الجمعة 27 / جمادى الأولى / 1446 - 29 / نوفمبر 2024
[9] من قوله تعالى: {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَىَ آدَمَ} الآية 115 إلى قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَىَ} الآية 126
تاريخ النشر: ٠١ / جمادى الأولى / ١٤٢٩
التحميل: 3416
مرات الإستماع: 16810

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:

قال المؤلف -رحمنا الله وإياه: قال تعالى:

وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَىَ آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً ۝ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدم فَسَجَدُوَاْ إِلاّ إِبْلِيسَ أَبَىَ ۝ فَقُلْنَا يَآدَمُ إِنّ هَذَا عَدُوّ لّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلاَ يُخْرِجَنّكُمَا مِنَ الْجَنّةِ فَتَشْقَىَ ۝ إِنّ لَكَ أَلاّ تَجُوعَ فِيهَا وَلاَ تَعْرَىَ ۝ وَأَنّكَ لاَ تَظْمَأُ فِيهَا وَلاَ تَضْحَىَ ۝ فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشّيْطَانُ قَالَ يَآدَمُ هَلْ أَدُلّكَ عَلَىَ شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لاّ يَبْلَىَ ۝ فَأَكَلاَ مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنّةِ وَعَصَىَ ادَمُ رَبّهُ فَغَوَىَ ۝ ثُمّ اجْتَبَاهُ رَبّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَىَ [سورة طه:115-122] 

روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: إنما سمي الإنسان؛ لأنه عهد إليه فنسي، وكذا رواه علي بن أبي طلحة عنه، وقال مجاهد والحسن: تَرَك.

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فقوله -تبارك وتعالى: وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَىَ آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً، ذكر هذا بعدما ذكر تكذيب المكذبين بالقرآن والوحي، ومجادلة أو مكابرة المشركين في ذلك كله، فقال -تبارك وتعالى- بعده: وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَىَ آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ

وقال بعض أهل العلم: إن العصيان الذي يقع من بني آدم قد وقع لأبيهم، وذلك وجه المناسبة بين هذه الآية وبين ما قبلها، ومنهم من يقول غير ذلك، لكن المراد بقوله: وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَىَ آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ أن الله -تبارك وتعالى- نهاه عن أكل الشجرة، وعهد إليه بذلك فنسي، وهذا النسيان يحتمل معنيين -وهما المعنيان اللذان تأتي لهما هذه المفردة- فيحتمل أن يأتي بمعنى الذهول عن المعلوم، ويحتمل أن يأتي بمعنى الترك.

وإذا أضيف ذلك إلى الله فهو دائماً بمعنى الترك، إذا كان ذلك مثبتاً نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ [سورة الحشر:19]، مع قوله -تبارك وتعالى: لَّا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنسَى [سورة طه:52]، فالمنفي المراد به الذهول عن المعلوم، ذهاب المعلوم من الذهن، يقال: نسيت المسألة، نسيت الكتاب، ويأتي بمعنى الترك نَسُوا اللَّهَ، أي: فأعرضوا عنه وتركوا طاعته، فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ عاقبهم بأن اشتغلوا بما يضرهم وأقبلوا على ذلك وتركوا ما فيه صلاحهم ونفعهم وفلاحهم ونجاتهم، نَسُواْ اللّهَ فَنَسِيَهُمْ [سورة التوبة:67]، نسيهم في النار، تركهم في النار، وهكذا تركهم من رحمته في الدنيا وفي الآخرة.

وقول ابن عباس -ا: "إنما سمي الإنسان؛ لأنه عهد إليه فنسي"، يُشعر بأنه يريد بذلك الذهول عن المعلوم، وهذا ليس محل اتفاق أن الإنسان قيل له إنسان بهذا السبب، وقيل: هذا من الأنس.

ويقول الحافظ -رحمه الله: "وكذا رواه علي بن أبي طلحة عنه، وقال مجاهد والحسن: تَرَك"، هذا المعنى الثالث، ترك، ترك هذا العهد الذي عهد إليه وهو النهي عن أكل الشجرة، فأكل منها، واختلف السلف في تفسيره فمنهم من يفسره بهذا، ومنهم من فسره بهذا، وتفسيرهم بالترك هو الأقرب ولا إشكال فيه، وأما تفسيره بالنسيان الذي هو بمعنى الذهول -يعني: المعنى المتبادر للنسيان الشائع الأكثر استعمالاً، وهو خلاف قول الجمهور في هذه الآية، فالجمهور على الأول.

تفسيره على الذهول وذهاب المعلوم لا يخلو من إشكال، وذلك أن يقول قائل: كيف يؤاخذ على النسيان؟! موسى -عليه الصلاة والسلام- يقول للخضر، بل قبل ذلك غلام موسى -عليه الصلاة والسلام- يقول له: فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ [سورة الكهف:63]، وموسى -عليه الصلاة والسلام- حينما سأل واعترض على خرق السفينة وأنكر عليه ذلك الخضر، قال له: لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ [سورة الكهف:73]، والله يقول في القرآن: رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا [سورة البقرة:286]، وفي الحديث القدسي أن الله -تبارك وتعالى- قال: قد فعلت[1]، والإشكال هو أنه إذا فسر النسيان بهذا الاعتبار وبهذا المعنى كيف يؤاخذ على هذا ويعاقب ويخرج من الجنة؟

وجواب أصحاب هذا القول عن هذا الإشكال والرد عليهم أنهم يقولون: إن وضع النسيان وعدم المؤاخذة عليه إنما هو في شرع هذه الأمة، وهذا من التخفيف عليهم، وأما الأمم السابقة فكانوا يؤاخذون بذلك، ويرد عليهم بأن ظواهر الآيات إذا جُمعت وما حصل من وسوسة الشيطان هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَّا يَبْلَى، مع قول الله لآدم -عليه الصلاة والسلام: إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى حذره من هذا كله، وهذا بعيد إذ كيف يحصل له النسيان الذي هو الذهول عن المعلوم مع هذه التحذيرات؟

والأقرب -والله أعلم- أن ذلك يراد به الترك، ترك ما عهد الله به إليه فأكل من هذه الشجرة، قال: وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا [سورة طه:115]، والعزم بمعنى توطين النفس على الشيء والتصميم عليه، بمعنى أن العزم هو القصد، قصد القلب المصمم يقال له عزم؛ لأن الإرادات التي تحصل من الإنسان انبعاث النفس، وإرادتها على درجات متفاوتة، فتارة يكون الشيء خاطراً، يعرض للإنسان ثم بعد ذلك ما يلبث أن يُدفع أو يضمحل ويتلاشى، وتارة يبقى ويستقر ويتغلغل فيكون فكرة، وإذا ثبت صار عقيدة، فإذا أقبل على الشيء وأراد الفعل أو الترك وليس بمجرد الإرادة الضعيفة التي يحصل فيها شيء من التردد فإن ذلك يكون عزماً، فإن كان ضعيفاً بأول الإرادة فهو الذي يقال له الهَمّ، هَمّ بكذا، هممت أن أسافر، وتقول: عزمت على السفر، بمعنى القصد المصمم، وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا.

وبعضهم فسره بالصبر، وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا وبين المعنيين نوع ارتباط فإن الذي يعزم على الشيء لابد له من الصبر حتى يحققه، فإن عزم على الترك فلابد له من الصبر حتى يتجنبه، وشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- يقول: إن الإنسان قد يعزم على الشيء لكنه إذا وقع ذلك لا يصبر، وقد يعزم على الصبر على المصيبة، فإذا وقعت المصيبة لم يصبر، وهكذا في التكاليف الشاقة، كبني إسرائيل إِذْ قَالُواْ لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ [سورة البقرة:246]، فلما قال لهم ما قال، قَالُواْ وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَآئِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْاْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ [سورة البقرة:246]، ثم بعد ذلك ما لبثوا حتى تساقط مجموعة أخرى اعترضوا على أن يكون هذا الملك هو طالوت، ثم بعد ذلك ما لبث أن سقط مجموعة منهم حينما ابتلوا وامتحنوا بالنهر، مع أنهم كانوا قد عزموا في البداية، والله -تبارك وتعالى- عاتب المؤمنين فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ ۝ كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ [سورة الصف:2، 3].

وفي الأشهر من أقوال المفسرين فيها والتي تدل عليها رواية سبب النزول: أن الذي قالوه هو أنهم تمنوا أن يعرفوا أحب الأعمال إلى الله حتى يفعلوه، فلما أخبروا أنه الجهاد تثاقلوا وتباطئوا، وهكذا أولئك الذين قالوا: رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ [سورة النساء:77]، وكان يقال لهم: كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً [سورة النساء:77].

وهكذا في قوله -تبارك وتعالى: وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِن قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ [سورة الأحزاب:15]، قيل: بنو سلمة وبنو حارثة لما حصل لهم التراجع في يوم أحد ندموا على ذلك وعزموا على الصبر وعدم الفرار، والعزم على الشيء قد ينكسر وينثني إذا جاء الجد، فبين المعنيين ارتباط، فلا يمكن أن يتحقق ما عزم عليه إلا إذا وطن نفسه على الصبر، فإن الصبر هو السبيل إلى تحصيل المطلوب، وإلى توقي واجتناب المحظور، ولذلك لا يُحتاج إلى ترجيح بين القولين، وابن قتيبة يقول: وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا، أي: ولم نجد له رأياً معزوماً عليه، وهذا لا ينافي ما سبق، فالنهي عن أكل الشجرة ثم أكله منها يدخل فيما ذكر، والله أعلم.

وقوله: وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدم يذكر تعالى تشريف آدم، وتكريمه وما فضله به على كثير ممن خلق تفضيلاً، وقد تقدم الكلام على هذه القصة في سورة البقرة، وفي الأعراف، وفي الحجر، والكهف، وسيأتي في آخر سورة ص، يذكر تعالى فيها خلْق آدم وأمْره الملائكة بالسجود له تشريفاً وتكريماً، ويبين عداوة إبليس لبني آدم ولأبيهم قديماً، ولهذا قال تعالى: فَسَجَدُوَاْ إِلاّ إِبْلِيسَ أبى، أي: امتنع واستكبر، فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنّ هَذَا عَدُوّ لّكَ وَلِزَوْجِكَيعني حواء -عليهما السلام، فَلاَ يُخْرِجَنّكُمَا مِن الْجَنّةِ فَتَشْقَىَ، أي: إياك أن تسعى في إخراجك منها فتتعب وتعنى، وتشقى في طلب رزقك، فإنك هاهنا في عيش رغيد هنيء بلا كلفة ولا مشقة، إِنّ لَكَ أَلاّ تَجُوعَ فِيهَا وَلاَ تَعْرَىَ.

قوله: فَلاَ يُخْرِجَنّكُمَا مِن الْجَنّةِ فَتَشْقَىَ من المعلوم أنه إذا ذُكر شيئان فالضمير بعدهما يعود على واحدٍ منهما لمعنى من المعاني، مثل: وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا [سورة الجمعة:11]، قيل: إن التجارة هي المقصودة وليس اللهو الذي كان معها، وقيل: ضربُ الطبل إذاناً بوصولها، هكذا قال كثير من المفسرين، والشاهد أنه أعاد الضمير إلى واحد، فقال: فَلاَ يُخْرِجَنّكُمَا مِن الْجَنّةِ فَتَشْقَىَ ولم يقل: فتشقيا، أو تشقيان، باعتبار أن الكسب والكد وطلب الرزق، والحرث يقوم به الرجل، والمرأة في خدرها، فالعمل موكول بالرجل.

فَلاَ يُخْرِجَنّكُمَا مِن الْجَنّةِ هذا العيش الرغيد الذي لا يحتاج منكم إلى سعي في طلبه وتحصيله، ولا كدٍّ، ولا زرع، ولا طحن، ولا عجن، ولا ذهاب ومجيء وبيع في الأسواق، فَتَشْقَىَ، يشقى الرجل في الخروج من بيته في طلب الرزق، والمرأة تبقى في خدرها لا تخرج، فنسب الشقاء إليه.

ومن هذه الآية استنبط بعض أهل العلم -كالقرطبي -رحمه الله- أن نفقة المرأة تجب على الرجل كان أباً، أو زوجاً، وهذا استنباط دقيق، وهذه الآية هي من القصص القرآنية، وما سيقت من أجل تقرير حكم ابتداء، يعني: ليست من آيات الأحكام التي هي صريحة في ذلك، وكثير ممن كتبوا في أحكام القرآن يقتصرون على خمسمائة آية، كما فعل مقاتل بن سليمان المتوفي سنة 150هـ، تفسير الخمسمائة آية، التي هي الآيات الصريحة في تقرير الأحكام، وفي قصص الأنبياء تجد أحكاماً.

وهذا الدرس يُعلَّق فيه على ما يحتاج إلى تعليق، وتوجيه وجمع بين الأقوال، وللمناسبة في هذا العصر وهذه الاستفزازات للمرأة والدعوة إلى الاختلاط، ويقال: هذه هي الفطرة الإنسانية، وما جبل الله عليه الخليقة، حيث ركب الرجل بهذا التركيب من الصبر، والتحمل للكد والسعي والعمل على طلب الرزق، والمرأة تبقى مصونة محفوظة، وجعل فيه الغيرة عليها، فهي عورة وإذا خرجت استشرفها الشيطان، أي همّ بها أو أغرى بها وزينها للناظرين، فينبغي أن تبقى محفوظة بعيدة عن أنظار الرجال، تربي الصغير، وتقوم على المريض، وتهيئ الدار لزوجها وشريك حياتها، فإذا جاء وجد كل شيء قد هُيئ، فيجد راحة البال في بيته إذا رجع إليه من أعماله الشاقة.

وأما إذا استفزت المرأة المسكينة للعمل، وخرجت وصارت أجيرة تكدح وتسعى هي وزوجها، ولربما هي التي تسعى وتكدح والزوج جالس في البيت، فإن ذلك يفسد نظام الحياة، من تحميل المرأة ما لا تحتمل، ومن إفساد الجيل والنشء حيث لا يتلقون التربية، وهؤلاء هم الرصيد الحقيقي للأمة ولمستقبلها، فيربيهم الخدم، لا يربونهم على الدين ولا على القيم، ولا على الفضائل، ويحصل من الاضطرابات في الحياة الأسرية من جهات متعددة، هذه المرأة المسكينة يحصل لها من القلق والضعف والتوتر والانشغال مما يدفع ضريبته هذا الزوج البائس المسكين، وهم إنما يفعلون ذلك من أجل أن لا تبقى حبيسة في الدار، ويؤتى باثنتين على الأقل أو ثلاث واحدة تطبخ وتربي، وواحدة تخدم وتكنس، وسائق يذهب ويجيء، هذا في أقل الحالات، وربما يأتي بمربية، أو بأكثر من سائق.

وفي بعض التقارير في بعض المنظمات التابعة للأمم المتحدة أن المرأة العاملة في البلاد التي تعمل فيها المرأة تكون عبئاً على اقتصاد البلد بنسبة أربعين بالمائة، وهؤلاء يعرفون هذا الكلام جيداً، هؤلاء الذين يطالبون ويكتبون ويتبجحون في كل مناسبة وبدون مناسبة، يطالبون بخروج المرأة، ويوجد من يلقنهم أن الحرام الخلوة وليس الاختلاط، ويحتجون بأشياء كالطواف وبالمسجد النبوي، ما شاء الله تبارك الله، وللأسف كل هذا يلقى رواجاً في مثل هذه الأيام، تقحم المرأة إقحاماً؛ من أجل أن تخرج وتشقى، والله  يقول: فَلاَ يُخْرِجَنّكُمَا مِن الْجَنّةِ فَتَشْقَىَ، والآن يريدون أن يشقوها معه أيضاً، والمرأة مسكينة تصدق هذا الكلام، وتخرج من أجل أن يكون لها قيمة، وأن يكون لها دور في المجتمع ما يبقى نصف المجتمع معطل، وصار حتى الدعاة يضطرون عند الكلام على هذه القضية أن يقولوا: لا يا امرأة، أنتِ لكِ دور ريادي، ودور مهم، وأنتِ لكِ دور قيادي لا يستهان به، فأنتِ التي تحضنين وتربين وتنشئين، ونصف المجتمع، تخرج القادة على يدك والعلماء والكبراء والملوك.

الأم مدرسة إذا أعددتها أعددت شعباً طيب الأعراقِ

وراء كل رجل عظيم امرأة، ويقولون لها كلاماً؛ لأن هذا الكلام يدغدغ مشاعرها، ويصل إلى الأعماق، وهي ضعيفة مسكينة، فإذا قالوا لها: أنتِ نصف المجتمع، محبوسة في البيت، ما تخرجين، أنتِ طاقة معطلة تأثرت، فيضطر الدعاة أن يقولوا: لا، أنتِ مهمة، من قال إنكِ مهضومة أو مكسورة الجناح، ولكِ دور قيادي وريادي، الإنسان الذي هو واثق من نفسه، وعارفٌ نفسه لا يحتاج أن يقال له هذا الكلام، والله المستعان، فَلاَ يُخْرِجَنّكُمَا مِن الْجَنّةِ فَتَشْقَىَ.

قال تعالى: إِنّ لَكَ أَلاّ تَجُوعَ فِيهَا وَلاَ تَعْرَىَ إنما قرن بين الجوع والعُرْي؛ لأن الجوع ذل الباطن، والعُرْي ذل الظاهر، وَأَنّكَ لاَ تَظْمَأُ فِيهَا وَلاَ تَضْحَىَ وهذان أيضاً متقابلان، فالظمأ حر الباطن وهو العطش، والضحى حر الظاهر.

ضحا فلان فهو ضاحٍ إذا خرج وبرز من حر الشمس، لا يكنّه منها شيء، ولهذا يخرج الحجاج يأتون شعثاً غبراً ضاحين، يعني: للشمس، لا يكنهم منها شيء، فهنا: إِنّ لَكَ أَلاّ تَجُوعَ فِيهَا وَلاَ تَعْرَىَ ۝ وَأَنّكَ لاَ تَظْمَأُ فِيهَا وَلاَ تَضْحَىَ، الجوع والعري بينهما ارتباط، فالجوع ذل الباطن، والعري ذل الظاهر، وَأَنّكَ لاَ تَظْمَأُ فِيهَا وَلاَ تَضْحَىَ فالظمأ يعني حرارة العطش، وَلاَ تَضْحَىَ التعرض لحر الشمس، الخروج إليها، هذا حرارة الظاهر، فجمع بين هذا وهذا، وقوله -تبارك وتعالى: وَجَزَاهُم بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا [سورة الإنسان:12]، فالجنة فيها معنى السعة وفيها معنى البرودة، والحرير فيه معنى الليونة والنعومة، وَجَزَاهُم بِمَا صَبَرُوا فلما كان الصبر فيه من الحرارة، وفيه خشونة وفيه ضيق وحبس للنفس.

والصبرُ مثل اسمه مُرٌّ مذاقه لكن عواقبه أحلى من العسل

قابل ذلك بهذه الأمور وَجَزَاهُم بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا السعة مكان الضيق، والبرودة مكان حرارة الصبر، وليونة الحرير مكان خشونة الصبر، وهذا المعنى ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله.

وقوله: فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشّيْطَانُ قَالَ يَآدَمُ هَلْ أَدُلّكَ عَلَىَ شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لاّ يَبْلَىَ قد تقدم أنه دلاهما بغرور، وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ [سورة الأعراف:21]، وقد تقدم أن الله تعالى عهد إلى آدم وزوجه أن يأكلا من كل الثمار ولا يقربا هذه الشجرة المعينة في الجنة، فلم يزل بهما إبليس حتى أكلا منها وكانت شجرة الخلد، يعني التي من أكل منها خلد ودام مكثه، وقد جاء في الحديث ذكر شجرة الخلد، وروى أبو داود الطيالسي عن أبي هريرة يحدث عن النبي ﷺ قال: إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام ما يقطعها وهي شجرة الخلد[2] ورواه الإمام أحمد.

قوله: فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشّيْطَانُ قَالَ يَآدَمُ هَلْ أَدُلّكَ عَلَىَ شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لاّ يَبْلَىَ أصل هذه المادة الوسوسة تقال للصوت الخفي أو الخفيف أو الضعيف، ولهذا يقال لصوت الحلي الذي تلبسه المرأة: وسوسة، وهو الصوت الصادر عنه إذا تحركت المرأة، وهنا سؤال يمكن أن يُطرح وهو أنه كيف وسوس إليه وآدم في الجنة مع أن إبليس قد طرد وأبعد وأخرج؟

فبعض أهل العلم يقول: دخل في صورة الحية، والملائكة لم تتفطن لهذا، وهذا من الإسرائيليات ولا حاجة إليه، ويمكن أن يقال: إنه وسوس لهما وهو خارج الجنة، خاطبهما وهو خارج الجنة.

وقوله: فَأَكَلاَ مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا روى ابن أبي حاتم عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله ﷺ: إن الله خلق آدم رجلاً طوالاً كثير شعر الرأس، كأنه نخلة سَحُوق، فلما ذاق الشجرة سقط عنه لباسه، فأول ما بدا منه عورته، فلما نظر إلى عورته جعل يشتد في الجنة، فأخذت شعرَه شجرةٌ فنازعها، فناداه الرحمن: يا آدم مني تفر؟ فلما سمع كلام الرحمن قال: يا رب لا، ولكن استحياء، أرأيت إن تبت ورجعت أعائدي إلى الجنة؟ قال: نعم، فذلك قوله: فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ[3]، وهذا منقطع بين الحسن وأبي بن كعب، فلم يسمعه منه، وفي رفعه نظر أيضاً.

النخلة السَّحوق يعني النخلة الرفيعة جداً، الطويلة التي لا يوصل إليها، كما في الحديث بأنه كان طوله ستين ذراعاً في السماء.

والكلمات التي تلقاها آدم -عليه الصلاة والسلام- هي قوله -تبارك وتعالى: قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [سورة الأعراف:23]، هذه هي الكلمات، فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ وفي القراءة الأخرى المتواترة: فَتَلَقَّى آدَمَ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٌ

وقوله: فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْءاتُهُمَا سوءات جمع سوءة وهي العورة، وقيل لها سوءة؛ لأن ظهورها وانكشافها مما يسوء الإنسان، وهو أمر لا يَجْمل ولا يحسن لا من جهة الديانة، ولا من جهة الفطرة، ولا من جهة المروءة، ولهذا لما حصل ذلك لآدم -عليه الصلاة والسلام- مباشرة وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ، هذه فطرة، فطر الله الخلق عليها، ولهذا فإن خلافها من التعري هو من عمل الشيطان وخلاف الفطرة، فالله -تبارك وتعالى- يقول: يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا [سورة الأعراف:27]

يَنزِعُ يعني: الشيطان، فهذا التعري الذي يعتبره كثير من الناس تحرراً ومدنية متقدمة متطورة متحضرة هذا خلاف الفطرة، وجهالة، وانتكاس، ورجوع إلى البهيمية، إنما يكون ذلك للحيوانات، وأما الفِطَر فإنها تأبى ذلك، هذا آدم وزوجه في الجنة -عليه الصلاة والسلام- يخصفان عليهما من ورق الجنة، وهنا قال: فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْءاتُهُمَا السوءات جمع مع أن المذكور قبله مثنى، ووجه ذلك أن يقال بأن السوءات جُمع هنا باعتبار أن لكل واحد منهما قبلاً ودبراً، فصار ذلك أربعة، فجمعها بهذا الاعتبار، وقيل: إن ذلك باعتبار أن أقل الجمع اثنان، وهذا مذهب معروف لبعض أهل العلم، هم مختلفون في أقل الجمع هل هو ثلاثة أو اثنان، فبعضهم يقول: اثنان، والجمهور يقولون ثلاثة، بعضهم يقول: اثنان ويحتج لهذا من القرآن بقوله: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ [سورة البقرة:197] أشهر، قالوا: وأشهر الحج: شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة، فهو شهران وعشرة أيام، لكن هذا ليس بصريح؛ لأن الآخرين يقولون: هذا لجبر الكسر، وبعضهم يقول: إلى نهاية ذي الحجة، لكن أصرح من هذا وأوضح قوله -تبارك وتعالى: فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ، بهذا يقول في مراقي السعود:

أقل معنى الجمع في المشتهر اثنان عند الإمام الحِميري

يعني: عند الإمام مالك -رحمه الله، وهذا قول له وجهه، وهو أحد الأجوبة عن ذكر الجمع بعد المثنى في السوءات، لم يقل: فبدت لهما سوءتاهما، وإنما قال: سَوْءَاتُهُمَا، وبعضهم يقول غير هذا.

وقوله: وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنّةِ قال مجاهد: يرقعان كهيئة الثوب، وكذا قال قتادة والسدي.

قوله:وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنّةِ يعني أقبلا أو جعلا يخصفان عليهما من ورق الجنة، يخصفان أي يلصقان عليهما من ورق الجنة، يقال: خصف الورق على بدنه، يعني: ألصقها وأطبقها عليه ورقةً ورقةً، كما يقال في خصف النعل: يخصف نعله، بمعنى أنهما يستتران بهذه الأوراق.

وقوله: وَعَصَىَ َآدَمُ رَبَّهُ فَغَوَىَ ۝ ثُمّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَىَ روى البخاري عن أبي هريرة، عن النبي ﷺ قال: حاج موسى آدم، فقال له: أنت الذي أخرجت الناس من الجنة بذنبك وأشقيتهم؟ قال آدم: يا موسى، أنت الذي اصطفاك الله برسالاته وبكلامه، أتلومني على أمر كتبه الله عليّ قبل أن يخلقني أو قدره الله عليّ قبل أن يخلقني؟ قال رسول الله ﷺ فحج آدم موسى[4]، وهذا الحديث له طرق في الصحيحين، وغيرهما من المسانيد.

قوله:وعَصَىَ َآدَمُ رَبّهُ فَغَوَىَ، أي: بشم من كثرة الأكل من الشجرة، وهذا بعيد، وهذا إنما فعلوه من أجل أن يقرروا أصلهم في هذا الباب، وهو أن الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- لا تقع منهم المعصية، وهم معصومون من المعاصي، والمسألة فيها كلام كثير معروف في كتب العقائد، وعند الأصوليين أيضاً، والخلاف هل تقع المعصية من الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- أو لا؟

فالذين يقولون تقع منهم يحتجون بأدلة منها هذا الدليل وهو من أوضحها وأصرحها عَصَىَ، فإذا أولوا غوى فلا يستطيعون تأويل عصى، ويحتجون بقوله -تبارك وتعالى: لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ [سورة الفتح:2]، فالغفر إنما يكون لذنب يقع، وحينما قيل للنبي ﷺ: تفعل هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك؟! قال: أفلا أكون عبداً شكورا؟[5]، والذين يقولون بوقوع المعصية منهم يقولون: لكن لا يقع منهم الإشراك، ولا تقع منهم الكبائر، ولا الصغائر المدنسة التي يسمونها صغائر الخسة، يعني: التي تسقط المروءات، ولا يصرون على الذنب والمخالفات، بل يبادرون بالتوبة، ولا حاجة لتحريف آيات القرآن من أجل عقيدة أو منهج يعتقدها أحد من الناس وعَصَىَ َآدَمُ رَبّهُ فَغَوَىَ هذه صريحة.

وبعضهم حينما يرى صراحة هذه الآية ممن يقولون إن المعاصي لا تقع من الأنبياء يقولون: هذا قبل أن يكون نبياً، فحينما أكل من الشجرة لم يكن نبياً وقتئذ، وهذه دعوى لا دليل عليها.

والمحاجة بين آدم وموسى لا إشكال أن تقع بعدما توفي موسى -عليه الصلاة والسلام- ولقيه في الملأ الأعلى، والنبي ﷺ لقي الأنبياء، لقي آدم وموسى كما هو معلوم في ليلة المعراج فلا إشكال في هذا، وحصلت المراجعة بينه وبين موسى -عليه الصلاة والسلام- في فرض الصلوات، والمحاجة  التي حصلت، وآدم -عليه الصلاة والسلام- حينما اعتذر بقوله: أتلومني على أمر كتبه الله عليّ قبل أن يخلقني، أو قدره عليّ قبل أن يخلقني؟ هذا ليس من باب الاحتجاج بالقدر على المعايب والمعاصي، وهذا لا يجوز أصلاً أن يحتج الإنسان على المعيبة في الذنب والمعصية بالقدر، وإنما هو من قبيل الاحتجاج بالقدر على المصيبة، والفرق ظاهر أن الإنسان إذا وقع منه الذنب فليس له أن يبرر وقوعه بالذنب فيصر عليه ويبقى محتجاً بالقدر، ولكن من تاب وترك وأقلع، وبقيت آثار هذا الجرم، ثم بعد ذلك عوتب فإن له أن يحتج بالقدر فيقول: هذا أمر قد قضاه الله وكتبه عليّ، فلا داعي لمثل هذه المعاتبة، هو يحتج بالقدر على المصيبة التي حصلت.

قال تعالى: قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوّ فَإِمّا يَأْتِيَنّكُم مّنّي هُدًى فَمَنِ اتّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلّ وَلاَ يَشْقَىَ ۝ وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمَىَ ۝ قَالَ رَبّ لِمَ حَشَرْتَنِيَ أَعْمَىَ وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً ۝ قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَىَ [سورة طه:123-126]، يقول تعالى لآدم وحواء وإبليس: اهبطوا منها جميعاً، أي: من الجنة كلكم، وقد بسطنا ذلك في سورة البقرة.

قال الله -تبارك وتعالى: اهْبِطُواْ [سورة البقرة:36]، ثم قال هنا: اهْبِطَا مِنْهَا، من أهل العلم من يقول: إن المخاطب هو آدم وحواء، اهْبِطَا، ووجه الجمع مع قوله بعدهبَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوّ بمعنى الذرية فحصل بينهم العداوة والبغضاء والتطاحن والشر كما هو معلوم، وبعضهم يقول: إن قوله: اهْبِطَا مِنْهَالآدم وحواء، وإن قوله: بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوّ يعني أن ذلك مع الشيطان، وبعضهم يقول: إن قوله: قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوّ، يعني أنتما أعداء للشيطان، والشيطان عدو لكما، بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوّ فَإِمّا يَأْتِيَنّكُم، العدو جنس يصدق على الواحد والعدد والكثير، كما قال الشاعر:

بها جيف الحسرى فأما عظامها فبيض وأما جلدها فصليب

بها جيف الحسرى المقصود بها الإبل التي تنقطع في الأسفار من الكلال والتعب يتركها أصحابها تموت، فالشاعر يمدح نفسه أنه يقطع الفيافي والأماكن التي لا يقطعها أحد:

بها جيف الحسرى فأما عظامها فبيض وأما جلدها فصليب

تسلخت منها جلود، وعظامها جمع، وقال: وأما جلدها ولم يقل: وأما جلودها، فقوله: وأما جلدها، أي: الجلود فهو جنس يسقط على الواحد والكثير، ثم يقال: خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ [سورة العنكبوت:44] الأرض مفرد، وهو جنس يصدق على العدد أيْ سبع من الأرضين، وهكذا في مواضع كثيرة، أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاء [سورة النور:31] يعني: أو الأطفال، هو بمعنى الجمع.

بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوّ قال: آدم وذريته، وإبليس وذريته، وقوله: فَإِمّا يَأْتِيَنّكُم مّنّي هُدًى قال أبو العالية: الأنبياء والرسل والبيان، فَمَنِ اتّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلّ وَلاَ يَشْقَىَ قال ابن عباس: لا يضل فيالدنيا ولا يشقى في الآخرة.

الذين قالوا بأن المقصود بقوله: بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوّ يعني مع إبليس قالوا فَإِمّا يَأْتِيَنّكُم مّنّي هُدًى الخطاب للجميع، فيدخل فيه إبليس، بمعنى الذرية أيضاً؛ لأن الجن من ذرية إبليس، وإن لم يكن هذا محل اتفاق، فالكفرة منهم يقال لهم: شياطين.

قوله: وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي، أي: خالف أمري وما أنزلتُه على رسولي، أعرض عنه وتناساه وأخذ من غيره هداه فَإِنّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً، أي: ضنكا في الدنيا، فلا طمأنينة له ولا انشراح لصدره، بل صدره ضيق حرج لضلاله وإن تنعّم ظاهرُه.

قوله: وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي، ذكري مصدر، ويحتمل أن يكون قد أضيف إلى الفاعل، ويحتمل أنه قد أضيف إلى المفعول، ويحتمل أن يكون المعنى أي: لم يذكرني، لم يذكر ربه، لم يذكره بقلبه إذ صار غافلاً، ولم يذكره بلسانه، ولم يذكره بجوارحه بالعمل في طاعته ومرضاته، فَإِنّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً، والقرآن يعبر به بالألفاظ القليلة الدالة على المعاني الكثيرة، فمثل هذه الآية تحتمل المعنيين، ويمكن أن تحمل على هذا وهذا.

يقال: وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي أي: لم يذكرني، فيحصل له من الوحشة والضيق والحرج في الصدر، وتظلم نفسه بقدر ما فيه من الغفلة والإعراض عن ذكر الله ، وهكذا أيضاً من أعرض عن القرآن فلم يقرأه ولم يتدبره ونحو ذلك فإنه يضيق عيشه، وتضيق نفسه، والعلماء -رحمهم الله- بعضهم يقول: إن هذا في الدنيا، وبعضهم يقول: إن هذا في البرزخ، فَإِنّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً الضنك الضيق، هذه المعشية الضنك بعضهم يقول: تحصل له في الدنيا بالوحشة، وما يحصل له من ضيق الصدر، فإنه على قدر ما يحبس الإنسان نفسه عن المعاصي والمخالفات ويحملها على النصب في طاعة الله -تبارك وتعالى- على قدر ما يحصل من الاتساع في الصدر، إذا ضيق الإنسان على نفسه فلم يطلقها ويسرحها في أودية الهلاكة والمعصية اتسع الصدر، فاحبس الجوارح عن المعصية، واحملها على الطاعة يتسع الصدر.

والعجيب أن الناس يطلقون النظر، أو السمع، أو فعل ومقارفة ما لا يليق من أجل تحصيل اللذات، وما علموا أن اللذة تحصل بالكف عن مثل هذا، وأنه على قدر إقباله على هذه الذنوب والمعاصي على قدر ما يحصل له من الألم والانقباض والحسرة والوحشة التي تكون بقلبه، لهذا يقول ابن القيم -رحمه الله: إن في القلب وحشة لا يزيلها إلا الأنس بالله، وفيه حزن لا يذهبه إلا السرور بمعرفته، وفيه فاقة لا يذهبها إلا صدق اللجأ إليه، ولو أُعطي الدنيا وما فيها لم تسد تلك الفاقة أبدا، وهو مجبول على هذا الفقر إلى ربه وخالقه ومولاه -تبارك وتعالى.

وبعضهم يقول: هذا في البرزخ فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى[سورة طه:124]، والسبب الذي حمل هؤلاء على هذا القول هو أنهم يقولون: إن الدنيا نرى فيها من هو في بحبوحة واسعة من المعرضين عن ذكر الله وطاعته والإيمان، ولذاتٍ يتقلب فيها، ونجد من المقبلين على طاعة الله  من يتقلب في ألوان الفقر والمعاناة، والبؤس، والمرض، وما أشبه ذلك، قالوا: إذن هي في البرزخ، وهذه الطريقة التي يقررون بها هذا القول غير دقيقة، والسبب أن الضنك والضيق والحسرة والألم وما أشبه ذلك ليس هو ألم الجوارح، وبؤس الجوارح، إنما هو ألم القلب وضيق النفس، وما يحصل للإنسان من الوحشة وانقباض الصدر.

ولهذا مهما كان الذي فيه هؤلاء المعرضون من النعيم واللذات فإن ذلك ليس هو السعادة والراحة، وإنما السعادة الحقيقية هي في طاعة المعبود ، والإقبال عليه، فهذه السعادة الحقيقية، فهؤلاء نظروا إلى المسألة باعتبار لذات الأبدان لكن هل حياته حياة سعيدة؟ لا، فلا يجد انشراحاً وسروراً ونعيماً حقيقياً، الوحشة تقتلهم، وتلاحقهم بلذاتهم، وهذا شيء مشاهد، ولهذا يقال: إن الحكم المعلق على وصف يزيد بزيادته وينقص بنقصانه، فالإنسان يحصل له من الحسرة والألم، وحرج الصدر وضيقه بقدر ما عنده من الإعراض عن ذكر الله -تبارك وتعالى- والجزاء من جنس العمل، ولهذا تجد الناس يتفاوتون في هذا السرور والراحة، راحة القلب، وطيب العيش، واتساع الصدر، بحسب ما عندهم من هذا المعنى، الإقبال على الله وعبادته، الإقبال على كتابه فهذا هو وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا.

ولهذا ممكن أن يقال: فَإِنّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً أول ما يدخل فيه هو الحياة الدنيا مما ذكرتُ، ولا مانع من أن يدخل في هذا كما يقول الحافظ ابن القيم -رحمه الله: البرزخ، فإن الله قال ذلك وأطلقه، وذكر بعده: وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى فالذي يكون قبل يوم القيامة البرزخ والدنيا، ففي الدنيا له ضيق الصدر، وفي البرزخ يضيق عليه قبره حتى تختلف أضلاعه، والله المستعان.

وابن القيم -رحمه الله- له كلام طويل وجيد في هذا المعنى، فيقول -رحمه الله: "قول الله -تعالى ذكره: وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى فذكْرُه كلامه الذي أنزله على رسوله، والإعراض عنه ترك تدبره والعمل به، والمعيشة الضنك فأكثر ما جاء في التفسير أنها عذاب القبر، قاله ابن مسعود وأبو هريرة وأبو سعيد الخدري وابن عباس، وفيه حديث مرفوع.

وأصل الضنك في اللغة: الضيق والشدة، وكل ما ضاق فهو ضنك، يقال: منزل ضنك، وعيش ضنك، فهذه المعيشة الضنك في مقابلة التوسيع على النفس والبدن بالشهوات واللذات والراحة فإن النفس كلما وسعتَ عليها ضيقت على القلب حتى تصير معيشة ضنكا، وكلما ضيقتَ عليها وسعت على القلب حتى ينشرح وينفسح، فضنك المعيشة في الدنيا بموجب التقوى سعتها في البرزخ والآخرة، وسعة المعيشة في الدنيا بحكم الهوى ضنكها في البرزخ والآخرة، فآثِرْ أحسن المعيشتين وأطيبهما وأدومهما وأشقِ البدن بنعيم الروح ولا تشقِ الروح بنعيم البدن فإن نعيم الروح وشقاءها أعظم وأدوم، ونعيمَ البدن وشقاءه أقصر وأهون، والله المستعان"[6].

وقال -رحمه الله تعالى: قال ابن عباس تكفل الله لمن قرأ القرآن وعمل بما فيه أن لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة ثم قرأ هذه الآية، وقوله: وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى.

فهذا هو الإعراض عن ذكره، فإذا كان هذا حال المعرض عنه فكيف حال المعارض له بعقله أو عقل من قلده، وأحسن الظن به؟ فكما أنه لا يكون مؤمناً إلا من قبِلَهُ وانقاد له، فمن أعرض عنه وعارضه من أبعد الناس عن الإيمان به"[7].

يعني هذا المعرض فكيف بالمعارض، المعترض على أحكام الله ، وشرائعه التي يعارضها بمعقوله وذوقه وهواه؟ والآية الأخرى قوله -تبارك وتعالى: وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [سورة الحشر:19]، فأنساهم أنفسهم، -نسأل الله العافية، بمعنى أنه صار اشتغالهم وكدهم وسعيهم وعملهم فيما يحصل به العطب والهلاك، والبوار، ويصير فرح هذا الإنسان وإقباله وبذله ونفقاته، وذهابه ومجيئه، -نسأل الله العافية، فيما يرديه ويهلكه ويحصل له به البوار في الدنيا والآخرة، هذا إذا أنسى الله العبد نفسه.

وقال -رحمه الله تعالى: "وفسرت المعيشة الضنك بعذاب القبر، والصحيح: أنها في الدنيا وفي البرزخ فإن من أعرض عن ذكره الذي أنزله فله من ضيق الصدر ونكد العيش وكثرة الخوف، وشدة الحرص، والتعب على الدنيا، والتحسر على فواتها قبل حصولها وبعد حصولها، والآلام التي في خلال ذلك ما لا يشعر به القلب لسكرته وانغماسه في السكر، فهو لا يصحو ساعة إلا أحس وشعر بهذا الألم فبادر إلى إزالته بسكر ثانٍ، فهو هكذا مدة حياته، وأي عيشة أضيق من هذه لو كان للقلب شعور فقلوب أهل البدع والمعرضين عن القرآن وأهل الغفلة عن الله وأهل المعاصي في جحيم قبل الجحيم الأكبر، وقلوب الأبرار في نعيم قبل النعيم الأكبر.

إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ ۝ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ [سورة الإنفطار:13، 14]، هذا في دُورهم الثلاث ليس مختصاً بالدار الآخرة، وإن كان تمامه وكماله وظهوره إنما هو في الدار الآخرة، وفي البرزخ دون ذلك كما قال تعالى: وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ [سورة الطور:47]، وقال تعالى: وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ۝ قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ رَدِفَ لَكُم بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ [سورة النمل:71، 72]، وفي هذه الدار دون ما في البرزخ ولكن يمنع من الإحساس به الاستغراق في سكرة الشهوات، وطرح ذلك عن القلب وعدم التفكر فيه"[8].

وقال أيضاً: وفسرت المعيشة الضنك بعذاب القبر ولا ريب أنه من المعيشة الضنك، والآية تتناول ما هو أعم منه وإن كان نكرة في سياق الإثبات فإن عمومها من حيث المعنى، فإنه سبحانه رتب المعيشة الضنك على الإعراض عن ذكره، فالمعرض عنه له من ضنك المعيشة بحسب إعراضه، وإنْ تنعّم في الدنيا بأصناف النعم ففي قلبه من الوحشة، والذل، والحسرات التي تقطع القلوب والأماني الباطلة والعذاب الحاضر ما فيه، وإنما تواريه عنه سكرات الشهوات والعشق، وحب الدنيا والرياسة، إن لم ينضم إلى ذلك سكر الخمر فسكرها -هذه الأمور- أعظم من سكر الخمر، فإنه يفيق صاحبه ويصحو، وسكر الهوى وحب الدنيا لا يصحو صاحبه إلا إذا كان في عسكر الأموات"[9].

يريد أن يقول: إن هذه المعيشة الضنك تشمل الدنيا وتشمل البرزخ، وفي الآخرة في يوم القيامة يحشر بهذه الصفة وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى ۝ قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا ۝ قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى [سورة طه:124-126]، وهذا إذا أردنا الترجيح بين القولين في معنى الذكْر وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي، فإن القرينة تدل على أن المراد به القرآن، ولهذا قال به كثير من أهل العلم سلفاً وخلفاً؛ لأنه قال: كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا، لكن هذا لا يمنع من حمل الآية على المعنيين، -والله تعالى أعلم، كما يقال أيضاً في المعيشة الضنك: إنها في الدنيا وفي البرزخ.

  1. رواه مسلم، كتاب الإيمان، بَابُ بَيَانِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ [البقرة:284]، برقم (126).
  2. رواه أبو داود الطيالسي في مسنده برقم (2670)، وأحمد في المسند برقم (7498)، وقال محققوه: حديث صحيح.
  3. رواه ابن أبي حاتم في تفسيره (5/491) برقم (8326)، وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة برقم (6033).
  4. رواه البخاري، كتاب التفسير، باب فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى [سورة طه:117]، برقم (4461).
  5. رواه البخاري، كتاب التهجد، باب قيام النبي ﷺ حتى تَرِمَ قدماه، برقم (1078)، ومسلم، كتاب في صفات المنافقين وأحكامهم، باب إكثار الأعمال والاجتهاد في العبادة، برقم (2819).
  6. الفوائد، لابن القيم (168-169).
  7. الصواعق المرسلة في الرد على الجهمية والمعطلة، لابن القيم (3/845-846)، تحقيق: علي بن محمد الدخيل الله.
  8. مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين، لابن القيم الجوزيه (1/422-423).
  9. الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي (الداء والدواء) (120).

مواد ذات صلة