الأربعاء 25 / جمادى الأولى / 1446 - 27 / نوفمبر 2024
(2) منهج شيخ الإسلام ابن تيمية في التعامل مع المخالفين
تاريخ النشر: ٢٤ / ربيع الأوّل / ١٤٣٥
التحميل: 8721
مرات الإستماع: 4120

شيخ الإسلام لا ينتصر لنفسه

الحمد لله، والصلاة، والسلام على رسول الله، أما بعد:

فلا يزل الحديث في بيان ما كان يحمله هذا الإمام من قلب كبير، وصدر فسيح، وأخلاق الكبار مع هؤلاء المخالفين.

وقع له - رحمه الله - أذى في البلاد المصرية، وذكرنا أن بعض المبغضين ظفر به في مكان خالٍ، وأساء الأدب معه، ولما حضر جمع كبير من الجند، وغيرهم إلى الشيخ، وأرادوا أن ينتصروا له لم يجبهم إلى ذلك.

بل كان يذكر أن ذلك الرجل الذي يقال له: "المبدي" أساء الأدب معه، ثم بعد ذلك لما رأى تلك الجموع خاف، وتودد، وشفع فيه جماعة، ولكن الشيخ - رحمه الله - ما تكلم، ولا اشتكى، ولو حصل منه أدنى شكاية لأوذي ذلك الرجل، وأهين غاية الإهانة.

لكن الشيخ - رحمه الله - أجاب الجميع بقوله: أنا ما أنتصر لنفسي.

ولما جاءه رسول نائب السلطان في بلاد الشام، وطلب منه أن يكتب بخطه أي شيء، قال له: اكتب!
قال: أكتب ماذا؟

قال: اكتب أي شيء.

قال: مثل ماذا؟

قال: اكتب العفو.

عفو عن من؟

قال: عفو عن الآخرين الذين أساؤوا إليك، وأن لا تتعرض لأحد، لا تنتقم.

قال شيخ الإسلام - رحمه الله - : نعم، هذا أنا أجيب إليه، ليس غرضي في إيذاء أحد، ولا الانتقام منه، ولا مؤاخذته، أنا عافٍ عمن ظلمني[1].

فمن نعيش معهم في بيوتنا، من حولنا، أصحابنا من إخواننا، ممن نختلف معهم، كيف نتعامل معهم؟

اليوم ترون أسراب المغردين في تويتر حينما يكتبون، كثير منهم ماذا يكتب في مثل هذه المواقف؟
إنها الألسن، الحداد إلا من رحم الله - تبارك، وتعالى -.

انظر إلى التنازع، والاختلاف الذي يتمثل عبر هذه الوسائل، والوسائط، انظر إلى اللغة التي نعبر بها عن مكنونات نفوسنا، وعن مشاعرنا تجاه أولئك الذين قد نختلف معهم.

أحياناً تقرأ لغة يعرق منها الجبين، يستحي الإنسان، وهو يقرأ كيف وجد مثل هؤلاء، وأين تربى هؤلاء، ما هذه التربية التي تربوها حتى وصل الحال إلى هذا المنحدر؟!

حتى وصلوا إلى هذه الوهدة، والحفرة، وتردوا هذا التردي؟ أين تربى هؤلاء؟ كيف يتحاورون؟ كيف يردون؟ كيف يناقشون؟ كيف يتعاملون مع المخالفين؟

وقارن مع هذه الأحوال لأن الإنسان قد يكون في بيئة يصعب عليه أن يتخلص، ويرتقي؛ لأنه في أجواء ملوثة في الغالب إلا من رحم الله تعالى، فيحتاج إلى أن يحلق أن ينظر إلى هذه القامات، وهذه القدوات، فيعرف حال هؤلاء الصغار.

شيخ الإسلام يقول لهذا الرسول الذي أرسله نائب الشام، يقول: "أنا أبذل غاية ما وسعني من الإحسان، وترك الانتقام، وتأليف القلوب[2].

وكان قد خاطبه أيضاً، أو خاطب غيره، خاطب رجلاً يقال له: "أمين الرسول علاء الدين الطيبرسي" قال له: "هذه القضية ليس الحق فيها لي، بل لله، ولرسوله، وللمؤمنين من شرق الأرض إلى مغربها، وأنا لا يمكنني أن أبدل الدين".

يعني يقول: تريد تنازلات في ما يتصل بالدين، ليس عندي استعداد أن أقدم شيئاً واحداً.

يقول: "وأنا لا يمكنني أن أبد للدين، ولا أن أنكس راية المسلمين، ولا أن أرتد عن دين الإسلام لأجل فلان، أو فلان، وإن حبست فالحبس في حقي من أعظم نعم الله علي، ووالله ما أطيق أن أشكر نعمة الله علي في هذا الحبس، وليس لي ما أخاف الناس عليه.

لا إقطاعي، يقول ما عندي إقطاع، ولا مدرستي يقول لست بناظر مدرسة، ولاية على معهد، أو مدرسة، أو نحو ذلك، ولا مالي ما عندي أموال، ولا رياستي، ولا جاهي، ما عندي شيء أخاف عليه أنا!

يقول: إنما الخوف عليكم إذا ذهب ما أنتم فيه من الرياسة، والمال، وفسد دينكم الذي تنالون به سعادة الدنيا، والآخرة"[3].

وقال لرسول نائب السلطان في الشام أيضاً: "وقد رأيت، وسمعت موافقتي على كل ما فيه طاعة الله، ورسوله، وعد التفاتي إلى المطالبة بحظوظي، أو مقابلة من يؤذيني، وتيقنت هذا مني، فما الذي يطلب من المسلم فوق هذا؟

ماذا تريدون؟ أنا مسامح للجميع، الجميع في حل.

يقول: أشرت بترك المخالفة، ولين الجانب، وأنا مجيب إلى هذا كله"[4].

ثم انظر في مضامين هذه المخاطبات لهم، ما هي اهتماماته؟ ما هي الأشياء التي يدور حولها؟

هل قال لهم: أنا، العدوان، والكلام، والتهم التي توجه إلي توجه إلى السنة، وأهل السنة، وعقيدة السلف، وإنما خوطب بذلك شخص ابن تيمية؟

ما جعل نفسه يمثل الإسلام، أو الدين، أو السنة، أبداً!

ماذا كان يقول لهم؟ يقول لهم: نعم يمكنني أن لا أنتصر لنفسي، ولا أجازي من أساء إلي، وافترى علي، ولا أطلب حظي، ولا أقصد إيذاء أحد بحقي، وهذا كله مبذول مني، ولله الحمد، ونفسي طيبة بذلك[5].

لكن في بعض هذه المخاطبات في كتاب أرسله إلى أهله، يذكر ما هو فيه من نعم الله عليه، ويقول: "والحق في علو، وازدياد، وانتصار، والباطل في انخفاض، وسفول، وانحلال، ولقد أذل الله رقاب الخصوم، وطلب أكابرهم من السلم ما يطول وصفه".

فلم يقل لهم: تقدمون لي الاعتذار، أريد رد اعتبار لي، لا!

يقول: "وقد اشترطنا عليهم من الشروط ما فيه عز الإسلام، والسنة، وما فيه قمع الباطل، والبدعة"[6].

ويتحدث عن الدين، ونصر الدين، وإعزاز الإسلام، لا يتكلم عن نفسه، ويقول رحمه الله قبيل وفاته للوزير التي اعتذر إليه عن نفسه، وقال له: "سامحني، اجعلني في حل.

وطلب منه أن يعفو عنه مما بدر في حق شيخ الإسلام من التقصير.

ماذا قال شيخ الإسلام؟ "إني قد أحللتك، وجميع من عاداني، وهو لا يعلم أني على الحق"[7].

وقال: إني قد أحللت السلطان الملك الناصر من حبسه إياي لكونه فعل ذلك مقلداً غيره معذوراً، ولم يفعله لحظ نفسه، بل لما بلغه مما ظنه حقاً من مبلغه، والله يعلم أنه بخلافه، وقد أحللت كل واحد مما كان بيني، وبينه إلا من كان عدواً لله، ورسوله"[8].

أنا محلل للجميع، من يفعل هذا؟

هذا الجانب الأول، هذه الحزمة الأولى، وهي تتصل بسعة الصدر، العفو، سلامة الصدر، القلب الكبير. 

  1.  مجموع الفتاوى (3/ 266).
  2. المصدر السابق (3/ 267).
  3.  المصدر السابق (3/ 216).
  4. االمصدر السابق (3/ 250).
  5. المصدر السابق(3/ 215).
  6.  انظر: مجموع الفتاوى (28/ 656)، والعقود الدرية من مناقب شيخ الإسلام أحمد بن تيمية (ص: 300).
  7. انظر: الأعلام العلية في مناقب ابن تيمية (ص: 82).
  8. المصدر السابق.
شيخ الإسلام يشفع للأذرعي

ويتلوه جانب آخر يرتبط بهذا الجانب كل الارتباط، وهو أنه يحسن إليهم أيضاً، يعني ليس فقط يجعلهم في حل، بل يحسن إليهم.

هذا القاضي حسام الدين الحنفي كان مباشراً لقضاء الشام، قام على رجل من خصوم شيخ الإسلام في واقعة وقعت، مشكلة وقعت لذلك الرجل فاغتاظوا منه يقال له "الأذرعي" أرادوا أن يعاقبوه بعقوبة أن يحلقوا لحيته، وأن يجعلوه على دابة، ويطاف به، وينادى عليه، تشهير، الآن هذا خصم من خصوم شيخ الإسلام.

ضع نفسك في هذا الموقف الآن، إن الكثيرين سيقولون في مثل هذا المقام: الحمد لله، جاءت من فوق سبع سماوات!

فهذا الرجل الآن سيشهر به، ويذل، ويهان، أليس كذلك؟

شيخ الإسلام من الذي توجه إليه ليشفع لهذا الرجل الخصم؟ تصوروا!

جاء أخ لهذا الرجل، ويذهب إلى شيخ الإسلام ليشفع له، ذهبوا إلى شيخ الإسلام لأنهم يعرفون أنه يحمل قلباً كبيراً، وأنه لا ينتصر لنفسه، فجاء، وذاك القاضي أحضر الموس، والحمار ليحلق لحيته، ويركبه على هذا الحمار، وينادى عليه، ويطوف به.

يقول: فجاء أخوه فعرفني ذلك، فقمت إليه، ولم أزل به حتى كف عن ذلك.

سامحوه، وتركوه، عفوا عنه.

يقول: وجرت أمور لم أزل فيها محسناً إليهم.

هؤلاء الخصوم الآن.

ثم يقول: هذه الأمور ليست من فعلي، ولا من ففعل أمثالي، وإنما نحن ندخل فيما يحبه الله، ورسوله، والمؤمنون، ليس لنا غرض مع أحد، بل نجزي بالسيئة الحسنة، ونعفو، ونغفر.

بالسيئة الحسنة، ثم أيضاً مقام آخر، يقول: وأنا والله من أعظم الناس معاونة على إطفاء كل شر فيها، وفي غيرها - هذه الفتنة - وإقامة كل خير.

فشيخ الإسلام الآن في السجن، ويقول هذا الكلام، وأكبر الخصوم ابن مخلوف يقع في مشكلة، فشيخ الإسلام يتمنى لو كان طليقاً ليسعى في فكاك ابن مخلوف، وتخليصه من هذه المشكلة، ماذا يقول؟ يقول: "أنا والله من أعظم الناس معاونة على إطفاء كل شر فيها، وفي غيرها، وإقامة كل خير، وابن مخلوف يقول: لو عمل مهما عمل، والله ما أقدر على خير إلا، وأعمله معه، ولا أعين عليه عدوه قط... هذه نيتي، وعزمي مع علمي بجميع الأمور" - يعني ليس عن غفلة - "فإني أعلم أن الشيطان ينزع ين المؤمنين، ولن أكون عوناً للشيطان على إخواني المسلمين، ولو كنت خارجاً - يعني من السجن - لكنت أعلم بماذا أعاونه، لكن هذه مسألة قد فعلوها زوراً" - يعني المشكلة التي مع ابن مخلوف - "والله يختار المسلمين جميعهم ما فيه الخيرة في دينهم، ودنياهم، ولن يقطع الدور، وتزول الحيرة إلا بالإنابة إلى الله، والاستغفار، والتوبة، وصدق الالتجاء فإنه سبحانه لا ملجأ منه إلا إليه، ولا حول، ولا قوة إلا بالله"[1].

رجوع إلى الله، توبة الجميع، ولا أحد يزكي نفسه، ويبرئ نفسه، ويقول: الآخرون هم الذين فعلوا، وتركوا، وأساءوا.
وإنما يقول: الجميع يتوبون إلا الله.

لابد من الخروج من حظوظ النفس، هذا في حال المنتسبين إلى العلم، وفي حال المنتسبين إلى الدعوة، وفي حال المنتسبين إلى الجهاد، أو غيره من الوظائف الشرعية.

الفرار إلى الله، الخروج من حظوظ النفس، والطائفة، ومن هنا نتخلص من هذه الرزايا، والبلايا، والمشكلات التي تزل بها أقدام، وأفهام، ويرتكس فيها من يرتكس، فنسأل الله أن يحفظنا، وإياكم من الفتن ما ظهر منها، وما بطن.

وكان مما قاله لنائب السلطان في الشام، يقول: "هؤلاء الذين بمصر من الأمراء، والقضاة، والمشايخ إخواني، وأصحابي".

فهؤلاء هم الذين وجهوا إليه تلك التهم، وجرجروه، وحبسوه، وأساءوا إليه تلك الإساءات، يقول: "هؤلاء إخواني، وأصحابي، أنا ما أسأت إلى أحد منهم قط، وما زلت محسناً إليهم، فأي شيء بيني، وبينهم، ولكن لبس عليهم المنافقون أعداء الإسلام، وأنا أقول لكم، لكن لم يتفق أني قلت هذا لهم"[2].

هو يقول لأصحابه ما حصل مع نائب السلطان، يقول: "إن في المؤمنين من يسمع كلام المنافقين، ويطيعهم، وإن لم يكن منافقاً كما قال الله: وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ [التوبة: 47].

وقال الله لنبيه ﷺ : وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ [الأحزاب: 48]"[3].

وانظر الآن إلى النفخ في الفتن، والشرور بين المسلمين.

أسماء لا تدري ما تحتها، أسماء مستعارة تكتب في حسابات، لا يدرى هذا الكاتب يهودي، لا يدرى هذا الكاتب رافضي، لا يدرى هذا الكاتب نصراني، لا يدرى هذا الكاتب زنديق، لا يدرى هذا الكاتب أحمق من المسلمين، القضية سواء.

يعني هذه الكتابة لا يمكن أن تصدر من سوي، يمكن أن تصدر من مسلم أحمق لا يدري ما الذي يخرج من رأسه، فيكتب كلاماً عظيماً قد يذهب بآخرته.

وقد يكتب نفس هذا الكلام أعدى الأعداء للوقيعة بين المسلمين، وصرنا إلى حال للأسف لم نعد نفرق فيها بين الأحمق، والمندس.

أحياناً تتحير في بعض الحالات في توصيف العلة، فيمن ابتلي بمس، أو سحر، أو عين، أو نحو ذلك.

الأعراض أن هذا إنسان غير سوي، قد يكون مريض نفسي، قد يكون به مس، قد يكون به عين، قد يكون هذا الإنسان به سحر، المهم أنه غير سوي، هذه هي النتيجة النهائية.

وكذلك أيضاً فيما نسمعه، أو نقرؤه في بعض الكتابات، النتيجة أن هذا التصرف، هذا الفعل، أو هذا الكلام لا يمكن أن يصدر من إنسان سوي.

إما أن هذا الإنسان معتوه يحتاج إلى أن يؤخذ على يده، ويكف شره عن المسلمين، أو أن هذا الإنسان لربما يكتب تحت اسم وهمي، وهو من أشد أعداء الإسلام، النتيجة واحدة.

فعل الأحمق لربما يساوي فعل العدو، والذئب الأطلس المتربص بأهل الإيمان، نتيجة واحدة!

فقد لا نحتاج إلى توصيف كثير، وتحليل من الذي يكتب تحت هذا المعرف مثلاً، المقصود أن هذه كتابات غير سوية، ونترفع عن هذا كله، ونتقي الله - تبارك، وتعالى - ونحفظ ألسنتنا، وأيدينا فلا نقع في شيء من هذه الأوضار، والأوصاب، والأوحال فننغمس، ونتلوث.

  1. مجموع الفتاوى (3/ 271).
  2. المصدر السابق (3/ 216).
  3. المصدر السابق.
نصر المنبجي، وابن مخلوف يألبون ضد شيخ الإسلام

انظروا إلى هذا الموقف الكبير الملك الناصر ذهب ملكه على يد الجاشنكير، وهؤلاء من أمثال: نصر المنبجي، وابن مخلوف كانوا هم الذين يحركون، ويألبون ضد شيخ الإسلام - رحمه الله - وكانوا مع الجاشنكير، فلما صارت الدولة للجاشنكير صاروا هم قضاة، وهم الذين يحيطون به.

استطاع الملك الناصر محمد بن قلوون أن يستعيد ملكه ثانية، وهو يرى، ويبصر أن هؤلاء هم الملتفون حول هذا الرجل الذي انقلب عليه.

فهنا استدعى شيخ الإسلام على وجه السرعة من الإسكندرية من الحبس، وجاءوا به على وجه من الإسراع، خرج أصحابه يودعونه، أصحابه الذين وجدوا فيما بعد في الإسكندرية.

فهنا هلك المظفر، ونصر المنبجي الآن صار في موقف لا يحسد عليه، واشتدت غضب السلطان على القضاة لأنهم صاروا مع المظفر، فعزل بعضهم، وبادر بإحضار الشيخ إلى القاهرة مكرماً في شوال سنة تسع، وسبعمائة، وأكرمه إكراماً عظيماً، وقام إليه لما رآه، وهم حضور، قد طأطئوا رؤوسهم، لا يدرون ماذا سيفعل بهم.

وإذا بقادم من بعيد، وهذا الملك في وقت غضبة يقوم، ويمشي إلى هذا القادم، ويعانقه، ويحتفل به، ويعظمه، ويثني عليه، وهذا المجلس حافل بقضاة من المصريين، والشاميين، والفقهاء، وأعيان الدولة، فزاد في إكرامه، ثم أخذه ناحية يساره، ويستشيره، ويثني عليه كثيراً.

يساره بماذا؟ يقول له ماذا؟ يستفتيه في قتل هؤلاء!، والتخلص منهم.

أول واحد ابن نصرن، ثاني واحد ابن مخلوف، وهكذا بقية القائمة.

فهنا شيخ الإسلام - رحمه الله - خوفه من ذلك، وحذره، فأخرج فتاوى خطية إن هم أفتوا بعزل الملك الناصر، ومبايعة الجاشنكير، يعني وجد وثائق بخطوط أيديهم، هذه إدانات, أحكم عليهم الآن، هذه الإثباتات، هذه ليست مجرد دعوى، هم الذين أفتوا بهذا الخروج على الملك الناصر، ويحثه على إصدار فتوى في قتل هؤلاء.

فهنا أراد أن ينتقم هذا الملك لنفسه، ففهم شيخ الإسلام مراده، المسألة انتقام للنفس بفتوى شرعية.

لو كنت مكان شيخ الإسلام، أنا، وأنت ماذا سنتصرف في هذا الموقف؟ لربما الأحسن حالاً من كثير منا أنه سيقول: هؤلاء أهل بدع، وضلالات، وأن التخلص منهم راحة للبلاد، والعباد، وننشر السنة، والحمد لله، وهذه فرصة، والفرص لا تطرق بابك مرتين.

وإذا هبت رياحك فاغتنمها فإن لكل عاصفة سكون

والآن هبت رياح شيخ الإسلام، ماذا قال؟

قال: لا، أبداً!

أخذ يعظم القضاة، والعلماء هؤلاء، وينكر أن ينال أحداً منهم سوء.

وقال: إذا قتلت هؤلاء لا تجد بعدهم مثلهم، لا أحد!

من هؤلاء الذين لا يجدهم بعدهم مثلهم؟ أئمة السنة؟! شيوخ مبتدعة من المتحاملين، الحالقين، الحاقدين، ويقول: لا تجد بعدهم مثلهم.

هنا بدأ يتكلم عن شيخ الإسلام ليحرك نفسه، فقال له: إنهم قد آذوك، وأرادوا قتلك مراراً.

وأخرج له فتاوى بخطوطهم يكفرون شيخ الإسلام، ويقولون: دمه حلال، اقتله.

هذه خطوطهم، وماذا قال شيخ الإسلام؟

قال: "من آذاني فهو في حل، ومن آذى الله، ورسوله فالله ينتقم منه، وأنا لا أنتصر لنفسي.

وما زال به حتى صفح عنهم، وعفا لهم"[1].

من يفعل هذا؟!

وانظر إلى التراشق بيننا على هذه الصفحات، صفحات التواصل الاجتماعي التي هي في الحقيقة في كثير من الأحيان صفحات التقاطع الاجتماعي، إلا من رحم الله - تبارك، وتعالى -.

ابن مخلوف هذا كان أحد هؤلاء طبعاً، ماذا كان يقول؟

يقول: "ما رأينا مثل ابن تيمية، حرضنا عليه فلم نقدر عليه، وقدر علينا فصفح عنا، وحاجج عنا"[2].

أيضاً الشيخ - رحمه الله - في القاهرة سكن بالقرب من مشهد الحسين، والناس يترددون عليه، والأمراء، والجند، وجماعة كثيرة من الفقهاء، والقضاة، ومنهم من يعتذر إليه، ويتنصل ما وقع منه، فكان ماذا يقول لهم شيخ الإسلام؟
الآن تعتذرون؟ بعد ماذا؟ لا!

كان يقول: أنا أحللت كل من آذاني.

أين نحن من هذا؟ والبعض منا لربما يقول: أنا أدعو، هو ما يستطيع أن ينتصر عليه.

ويقول: أنا أدعو عليك في السجود، في ثلث الليل الآخر، وفي ساعات الإجابة.

على أحد إخوانه المسلمين أخطأ في حقه بخطأ بسيط يدعو عليه في سجوده!

وذاك يتلطف، ويعتذر، وهذا لا يلتفت إليه، ولربما عند نفسه أنه طالب علم، أو داعية، قارن، وأنت تعرف أن في هذه الأمة قامات، وجبال راسيات لا تزعزها الرياح، ولا تؤثر فيها.

بخلاف من كانت نفسه قشة تطير مع أدنى نسمة للهواء.

يقول عنه الحافظ بن القيم - رحمه الله - يقول: "كان بعض أصحابه الأكابر يقول: وددت أني لأصحابي مثله لأعدائه، وخصومه"[3].

يقول: يا ليت أستطيع أن أعامل إخواني، وأصحابي مثلما يعامل أعداءه.

يقول ابن القيم: "وما رأيته يدعو على أحد منهم قط، وكان يدعو لهم"[4].

بحاجة إلى هذا التذكير، بحاجة إلى هذه التربية في مثل هذه الأيام.

يقول ابن القيم: "جئت يوماً مبشراً له بموت أكبر أعدائه - يقصد ابن مخلوف - فنهرني، وتنكر لي، واسترجع" - يعني قال له: تبشرني بموت رجل من المسلمين؟

لم يقل: هذه حصاة محيت عن الطريق، مستريح، ومستراح! لا، استرجع، إنا لله، وإنا إليه راجعون -.

"ثم قام من فوره إلى بيت أهله، فعزاهم، وقال لهم: إني لكم مكانه، ولا يكون لكم أمر تحتاجون فيه إلى مساعدة إلا وساعدتكم فيه.

فسروا به، ودعوا له، وعظموا هذه الحال منه"[5].

من منا يستطيع أن يفعل هذا؟ مات أشد أعدائه، وصاحب بدعة، ويأتي إلى أولاده، ويقول لهم مثل هذا الكلام، ويعزيهم.

لقد صرنا في حال، بل لو أن الإنسان فقط ترحم على بعض من يختلف معه، ويظن أنه قد وقع ببدعة، أو نحو ذلك فإن هذا يكفي؛ لأن يكون هذا المترحم ممن لا يقبل منه صرف، ولا عدل، ويرمى بأقبح الأوصاف.

صارت الحال عندنا مستوى للأسف يخجل منه العاقل، أين العلم؟ بل أين العقل؟ أين الدين؟ وأين الحياء؟ كيف صارت بنا الحال إلى مثل هذا؟

  1. البداية، والنهاية (18/ 94).
  2. البداية، والنهاية ط هجر (18/ 95).
  3. مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد، وإياك نستعين (2/ 328).
  4. المصدر السابق (2/ 329).
  5. المصدر السابق.
مخاطبة شيخ الإسلام لأبي الفتح نصر

الحزمة الثالثة في مخاطبته - رحمه الله - لهؤلاء بالتي هي أحسن، لاحظ هؤلاء الخصوم، وأعداء، وأصحاب بدع غليظة، كيف يتعامل معهم؟ 

لما كان يقول لمن يطالبونه بلين الكلام، ويقولون له: خفف.

يقول لهم: "ما ذكرتم من لين الكلام، والمخاطبة بالتي هي أحسن فأنتم تعلمون أني من أكثر الناس استعمالاً لهذا"[1].

ويقول في خطاب، ورسالة يوجهها إلى من؟ إلى نصر المنبجي.

شوف هذه الرسالة الآن لهذا الرجل الذي لا علم، ولا سلامة صدر، ولا كف أذى عن المسلمين.

ماذا يقول عنه شيخ الإسلام في هذه الرسالة، يقول: "من أحمد ابن تيمية إلى الشيخ العارف، القدوة، السالك، أبي الفتح، نصر، فتح الله على باطنه، وظاهره ما فتح به على قلوب أوليائه، ونصره على شياطين الجن، والإنس في جهره، وخفائه، ونهج به الطريقة المحمدية الموافقة للشريعة... إلى أن قال: فالشيخ أحسن الله إليه قد جعل فيه من النور، والمعرفة الذي هو أصل المحبة، والإرادة"[2].

هو الشيخ صوفي طبعاً..

إلى أن يختم الرسالة بقوله: "وهذا الكتاب - يعني الرسالة - مع أني قد أطلت فيه الكلام على الشيخ أيده الله".

طبعاً هو يناصحه، يسدده، يصحح له بعض الأخطاء، لكن بطريقة، بطبق من ذهب.

يقول له: هذا الكتاب مع أني قد أطلت فيه الكلام على الشيخ أيده الله تعالى بالإسلام، ونفع المسلمين ببركة أنفاسه، وحسن مقاصده، ونور قلبه..."[3] إلى آخر ما يقول.

هذا نصر المنبجي، يخاطبه بهذه الطريقة المخملية.

وكذلك في رسالته إلى أتباع عدي بن مسافر الموسومة بالوصية الكبرى، هذا شيخ طريقة، عندهم بدع، وعندهم شركيات، ومع ذلك مخاطبة في غاية التلطف.

  1. مجموع الفتاوى (3/ 232).
  2. المصدر السابق (2/ 452 - 455).
  3. المصدر السابق (2/ 479).
شيخ الإسلام يؤلف بين القلوب

جانب رابع: في تعامله مع هؤلاء، ومع غيرهم، تأليف القلوب، وجمع الكلمة.

كان - رحمه الله - كما ذكر من ترجم له: "يعود المرضى، ويشيع الجنائز، ويقوم بحقوق الناس، ويتألف القلوب، ولا ينسب إلى باحث لديه مذهباً - يعني لا يصنف الناس - ولا يحفظ لمتكلم عنده زلة"[1].

يعني بمعنى أنه لا يرصد للناس، ويقول: هذا قال بالموقف الفلاني كذا، هذا في المكان الفلاني كتب بكذا.

إلى أن قال: "ولا يتجهم مرآه، ولا يتكدر صفوه، ولا يُسأم عفوه"[2].

وانظروا ماذا كان يقول - رحمه الله - يقول: الناس يعلمون أنه كان بين الحنبلية، والأشعرية وحشة، منافرة، وأنا كنت من أعظم الناس تأليفاً لقلوب المسلمين، وطلباً لاتفاق كلمتهم، واتباعاً لما أمرنا به من الاعتصام، وأزلت عامة ما كان في النفوس من الوحشة، وبينت لهم أن الأشعري كان من أجل المتكلمين المنتسبين إلى الإمام أحمد - رحمه الله - المنتصرين لطريقه.

كما يذكر الأشعري ذلك في كتبه.

يقول كلاماً طويلاً مما فيه، يقول: "وكنت أقرر هذا للحنابلة - الحنبلية - وأبين أن الأشعري، وإن كان من تلامذة المعتزلة، ثم تاب فإنه كان تلميذ الجبائي، ومال إلى طريقة ابن كلّاب، وأخذ عن زكريا الساجي أصول الحديث بالبصرة، ثم لما قدم بغداد أخذ عن حنبلية بغداد أموراً أخرى، وذلك آخر أمره... إلى أن يقول: ولما أظهرت كلام الأشعري، ورآه الحنبلية قالوا: هذا خير من كلام الشيخ الموفق، وفرح المسلمون باتفاق الكلمة، وأظهرت ما ذكره ابن عساكر في مناقبه، أنه لم تزل الحنابلة، والأشاعرة متفقين إلى زمن القشيري، فإنه لما جرت تلك الفتنة ببغداد تفرقت الكلمة، ومعلوم أن في جميع الطوائف من هو زائغ، ومستقيم"[3].

فأين هذا مع من يمزق، ويفرق الكلمة، ويشتت الشمل من أجل اختلافات اجتهادية؟

تثني على فلان، تحسن الظن بفلان، وكثير من هذا موهوم، أو مكذوب على صاحبه.

ثم بعد ذلك يُسقط، ولا يقبل منه لا قليل، ولا كثير، من أجل ماذا؟ من أجل أمور لا يمكن أن يدان بها شرعاً، أو أن يوصف بما يمكن أن يكون يلحقه فيه تبعة عند الله - تبارك، وتعالى -.

هات هذه البدع اللي تتكلم عنها، الضلالات، بل نقول اليوم - للأسف الشديد - وهي صعبة لكنها حقيقة مرة، هات هذه الأمور التي تكفر بهؤلاء العلماء، وطلبة العلم، وأهل الجهاد، وأهل الصلاح في الأمة هات! هات شيئاً عندك فيه من الله برهان.

  1. الجامع لسيرة شيخ الإسلام ابن تيمية خلال سبعة قرون (ص: 323).
  2. المصدر السابق.
  3. مجموع الفتاوى (3/ 228 - 229).
شيخ الإسلام يتعامل مع المخالف بالصبر

الحزمة خامسة من أخلاقه - رحمه الله - مع هؤلاء المخالفين: كيف كان يتعامل معهم، الصبر، والاحتمال، وكان - رحمه الله - يقول: "فإن الناس يعلمون أني من أطول الناس روحاً، وصبراً على مر الكلام، وأعظم الناس عدلاً في المخاطبة لأقل الناس، دع أولات الأمور"[1].

يعني قل: فكيف أولات الأمور؟ أنا أخاطبهم باللين، واللطف من باب أولى.

  1. المصدر السابق (3/ 251).
شيخ الإسلام يعدل مع الجميع، وينصفهم من نفسه

جانب آخر من جوانب حياته - رحمه الله - مع المخالفين، وهو عدله مع الجميع، والإنصاف من نفسه.

نحن لو أنصف الإنسان من نفسه لسلمنا من كثير من الشرور، والاختلافات، يقول - رحمه الله - : "كل من قال حقاً فأنا أحق من سمع الحق، والتزمه"[1].

ما يكابر، ويقول: أنا ما أعترف إلا بي، ما أقوله، أو ما يقوله من ينتسب إلي، وطائفتي، ما كان يقول هذا!

"أنا أحق من سمع الحق، والتزمه، وقبله سواء كان حلواً، أو مراً، يقول: "وأنا أحق أن يتوب من ذنوبه التي صدرت منه"[2] لا يقول: نحن منزهون، الباقي هم الذين يحملون الشرور، والآفات، والآثام، والبلايا، والرزايا، وموجبات الضلال، والكفر، ما كان يقول هذا!

كان يقول: أنا أحق أن يتوب من ذنوبه التي صدرت من بلوى أحق بالعقوبة إذا كنت أضل المسلمين عن دينهم.
الإنصاف عزيز، إنصاف الإنسان من نفسه، أول ما يتوجه العاقل البصير أن يتوجه إلى نفسه هو، وأن ينظر في الخلل الذي قد تطرق إلى قلبه، وفكره، وعقله، ونفسه، عمله، وسلوكه، ويصلح ذلك.

وهو يقرر هذا الأصل من الناحية النظرية في مواضع كثيرة من كتبه، له كلام كثير في هذا الجانب نحن أحوج ما نكون إليه في مثل هذه الأوقات.

من كلامه يقول: "لما كان أتباع الأنبياء هم أهل العلم، والعدل كان كلام أهل الإسلام، والسنة مع الكفار، وأهل البدع بالعلم، والعدل، لا بالظن، وما تهوى الأنفس"[3].

فكيف بالكلام مع المسلمين؟ كيف بالكلام مع الصالحين، وأهل العلم، وأهل الصلاح، والدعاة إلى الله وخيار الأمة؟

يقول: "ولهذا قال النبي ﷺ :  القضاة ثلاثة[4] فإذا كان من يقضي بين الناس في الأموال، والدماء، والأعراض إذا لم يكن عالماً عادلاً كان في النار. 

فكيف بمن يحكم في الملل، والأديان، وأصول الإيمان، والمعارف الإلهية، والمعالم العلية بلا علم، ولا عدل"[5] يقول: هذا أشد.

ويقول: "الكلام في الناس يجب أن يكون بعلم، وعدل، لا أن يكون بجهل، وظلم كحال أهل البدع"[6].
أهل البدع هم الذين يتكلمون بجهل، وظلم، وظنون فاسدة، يلقون التهم على الناس جزافاً، فهم يردون ما عند غيرهم من الحق، ويرمون بما ليس فيهم من الباطل، ويحملون أقوالهم على أسوأ الاحتمالات.

وأما أهل السنة فهم يقبلون الحق أياً كان مصدره، ويردون الباطل أياً كان مصدره، ويحمدون الصواب المصيب، ويذمون الباطل بحسب ما يليق به.

انظر إلى النفس المعتدلة، السوية، السليمة، الصحيحة، المشرقة، وقارن هذا بنفوسنا المعتلة.

وبهذا كان أهل السنة هم أهل العدل، والرحمة، حيث جمعوا بين معرفة الحق، وموافقة السنة، والسلامة من البدعة، مع عدلهم مع من خرج منها، ولو ظلمهم امتثالاً لقوله تعالى:  يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى [المائدة: 8].

فهم يرحمون الخلق، ويريدون لهم الخير، والهدى، والعلم، ولا يقصدون لهم الشر ابتداءً، بل إذا عاقبوهم، وبينوا خطأهم، وجهلهم، وظلمهم كان قصدهم بذلك بيان الحق، ورحمة الخلق، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وأن يكون الدين كله لله، وأن تكون كلمة الله هي العليا.

يعني ليست القضية من قبيل الانتصار للنفوس، أو الخصومات الشخصية، أو الحزبية، وأمرهم لله - تبارك، وتعالى -.

فأهل السنة يلتزمون الحق في جميع أحوالهم سواء كان ذلك في تقرير العقائد، والمسائل ابتداءً كان في مقام الرد على المخالفين، ومن الناس من يرد الباطل بباطل، يقول: "فكل حق مع طائفة من الطوائف فهم يوافقونهم فيه، وهم برآء من باطلهم، فمذهبهم جمع حق الطوائف بعضه إلى بعض، والقول به، ونصره، وموالاة أهله من ذلك الوجه، ونفي باطل كل طائفة من الطوائف، وكره، ومعاداة أهله من هذا الوجه - لا يعادونهم معاداة مطلقة - فهم حكام بين الطوائف، لا يتحيزون إلى فئة منهم على الإطلاق، ولا يردون باطلاً بباطل، ولا يحملهم شنآن قوم يعادونهم، ويكفرونهم على أن لا يعدلوا فيهم، بل يقولون فيهم الحق، ويحكمون في مقالاتهم بالعدل"[7].

نحن أحوج ما نكون هذه الأيام إلى مثل هذا الكلام، ويقول: "بأن الذب عن الحق لا يسوغ مجاوزة الحد المشروع، وإنما تحرس السنة بالحق، والصدق، والعدل، لا بالكذب، والظلم، والباطل".

ويقول: "وذلك أن كثيراً من هذه الطوائف يتعصب على غيره، ويرى القذاة في عين أخيه، ولا يرى الجذع المعترض في عينه"[8].

ما يرى عيوبه، وعيوب طائفته، ولكن البقية عليهم الويلات.

إذا اختلف الناس هذه الأيام فلا تسأل عن عبارات التخوين، والعمالة، ناس عُرفوا بدعوتهم، اتباعهم للسنة، دعوتهم إليها عقوداً متطاولة، ثم هكذا بسهولة نختلف معهم على موقف من المواقف، ويرمون بأعظم التهم، ويلقبون بأقبح الأوصاف، هذا لا يحل، هذا لا يجوز.

يمكن أن يقال أخطأ هؤلاء، أنا أخالفهم، أنا أخطئهم في هذا الموقف، وهذا الاجتهاد، لكن خونة، عملاء، هذا لا يجوز! هذا من العدوان، هذا من البغي.

وللأسف نسمع هذه العبارات من بعض طلاب العلم، من الدعاة إلى الله - تبارك، وتعالى - في حق إخوان لهم يختلفون معهم على نوازل القضايا، وواقعة هنا، أو هناك، أو هنالك.

وكلكم تعرفون ما يجري، تخوين، وتهم كبار لمجرد اختلاف في مواقف!

يا أخي هذا اجتهادهم، فهم بين أجر، وأجرين، أنا أختلف معهم لكن لا أخونهم، ولا أتهم هؤلاء بحال من الأحوال في نياتهم، ومقاصدهم، وأنهم أرادوا الشر بالإسلام، وأهله.

يقول شيخ الإسلام: "بأن كثيراً من هذه الطوائف يتعصب على غيره، ويرى القذاة في عين أخيه، ولا يرى الجذع المعترض في عينه، ويذكر تناقض أقوال غيره، ومخالفتها للنصوص، والمعقول ما يكون له من الأقوال في ذلك الباب ما هو من جنس تلك الأقوال، أو أضعف منها، أو أقوى منها، والله تعالى يأمر بالعلم، والعدل، ويذم الجهل، والظلم، كما قال تعالى:  وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا [الأحزاب: 72].

ومعلوم أن الحكم بين الناس في عقائدهم، وأقوالهم أعظم من الحكم بينهم في مبايعهم، وأموالهم"[9].

ويقول - رحمه الله - في ردوده على بعض هؤلاء المخالفين له، وما ذبوا عليه، وما افتروا، يقول: "هذا، وأنا في سعة صدر لمن يخالفني، فإنه، وإن تعدى حدود الله في بتكفير، أو تفسيق، أو افتراء، أو عصبية جاهلية فأنا لا أتعدى حدود الله فيه، بل أضبط ما أقوله، وأفعله، وأزنه بميزان العدل، وأجعله مؤتماً بالكتاب الذي أنزله الله، وجعله هدى للناس حاكماً فيما اختلفوا فيه..." إلى أن قال: "وذلك أنك ما جزيت من عصى الله فيك بمثل أن تطيع الله فيه"[10].

أخلاق أنبياء، من منا يصل إلى هذه المستويات؟! ويرتفع، ويحلق حينما يحتدم الخلاف، والشر بين الناس؟!.
على الأقل من لا يستطيع أن يصل إلى هذه المنازل العالية فليحفظ لسانه، ويكف أذاه، فإن كف الأذى صدقة، ومن كلامه - رحمه الله - يقول: "هذا مع أني دائماً، ومن جالسني يعلم  ذلك مني، أني من أعظم الناس نهياً عن أن ينسب معين إلى تكفير، وتفسيق، ومعصية إلا إذا عُلم أنه قد قامت عليه الحجة الرسالية التي من خالفها كان كافراً تارة، وفاسقاً أخرى، وعاصياً أخرى، وإني أقرر أن الله قد غفر لهذه الأمة خطأها، وذلك يعم الخطأ في المسائل الخبرية القولية، والمسائل العملية"[11].

يعني المسائل العلمية المتعلقة بالاعتقاد، والمسائل الفرعية العملية، هذا كلامه - رحمه الله -.

واليوم أسماء مجاهيل تتكلم في هذه القضايا، وتوجه هذه التهم الكبار لخيار الأمة، وصلحائها، وعلمائها، وبعض الأسماء كنت أظن أنها من الأسماء المستعارة، فلما سألت قيل: هي أسماء حقيقية يكتب أصحابها بأسمائهم التي سماهم بها آباؤهم، ولا أدل من كون هؤلاء من المجاهيل أنه يُظن أن هذه أسماء، وهمية.

فأين علم هؤلاء؟ ما عرفوا قط بعلم، لا بطلب علم، ولا بتحصيل فيه طلاقاً، ثم يأتي بهذه الوسائل، والوسائط، والحسابات، ويكتب ما يشاء، وبألقاب، وكنى يتكلم بالمسائل الكبار، وهو لا يفقه.

قد سمعنا من هذا أشياء من بعض من رأوا، وشاهدوا، لربما بعض هؤلاء قد لا يتجاوز الثامنة عشرة، ثم يتكلم في القضايا بهذا المستوى.

شيخ الإسلام - رحمه الله - يقول: "وما زال السلف يتنازعون في كثير من هذه المسائل، ولم يشهد أحد منهم على أحد بكفر، ولا فسق، ولا معصية"[12].

لطالما الناس اختلفوا، ويقول: "وقد آل الشر بين السلف إلى الاقتتال مع اتفاق أهل السنة على أن الطائفتين جميعاً مؤمنتان، وأن الاقتتال لا يمنع العدالة الثابتة لهم؛ لأن المقاتل، وإن كان باغياً فهو متأول، والتأويل يمنع الفسوق - يعني القتال الذي حصل بين الصحابة  وكنت أبين لهم أن ما نقل لهم عن السلف، والأئمة من إطلاق القول بتكفير من يقول كذا، وكذا فهو أيضاً حق، ولكن يجب التفريق بين الإطلاق، والتعيين - يعني تكفير المعين، والقول بأن من فعل كذا فهو كافر - وهي بمنزلة قول من قال من السلف، من قال كذا فهو كذا، ثم إن الشخص المعين يلتغي حكم الوعيد فيه بتوبة، أو حسنات ماحية، أو مصائب مكفرة، أو شفاعة مقبولة"[13].

فأين هذا من القتل الذريع، والتمثيل بالجثث، وتعليق الرؤوس؟

  1. مجموع الفتاوى (3/ 271).
  2. المصدر السابق (3/ 271).
  3. الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح لابن تيمية (1/ 107).
  4. أخرجه أبو داود، كتاب الأقضية، باب في القاضي يخطئ، برقم (3573)، والترمذي، أبواب الأحكام عن رسول الله ﷺ ، باب ما جاء عن رسول الله ﷺ في القاضي، برقم (1322)، وابن ماجه، كتاب الأحكام، باب الحاكم يجتهد فيصيب الحق، برقم (2315)، وصححه الألباني في إرواء الغليل، برقم (2614).
  5.  الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح لابن تيمية (1/ 107 - 108).
  6.  منهاج السنة النبوية (4/ 337). 
  7.  شفاء العليل في مسائل القضاء، والقدر، والحكمة، والتعليل (ص: 51 - 52).
  8.  درء تعارض العقل، والنقل (7/ 463).
  9.  درء تعارض العقل، والنقل (7/ 464).
  10.  مجموع الفتاوى (3/245 - 246).
  11. المصدر السابق (3/ 229).
  12.  المصدر السابق.
  13.  المصدر السابق (3/ 230).
لا يكفر بجحد ما يجحده حتى تقوم عليه الحجة

يقول: "والتكفير هو من الوعيد، فإنه، وإن كان القول تكذيباً لما قاله الرسول ﷺ لكن قد يكون الرجل حديث عهد بإسلام، أو نشأ ببادية بعيدة، ومثل هذا لا يكفر بجحد ما يجحده حتى تقوم عليه الحجة، وقد يكون الرجل لم يسمع تلك النصوص، أو سمعها، ولم تثبت عنده، أو عارضها عنده معارض آخر أوجب تأويلها، وإن كان مخطئاً"[1].

انظر إلى الأئمة حين ما يتكلمون في هذه المسائل الكبار، كلام الذي هو في غاية العدل، والإنصاف، والاتزان، لا كلام من لم يتحقق في باب العلم.

يقول: "وكنت دائماً أذكر الحديث الذي في الصحيحين، في الرجل الذي قال: إذا أنا متّ فأحرقوني، ثم اسحقوني، ثم ذروني في أليم، فوالله لئن قدر الله علي ليعذبني عذاباً ما عذبه أحداً من العالمين.، ففعلوا به ذلك، قال الله: ما حملك على ما فعلت؟ قال: خشيتك، فغفر له[2].

يقول شيخ الإسلام مفسراً هذا الحديث: "فهذا رجل شك في قدرة الله، وفي إعادته إذا ذُرِي - يعني في يوم عاصف، طحنت جثته بعد الحرق، ذريت أن الله لا يقدر على إعادة - بل اعتقد أنه لا يعاد، وهذا كفر باتفاق المسلمين، لكن كان جاهلاً، لا يعلم ذلك، وكان مؤمناً يخاف الله أن يعاقبه، فغفر له بذلك"[3].

لو كفر بهذا لم يغفر له؛ لأن الله يقول: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء: 48].
شك في القدرة، قدرة الله على إعادته ثانياً، وبعثه، ومع ذلك غفر له، هذا نص حديث مخرج في البخاري، ومسلم.

فشيخ الإسلام يقول: هذا شك في القدرة على البعث، ومع ذلك ما كفر بنص الحديث، فكيف اليوم بتكفير من خالفنا في اجتهاد؟ أين هذا من هذا؟

تحقق الشروط، وانتفاء الموانع من الذي يقدرها؟ من الذي يعرفها؟ من الذي يفقه في هذا الباب؟

يقول شيخ الإسلام: "والمتأول من أهل الاجتهاد الحريص على متابعة الرسول ﷺ أولى بالمغفرة من مثل هذا"[4].

إنسان حريص، مجتهد في طاعة الله أخطأ، ثم ماذا؟ ويقول: "فعلينا أن نخاف الله، ونتقيه في الناس، فلا نظلمه بقلوبنا - بقلوبنا يعني بإساءة الظن بهم - ولا جوارحنا، ونؤدي إليهم حقوقهم بقلوبنا، وجوارحنا"[5].

حقوق إحسان الظن، المحبة للمؤمنين، الموالاة لهم، يقول: "ولا نخافهم في الله فنترك ما أمر الله به، ورسوله خيفة منهم، ومن لزم هذه الطريقة كانت العاقبة له"[6].

ويقول في موضع آخر: "وذلك أن من كان مؤمناً بالله، ورسوله ﷺ ووقع في شيء من الغلط، والمخالفة لنوع تأويل يعذر به، فهو مغفور له خطؤه، ومثاب على اجتهاده فيما أخطأ به، كما أنه مثاب على إيمانه، وأعماله الصالحة الواقعة على السنة، وما لم يؤمن به فإنه لم تقم عليه به الحجة التي يكفر مخالفها"[7].

لو تعاملنا مع من نختلف معهم بهذه الطريقة لانتهت هذه المصائب التي تتكرر في كل يوم، وليلة.

ويقول: "ومن المعلوم أن الله تعالى يغفر لمن جهل تحريم الخمر؛ لكونه نشأ بأرض جهل، مع كونه لم يطلب العلم، فكيف بالفاضل المجتهد في طلب العلم بحسب ما أدركه في زمانه، ومكانه إذا كان مقصوده هو متابعة الرسول ﷺ بحسب إمكانه، فهذا أحق أن يتقبل الله تعالى حسناته، ويثيبه على اجتهاداته، ولا يؤاخذه بما أخطأ تحقيقاً لقوله تعالى: رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا [البقرة: 286]"[8].

و يقول، وذلك أنه، يقول: "وإذا كان الرجل مؤمناً بما جاء به النبي ﷺ لكن خفي عليه فلم يعلم بعض ما جاء به الرسول ﷺ ومن ثم لم يؤمن به تفصيلاً، إما لأنه لم يسمعه، أو سمعه من طريق لا يجب التصديق بها، ويشبه هذا حال كثير من المتأخرين الذين صاروا يعتمدون على أصول ابتدعها شيوخهم، وصاروا يأولون ما خالفها من نصوص الكتاب، والسنة، فهؤلاء إن كانوا عالمين بمخالفتهم للكتاب، والسنة ففيهم من النفاق، والبدعة بحسب ما تقدموا فيه بين يدي الله، ورسوله، أما إن لم يعلموا أن ذلك مخالف لما جاء به الرسول ﷺ ولو علموا لما قالوه، فإنهم ليسوا بمنافقين، بل ناقصي الإيمان مبتدعين، وخطؤهم مغفور لهم لا يعاقبون عليه إن شاء الله، ولو نقصت مرتبتهم به"[9].

ويقول: " كما أن كثيراً من مقالاتهم الباطلة - يعني أهل البدع - قد تخفى على كثير من أهل الإيمان حتى يظن أن الحق معهم لما يريدونه من الشبهات، ويكون أولئك المؤمنون مؤمنين بالله، ورسوله باطناً، وظاهراً - يعني الذين اغتروا بكلامهم - وإنما التبس عليهم هذا، واشتبه، كما التبس على غيرهم من أصناف المبتدعة، فهؤلاء ليسوا كفاراً قطعاً، بل يكون منهم الفاسق، والعاصي، وقد يكون منهم المخطئ المغفور له، وقد يكون معهم من الإيمان، والتقوى ما يكون معه به من ولاية الله بقدر إيمانه، وتقواه"[10].

ويقول أيضاً: "من كان له من الإيمان، والتقوى، وإصابة الحق ما تنغمر به مخالفته مثل هذا يكون له من ولاية الله، وولاية أهل الإيمان بقدر إيمانه، وتقواه، مع أننا لا ننكر أنه قد يقترن بالحسنات سيئات إما مغفورة، أو غير مغفورة، بل قد يكون للمتأخرين، وإن حصلت منهم المخالفة لخفاء بعض المسائل عليهم، واجتهادهم في طلب الحق ما يكون للعامل منهم أجر خمسين رجلاً في زمن الصحابة لأن الصحابة كانوا يجدون من يعينهم على ذلك، وهؤلاء لم يجدوا أعواناً"[11].

فكيف بمن أفنى عمره، وهو يشتغل بزيد، أو عمر يحذر منه، ويذمه، ويعيبه؟!

يقول شيخ الإسلام: "كما قد يتعذر، أو يتعسر على السالك سلوك الطريق المشروعة المحضة إلا بنوع من المحدث - يعني البدعة - لعدم القائم بالطريق علماً، وعملاً، فإذا لم يحصل النور الصافي بأن لم يوجد إلا النور الذي ليس بصافٍ، فإما أن لا يقبل، وإلا بقي الإنسان في الظلمة، ومن هنا فينبغي أن يعاب المرء، وينهى عن نور فيه ظلمة"[12].

يعني إنسان عنده بعض الأخطاء، عنده بعض الانحرافات، أو يصاحب بعض من عندهم بعض الأخطاء، أو الانحرافات، أو البدع، لا يوجد غير هؤلاء في ذلك البلد، نقول له: اترك، تحول إلى ملحد.

الجواب: لا!    
يبقى مع هؤلاء، يقول: "وإلا فكم ممن عدل عن ذلك يخرج عن النور بالكلية؛ لما يراه يعني في طرق الناس من الظلمة، هو يريد شيئاً لا ظلمة فيه، وهو في ناحية لا يوجد فيها النور الخالص، ماذا يفعل؟

نقول: هذا أصح ما في الباب، كن مع هؤلاء.

ويقول: "وإنما قررت هذه القاعدة ليحمل ذم السلف، والعلماء للشيء على موضعه"[13].

نحن نأخذ بعض العبارات لبعض السلف، ثم نجعلها شعاراً كبيراً نرمي به كل من خالفنا.

السلف قالوها في أوضاع، وفي أحوال، قالوها في بيئات، فهنا شيخ الإسلام يقول: "إنما قررت هذه القاعدة ليحمل ذم السلف، والعلماء على موضعه، ويعرف أن العدول عن كمال خلافة النبوة المأمور به شرعاً تارة يكون لتقصير بترك الحسنات علماً، وعملاً، وتارة بعدوان، بفعل السيئات علماً، وعملاً، وكل من أمرين قد يكون عن غلبة، وقد يكون مع القدرة"[14].

يعني قد يون الإنسان هذا غاية ما يستطيع أن يفعله من الصلاح، والإصلاح، هذه الإمكانيات التي يستطيع أن يصل إليها، عنده عوائق، عنده مشكلات، عنده واقع لا يستطيع أن يصلح كل ما يريد، فيقول: إن كان لم يقصر فهو معذور، وإن قصر فهو معاقب على هذا التقصير.

يقول: "فالأول قد يكون لعجز، وقصور، وقد يكون مع قدرة، وإمكان، والثاني قد يكون مع حاجة، وضرورة، وقد يكون مع غنى، وسعادة، وكل واحد من العاجز عن كمال الحسنات، والمضطر إلى بعض السيئات معذور" إلى أن قال: "فهذا طريق الموازنة، والمعادلة، ومن سلكه كان قائماً بالقسط الذي أنزل الله له الكتاب، والميزان"[15].

هو في وقت، في زمان، في عصر، في بلد هذا غاية الإمكان من الإصلاح، والصلاح، ماذا يفعل؟ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة: 286].

النجاشي في أرض الحبشة ما استطاع أن يحكم بشرع الله .

يوسف ﷺ كان هو العزيز في مصر، لكنه ما استطاع أن يحكم بشريعة يعقوب لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا.

يقول شيخ الإسلام: "ومن هؤلاء أيضاً من يكون قد رد على غيره من الطوائف الذين هم أبعد عن السنة" هنا يتكلم عن المبتدعة، أشاعرة يردون على معتزلة، معتزلة يردون على الفلاسفة، يقول: "من هؤلاء من يكون قد رد على غيره من الطوائف الذين هم أبعد عن السنة منه، فيكون محموداً فيما رده من الباطل، وما قاله من الحق، لكن يكون قد جاوز العدل في رده بحيث جحد بعض الحق، وقال بعض الباطل، ومثل هؤلاء إذا لم يجعلوا ما ابتدعوه قولاً يفارقون به جماعة المسلمين، يوالون عليه، ويعادون، كان من نوع الخطأ، والله يغفر للمؤمنين خطأهم في مثل ذلك"[16] فهؤلاء قد يكون الواحد منهم معذوراً؛ لأن هذا غاية ما أمكنه، غاية ما استطاع، والله يقول:  فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ ۝ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [الزلزلة: 7 - 8].

أما الإلغاء الكامل فهذا غير صحيح، وهو خلاف العدل، ولذلك كان - رحمه الله - لا يعمم الأحكام على الطوائف، نحن لا نرضى إلا بالانتساب للألقاب الشرعية، والتحزب لا يجوز، حرام، يجب على المؤمن أن يرضى بما سماه الله به الإسلام، الإيمان، ويحب المؤمنين بقدر ما عندهم من الإيمان.

هذا الذي ندين الله به، وندعو الناس إليه، ولكن كيف نتعامل مع المخالفين؟

نحن لا نحكم عليهم باعتبار هذه الأسماء التي يسموا بها، وإنما ننظر إلى حالهم، ولا نعمم الأحكام على الجميع لخطأ وقع لبعضهم.

  1.  المصدر السابق (3/ 231).
  2.  أخرجه البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، باب حديث الغار، برقم (3478)، ومسلم، كتاب التوبة، باب في سعة رحمة الله تعالى، وأنها سبقت غضبه، برقم (2756).
  3.  مجموع الفتاوى (3/ 231).
  4.  مجموع الفتاوى (3/ 231).
  5.  المصدر السابق (3/ 233).
  6.  المصدر السابق.
  7.  المصدر السابق (12/ 494).
  8.  المصدر السابق (20/ 165).
  9. المصدر السابق (13/ 63).
  10.  المصدر السابق (3/ 355).
  11.  المصدر السابق (13/ 65).
  12.  المصدر السابق (10/ 364).
  13.  المصدر السابق (10/ 365).
  14.  المصدر السابق (10/ 365).
  15.  انظر: المصدر السابق (10/365 - 366).
  16.  المصدر السابق (3/ 348 - 349).
قول شيخ الإسلام في الصوفية

انظر مثلاً إلى كلامه - رحمه الله - على الصوفية، تكلم عن تعلق الصوفية بالمردان، ورأيهم في ذلك، وقولهم: "إن هذا التعلق يورث النفس صفاءً، وشفافية، هم يبررون له الآن، وينظرون أن هذا طاعة، وقربة لله ماذا يقول عنهم؟

يقول: "والصوفية المشهورون بالذين لهم لسان صدق في الأمة لم يكونوا يستحبون مثل هذا، بل ينهون عنه، ولهم في الكلام في ذم صحبة الأحداث، والرد على أهل الحلول، وبين مباينة الخالق للمخلوق ما لا يتسع هذا الموضع لذكره، وإنما استحسنه من تشبه بهم من هو عاصٍ، أو فاسق، أو كافر، فتظهر بدعوى الولاية لله، وتحقيق الإيمان، والعرفان، وهو من شر أهل العداوة لله، وأهل النفاق، والبهتان"[1] يقول: ما كلهم يقولون هذا!

يقول: الصلحاء منهم، والأخيار، والأتقياء، والأئمة ما يقولون بمثل هذا.

ولذلك حينما نأتي نحن مثلاً إلى طائفة من هذه الطوائف لننفر الناس مثلاً عنها، نعم عندهم أخطاء، لكن ليس من العدل أن أجمع أخطاء جميع طوائف الطوائف المنتسبة - مثلاً - إلى الصوف، وما عندهم من الغلو، والانحرافات الشنيعة، ثم آتي بها في رسمة، واحدة، مشوهة، سوداء، وأقول: هذا هو حال الصوفية.

جمعناه من كلام طوائف كثير، لا تقولوا به طائفة، واحدة منهم مجتمعة، فهذا ليس من العدل أن أجمع أسوأ ما عند الطوائف الكثيرة المنتسبة إلى هذا الأمر، ثم آتي به في منظومة، واحدة، وأقول: هؤلاء هم كذا! هذا ما يجوز، لا يحل.

كذلك أيضاً انظر إلى ثنائه على من أحسن منهم، ويقرر هذا بصورة عامة، يقول: "ومن له في الأمة لسان صدق عام بحيث يثنى عليه، ويحمد في جماهير أجناس الأمة، فهؤلاء هم أئمة الهدى، ومصابيح الدجى، وغلطهم قليل بالنسبة إلى صوابهم، وعامته من موارد الاجتهاد التي يعذرون فيها، وهم الذين يتبعون العلم، والعدل، فهم بعداء عن الجهل، والظلم، وعن اتباع الظن، وما تهوى الأنفس"[2].

ويقول: "لكن شيوخ أهل العلم الذين لهم لسان صدق، وإن وقع في كلام بعضهم ما هو خطأ منكر، فأصل الإيمان بالله، ورسوله إذا كان ثابتاً غفر لأحدهم خطأه الذي أخطأه بعد اجتهاده"[3].

ويقول: "ومن جعل كل مجتهد في طاعة أخطأ في بعض الأمور مذموماً، معيباً، موقوتاً فهو مخطئ، ضال، مبتدع"[4].

بل كان - رحمه الله - يثني على بعض الأشخاص، كأبي الحسن الأشعري مثلاً لما له من جهود في الرد على المعتزلة، وبيان تناقضاتهم، وهو الخبير بأقوالهم، حتى جعلهم في قمع السمسمة، إلى آخر كلامه عنه[5].

وهكذا كلامه عن أبي ذر الهروي، أبو ذر الهروي هو الذي صدر المذهب الكلامي إلى الآفاق بلاد المغرب، وغيرها؛ لأنه كان في الحرم، كان في مكة، ويأتون الناس، وهو الذي يروي صحيح البخاري - رحمه الله - فكان يأتونه من الآفاق، ويتلقون ذلك المذهب عنه.

فيقول: "أبو ذر الهروي لما فيه من الخير، والدين، والعلم، والمعرفة بالحديث، والسنة، وانتساباً لحديث البخاري عن شيوخه الثلاثة، وغير ذلك من الفضائل"[6].

وهكذا كلامه عن أبي بكر الباقلاني، حيث يقول في وصفه بأنه فحل الطائفة الأشعرية، فيقول: "وأنه أفضل المتكلمين المنتسبين إلى الأشعري، وأنه ليس فيهم مثله لا قبله، ولا بعده، ولا أحسن تصنيفاً، وكتباً منه، وهو أكثرهم إثباتاً بعد الأشعري في الإبانة، وفيه من الفضائل العظيمة، والمحاسن الكثيرة، والرد على الزنادقة، والملحدين، وأهل البدع الشيء الكثير، وهكذا جهوده في الرد على الباطنية، والنصارى"[7].

فليس القصد من هذا أن أهل البدع نثني عليهم، وأننا نقترب منهم، وأننا نضع أيدينا في أيديهم، وإنما القصد: إذا كان شيخ الإسلام يتكلم عن أهل البدع بهذه الطريقة فرفقاً بإخوانكم من أهل السنة فقط!

هذا القدر الذي أريد أن أصل إليه، أن ننظر إلى حالنا مع إخواننا الذين نختلف معهم في الاجتهادات، وانظر إلى شيخ الإسلام مع هؤلاء أصحاب البدع في الاعتقاد كيف يتكلم عليهم بهذا العدل، والإنصاف، وكيف يذكرهم بحسناتهم، وما إلى ذلك.

وليس القصد أن نذكر أهل البدع بحسناتهم، هذه أحوال لا نريد الآن أن نطالب الآخرين بها.

شيخ الإسلام وصل إلى هذه المستويات لكن نحن نريد مع من نختلف معهم في اجتهادات من أهل السنة كيف صارت الحال إلى هذا التفرق، والتمزق؟

يقول عن أبي حامد الغزالي، أثنى على جهوده في الرد على الفلاسفة، وفي مسألة إثبات الصانع، وغير ذلك من المسائل.

وابن مرحل، وكذا ابن الوكيل، وابن المرحل، شيخ الشافعية في زمانه كان من أشد أعداء شيخ الإسلام ابن تيمية، وكان يناظره في كثير من المجالس، والمحافل.

كان شيخ الإسلام يثني عليه، وعلى علومه، وفضائله، ويشهد له بالإسلام، وإذا قيل له عن أفعاله، وأعماله القبيحة، كان يقول: "كان مخلّطاً على نفسه، متبعاً مراد الشيطان منه، يميل إلى الشهوة، والمحاضرة"[8] فقط!

ويثني عليه.

بل يلتمس المعاذير للطوائف المنحرفة أحياناً، وللأشخاص المنحرفين، فكلامه عن الصوفية مثلاً كطائفة، حينما يلتمس المعاذير، ويتكلم - رحمه الله - عن هؤلاء، وقول بعضهم: بأن الأوامر، والنواهي للعوام دون الخواص.

يعني هم الذين يخاطبون بالتكاليف الشرعية، هذا كلام كبير!، ثم ذكر استدلالهم، يقول: "وربما تأولوا على ذلك قوله تعالى: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [الحجر: 99]"[9].

فأتينا بشيخ الإسلام لأنه شخصية مجمع عليها، لو أتينا بأحد المعاصرين، فللأسف الآن أن نقرأ في كتابات في تويتر كلاماً يقف منه شعر الرأس فيما يقال عنهم: أئمة هدى في هذا العصر.

أتينا بشخصية مجمع عليها، هذا كلامه.

هؤلاء الذين يقولون: إن التكاليف الشرعية لا تتوجه إلى الخواص، يقول: ربما تأولوا قوله: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ وجعلوا اليقين هو معرفة هذه الحقيقة.

يقول: قول هؤلاء كفر صريح، وإن وقع فيه طوائف لم يعلموا أنه كفر.

الذهبي - رحمه الله - يقول عنه: "ومذهبه توسعة العذر للخلق، ولا يكفر أحداً إلا بعد قيام الحجة عليه"[10].

حينما يتكلم عن الأشخاص، وفي كلامه عن الاتحادية، وهؤلاء من غلاة المتصوفة، وما نقل عن بعض الشيوخ من كلمات توهم الحلول، والاتحاد، يقول: "وإن سمع شيء من ذلك منقول عن بعض أكابر الشيوخ، فكثير منه مكذوب"[11].

فكيف بالذي يكذب على طلاب العلم، والدعاة إلى الله ويلفق التهم عليهم بأشياء ما قالوها، ولا تكلموا بها؟!

وشيخ الإسلام يقول: "كثير منه مكذوب، والذي يصح منه عن الشيوخ له معاني صحيحة، ومنه ما صدر عن بعضهم في حال استيلاء حال عليه ألحقه تلك الساعة بالسكران الذي لا يميز ما يخرج منه من القول"[12].

جعله سكران غير مؤاخذ، وأن هذا السكر من النوع الذي لا يعاقب عليه الإنسان، يعني ما يسمى بغلبة الحال.

يقول: "ثم إذا ثاب عليه عقله، وتمييزه ينكر ذلك القول، ويكفر من يقوله، وما يخرج من القول في حال غيبة عقل الإنسان لا يتخذه هو، ولا غيره عقيدة، ولا حكم له، بل القلم مرفوع عن النائم، والمجنون، والمغمى عليه، والسكران الذي سكر بغير سبب محرم، ومن ذلك - يعني ما قاله أحد هؤلاء يقال له: أبو عثمان - بأن الغيرة من عمل المريدين، أما أهل الحقائق فلا"[13].

يقول: "فلم يرد - والله أعلم - بذلك الغيرة على محارم الله، وهي الغيرة الشرعية، فإن قدر أبي عثمان أجل من أن يجعل الغيرة التي وصف الله بها نفسه، وكان رسوله ﷺ فيها أكمل من غيره، وهي مما أوجبه الله، وأحبه من عمل المريدين دون أهل الحقائق، وإنما يعني الغيرة الاصطلاحية التي يسميها هؤلاء المتأخرون غيرة - كما قدمنا - مثل الغيرة..." يعني الغيرة بين الزملاء، والأقران، والمنافسة، وإذا حصل لأحدهم ظفر، أو تقدم، أو تميز، لا يقصد الغيرة الشرعية.

فحمل كلامه على أحسن المحامل، ويقول: "ورأيت بخط الأستاذ أبي علي أنه قيل للصوفي: أين الله؟
فقال: أسحقك الله، تطلب مع العين أثراً؟

يقول شيخ الإسلام: "هذا كلام مجمل قد يعني به الصديق معنى صحيحاً، ويعني به الزنديق معنى فاسداً..."[14] إلى آخر ما قال.

وقال في معرض كلامه عن غلو فريق من المتصوفة في المحبة، يقول: "وكثير من السالكين سلكوا في دعوى حب الله أنواعاً من أمور الجهل بالدين، كقول بعضهم: "أي مريد لي ترك في النار أحداً فأنا بريء منه"[15].

ويقول بعضهم: "إذا كان يوم القيامة نصبت خيمتي على جهنم حتى لا يدخلها أحد"[16].

وأمثال ذلك من الأقوال التي تؤثر عن بعض المشايخ المشهورين، وهي إما كذب عليهم، وإما غلط منهم.

يقول: "ومثل هذا قد يصدر في حال سكر يسقط فيه التمييز - تمييز الإنسان - أو يضعف حتى لا يدري ما يقول، والسكر هو لذة مع عدم تمييز، ولهذا كان من بين هؤلاء من إذا صحا استغفر من ذلك الكلام"[17].

ونفى - رحمه الله - أن يكون قول مثبتة الصفات كابن كلّاب، والأشعري، ونحوهما هو قول الجهمية، أو المعتزلة، وبين صرامة هؤلاء من أولئك الجهمية، والمعتزلة، وبين تضليل هؤلاء للجهمية، والمعتزلة، ورد على من يقول بأن الأشعري كان يبطن غير ما يظهر من اتباع السلف، وأنه كان يتستر بالانتساب إلى الإمام أحمد، وبين شيخ الإسلام الذين نسبوا إليه هذه التهمة أنهم خالفوه في العقيدة مع محبتهم له، فكرهوا أن ينسبوا إلى غير اعتقاد الأشعري، فقالوا: كان يتستر بالانتساب إلى الإمام أحمد[18]  - رحم الله الجميع -.

وبين علة انتصار الأشعري في الصفات لطريقة ابن كلاب، ابن كلاب كان من المتكلمين، فقال: "وذلك لكونه لم يعرف غيرها في الوقت الذي تعد فيه أقرب إلى السنة من قول المعتزلة"[19].

وكذلك أيضاً رد ما نسب إليه من القول بأن الله لم يكن قادراً على الفعل في الأزل، وبين أن أعداءه هم الذين نسبوا إليه هذا القول لتنفر منه قلوب الناس[20].

كما صرح بأن الأشعري كان ينتسب إلى الإمام أحمد، وأنه أقرب إليه من بعض الحنابلة الذين مالوا إلى بعض كلام المعتزلة كابن عقيل، وابن الجوزي، وغيرهما[21].

ورد على بعض أئمة المتكلمين كالجويني، والغزالي، حيث نسبوا إلى أهل السنة ما ليس من مذهبهم، لكنه بين أنهم لم يتعمدوا الكذب في ذلك، وإنما آفتهم من جهة كون الناقل لم يضبط القول المحكي، أو أن القائل نفسه لم يحرر قولهم، إضافة إلى قلة معرفة هؤلاء بحال أهل السنة.

يقول: ما تعمدوا الكذب!

في كلامه على الرازي، وهو من أساطين المتكلمين، أساء بعض العلماء حتى من المتكلمين الظن بالرازي قالوا إنه يورد الشبه، شبه أعداء الإسلام نقداً، ويرد عليها نسيئة.

يعني الشبهة تأتي محكمة، مخيوطة، والرد يأتي ضعيفاً، شيخ الإسلام يقول: "وليس هذا تعمداً منه لنصر الباطل، بل يقول بحسب ما توافقه الأدلة العقلية في نظره، وبحثه، فإذا وجد في المعقول بحسب نظره ما بقدح به في كلام الفلاسفة قدح به، فإن من شأنه البحث المطلق بحسب ما يظهر له، فهو يقدح في كلام هؤلاء بما يظهر له أنه قادح فيه من كلام هؤلاء، وكذلك يصنع بالآخرين.

ومن الناس من يسيء به الظن، وهو أنه يتعمد الكلام الباطل، وليس كذلك، بل تكلم بحسب مبلغه من العلم، والنظر، والبحث في كل مقام يظهر له"[22].

يقول: هو يستنفذ جهده، هذه هي طاقته، وإمكاناته.

ويعلق على قول الجنيد بأن التوحيد إفراد القدم من الحدث، فيقول: "هذا الكلام فيه إجمال، والمحق يحمله محملاً حسناً، وغير المحق يدخل فيه أشياء... وأما الجنيد فمقصودة التوحيد الذي يشير إليه المشايخ، وهو التوحيد في القصد، والإرادة..."[23] إلى آخر ما قال.

يعني يحمل كلام الجنيد على محمل صحيح، والعبارة مجملة تحتمل معنى صحيح، أو معنى باطل.

وهكذا في قول بعض الصوفية: ما عبدتك لشوق إلى جنتك، ولا خوفاً من نارك، ولكن لأنظر إليك، أو إجلالاً لك.
يقول: "هذا مع ما فيه من الخطأ على حسن القصد، هذا كحال كثير من الصالحين، والصادقين، وأرباب الأحوال، والمقامات، يكون لأحدهم مجد صحيح، وذوق سليم، لكن ليس له عبارة تُبين عن مراده، فيقع في كلامه غلط، وسوء أدب مع صحة مقصوده"[24].

هذه تعتبر من الشطحات، ويتلمس لها مثل هذه المخارج، ونحن الآن أمام اجتهادات، ومع ذلك ننزل عليها الأحكام الكبار.

أبو عبد الرحمن السلمي الصوفي، وليس التابعي، فهذا كان من أهل التصوف "معروف" يقول عنه شيخ الإسلام حينما كان يتحدث السلمي عن أهل الصفة، وزهاد السلف، وله كتاب في طبقات الصوفية، يقول: "وقد جمع أسماءهم الشيخ أبو عبد الرحمن السلمي، وفيما جرى معه فوائد كثيرة، ومنافع جليلة".

مع أنكم لو قرأتم بالكتاب لوجدتم شيء من الطوامّ، يقول فيما جمعه: فوائد كثيرة، ومنافع جليلة، وهو في نفسه رجل من أهل الخير، والدين، والصلاح، والفضل، وما يرويه من الآثار فيه من الصحيح شيء كثير، ويروي أحياناً أخباراً ضعيفة بل موضوعة، يعلم العلماء أنها كذب، وما يظن به، وبأمثاله إن شاء الله تعمد الكذب، لكن لعدم الحفظ، والإتقان يدخل عليهم الخطأ في الرواية، فإن النساك، والعباد منهم من هو متقن في الحديث، ومنهم من قد يقع في بعض حديثه غلط، وضعف.

وكذلك ما يأثره أبو عبد الرحمن عن بعض المتكلمين في الطريق، أو ينتصر له من الأقوال، والأفعال، والأحوال فيه من الهدى، والعلم شيء كثير، وفيه أحياناً من الخطأ أشياء، وبعض ذلك يكون عن اجتهاد سائغ، وبعضها باطل قطعاً..." إلى أن قال: "فالذي جمعه الشيخ أبو عبد الرحمن، ونحوه في تاريخ أهل الصفة، وأخبار زهاد السلف طبقات الصوفية يستفاد منه فوائد جليلة، ويجتنب ما فيه من الروايات الباطلة، ويتوقف فيما فيه من الروايات الضعيفة..."[25] إلى آخر ما ذكر.

هنا يتكلم عن هؤلاء الذين ملأوا هذه الكتب بانحرافات، وشطحات من شطحات الصوفية.

لما تكلم عن ذي النون المصري، وموقف شيوخ الصوفية من السماع - يعني السماع المحرم الأغاني - وما يستدلون به، يقول معتذراً لذي النون: "فإن كان هذا الكلام ثابتاً عن ذي النون - رحمة الله عليه - فيكون ذو النون هو أحد الذين حضروا التغبير.

التغبير يعني ليست تلك الأغاني التي... وإنما طرق بقضيب، ونحو ذلك، ويرددون معه بعض القصائد.

يقول: "لربما يكون هو أحد الذين حضروا التغبير الذي أنكره الأئمة، وشيوخ السلف، ويكون هو أحد المتأولين في ذلك، وقوله فيه كقول شيوخ الكوفة، وعلمائها في النبيذ الذين استحلوه"[26].

كلامه عن الشبل من مشاهير الصوفية، وأنه يردد: الله، الله، الله، الله، الله في الذكر، يقول: "وما روي عن الشبل أنه كان يذكر الله بمثل ذلك، ثم قال يعني: وهذه من زلات الشبل التي تغفر له لصدق إيمانه، وقوة، وجده، وغلبة الحال عليه، فإنه كان ربما يجن، ويُذهب له إلى المارستان - يعني: المستشفى - ويحلق لحيته - يعني يفقد صوابه، ويفقد عقله - ويحلق لحيته، يقول: وله أشياء من هذا النمط التي لا يجوز الاقتداء به فيها، وإن كان معذوراً، أو مأجوراً"[27].

ألا نعذر إخواننا من أهل السنة؟ في اجتهادات، ويتكلم عن ناس بهذا المستوى.

في كلامه عن أبي حامد الغزالي، وذكر له في موضع من كلام الصوفية في الخلوة الحيرة التي تعرض لبعض السالكين: "وقول محمد بن الفضل العارف: كلما انتقل من حال إلى حال استقبلته الدهشة، والحيرة، وقال: أعرف الناس بالله أشدهم فيه تحيّراً.

وقول الجنيد: انتهى عقل العقلاء للحيرة.

وقال ذو النون: غاية العارفين التحيّر"[28].

وشيخ الإسلام يقول: والله قد ذم الحيرة في القرآن في قوله: قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى [الأنعام: 71].

يقول: "في الجملة: فالحيرة من جنس الجهل، والضلال، ولم يمدح الحيرة أحد من أهل العلم، والإيمان، ولكن طائفة من الملاحدة، كصاحب الفصوص، وابن عربي، وأمثاله"[29] والمقصود هنا الكلام على ما ذكره، أو ما ذكر عن هؤلاء الشيوخ.

يقول: "أما قول محمد بن الفضل... هذا قد يراد به أنه كلما انتقل إلى مقام من المعرفة، واليقين حصل له تشوق إلى مقام لم يصل إليه من المعرفة، فهو حائر بالنسبة إلى ما لم يصل إليه دونما وصل إليه، يعني ليست حيرة مطلقة"[30].

يقول: "وقوله أعرف الناس بالله أشدهم فيه تحيراً، أي أطلبهم زيادة العلم، والمعرفة، فإن كثرة علمه، ومعرفته توجب له الشعور بأمور لم يعرفها بعد"[31].

يقول: وأما ما نقل عن الجنيد، أنه قال: انتهى عقل العقلاء إلى الحيرة، فهذا ما أعرفه من كلام الجنيد، وفيه نظر هل قاله؟ ولعل الأشبه أنه ليس من كلامه المعهود، فإن كان قد قال هذا فأراد عدم العلم بما لم يصل إليه، لم يرد أن الأنبياء، والأولياء لم يحصل لهم يقين، ومعرفة، وهدى، وعلم فإن الجنيد أجل من أن يريد هذا، ولكن إذا قيل إن أهل المعرفة مهما حصّلوا من المعرفة، واليقين، والهدى، فهناك أمور لم يصلوا إليها، فهذا صحيح"[32].

ثم ذكر كلام ذي النون، واعتذر له أيضاً، وقال: "فما أدري هل قال هذا أم لا؟"![33]

ثم يقول: "كل يؤخذ من قوله، ويترك إلا رسول الله ﷺ وما ثمّ معصوم من الخطأ غير الرسول ﷺ لكن الشيوخ الأجلاء الذين عرف صحة طريقتهم، علم أنهم لا يقصدون ما يعلم فساده بالضرورة من العقل، والدين"[34]

  1. مجموع الفتاوى (15/ 427).
  2.  المصدر السابق (11/ 43).
  3.  الصفدية (1/ 265).
  4.  مجموع الفتاوى (11/ 15).
  5.  انظر: مجموع الفتاوى (5/ 556)، والفتاوى الكبرى لابن تيمية (6/ 631).
  6.  درء تعارض العقل، والنقل (2/ 101).
  7.  مجموع الفتاوى (5/ 98).
  8.  مجموع الفتاوى (5/ 98).
  9. الفتاوى الكبرى لابن تيمية (5/ 168)، ومجموع الفتاوى (10/ 166).
  10.  انظر: ذيل طبقات الحنابلة (4/ 506)، والمسائل، والأجوبة (ص: 246).
  11.  مجموع الفتاوى (11/ 74).
  12.  المصدر السابق.
  13.  المصدر السابق(11/ 74 - 75).
  14.  الاستقامة (1/ 191).
  15.  العبودية (ص: 114)، ومجموع الفتاوى (10/ 209)، والفتاوى الكبرى لابن تيمية (5/ 199).
  16.  المراجع السابقة.
  17.  مجموع الفتاوى (10/ 209)، والعبودية (ص: 115)، والفتاوى الكبرى لابن تيمية (5/ 199).
  18.  الفتاوى الكبرى لابن تيمية (6/ 596)، والمستدرك على مجموع الفتاوى (1/ 84)، ودرء تعارض العقل، والنقل (2/ 16)، ومجموع الفتاوى (8/ 296).
  19.  الفتاوى الكبرى لابن تيمية (6/ 631).
  20.  درء تعارض العقل، والنقل (2/ 264).
  21.  المصدر السابق (1/ 270).
  22. مجموع الفتاوى (5/ 561 - 562).
  23. الاستقامة (1/ 92).
  24.  انظر: الاستقامة (2/ 105 - 106)، والزهد، والورع، والعبادة (ص: 132)، والفتاوى الكبرى لابن تيمية (2/ 405)، ومجموع الفتاوى (10/ 699).
  25.  مجموع الفتاوى (11/ 43).
  26.  الاستقامة (1/ 385).
  27.  مجموع الفتاوى (10/556 - 557).
  28.  الفتاوى الكبرى لابن تيمية (5/ 57)، ومجموع الفتاوى (11/ 383).
  29.  الفتاوى الكبرى لابن تيمية (5/ 59)، ومجموع الفتاوى (11/ 385).
  30.  الفتاوى الكبرى لابن تيمية (5/62 - 63)، ومجموع الفتاوى (11/ 391).
  31. الفتاوى الكبرى لابن تيمية (5/63)، ومجموع الفتاوى (11/ 391).
  32.  مجموع الفتاوى (11/ 392).
  33. المصدر السابق (11/ 392 - 393).
  34.  الفتاوى الكبرى لابن تيمية (5/ 64)، ومجموع الفتاوى (11/ 393).
قول شيخ الإسلام في الرافضة

ويقول في المفاضلة بين أهل الأهواء، وطوائفهم: "والرافضة فيهم من هو متعبد، متورع، زاهد، لكن ليسوا في ذلك مثل غيرهم من أهل الأهواء، فالمعتزلة أعقل منهم، وأعلم، وأدين، والكذب، والفجور فيهم أقل منهم في الرافضة، والزيدية من الشيعة خير منهم، وأقرب إلى الصدق، والعدل، والعلم، وليس في أهل الأهواء أصدق، ولا أعبد من الخوارج، ومع هذا فأهل السنة يستعملون معهم العدل، والإنصاف، ولا يظلمونهم، فإن الظلم حرام مطلقاً، بل أهل السنة لكل طائفة من هؤلاء خير من بعضهم لبعض، بل هم للرافضة خير، وأعدل من بعض الرافضة لبعض، وهذا مما يعترفون هم به، ويقولون: أنتم تنصفوننا ما لا ينصف بعضنا بعضاً، وهذا لأن الأصل الذي اشتركوا فيه أصل فاسد مبني على جهل، وظلم، وهم مشتركون في ظلم سائر المسلمين، فصاروا بمنزلة قطاع الطريق المشتركين في ظلم الناس، ولا ريب أن المسلم، العالم، العادل، أعدل عليهم، وعلى بعضهم من بعض.

 
أهل السنة أعلم بالحق، وأرحم بالخلق

والخوارج تكفر أهل الجماعة، وكذلك أكثر المعتزلة يكفرون من خالفهم، وكذلك أكثر الرافضة، ومن لم يكفر فسّق، وكذلك أكثر أهل الأهواء يبتدعون رأياً، ويكفرون من خالفهم فيه، وأهل السنة يتبعون الحق من ربهم الذي جاء به الرسول - صلى الله عليه، وسلم، ولا يكفرون من خالفهم فيه، بل هم أعلم بالحق، وأرحم بالخلق كما وصف الله به المسلمين بقوله:  كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [آل عمران: 110] الآية"[1].

  1.  منهاج السنة النبوية (5/ 157 - 158).
نهى شيخ الإسلام عن قتل من سفك دماء المسلمين

ثم ذكر - رحمه الله - ما حصل من بعض الرافضة بساحل الشام من سفك دماء المسلمين، وأخذ أموالهم، بل باعوا أسر المسلمين للنصارى، وحمل بعض أمرائهم راية النصارى، وصرح بأن النصارى خير من المسلمين، وحمل الصليب الكبير.

يقول: ومع ذلك فلما ظفر بهم المسلمون، نهى - رحمه الله - نهى شيخ الإسلام عن قتلهم، أو سبيهم، وكان يقول: "في المفاضلة بين المتكلمين من الصفاتية، وبين غيرهم من المعتزلة، والفلاسفة، يقول: لهذا كان المتكلمة الصفاتية كابن كلّاب، والأشعري، وابن كرّام خيراً، وأصح طريقاً في العقليات، والسمعيات من المعتزلة، والمعتزلة خيراً، وأصح طريقاً في العقليات، والسمعيات من المتفلسفة، وإن كان في قول كل من هؤلاء ما يُنكر عليه، وما خالف فيه العقل، والسمع، ولكن من كان أكثر صواباً، وأقوم قيلاً كان أحق بأن يقدم على من هو دونه تنزيلاً، وتفصيلاً"[1].

  1.  شرح العقيدة الأصفهانية (ص: 101).
قول شيخ الإسلام في الأشاعرة

بكلامه عن الأشاعرة، كلامه عنهم كثير جداً، يقول، يتحدث عن دورهم في قمع الرافضة، والقرامطة، حين استظهروا في أول دولة السلاجقة، فهزمهم السلاجقة، يقول: "وكان من أبرز الوزراء آنذاك "نظام الملك" - هذا الوزير من أبرز الوزراء - وكان أشعرياً، ومن أبرز العلماء أبو المعالي الجويني"[1].

يقول: كلاهما من الأشاعرة.

كما أثنى على صلاح الدين، ووصفه بأنه من ملوك السنة حيث فتح مصر، وظهرت فيها كلمة السنة بعد أن استولى عليها الباطنية، كما أثنى على جهودهم في فضح الباطنية، وكشف أسرارهم.

يقول: " ولو لم يكن إلا كتاب "كشف الأسرار، وهتك الأستار" للقاضي أبي بكر محمد بن الطيب، وكتاب عبد الجبار بن أحمد، وكتاب أبي حامد الغزالي، وكلام أبي إسحاق، وكلام ابن فورك، والقاضي أبي يعلى، والشهرستاني"[2].

وأثنى على جهودهم في الرد على الفلاسفة.

وأن جهود الأشاعرة، وأدلتهم في حدوث العالم مبطلة لحجة الفلاسفة على قدم العالم حينما يتكلم على الشيعة.

نفى أن يكون جميع ما انتقد عليهم باطلاً في نفس الأمر، يقول: "بل لهم أقوال وافقهم عليها بعض أهل السنة، وقد يكون الصواب مع من وافقهم، لكن ليس لهم مسألة انفردوا فيها، فكان الصواب في جانبهم".

يقول عندهم جوانب صواب لكن وافقوا فيه أهل السنة، لكن لا يوجد عندهم صواب ينفردون به، ولذلك بعض الناس اليوم، بعض الشباب من المثقفين ممن يقول: "لا أؤجر عقلي، أو سمعي عن كلمة" وصار يرددها، يقول: نحن نبحث عن الحق هنا، وهناك، ونقرأ لهذا، وذاك، ونبحث عن الجوانب الإيجابية عند هذه الطوائف، ولا يوجد أحد يحتكر الحق، والحقيقة المطلقة.

كلام باطل يردد.

فهذا قول من لم يعرف الحق الذي جاء به الرسول ﷺ .

  1.  مجموع الفتاوى (4/ 18).
  2.  الرد على المنطقيين (ص: 142)، ومجموع الفتاوى (9/ 134).
قول شيخ الإسلام في الفلاسفة

وفي كلامه كذلك عن الفلاسفة يقرر أن غالب كلام الفلاسفة في الطبيعيات جيد؛ لأن العلوم الفلسفية أنواع، وشيخ الإسلام يقرر أنهم في الإلهيات أضل الناس، وأما في الطبيعيات مثل: الهندسة، والجبر، والحساب، والطب، هذه كلها من علوم الفلسفة الأصل، الفلسفة القديمة كانت تشمل هذه العلوم.

فكلامهم فيها جيد، وأن لهم عقولاً عرفوا بها ذلك[1].

  1.  انظر: الرد على المنطقيين (ص: 234)، و(ص: 299)، والجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح لابن تيمية (5/ 36 - 37)، ومجموع الفتاوى (17/ 335).
قول شيخ الإسلام في الحلولية

بل - رحمه الله - لما تكلم عن الحلولية، قال: "وفيهم صنفٌ ثالث أمثل من هذين، يجمعون بين الحلول، والمباينة، وهو قول طائفة من الناس، وقد يوجد في كلام أبي طالب المكّي، وابن برّجان ما يقال: إن فيه ما يشبه هذا، وعامة هؤلاء يتكلمون بكلام متناقض، أو بكلام لا حقيقة له، إذ كان الأصل الذي بنوا عليه كلامهم أصلاً باطلاً، لكن شيوخ أهل العلم الذين لهم لسان صدق، وإن وقع في كلام بعضهم ما هو خطأ منكر، فأصل الإيمان بالله، ورسوله إذا كان ثابتاً غفر لأحدهم خطؤه الذين أخطأه بعد اجتهاده"[1].

وقال: "وأما أهل الحلول فمنهم من يغلب عليه شهود القلب، وتجليه حتى يتوهم أنه رأى الله بعيني رأسه، ولهذا ذكر طائفة من العباد الأصحاء ذلك غلطاً منهم"[2].

وحينما يتكلم عن الأشخاص أيضاً، مثل ابن سينا، يقول بأن ما ينقله في الإشارات - كتاب الإشارات لابن سيناء - يقول: بأنه مشتمل على حق، وباطل، وأن ما فيه من الحق يقبل، وأثنى عليه في مخالفته الفلاسفة، في مسألة علم الله، وعد ذلك من محاسنه، وفضائله[3].

الإخنائي الذي مضى الكلام عليه، وهو من خصوم شيخ الإسلام ابن تيمية في بعض كلامه في أخطائه التي يرد فيها عليه، يقول: "وهذا الموضع يغلط فيه هذا المعترض، وأمثاله ليس الغلط فيه من خصائصه، ونحن نعدل فيه، ونقصد قول الحق، والعدل فيه كما أمر الله تعالى، فإنه أمر بالقسط على أعدائنا الكفار فقال: كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ [المائدة: 8] الآية.

فكيف بإخواننا المسلمين، والمسلمون إخوة، والله يغفر له، ويسدده، ويوفقه، وسائر إخواننا المسلمين"[4].

ابن مخلوف الذي مضى الكلام عليه لما ذكر شيخ الإسلام لرسول نائب السلطان في الشام، قال له: هذه القضية أكبر مما في نفوسهم، موضوع كبير.

يقول: "فإن طائفة من هؤلاء الأعداء ذهبوا إلى بلاد التتار.

فاستغرب هذا المندوب، قال: بلاد التتار!

يقول: فقلن: نعم! هم من أحرص الناس على تحريك الشر عليكم.

يعني يتآمرون مع العدو الخارجي، يقول: هناك أمور أخرى أيضاً لا يصلح أن أذكرها لك، هؤلاء يقولون ما فوق العرش ربٌ يُدعى، ولا فوق السماء إله يعبد، ولا هناك إلا العدم المحض، والنفي الصرف"[5] إلى آخر ما نقل عنهم.

يقول: "وأنهم يقولون: إن الله هو هذا الوجود، وأنا الله، وأنت الله، والكلب، والخنزير، والعذرة، ويقول: إن الله حال في ذلك - نسأل الله العافية - كلاماً لا يقال.

يقول: فاستعظم ذلك، وهاله أن أحداً يقول هذا.

 فقال: هؤلاء، يعني ابن مخلوف، وذويه![6].

فما استغلها شيخ الإسلام، يقول: "فقلت: هؤلاء ما سمعت كلامهم، ولا خاطبوني بشيء، فما يحل لي أن أقول عنهم ما لا أعلمه، ولكن هذا قول الذين نازعوني بالشام، وناظروني، وصرحوا لي بذلك، وصرح أحدهم بأنه لا يقبل من الرسول ﷺ ما يقوله في هذا الباب مما يخالفهم"[7].

يقول حتى الرسول ﷺ ما نقبل منه!.

  1.  الصفدية (1/264 - 265).
  2.  مجموع الفتاوى (2/ 397).
  3.  منهاج السنة النبوية (6/ 304).
  4.  الرد على الإخنائي ت العنزي (ص: 242).
  5.  مجموع الفتاوى (3/ 218).
  6.  المصدر السابق.
  7.  المصدر السابق.
قول شيخ الإسلام في الرسالة القشيرية

في الكلام على الكتب، الرسالة القشيرية، يقول: "وما اشتملت عليه هذه الرسالة لأبي القاسم القشيري من اعتقادهم، وأخلاقهم، وطريقتهم، فيه من الحق، والخير، والدين أشياء كثيرة، لكن فيه نقص عن طريقة أكثر أولياء الله الكاملين، وهم نقاوة القرون الثلاثة، ومن سلك سبيلهم..."[1] إلى آخر ما ذكر، وما فيها من الخير، والشر، والحق، والباطل، والحسن، والجميل في كلامٍ طويل، هكذا يتكلم.

هذا هو نماذج فقط من كلام كثير يكتب في مجلدات من سيرة هذا الإمام.

وما ذكر فيه الكفاية، وهو كما قلت في أول الكلام: إنما أوجهه لنفسي أولاً، وأجاهدها على الرقي بها إلى هذه المراتب.

وحينما أذكر كلامه - رحمه الله - عن هؤلاء المبتدعة، لا أقصد التضييع، والتمييع، مع أهل الأهواء، والبدع، وإنما أقصد إذا كان شيخ الإسلام يتعامل مع هؤلاء بهذه الطريقة، فلنتعامل مع إخواننا، من أهل السنة بهذا النفس فقط!

لا أريد أكثر من هذا، فرفقاً بإخواننا، وهذا كما قلت في أول الكلام لا يختص بطائفة من الناس وقع عندهم إشكال، أو انحراف، أو خطأ، كلنا من أهل الأخطاء، كلنا خطاء، ولكن علينا دائماً أن نتقي الله، وأن نراجع أنفسنا، وأن نتوب إليه، وأن نستغفر، وأنه لا مخرج من هذا الأحوال التي صرنا إليها إلا بالرجوع إلى الله، والتجرد من حظوظ النفس، والطائفة، وأن يكون مراد الإنسان هو ما عند الله - تبارك، وتعالى -.

شيخ الإسلام كان يقول: ما مني شيء، ولا لي شيء، أنا المكدّى، وابن المكدّى.

فلو كان هذا يقوله كل أحد لما صرنا إلى هذه الحال من التفرق، والانقسام.

طوائف كثيرة متنازعة، لربما يعجز الإنسان عن إحصاء الأسماء التي يتسمون بها من كثرتها، على ماذا هذا الاختلاف؟

فلو تجرد الكل ما قال: أنا عندي امتداد، وأنا عندي أعمال، وأنا عندي سوابق من الطاعات، والدعوة إلى الله، وعندي رصيد من الأتباع.

لو قال: أنا المكدى، وابن المكدى، ما مني شيء، ولا لي شيء.

المقصود هو إعزاز الدين، لا ينسب لي من هذا شيء، ولا لي جهود، ولا لي جهاد، ولا لي عمل، ولا لي بذل، إنما الفضل لله والمقصود هو أن تكون كلمة الله هو العليا، وأن أكون في آخر الساقة.

فهذا لو تجردنا هذا التجرد لما أصبحنا بهذه الحال التي الآن نشاهدها، والعدو يشمت، وجراح الأمة النازفة، والذين لا يتفقون في هذه الكروب، والشدائد المزلزلة لا يمكن أن يتفقوا حال الغنيمة أبداً.

نسأل الله أن يلطف بنا، وأن يعيننا على ذكره، وشكره، وحسن عبادته.

وأسأل الله أن ينفع بهذا الكلام قائله، وأن ينفع به سامعه، وأن يعيننا، وإياكم على ذكره، وشكره، وحسن عبادته، أن نلقاه غير مفتونين، ولا مبدلين، ولا مغيرين، وأن نكون على السنة، والاتباع، والمحجة البيضاء، وأن يعيذنا، وإياكم من مضلات الفتن ما ظهر منها، وما بطن، وإذا أراد بعباده فتنة أن يقبضنا إليه غير مفتونين، ولا فاتنين.

والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله، وصحبه. 

  1.  الاستقامة (1/ 89).

مواد ذات صلة