الأربعاء 25 / جمادى الأولى / 1446 - 27 / نوفمبر 2024
وقفات مع قوله تعالى: (وإنه لكتاب عزيز)
تاريخ النشر: ٠٣ / جمادى الآخرة / ١٤٣١
التحميل: 20145
مرات الإستماع: 14051

وصف الله - تبارك، وتعالى - كتابه بأوصاف عظيمة جليلة

إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده، ورسوله، صلى الله، وسلم، وبارك عليه، وعلى آله، وصحبه أجمعين، أما بعد:

فسلام الله عليكم، ورحمته، وبركاته.

ينعقد هذا المجلس في هذه الليلة تحت عنوان: وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ [فصلت:41] فهو حديث عن القرآن، وما أحسن الحديث عن القرآن، إن الحديث عنه، والاشتغال به بركة؛ لأنه كتاب مبارك، فأسأل الله أن يجعلنا، وإياكم في هذا المجلس ممن يتدارسون كتاب الله فتحفهم الملائكة، وتغشاهم الرحمة، وتنزل عليهم السكينة، ويذكرهم الله فيمن عنده.

وصف الله - تبارك، وتعالى - كتابه بأوصاف عظيمة جليلة حق على المؤمن أن يتأملها، وأن يتدبرها، وأن يتبصر في معانيها، الله - تبارك، وتعالى - يقول: إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ [الواقعة:77] فوصفه بالكرم، وعبارات المفسرين تقول بأنه الشريف في نفسه، أو في وصف من أوصافه؛ هذا هو الكريم، فالكرم اسم جامع لما يحمد؛ وذلك أن فيه البيان، والهدى، والحكمة، وهو معظَّم عند الله .

والله - تبارك، وتعالى - قد وصف كتابه أيضاً بأنه مجيد: بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ [البروج:21] والمجد هو بلوغ النهاية، ولا يكون إلا في الأمور المحمودة، فذلك يدل على أنه قد بلغ في الشرف غايته، فهو شريف، أشرف من كل كتاب، عالي الطبقة فيما بين الكتب الإلهية في النظم، والمعنى، كما أن ذلك يتضمن معنى آخر، وهو أنه واسع المعاني، عظيمها، كثير الوجوه، كثير البركات، جزيل المبرات، واسع الأوصاف، كما أنه يدل  - يعني المجد - على التناهي في الشرف، والكرم، فهو بيان لما شرعه الله  وبينه من الهدايات، والأحكام.

وقال عنه - تبارك، وتعالى -: وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ [الحجر:87] فوصفه بالعظمة، وهي خلاف الصغر، والتعظيم هو التبجيل، وعظماء القوم هم سادتهم، وكبراؤهم، وأهل الشرف فيهم، فهذا القرآن عظيم له شأن عند الله  وله شأن عند ملائكته؛ ولهذا أنزله الله - تبارك، وتعالى - في اللوح المحفوظ، وأنزله في بيت العزة في سمائنا الدنيا في ليلة القدر. 

وجعله فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ ۝ مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ ۝ بِأَيْدِي سَفَرَةٍ ۝ كِرَامٍ بَرَرَةٍ [عبس:13 - 16] فكل ذلك لمكانته، وعظمه، وشرفه عند الله .

وهكذا وصفه الله - تبارك، وتعالى - في أربعة مواضع بأنه مبارك: كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ [ص:29] والبركة هي: ثبوت الخير، ودوامه، وكثرته، وزيادته، فهذا القرآن كما يقول الحافظ ابن القيم - رحمه الله - هو أحق أن يسمى بذلك من غيره مما يكون فيه البركة، لكثرة خير هذا القرآن، ومنافعه، ووجوه البركة فيه؛ فهو مشتمل على منافع الدارين: منافع الدنيا، ومنافع الآخرة، ففيه كل هدى يُحتاج إليه في النجاة، والخلاص من الضلالة، وفيه كل شفاء من الأدواء الحسية، والمعنوية، وهو نور يستضاء به في الظلمات، وفيه ما يحتاج إليه المكلفون من الأحكام، وفيه من دلائل العقول الصحيحة ما يبهر ذوي الألباب، فهو أجلّ كتاب، وأعظم كتاب.

فوصفه بأنه مبارك، كما يقول ابن عاشور - رحمه الله -: "يعم نواحي الخير جميعاً؛ لأن البركة زيادة الخير، فالقرآن كله خير من كل جهة"[1] ولهذا قال بعض أهل العلم: اشتغلنا بالقرآن فغمرتنا البركات، فمن أقبل على هذا القرآن، وتشاغل به تعلماً، وتعليماً، وتدبراً، وتفهماً، وعملاً غمرته البركات في أوقاته، وفي ماله، وفي ولده، وفي علمه، وفهمه، وما يفتح عليه من ألوان المعارف، والكنوز، والهدايات.

وهكذا قال الله - تبارك، وتعالى - عن هذا القرآن: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ ۝ لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت:41 - 42] فوصفه بالعزة، والعزة تدل على معان مجتمعة؛ كالشدة، والقوة، والغلبة، والرفعة، والامتناع، فلا يكون الشيء عزيزاً إلا أن تجتمع فيه هذه الأوصاف، فمن معنى الغلبة الذي يتحقق في هذا القرآن أنه غالب، ناسخ لسائر الكتب، والشرائع؛ فهو الذي يغلب، ولا يُغلب، وكذلك حُجج القرآن، هذه عبارات المفسرين، ومقالات السلف أجمعها لتنتظم في سلك واحد، فكلها متحقق فيه، ومن معنى المنعة كما يقول كبير المفسرين أبو جعفر بن جرير الطبري - رحمه الله -: "إنه عزيز بإعزاز الله إياه، وحفظه من كل من أراد له تبديلاً، أو تحريفاً، أو تغييراً من إنسي، أو جني، وشيطان مارد"[2] وهو معنى قول من قال كالسدي: "عزيز من الشيطان"[3] وكقول قتادة: "أعزه الله؛ لأنه كلامه، وحفظه من الباطل"[4] فلا يتطرق إليه.

فهذا القرآن بصحة معانيه ممتنع من الطعن فيه، والإزراء عليه، وهو محفوظ من الله - تبارك، وتعالى - وهو نفيس؛ العزة تأتي بمعنى النفاسة، تقول: هذه جوهرة عزيزة، فائدة عزيزة، فهو نفيس، والعزة تأتي بمعنى المنعة، والشيء النفيس يدافع عنه، ويحمى من النبذ، لا ينبذ، وإنما يرفع، ويصان، ويصعب مناله، ووجود مثله، قال الحافظ ابن كثير: أي: منيع الجناب، لا يرام أن يأتي أحد بمثله[5] كما يدل على ذلك قول ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - وأولئك الذين حاولوا أن يحاكوا القرآن، وأن يجاروه، وأن يؤلفوا كلاماً يضاهون به كلام الله - تبارك، وتعالى - صار ذلك سبّة عليهم على مدى الأيام، والليالي، وصار ذلك مبعثاً لضحك العقلاء منهم، ومن جرأتهم، وسفسطتهم. 

  1. التحرير، والتنوير (17/ 90).
  2. تفسير الطبري (20/ 443).
  3. المصدر السابق.
  4. المصدر السابق.
  5. تفسير ابن كثير (7/ 183).
جراءة مسيلمة الكذاب

انظروا إلى جراءة مسيلمة الكذاب، ولا نعرف أحداً إذا ذُكر ذُكر الكذب معه إلا مسيلمة، ولا نعرف أحداً اجترأ جراءته على محاكاة القرآن، يقول فيما يذكر من قرآنه الذي يزعم أنه أوحي إليه به: والليل الأطخم، والذئب الأدلم، والجذع الأزلم، وما انتهكت أسيد من محرم. هذه سورة.

ولما اجتمع بسجاح، وهي متنبئة كذابة على شاكلته، سجاح بنت الحارث، وتزوجها، قالت: ما أُوحي إليك؟ قال: ألم تر كيف فعل ربك بالحبلى، أخرج منها نسمة تسعى، ما بين صفاق، وحشا، قالت: فما بعد ذلك؟ قال: أوحي إلي: أن الله خلق النساء أفواجاً، وجعل لهن أزواجاً، فنولج فيهن قعساً إيلاجاً، ثم نخرجها إذا شئنا إخراجاً، فيُنتجن لنا سخالاً نتاجاً، قالت: أشهد أنك نبي.

أسمعتم سخفاً، وسفسطة، وإسفافاً كهذا؟! وله من الأقوال المفتراة التي يزعم أنها مما أوحي إليه ما هو أسوأ من هذا، وأكثر إسفافاً، أنزه أسماعكم، والمكان عن ذكره، ولما جاء وفده إلى أبي بكر الصديق في حروب الردة، سألهم أبو بكر عما يقول، فذكروا له بعض هذا، فقال أبو بكر : أشهد أن هذا لم يخرج من إلٍّ، أي: من رب.

أراد ابن المقفع أن يعارض كلام الله

وهذا ابن المقفع الأديب المعروف، كان منحرفاً مجترئاً على الله حاول معارضة القرآن، وأن يكتب شيئاً يفتريه ليعارض كلام الله فبينما هو يحاول أن يكتب، خرج من بيته فمر بصبي يقرأ: وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [هود:44] فرجع، ومحا ما كتب قبل أن يخرجه، وقال: أشهد أن هذا لا يُعارَض، وما هو من كلام البشر، هذا ابن المقفع.

اعمل لنا مثل هذا القرآن أيها الفيلسوف

وهذا الكندي الفيلسوف المعروف، قال مريدوه، وتلامذته يوماً: أيها الحكيم، اعمل لنا مثل هذا القرآن، قال: نعم، أعمل مثل بعضه، فاحتجب أياماً كثيرة، ثم خرج، فقال: والله ما أقدر، ولا يطيق هذا أحد، إني فتحت المصحف فخرجت سورة المائدة فنظرت فإذا هو - يقصد في الآية الأولى - قد نطق بالوفاء، ونهى عن النكث، وحلل تحليلاً عامًّا، ثم استثنى بعدَ استثناء، ثم أخبر عن قدرته، وحكمته في سطرين، ولا يقدر أحد أن يأتي بهذا.

ولست بصدد ذكر أقوال الفلاسفة، وشهادة بعض الكفار لهذا القرآن؛ لأني لست بصدد الحديث عن هذا، إنما أذكر أنه لا يمكن لأحد أن يعارضه فقط، وهؤلاء الذين حاولوا باءت محاولاتهم بالفشل على مدى هذه القرون المتطاولة، أربعة عشر قرناً، والتحدي لا زال، هاتوا سورة، سورة واحدة، وتبقى أعناق البشر لهذا التحدي، وأمامه خاضعة منكسرة، لم يستطع أحد أن يرفع رأسه، ويقول: أنا أقبل ذلك، مع ما في العرب من فصاحة، وبيان، وبلاغة، وأنفة، فإذا ذكر التحدي عندهم فإن ذلك يحرك نفوسهم، ويؤزهم أزاً إلى المواجهة، ومع ذلك بقوا عاجزين لم يستطع أحد منهم أن يأتي بسورة واحدة.

من لازم الكتاب العزيز أن يعظم

إذا عرفنا أن هذا الكتاب عزيز، فمن لازم ذلك أنه كما يقول السدي: "ينبغي أن يُعز، ويُجل، وألا يُلغى فيه"[1] ومن ذلك أن تعظَّم أسماؤه، وسوره، وآياته، ولهذا جاء عن ابن المسيب - رحمه الله - أنه قال: "لا تقولوا مصيحف، ولا مسيجد، ما كان من الله فهو عظيم حسن جميل"[2] وهكذا النخعي يقول: "كانوا يكرهون أن يصغروا المصحف، وكان يقال: عظموا كتاب الله"[3]وهكذا ما جاء عن مجاهد - رحمه الله - أنه كان يكره أن يقال: مصيحف، أو مسيجد[4] يقول مكي - رحمه الله - ابن أبي طالب: "ومن حرمته ألا يقال: سورة صغيرة"[5] وكره أبو العالية أن يقال: سورة صغيرة، أو كبيرة، وقال لمن سمعه يقول ذلك: أنت أصغر منها، وأما القرآن فكله عظيم[6] "كتاب عزيز"، وجاء عن خالد بن مهران الحذاء - رحمه الله - أنه قال لمحمد بن سيرين - رحم الله الجميع -: "سورة خفيفة، فقال ابن سيرين: من أين تكون خفيفة، والله تعالى يقول: إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا [المزمل:5] ولكن قل: يسيرة، فإن الله تعالى يقول: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ [القمر:17][7] يحترزون بالألفاظ التي يعبرون بها عن شيء يتصل بكتاب الله - تبارك، وتعالى - .

والقاعدة أنه لا يصح، ولا يجوز أن نصغر الاسم الواقع على ما يجب تعظيمه شرعاً، نحو أسماء الباري - تبارك، وتعالى - وأسماء الأنبياء - عليهم الصلاة، والسلام - وما جرى مجرى ذلك؛ لأن تصغير ذلك يعد غضًّا، هذا ذكره أبو حيان - رحمه الله - .

ومن لازم كون هذا القرآن عزيزًا أنه يجب أن يعظم المصحف، فمن حرمة المصحف كما يذكر أهل العلم كالقرطبي، وغيره أنه إذا وَضع المصحف فإنه لا يتركه منشوراً، يعني إذا فرغ من قراءته، وذهب، وألا يضع فوقه شيئاً من الكتب حتى يكون أبداً عالياً لسائر الكتب علماً كان، أو غيره، بل إن العلماء - رحمهم الله - تكلموا عن ترتيب المكتبة، أين تضع الأدراج، أو الكتب التي تتعلق بالتفسير، ومن حرمته كما يقول القرطبي، وغيره: ألا يُتوسد، أو يعتمد عليه، لا تتكئ على المصحف، ولا يرمي به إلى صاحبه إذا أردا أن يناوله، وقد نقل النووي - رحمه الله - الإجماع - إجماع المسلمين - على وجوب صيانة المصاحف، واحترامها، وأنه يحرم توسدها، بل توسد آحاد كتب العلم الشرعي، وذكر ابن عبد القوي - رحمه الله - أنه يحرم الاتكاء على المصحف، وعلى كتب الحديث، وما فيه شيء من القرآن اتفاقاً.

ونحن نرى حاجة لذكر مثل هذه الأشياء؛ لأننا نرى ممارسات غير لائقة مع كتاب الله تجد بعض طلبة العلم، بعض طلاب الحلق، بعض المصلين في المسجد الحرام في صلاة التراويح، لربما وضعه على الأرض، والناس يذهبون، ويجيئون، ولا يتفطنون، فهذا لربما وطئه من غير قصد، وذاك متسبب، وهذا لربما ضربه برجله من غير قصد، وذاك متسبب، ورأينا من يضع المصحف على نعليه حينما يفرغ من قراءته إذا كان المحل المعد لوضع المصاحف بعيداً عنه، وأقيمت الصلاة، هذا لا يليق، المصاحف يجب أن تعظم، ولربما وضعه في مكان بجوار أقدام المصلين في الصف الذي أمامه، فهذا امتهان، وابتذال لكتاب الله .

  1. انظر: تفسير القرطبي (15/ 367).
  2. انظر: حلية الأولياء، وطبقات الأصفياء (2/ 173)، وسير أعلام النبلاء (4/ 238).
  3. حلية الأولياء، وطبقات الأصفياء (4/ 230).
  4. المصاحف لابن أبي داود (ص: 348).
  5. تفسير القرطبي (1/ 31).
  6. المصدر السابق.
  7. انظر: الدر المنثور في التفسير بالمأثور (7/ 676).
من لازم الكتاب العزيز ألا يكتب على الحيطان

ومن حرمته أنه لا يكتب على الأرض، ولا على الحيطان، لا في المساجد، ولا في غير المساجد، وقد نص على هذا جماعة من أهل العلم كالقرطبي، وغيره، وهو من البدع المحدثة، ورأى عمر بن عبد العزيز - رحمه الله - ولداً له يكتب القرآن على حائط فزجره، وضربه[1] وهكذا حينما يكتب على لوحات للزينة، ولربما على شكل طائر، أو حيوان، ولربما بصورة يصعب قراءته، فكل ذلك لا يجوز، والقرآن ما أنزل من أجل هذا، وقل مثل ذلك أيضاً حينما يوضع بمنزلة نغمة الجوال، فكلما اتصل أحد بدأ القارئ يقرأ، فهذا فيه ابتذال، وامتهان لكلام الله

  1. تفسير القرطبي (1/ 30).
من لازم الكتاب العزيز أن ينصت له

ومن عزته أنه يجب الانصات له، هذا من لازم العزة، أنه إذا قرئ فإن علينا أن ننصت، والله يقول: وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ، وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الأعراف:204] هذه الآية، وإن كان الراجح أنها نازلة في الصلاة، إلا أنه يؤخذ من عموم لفظها أن الإنصات متعين على كل أحد، وهذا هو اللائق مع كتاب الله - تبارك، وتعالى - .

من لازم الكتاب العزيز أن يتأدب معه عند تلاوته

ومن لازم عزته أن يتأدب معه عند تلاوته، قتادة - رحمه الله - من التابعين يقول: "ما أكلت الكراث منذ قرأت القرآن"[1] وهذا مسافر يقول: "سمعت يزيد بن أبي مالك يقول: إن أفواهكم طرق من طرق الله تعالى، فنظفوها ما استطعتم، قال: فما أكلت البصل منذ قرأت القرآن"[2].

وكان أبو العالية الرياحي - رحمه الله - إذا قرأ اعتمّ، لبس عمامة، وارتدى ثيابه، واستقبل القبلة[3]

  1. فضائل القرآن للقاسم بن سلام (ص: 117)، وفضائل القرآن للمستغفري (1/ 195).
  2. تفسير القرطبي (1/ 27). 
  3. المصدر السابق.
من لازم الكتاب العزيز العمل بما فيه

ومن لازم عزته العمل بما فيه، وقد جمع أبو موسى الأشعري القراء، وهم قريب من ثلاثمائة، فعظم القرآن، وقال: "إن هذا القرآن كائن لكم ذخراً، وكائن عليكم وزراً، فاتبعوا القرآن، ولا يتبعكم، فإنه من اتبع القرآن هبط به على رياض الجنة، ومن اتبعه القرآن زج به في قفاه فقذفه في النار"[1].

وجاء عن ابن مسعود : "ينبغي لحامل القرآن أن يعرف بليله إذا الناس نائمون، ونهاره إذا الناس مفطرون، وبورعه إذا الناس يخلطون، وبتواضعه إذا الناس يختالون، وبحزنه إذا الناس يفرحون، وببكائه إذا الناس يضحكون، وبصمته إذا الناس يخوضون"[2] يتميز بسلوكه، وعمله، وحاله.

وقد جاء عن الحسن البصري - رحمه الله -: "الزموا كتاب الله، وتتبعوا ما فيه من الأمثال، وكونوا فيه من أهل البصر، ثم قال:  - رحم الله - عبداً عرض نفسه، وعمله على كتاب الله، فإن وافق كتاب الله حمد ربه، وسأله الزيادة، وإن خالف كتاب الله أعتب نفسه، ورجع من قريب"[3] وجاء عنه: "من أحب أن يعلم ما هو - يعني ما حاله - فليعرض نفسه على القرآن"[4].

وفسر مجاهد بن جبر - رحمه الله - : يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ [البقرة:121] قال: "يعملون به حق عمله"[5] هذا معنى تلاوته حق التلاوة.

وجاء عن الحسن البصري - رحمه الله - أنه قال: "إن هذا القرآن قد قرأه عبيد، وصبيان لا علم لهم بتأويله، إلى أن قال: وما تدبر آياته إلا أتباعه، وما هو بحفظ حروفه، وإضاعة حدوده، حتى إن أحدهم يقول: قد قرأت القرآن كله فما أسقط منه حرفاً، وقد والله أسقطه كله"[6] بمعنى لا يظهر ذلك عليه في خلق، ولا عمل، حتى إن أحدهم ليقول: "إني لأقرأ السورة في نفس واحد، والله ما هؤلاء بالقراء، ولا الحكماء، ولا الورعة، متى كانت القراء تقول مثل هذا؟ لا كثّر الله في الناس مثل هؤلاء" هذا كلام الحسن - رحمه الله - وقد تكلم على هذه المعاني طويلاً الآجري - رحمه الله - في أخلاق حملة القرآن، وأنه ينبغي على حامل القرآن أن يجعل القرآن ربيع قلبه يعمر به ما خرب منه، ويتأدب بآدابه، ويتخلق بأخلاقه فيتميز عن سائر الناس. 

  1. حلية الأولياء، وطبقات الأصفياء (1/ 257).
  2. تفسير القرطبي (1/ 21).
  3. أخلاق أهل القرآن (ص: 39).
  4. المصدر السابق (ص: 41).
  5. تفسير الطبري (2/ 490).
  6. فضائل القرآن للفريابي (ص: 247)، وأخلاق أهل القرآن (ص: 101)، والزهد لنعيم بن حماد (1/ 274).
من لازم الكتاب العزيز الاستغناء به

ومن لازم عزته الاستغناء به، هذه قضية مهمة لابد من التأكيد عليها، والتنبيه، لاسيما لمن يشتغلون بتعليم القرآن، رأيت رجلاً يحمل الدكتوراه في بلد من البلاد الإسلامية قد تخصص في تعليم القرآن للصبيان فسألته عن عمل يعمله يكتسب منه، فقال: لا شيء، إلا أن هؤلاء الصبيان حينما يخرجون من الحلق يخرجون، ويسألون الناس في الطرقات، وما حصلوه جاءوا به، فقلت له: وتأكل من هذه المكاسب الدنية، وتربي هؤلاء الذين يتعلمون القرآن منك على المسألة؟ قال: هكذا أدركنا الناس في بلدنا منذ أكثر من ثمانية قرون، قلت: فبئس ما أدركتم الناس عليه، حامل القرآن يعيش على المسألة؟! ويربي الطلاب بعد قراءة القرآن على السؤال في الشوارع حتى يأتوه بشيء من هذا الحطام القليل؟!.

وقد تكلم أهل العلم على معنى التغني الذي جاء عن النبي ﷺ: ليس منا من لم يتغنّ بالقرآن[1] وقد ذكر الحافظ ابن حجر - رحمه الله - أربعة أقوال في تفسيره: تحسين الصوت، الثاني: الاستغناء به عن الخلق، الثالث: التحزن، الرابع: التشاغل به[2] ينشغل بالقرآن، العرب تقول: غَنِينا بالمكان أي: أقمنا به، يقيم على كتاب الله .

المقصود أن من أهل العلم من فسره بالاستغناء عن الخلق، وهذا قال به أبو عبيد القاسم بن سلام - رحمه الله - الإمام المعروف، توفى سنة مائتين، وأربع، وعشرين للهجرة، وقال به جماعة من السلف كسفيان بن عيينة، وصححه الحافظ ابن كثير، وقال: لكنه ليس المقصود بالحديث، يقول: نعم، ينبغي للإنسان أن يستغني بالقرآن، ولكن ليس هذا هو تفسير قول النبي ﷺ: ليس منا من لم يتغنّ بالقرآن فهؤلاء يقولون: يستغني به عن الناس، وبعضهم يقول: يستغني به عن غيره من الكتب، ما يحتاج إلى كتب مترجمة، ولا يحتاج إلى روايات، ولا يحتاج إلى آراء للبشر، وإنما يستغني بكلام الله عن غيره من سائر الكلام.

وذكر القاضي عياض - رحمه الله - أن القولين منقولان عن ابن عيينة - رحمه الله - يعني يستغني به عن الناس، أو يستغني به عن الكتب، وسائر الكلام.

وأبو عبيد يقول: "يستغني عن الاستئكال به، لا يستأكل بالقرآن، وأن يكون في نفسه بحمله القرآن غنيًّا، ولو كان من المال معدماً"[3].

والحافظ ابن حجر - رحمه الله - يقول: "وعلى هذا يكون المعنى: من لم يستغنِ بالقرآن عن الإكثار من الدنيا (فليس منا) أي: ليس على طريقتنا"[4] والله يقول: وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي، وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ [الحجر:87] انظر ماذا قال بعدها  - وهذا موضع في المناسبة شريف، والله تعالى أعلم - قال: لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ [الحجر:88] يعني: أصنافاً منهم، لا تلتفت إلى المنعمين، إلى الذين مُتعوا بصنوف المتع، واللذات الدنيوية، عندك ما يغني، ويكفي، وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي الفاتحة وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ فيستغني بذلك عما في أيدي الناس، ولا يلتفت إليه، كأنه يقول: ولقد آتيناك عظيماً خطيراً فلا تنظر إلى غيره من أمور الدنيا كما يقول ابن عاشور - رحمه الله -[5].

  1. أخرجه البخاري، كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى: وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ۝ أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ، وَهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ الملك:13 - 14، برقم (7527).
  2. فتح الباري لابن حجر (9/ 70).
  3. فضائل القرآن للقاسم بن سلام (ص: 210).
  4. فتح الباري لابن حجر (9/ 70).
  5. التحرير، والتنوير (14/ 5).
من لازم الكتاب العزيز عدم هجره

ومما يتنافى مع تعظيمه أن يُهجر، أن تهجر تلاوته، أن يهجر تفهمه، أن يهجر تدبره، أن يهجر العمل به، أن يهجر التحاكم إليه، أن يهجر في الاستشفاء، أن يهجر تعليمه، كل هذا من ألوان الهجر، والله يقول: وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا [الفرقان:30] فكل من وقع له لون من هذا فله نصيب من هذا الهجر، وهذه الشكاية، وفيها ما فيها من التخويف، وكل أحد أبصر بحاله.

من لازم الكتاب العزيز عدم تلحينه على طريقة أهل الفسق

ومما يتنافى مع تعظيمه القراءة بالألحان على طريقة لحون أهل الفسق، والغناء، وقد جاء في حديث صححه الشيخ ناصر الدين الألباني - رحمه الله - : بادروا بالأعمال خصالاً ستًّا وذكر منها: ونَشْواً يتخذون القرآن مزامير، يقدمون الرجل ليس بأفقههم، ولا أعلمهم، ما يقدمونه إلا ليغنيهم[1] يقول مالك - رحمه الله - إمام دار الهجرة: "لا تعجبني القراءة بالألحان، ولا أحبها في رمضان، ولا في غيره؛ لأنه يشبه الغناء، ويُضحَك بالقرآن، فيقال: فلان أقرأ من فلان"[2] ولما سئل عن القراءة بالألحان في الصلاة، قال: "لا يعجبني، وإنما هو غناء يتغنون به؛ ليأخذوا عليه الدراهم"[3] وقد كرهها الإمام أحمد - رحمه الله - وقال: "هي بدعة"[4] وقال: "أخذوها من الغناء، لا تسمع منهم"[5].

وذكر ابن الجوزي - رحمه الله - أن تلك الألحان مشابهة للغناء، وأنها إلى التحريم أقرب[6] يعني أقرب منها إلى الكراهة، وقد وصف أبو بكر الطرطوشي - رحمه الله - حال أصحاب الألحان الذين ظهروا في القرن الرابع الهجري، وذكر أن مقصودهم من قراءة القرآن، وسماعه هو الوصول إلى الطرب، والنغمات، والألحان، لا تدبر القرآن، يقول: "وإنما هو للَّذة، والطرب، والنغمات، والألحان، كنقر الأوتار، وأصوات المزامير"[7].

وذكر أن هؤلاء نقلوا القراءة إلى أوضاع لحون الأغاني، القراءة على المقامات التي فشت في هذه الأوقات، وتتابع كثير من القراء على تعلمها، والقراءة على طرائقها، وأوزانها.

وهكذا ذكر ذلك أيضاً الآجري - رحمه الله - في أخلاق حملة القرآن[8] فكره هذه القراءة، وعزا ذلك إلى كثير من أهل العلم كيزيد بن هارون، والأصمعي، بالإضافة إلى من ذكرتُ، وذكروا أن أول من قرأ بالألحان، والتطريب رجل يقال له: عبد الله بن بكرة، وكانت قراءته حُزناً، لكنها لم تكن على طريقة ألحان الغناء، والحداء، فورث ذلك عنه حفيد له يقال له: عبد الله بن عمر بن عبد الله، وتنسب إليه قراءة يقال: قراءة ابن عمر، وأخذها عنه رجل يقال له الأباضي، ثم أخذ رجل آخر يقال له: سعيد بن العلاف، وأخ له عن الأباضي، فصار سعيد رأساً في هذه القراءة في زمنه، وعُرفت به، وكان القراء بعده كالهيثم، وأبان، وابن أعين، وغيرهم ممن يقرءون في المجالس، أو المساجد يُدخلون في القراءة من ألحان الغناء، والحداء، والرهبانية، وكان ابن أعين يُدخل الشيء من ذلك، ويخفيه، حتى كان الترمذي محمد بن سعيد في المائة الثالثة، وكان الخلفاء، والأمراء يومئذ قد فتنوا بالغناء، وأحبوه، فقرأ محمد هذا على الأغاني المولّدة المحدثة، سلخها في القراءة بأعيانها، يقول السخاوي - رحمه الله - صاحب جمال القراء: "إن أول ما غُني به القرآن قراءة الهيثم، حتى إن شعبة بن الحجاج الإمام المعروف في الحديث، يقول: نهاني أيوب السختياني أن أحدث بهذا الحديث: (زينوا القرآن بأصواتكم)[9] لئلا يحمل على غير محمله"[10] لئلا يفهم على غير المراد.

وقد تكلم الحافظ ابن القيم - رحمه الله - في كتابه في الهدي النبوي "زاد المعاد" عن القراءة بالألحان، وحاصل ما ذكره: أن التغني، والتطريب على نوعين:

النوع الأول: ما اقتضته الطبيعة، وسمحت به من غير تكلف، ولا تمرين، ولا تعليم، فهذا حسن لا إشكال فيه، قال: ولو أنه اجتهد في تحسين صوته فإن ذلك حسن كما جاء عن أبي موسى: (لو علمتُ أنك تسمع لحبّرته لك تحبيراً)[11] لكن من غير تعليم لأوزان، ومقامات، ولحون لأهل الفسق، تكلم على هذا المعنى.

ثم ذكر الوجه الثاني: وهو ما كان من ذلك صناعة من الصنائع كما تُدرس الآن المقامات، ولها أسماء معروفة، ومعاهد تدرسها، قال: وليس في الطبع السماحة به، بل لا يحصل إلا بتكلف، وتصنع، وتمرن، كما يتعلم أصوات الغناء بأنواع الألحان البسيطة، والمركبة على إيقاعات مخصوصة، وأوزان مخترعة لا تحصل إلا بالتعلم، والتكلف، فهذه هي التي كرهها السلف، وعابوها، وذموها، ومنعوا القراءة بها، وأنكروا على من قرأ بها[12] القراءة بالمقامات، ومن شاء فليرجع إلى كلامه فإنه مفيد في هذا الباب.

  1. أخرجه أحمد في المسند، برقم (16040)، وقال محققوه: "حديث صحيح، وهذا إسناد ضعيف"، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (2812).
  2. زاد المعاد في هدي خير العباد (1/ 467).
  3. تفسير القرطبي (1/ 11).
  4. المغني لابن قدامة (2/ 128).
  5. زاد المعاد في هدي خير العباد (1/ 466). 
  6. تلبيس إبليس (ص: 102).
  7. الحوادث، والبدع (ص: 87). 
  8. أخلاق أهل القرآن (ص: 163). 
  9. أخرجه أبو داود، باب تفريع أبواب الوتر، باب استحباب الترتيل في القراءة، برقم (1468)، والنسائي، كتاب الافتتاح، باب تزيين القرآن بالصوت، برقم (1015)، وابن ماجه، أبواب إقامة الصلوات، والسنة فيها، باب في حسن الصوت بالقرآن، برقم (1342)، وأحمد في المسند، برقم (18494)، وقال محققوه: "إسناده صحيح"، وصححه الألباني في صحيح أبي داود، برقم (1320).
  10. انظر: جمال القراء، وكمال الإقراء، للسخاوي (ص: 177).
  11. أخرجه النسائي في السنن الكبرى، برقم (8004)، والحاكم في المستدرك، برقم (5966)، وقال: "هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه"، وهو في الصحيحين بلفظ: ((لو رأيتني، وأنا أستمع لقراءتك البارحة، لقد أوتيت مزمارًا من مزامير آل داود))، البخاري، كتاب فضائل القرآن، باب حسن الصوت بالقراءة للقرآن، برقم (5048)، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين، وقصرها، باب استحباب تحسين الصوت بالقرآن، برقم (793).
  12. زاد المعاد في هدي خير العباد (1/ 474).
من لازم الكتاب العزيزعدم طلب الدنيا به

ومما يتنافى مع تعظيمه، وإعزازه أن يطلب به الدنيا، يدخل الإنسان دورة من أجل أن يحصِّل شيئاً من الدنيا، يحفظ القرآن، يلتحق بمعهد من أجل أن يحصِّل شيئاً من حطام الدنيا، يُعلِّم من أجل الدنيا، وأعني ما أقول، وأرجو أن يفهم الكلام على وجهه: لا بأس أن يأخذ الإنسان من غير استشراف، ولا اشتراط، وأن يريد ما عند الله لكن أن يتخذ القرآن سلعة يتطلب بها هذا الحطام فهذا هو المذموم، لا بأس أن يأخذ من غير طلب، ولا استشراف، أما أن يتحول القرآن إلى سلعة يتكسب بها، وإذا تقالّ ما أُعطي قال: أين حقوق أهل القرآن؟ أين تعظيم أهل القرآن؟ يحتج: أين تعظيم أهل القرآن؟! أنت لم تعظم القرآن، بل لربما سأل بعضهم من الدنيا صراحة، وقدم بمقدمة أنه من أهل القرآن، ويحفظ القرآن، يذكر ذلك مقدمة للسؤال، للمسألة، وبئس ما صنع.

فينبغي أن يكون أمرنا كله لله، اجعل أمرك لله، اطلب ما عند الله ، وما يكون على سبيل التبع فلا بأس، ما يحصل لك على سبيل التبع فلا بأس، لكن لا يكون ذلك بالقصد الأول، لا تطلب به الدنيا، علّمنا الله - تبارك، وتعالى - أن الرسل - عليهم الصلاة، والسلام - كانوا يقولون، أو كان ربهم يعلّمهم: قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ [الأنعام:90] وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ [الشعراء:109] يقول الشيخ محمد الأمين الشنقيطي - رحمه الله - صاحب أضواء البيان: "ويؤخذ من هذه الآيات الكريمات أن الواجب على أتباع الرسل من العلماء، وغيرهم أن يبذلوا ما عندهم من العلم مجاناً، من غير أخذ عوض على ذلك"[1] الداعية، ومعلم القرآن لا يصح أن يتاجر بدعوته، أو بتعليمه، مَن يدفع أكثر، وقد تحدثت في درس آخر في الكلام عن قوله - تبارك، وتعالى - : ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ، وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ [النحل:125] أن الدعوة تكون مجاناً، وأوردت على هذا أدلة، وأحوال السلف الصالح ، والله - تبارك، وتعالى - يقول: وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا [البقرة:41] يقول القرطبي - رحمه الله -: "وهذه الآية، وإن كانت خاصة ببني إسرائيل، فهي تتناول من فعل فعلهم، فمن أخذ رشوة على تغيير حق، أو إبطاله، أو امتنع من تعليم ما وجب عليه، أو أداء ما علمه، وقد تعين عليه حتى يأخذ عليه أجراً فقد دخل في مقتضى الآية"[2] وقد جاء عن النبي ﷺ: من تعلم علماً مما يُبتغى به وجه الله، لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضاً من الدنيا، لم يجد عَرف الجنة يوم القيامة[3] يقول الفضيل بن عياض - رحمه الله -: "ينبغي لحامل القرآن أن لا يكون له حاجة إلى أحد من الخلق إلى الخليفة فمن دونه، وأن تكون حوائج الخلق إليه"[4].

وانظروا أحوال السلف هذا حذيفة المرعشي كتب إلى يوسف بن أسباط يقول: بلغني أنك بعت دينك بحبتين، وقفت على صاحب لبن فقلت: بكم هذا؟ فقال: هو لك بسدس، فقلت له: بثمن، فقال: هو لك، وكان يعرفك، يعني أنه راعاك في السعر بناء على دينك، وعلمك، وزهدك، وعبادتك، فصرت تستخدم ذلك، وسيلة إلى التوصل إلى ما في أيدي الناس، يقول له: "اكشف عن رأسك قناع الغافلين، وانتبه من رقدة الموت، واعلم أنه من قرأ القرآن، ثم آثر الدنيا لم آمن أن يكون بآيات الله من المستهزئين"[5].

وكلام الحسن البصري - رحمه الله -: "قرأ هذا القرآن ثلاثة رجال: فرجل قرأه فاتخذه بضاعة، ونقله من بلد إلى بلد، ورجل قرأه فأقام على حروفه، وضيع حدوده، يقول: إني والله لا أسقط من القرآن حرفاً، كثّر الله بهم القبور، وأخلى منهم الدور، فوالله هم أشد كبراً من صاحب السرير على سريره..."[6] إلى آخر ما ذكر.

والإمام القارئ الكبير أبو عبد الرحمن السلمي - رحمه الله - انظروا إلى مراعاتهم، وأحوالهم، ودقتهم في مثل هذه الأمور - جاء إلى داره فوجد جِلالاً، وجزورًا، فقيل له: بعث بها عمرو بن حريف لأنك علّمت ابنه القرآن، أرسل له بإبل، فقال: رده، إنا لا نأخذ على كتاب الله أجراً[7].

وجاء عن شعيب بن الحبحاب قال: "حابيت أبا العالية في ثوب فأبى أن يشتري مني الثوب، يعني إذا كان قيمة الثوب مثلاً مائة ريال، جاء أبو العالية من أهل العلم، فقال البائع: خذه بعشرين، كثير من الناس قد يفرح، ويقول: ما شاء الله! هؤلاء الذين يعرفون قدر أهل القرآن، يضع له من السعر، فأبى أن يشتري"[8] كان بعضهم إذا ذهب إلى البقال فحاباه، أو قال قائل: هذا فلان فاستوصِ به، غضب، وقال: إنا نشتري بدراهمنا، ولا نشتري بديننا، ويرجع، هذه مراتب عالية، نحتاج أن نربي أنفسنا عليها من أجل أن نربي التلاميذ على معالي الأمور، والعزة، والتعظيم لكتاب الله ، والاستغناء به.

وهذا أبو مرحوم من تلامذة الأوزاعي قدم من مكة فأهدى للأوزاعي، والأوزاعي كان في بلاد الشام في لبنان، أهدى له طرائف، فقال الأوزاعي: "إن شئتَ قبلتُ، ولن تسمع مني حرفاً، وإن شئتَ فضم هديتك، واسمع"[9] انظر! إن شئت خذ الهدية، وتسمع مني الحديث.

وكان رجل آخر يسمع عند حماد بن سلمة - رحمه الله - يسمع منه الحديث، فركب إلى الصين، فلما رجع أهدى إلى حماد هدية، فقال حماد: "إن قبلتُها لم أحدثك بحديث، وإن لم أقبلها منك حدثتك، قال: لا تقبلها، وحدثني"[10].

بعض الناس إذا علّم، إذا درّس إذا جاء أحد يقرأ عليه ختمة، أو يريد أن يقرأ عليه بالقراءات العشر، أو السبع، أو نحو ذلك، يشترط عليه إما أن يدفع مبلغاً، وإما أن يستخدمه استخداماً مذلا لا يليق بحملة القرآن، هذا موجود، بعض من يُقرئ إن رأى أن هذا الذي يقرأ عليه ليس بصاحب مال اتخذه سائقاً لمدة سنتين، أو أكثر، مدة القراءة

بعض الناس إذا علّم، إذا درّس إذا جاء أحد يقرأ عليه ختمة، أو يريد أن يقرأ عليه بالقراءات العشر، أو السبع، أو نحو ذلك، يشترط عليه إما أن يدفع مبلغاً، وإما أن يستخدمه استخداماً مذلا لا يليق بحملة القرآن، هذا موجود، بعض من يُقرئ إن رأى أن هذا الذي يقرأ عليه ليس بصاحب مال اتخذه سائقاً لمدة سنتين، أو أكثر، مدة القراءة
يذهب به صباح مساء، يتخذه سائقاً، هذا موجود، ويذهب به حيث شاء، تارة يذهب به إلى مكان العمل في كل يوم، ويتصل عليه في المساء يريد أن يذهب إلى السوق مع امرأته، وهذا ينتظر، ثم يتصل عليه ليحمل الحقائب، وبعضهم لربما استعمله إن كان عازباً استعمله في الطبخ، والطهي، هذا موجود، وأتحدث عما أعرف، هذا موجود، وهي حقائق مرة، إن كان يجيد البرمجة استغله في هذا، كل يوم يأتي يعمل له أشياء، يطبع له أوراقًا، يطبع له أبحاثًا، ماذا يحسن هذا القارئ؟ إن كان من أهل المال فمال، وإن لم يحسن شيئاً فسائق مسخر، هذا يليق بأهل القرآن؟! ينبغي أن نجعل أمرنا لله - تبارك، وتعالى - . 

وكان ابن عقدة يؤدب ابناً لهشام الخزاز، فلما صار الصبي حاذقاً، وتعلم، وجّه أبوه إلى شيخه بدنانير فردها، فظن ابن هشام أنه تقالّها، فأرسل له بالضعف، فقال: "ما رددتها استقلالاً، ولكن سألني الصبي أن أعلمه القرآن، هو كان طلب منه أن يؤدبه، وأن يعلمه العربية، قال: سألني الصبي أن أعلمه القرآن، فاختلط تعليم النحو بتعليم القرآن، ولا أستحل أن آخذ منه شيئاً، ولو دفع إليّ الدنيا"[11].

وهذا ابن الربيع البوراني يقول: "كنت عند عبد الله بن إدريس فلما قمت قال لي: سل عن سعر الأشنان، فلما مشيت ردني، وقال: لا تسأل، فإنك تكتب مني الحديث، وأنا أكره أن أسأل من يسمع مني الحديث شيئاً"[12] لمجرد سؤال عن السعر، سؤال لا يكلفه شيئاً!.

وهذا خلف بن تميم يقول: "مات أبي، وعليه دين، فأتيت حمزة الزيات - يعني القارئ الإمام المعروف - فسألته أن يكلم صاحب الدين أن يضع عن أبي من دينه، فقال لي حمزة: ويحك! إنه يقرأ عليّ القرآن، وأنا أكره أن أشرب من بيت من يقرأ عليّ القرآن الماء"[13] عزة النفس! فما أحوجنا إلى هذه التربية.

وكان بعض أهل العلم يقول: "استجرار الجيفة بالمعازف أهون من استجرارها بالمصاحف"[14] الدنيا جيفة تستجر بالمعازف أسهل من استجرارها بالمصاحف، يقولون: "من طلب بالعلم المال كان كمن مسح أسفل مداسه، ونعله بمحاسنه لينظفه"[15] وهذا المعنى ذكره الآجري - رحمه الله - في أخلاق حملة القرآن، وأنه ينبغي لمن كان مقرئاً أن يصون نفسه عن استقضاء الحوائج ممن يقرأ عليه القرآن، وألا يستخدمه، وألا يكلفه حاجة، وقال: "وأختار إذا عرضت له حاجة أن يكلفها من لا يقرأ عليه، وأن يسأل ربه - تبارك، وتعالى - قضاء الحاجات، يستغني عن المخلوقين، ولا يتأكّل بالقرآن، ولا يسعى به إلى أبناء الدنيا من أجل أن يكرموه، أو يعطوه، أو يعظموه، يقول - رحمه الله -: "أما من قرأ القرآن للدنيا، ولأبناء الدنيا فإن من أخلاقه أن يكون حافظاً لحروف القرآن، مضيعاً لحدوده، متعظماً في نفسه متكبراً على غيره، قد اتخذ القرآن بضاعة يتأكّل به الأغنياء، يستقضي به الحوائج"[16] يقول: تجده يعظم أهل الدنيا، ويحقر الفقراء، إذا علّم الغني تلطف به طمعاً في دنياه، وإن علم الفقير زجره، وعنفه، إن كان حسن الصوت أحب أن يقرأ للملوك، والكبراء، وأن يصلي بهم طمعاً في دنياهم... إلى آخر ما ذكر من معانٍ يحسن الوقوف عليها.

وانظروا ما ذكره أيضاً الحافظ البيهقي - رحمه الله - في التاسع عشر من شعب الإيمان، وهو باب تعظيم القرآن، ذكر تحته خمسين فصلاً، راجعوه، فيه أشياء نافعة مفيدة، وآثار جيدة عن السلف - رضي الله تعالى عنهم، وأرضاهم - .

وختاماً أقول: إن من عزة هذا القرآن أن معانيه لا تدخل في القلوب المعرضة عنه؛ لأنه كتاب عزيز، فلا تنفتح كنوزه لقلب منصرف عنه، ولا تنفتح كنوزه، ومعارفه، وعلومه للقلوب المشغولة باللهو، والعبث، وقد قالوا في قوله ﷺ: إن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه كلب، ولا صورة[17] قالوا: كذلك إذا كانت القلوب تحمل أخلاق الكلاب فإن الملائكة لا تدخلها بالمعاني الطيبة.

فما ذكرته ينبغي أن يكون تبصرة، وتذكرة لنفسي، ولإخواني؛ من أجل المزيد من العمل، والجهد، والبذل في أن يكون صاحب القرآن، وحامل القرآن على حال من الأدب، والتربية تليق بما حواه صدره، وحفظه من كلام ربه ، وهذا أيضاً لا يختص بحملة القرآن، وإنما الواجب على كل مسلم أن يتأدب مع كتاب الله ، وأن يعظمه التعظيم اللائق، وأن يعرف قدره، ومنزلته.

اللهم اجعل القرآن ربيع قلوبنا، ونور صدورنا، وذهاب أحزاننا، اللهم ذكرنا منه ما نسينا، وعلمنا منه ما جهلنا، وارزقنا تلاوته آناء الليل، وأطراف النهار على الوجه الذي يرضيك عنا.

اللهم ارحم موتانا، واشفِ مرضانا، وعافِ مبتلانا، واجعل آخرتنا خيراً من دنيانا، اللهم اغفر لنا، ولوالدينا، ولإخواننا المسلمين.

أسأل الله - تبارك، وتعالى - أن يشملنا، وإياكم بعفوه، وتجاوزه، ومغفرته، وأن يجعلنا، وإياكم مباركين، وأسأل الله لي، ولكم الجنة، وما قرب إليها من قول، وعمل. 

  1. أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (2/ 179).
  2. تفسير القرطبي (1/ 334).
  3. أخرجه أبو داود، كتاب العلم، باب في طلب العلم لغير الله تعالى، برقم (3664)، وابن ماجه، أبواب السنة، باب الانتفاع بالعلم، والعمل به، برقم (252)، وأحمد في المسند، برقم (8457)، والحاكم في المستدرك، برقم (288)، وقال: "هذا حديث صحيح سنده، ثقات رواته على شرط الشيخين، ولم يخرجاه، وقد أسنده، ووصله عن فليح جماعة غير ابن، وهب"، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (6159).
  4. أخلاق أهل القرآن (ص: 103)، (ص:125).
  5. المصدر السابق (ص: 104).
  6. المصدر السابق (ص: 132).
  7. الطبقات الكبرى (6/ 212)، وسير أعلام النبلاء (4/ 269).
  8. سير أعلام النبلاء (4/ 209).
  9. المصدر السابق (7/ 132).
  10. حلية الأولياء، وطبقات الأصفياء (6/ 251)، وسير أعلام النبلاء (7/ 449).
  11. سير أعلام النبلاء (15/ 344).
  12. أخلاق أهل القرآن (ص: 124).
  13. انظر: مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (4/ 1513).
  14. المصدر السابق.
  15. المصدر السابق.
  16. أخلاق أهل القرآن (ص: 87). 
  17. أخرجه البخاري، كتاب بدء الخلق، باب إذا قال أحدكم: آمين، والملائكة في السماء آمين فوافقت إحداهما الأخرى غفر له ما تقدم من ذنبه، برقم (3225)، ومسلم، كتاب اللباس، والزينة، باب لا تدخل الملائكة بيتًا فيه كلب، ولا صورة، برقم (2106).

مواد ذات صلة