمَ لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يَحْيَىَ ۝ وَمَن يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدّرَجَاتُ الْعُلَىَ ۝ جَنّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَن تَزَكّىَ [سورة طه:74-76].

الظاهر من السياق أن هذا من تمام ما وعظ به السحرة لفرعون، يحذرونه من نقمة الله وعذابه الدائم السرمدي ويرغبونه في ثوابه الأبدي المخلد فقالوا: إِنّهُ مَن يَأْتِ رَبّهُ مُجْرِماً، أي: يلقى الله يوم القيامة وهو مجرم، فَإِنّ لَهُ جَهَنّمَ لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يَحْيَىَ، كقوله: لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ [سورة فاطر:36]، وقال: وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى ۝ الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى ۝ ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَى[سورة الأعلى:11-13]، وقال تعالى: وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ [سورة الزخرف:77]

وروى الإمام أحمد بن حنبل عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله ﷺ: أما أهل النار الذين هم أهلها فإنهم لا يموتون فيها ولا يحيون، ولكن أناس تصيبهم النار بذنوبهم فتميتهم إماتة حتى إذا صاروا فحماً أُذن في الشفاعة فجيء بهم ضبائر ضبائر فبُثوا على أنهار الجنة فيقال: يا أهل الجنة أفيضوا عليهم فينبتون نبات الحبة تكون في حميل السيل، فقال رجل من القوم: كأن رسول الله ﷺ كان بالبادية[4]، وهكذا أخرجه مسلم في كتابه الصحيح.

قوله -تبارك وتعالى: لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يَحْيَىَ المقصود بهذا: أنه لا يموت فيستريح، ولا يحيا حياة معتبرة أو حياة ينعم فيها، أو يجد فيها طعم الحياة، والناس تعبر بمثل هذا، تقول فلان ليس بحي ولا ميت، يعني: يقال لمن كان في غيبوبة مثلاً، مع أنه حي لكن ليس بحيٍّ الحياة التي ينتفع بها، ولا بميت، وهكذا من اشتد به المرض وإلا فإن أهل النار كما هو معلوم لا يموتون، وقوله هنا بالحديث: فجيء بهم ضبائر ضبائر يعني: جمع ضبارة، أي: جماعات في تفرقة، يقول: فينبتون فيها نبات الحبةالحبة، فسر هذا بزرع البقول، وحب الرياحين، وقيل نبتة صغيرة تكون بين الحشائش، وفي حميل السيل، يعني: ما يحمله السيل من قش وشوائب وما أشبه ذلك، ينبتون كما تنبت الحبة، أحياناً تنبت نبتة خضراء صغيرة منثنية، صغيرة ضعيفة ثم بعد ذلك تبدأ شيئاً فشيئاً تنمو وترتفع، فهذا الصحابي يقول: كأن رسول الله ﷺ كان بالبادية؛ لأن هذه من الأشياء التي يراها الناس في البادية، يعني: وصفَ ذلك وصفاً دقيقاً.

وقوله تعالى: وَمَن يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصّالِحَاتِ، أي: ومن لقي ربه يوم المعاد مؤمن القلب قد صدق ضميره بقوله وعمله فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدّرَجَاتُ الْعُلَىَ، أي: الجنة ذات الدرجات العاليات، والغرف الآمنات، والمساكن الطيبات، روى الإمام أحمد عن عبادة بن الصامت عن النبي ﷺ قال: الجنة مائة درجة ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض، والفردوس أعلاها درجة، ومنها تخرج الأنهار الأربعة، والعرش فوقها، فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس[5] ورواه الترمذي.

وفي الصحيحين: إن أهل عليين ليرون من فوقهم كما ترون الكوكب الغابر في أفق السماء لتفاضل ما بينهم قالوا يا رسول الله: تلك منازل الأنبياء؟ قال: بلى، والذي نفسي بيده رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين[6]، وفي السنن: وإن أبا بكر وعمر لمنهم وأنعما[7].

 وقوله: جَنّاتُ عَدْنٍ، أي: إقامة، وهي بدل من الدرجات العلى، تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا، أي: ماكثين أبداً، وَذَلِكَ جَزَاءُ مَن تَزَكّىَ، أي: طهر نفسه من الدنس والخبث والشرك، وعبد الله وحده لا شريك له، واتبع المرسلين فيما جاءوا به من خبر وطلب.

وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَىَ مُوسَىَ أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لاّ تَخَافُ دَرَكاً وَلاَ تَخْشَىَ ۝ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مّنَ الْيَمّ مَا غَشِيَهُمْ ۝ وَأَضَلّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَىَ[سورة طه:77-79]

يقول تعالى مخبراً أنه أمر موسى حين أبى فرعون أن يرسل معه بني إسرائيل أن يسري بهم في الليل، ويذهب بهم من قبضة فرعون، وقد بسط الله هذا المقام في غير هذه السورة الكريمة، وذلك أن موسى لما خرج ببني إسرائيل أصبحوا وليس منهم بمصر لا داع ولا مجيب، فغضب فرعون غضباً شديداً، وأرسل في المدائن حاشرين، أي: من يجمعون له الجند من بلدانه ورَساتيقه، يقول: إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ ۝ وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ[سورة الشعراء: 54، 55]، ثم لما جمع جنده واستوثق له جيشه، ساق في طلبهم فأتبعوهم مشرقين، أي: عند طلوع الشمس فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ [سورة الشعراء:61]، أي: نظر كل من الفريقين إلى الآخر، قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ، ووقف موسى ببني إسرائيل البحر أمامهم، وفرعون وراءهم، فعند ذلك أوحى الله إليه فََاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً فضرب البحر بعصاه وقال: انفلقْ عليّ بإذن الله، فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لاّ تَخَافُ دَرَكاً، أي: من فرعون وَلاَ تَخْشَىَ، يعني: من البحر أن يغرق قومك، ثم قال تعالى: فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مّنَ الْيَمّ، أي: البحر مَا غَشِيَهُمْ، أي: الذي هو معروف ومشهور وهذا يقال عند الأمر المعروف المشهور، كما قال تعالى: وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى ۝ فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى [سورة النجم:53، 54].

بعضهم يقول: فَغَشِيَهُم مِّنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ مما قد علمتم أن الأمر المعلوم يقال فيه ذلك، ولكن يبقى أن مثل هذا له دلالة وهو التعظيم والتهويل، فهذا التعبير بالاسم الموصول المبهم، يعني: ما قال فغشيهم اليم، وإنما قال: فَغَشِيَهُم مِّنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ، فأبهم الاسم الموصول، فهذا أبلغ وأكثر وقعاً في النفوس، وكقوله -تبارك وتعالى- أيضاً في الاستفهام الْحَاقَّةُ ۝ مَا الْحَاقَّةُ [سورة الحاقة:1، 2]، فهذا أبلغ وأشد وقعاً في النفوس في مقامات الوعيد، أو في مقام التعظيم للجزاء ونحو ذلك فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى، ديار قوم لوط غشاها ما غشى من الحجارة، لكن إذا قال: فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى يكون هذا أكثر تأثيراً ووقعاً.

وكما تقدمهم فرعون فسلك بهم في اليم، فأضلهم وما هداهم إلى سبيل الرشاد، كذلك يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ[سورة هود:98].

قوله -تبارك وتعالى: وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى، فإنه لم يهدهم، وهذا لا شك أن فيه من التأكيد ما فيه بأنه ضلال محقق لا يحتمل الهدى بوجه من الوجه، يعني –أحياناً- قد يكون الشيء فيه ضلال من ناحية وفي مضامينه هدى من وجه آخر مثلاً، أو خير أو نحو هذا، وقوله : وَمَا هَدَى، قد يعْقبُ هذا الإضلالَ هدايةٌ بعد ذلك، أما فرعون فهو إلى آخر لحظة حيث كانت النهاية الغرق، وهو يلاحق موسى -عليه الصلاة والسلام- ويريد الفتك به ومن معه، وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى -نسأل الله العافية، فقد تحصل الهداية بعد إضلال الإنسان، ويرجع كما حصل لبعض كبراء المشركين، أضلوا قومهم وقادوهم إلى حرب النبي ﷺ كما فعل أبو سفيان ثم بعد ذلك كانت النهاية الاهتداء، أما هذا فنسأل الله العافية.

يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنجَيْنَاكُمْ مّنْ عَدُوّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطّورِ الأيْمَنَ وَنَزّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنّ وَالسّلْوَىَ ۝ كُلُواْ مِن طَيّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلاَ تَطْغَوْاْ فِيهِ فَيَحِلّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَىَ ۝ وَإِنّي لَغَفّارٌ لّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحَاً ثُمّ اهْتَدَىَ[سورة طه:80-82]

يذكر تعالى نعمه على بني إسرائيل العظام ومننه الجسام؛ حيث أنجاهم من عدوهم فرعون، وأقر أعينهم منه وهم ينظرون إليه وإلى جنده قد غرقوا في صبيحة واحدة لم ينج منهم أحد، كما قال: وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ [سورة البقرة:50]، وروى البخاري عن ابن عباس -ا- قال: لما قدم رسول الله ﷺ المدينة وجد اليهود تصوم عاشوراء، فسألهم فقالوا: هذا اليوم الذي أظهر الله فيه موسى على فرعون، فقال: نحن أولى بموسى فصوموه[8] رواه مسلم أيضاً في صحيحه.

ثم إنه تعالى واعد موسى وبني إسرائيل بعد هلاك فرعون إلى جانب الطور الأيمن وهو الذي كلمه الله تعالى عليه وسأل فيه الرؤية وأعطاه التوراة هنالك، وفي غضون ذلك عبد بنو إسرائيل العجل كما يقصه الله تعالى قريباً، وأما المن والسلوى فقد تقدم الكلام على ذلك في سورة البقرة وغيرها، فالمن حلوى كانت تنزل عليهم من السماء، والسلوى طائر يسقط عليهم فيأخذون من كلٍّ قدرَ الحاجة إلى الغد، لطفاً من الله ورحمة بهم وإحساناً إليهم، ولهذا قال تعالى: فَيَحِلّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي، أي: أغضب عليكم، وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَىَ،قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس -ا: أي فقد شقي.

في قوله -تبارك وتعالى: وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ كما قلنا: الجبل ليس له أيمن ولا أيسر وإنما ذلك بحسب من يحتف به أو يمر بجانبه، يعني على يمينه، والمواعدة هنا وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ من أهل العلم من يقول: المواعدة كانت لموسى -عليه الصلاة والسلام، ولما كانوا أتباعاً له أضاف ذلك إلى المجموع، وَوَاعَدْنَاكُمْ، وبعضهم يقول: إن الله وعد موسى -عليه الصلاة والسلام- وهم معه بحيث يسمعون الله -تبارك وتعالى- يناجيه، ولما كان موسى -عليه الصلاة والسلام- هو مقدمهم وإمامهم ونبيهم واعده الله -تبارك وتعالى- من أجل أن يناجيه فأضاف ذلك إلى المجموع، والله تعالى أعلم.

وقوله -تبارك وتعالى: وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى يعني: في التيه الذي حصل لهم كما هو معلوم، كان يظللهم الغمام وأنزل الله عليهم المن والسلوى، وكثير من المفسرين يفسرون المن بالترنجبين، وهو مادة صمغية بيضاء تنزل أشبه بالنداء على الأشجار يكون مثل العسل الأبيض، حلو الطعم ولا زال يعرف إلى اليوم، ويوجد شيء يباع يسمى بالمن في بعض أماكن الحلويات موجود في مكة يأتون به من العراق، وأهل العراق يعرفونه.

والأقرب أن المن هو كل ما يحصل للإنسان من غير كده وتعبه، ولهذا قال النبي ﷺ: الكمأة من المن[9]، والكمأة تخرج من غير عمل الإنسان، ويدخل فيه الترنجبين إلى غير ذلك، وأما السلوى فكثير من المفسرين يقولون: هو طائر وهذا هو الراجح، وبعضهم يقول: هو السُّمانا، وبعضهم يقول: يشبه السُّمانا.

وقوله: وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي قراءة الكسائي: {فيَحُلّ عليكم غضبي ومن يحْلُل عليه غضبي فقد هوى} يحُل، يعني: ينزل بكم، حلّ يحُل، أي: نزل، وفي قراءة الجمهور: {فيحِل، ومَن يحلِل}، يعني: فيجب، وقد يقال: إن القراءتين ترجعان إلى معنى واحد؛ لأن بعضهم يقول: هما لغتان، إذا تأملت في المعنى الثاني الذي ذكروه حلّ يحِل، قالوا بمعنى: يجب، فإن الوجوب يأتي بمعنى السقوط، فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا [سورة الحج:36]، يعني: وقعت على الأمر، فيرجع إلى المعنى الأول، وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى، يعني: صار إلى الهاوية، كما قال : فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ [سورة القارعة:9]، ليس المقصود أمه يعني والدته، فالحاصل أن عاقبته إلى الخسران.

وقوله: وَإِنّي لَغَفّارٌ لّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحَاً، أي: كل من تاب إليّ تبت عليه من أي ذنب كان، حتى إنه تاب تعالى على من عبد العجل من بني إسرائيل، وقوله تعالى: تَابَ، أي: رجع عما كان فيه من كفر أو شرك أو معصية أو نفاق، وقوله: وَآمَنَ، أي: بقلبه، ثم اهتدى قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس -: أي ثم لم يشكك، وقال قتادة ثُمّ اهْتَدَىَ أي: لزم الإسلام حتى يموت، وثم هاهنا لترتيب الخبر على الخبر، كقوله: ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ.

قوله -تبارك وتعالى: وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى ما ذكره الحافظ ابن كثير -رحمه الله- في تعميم معنى التوبة هو الأحسن والأقرب -والله تعالى أعلم، وبعضهم يقيد ذلك بقوله: لِّمَن تَابَ، أي: من الإشراك، وَآمَنَ، أي: أخلص ووحد الله -تبارك وتعالى، كما قال ابن جرير -رحمه الله، ثُمَّ اهْتَدَى، يعني: لزم الصراط المستقيم، كما يقال: حسن إسلامه، فيلزم الجادة، ويراعي حدود الله -تبارك وتعالى، ولا يكون ذلك في مدة ثم بعد ذلك يرجع ويترك ما هو فيه من العمل أو الإيمان أو نحو ذلك.

ثُمَّ اهْتَدَى استقام سيره وصح سلوكه على الصراط المستقيم، ويقول: "لترتيب الخبر على الخبر"، يعني: لا بمعنى أن ذلك يكون بحسب الوقوع، هذا معنى ترتيب الخبر على الخبر، الترتيب: لا ترتيب الحصول والوقوع، بمعنى: ليس المقصود ثُمَّ اهْتَدَى التعقيب والتراخي، آمن، تاب وآمن، عمل صالحاً ثم اهتدى، إذا قلنا: ثم هنا للترتيب والتعقيب مع التراخي في الوقوع، فيكون الاهتداء يحصل بعد هذا كله، وليس هذا مقصوداً، وإنما المقصود أن هذا الإنسان يتصف ويتحقق بهذه الصفة مع الإيمان، والعمل الصالح، كما قال الله : ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ [سورة البلد:17]، يعني: ومع ذلك يكون بهذه الصفة، هذا معنى ترتيب الخبر على الخبر، يعني لا ترتيب الوقوع.

وصلى الله على محمد.

  1. أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، للعلامة الشنقيطي (4/66- 67).
  2. أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، للعلامة الشنقيطي (4/63).
  3. أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، للعلامة الشنقيطي (4/65).
  4. رواه مسلم، كتاب الإيمان، باب إثبات الشفاعة وإخراج الموحدين من النار، برقم (185)، وأحمد في المسند برقم (11077)، وقال محققوه: إسناده صحيح على شرط مسلم.
  5. رواه الترمذي، كتاب صفة الجنة عن رسول الله ﷺ، باب ما جاء في صفة درجات الجنة، برقم (2530)، واللفظ له، وأحمد في المسند برقم (22087)، وقال محققوه: حديث صحيح، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (1913)، وفي تحقيق مشكاة المصابيح برقم (5617).
  6. رواه البخاري برقم (3083)، عن أبي سعيد الخدري : عن النبي ﷺ قال: إن أهل الجنة يتراءون أهل الغرف من فوقهم كما تتراءون الكوكب الدري الغابر في الأفق من المشرق أو المغرب لتفاضل ما بينهم، قالوا: يا رسول الله تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم؟ قال: بلى، والذي نفسي بيده رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين، ومسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها، باب ترائي أهل الجنة أهل الغرف، برقم (2831).
  7. رواه أبو داود، كتاب الحروف والقراءات، برقم (3987)، من حديث أبي سعيد الخدري ، وأحمد في المسند برقم (11467)، وقال محققوه: صحيح لغيره، وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة برقم (3007).
  8. رواه البخاري، كتاب فضائل الصحابة، باب إتيان اليهود النبي ﷺ حين قدم المدينة، برقم (3727)، ومسلم، كتاب الصيام، باب صوم يوم عاشوراء، برقم (1130).
  9. رواه البخاري، كتاب التفسير، باب وقوله تعالى: وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ[سورة البقرة:57]، برقم (4208)، ومسلم، كتاب الأشربة، باب فضل الكمأة ومداواة العين بها، برقم (2049)، من حديث سعيد بن زيد .

مواد ذات صلة