الأربعاء 25 / جمادى الأولى / 1446 - 27 / نوفمبر 2024
كيف نستثمر رمضان؟
تاريخ النشر: ٢٩ / ذو الحجة / ١٤٢٩
التحميل: 5257
مرات الإستماع: 8168

كيف نستثمر رمضان

ثبت دخول هذا الشهر منذ هذه الليلة، وهذا يعني أن هذه الليلة من رمضان، وأن المردة من الشياطين قد صُفدت منذ غروب شمس اليوم الذي انصرم، وهو يوم الجمعة، فما إن غابت شمسه إلا وقد صفدت المردة الذين يؤزون الناس إلى الفساد، والشر، والكفر، والإعراض عن الله - تبارك، وتعالى -.

وهذا يجعل الطريق منفتحة أمام من أراد أن يعود إلى الله ومن أراد أن يشمر في طاعته، وأن يشتغل بعبادته، وأن يكف عما كان فيه من غيٍّ، وإعراض عن ربه، ومليكه

فإن كثيراً ما يضل الناس بسبب هؤلاء الشياطين، الذين قد توعد كبيرهم أبانا آدم - عليه الصلاة، والسلام - وذريته، فقال: لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا [الإسراء: 62].

هذا عدوكم قد صُفد، وصفد إخوانه من المردة، فهل من مقبل على الله ؟ وهل من مشمر في طاعته؟ وهل من عائد إليه؟ وهل من تائب؟ هذا أمر.

والأمر الآخر: البدايات الصحيحة من شأنها أن تورث النتائج الصحيحة، فابدأ شهرك بطاعة الله ولا تكن من الغافلين، لا تكن ممن إذا جاء الشهر تذكروا البرامج، والقنوات التي قد ملأت إعلاناتها الصفحات من الجرائد الصفراء.

هؤلاء قد أعدوا لكم كثيراً من البرامج التي يسمونها البرامج الرمضانية، ولا أدري ما علاقة هؤلاء المُجّان برمضان، وما علاقة رمضان بالمسلسلات، والأفلام الهابطة!.

فلا يصدنكم ذلكم عن صيامكم، وشهركم، وعن قراءتكم، فإن رمضان هو شهر الصيام، وشهر القيام، وشهر القرآن، وليس بشهر العبث، والسهر هنا، وهناك في أمور لا طائل تحتها، ولا ينتج عنها إلا الخيبة، فاحفظوا أوقاتكم، فهذا موسم عظيم من مواسم الطاعة، والعبادة.

لا تضيع قليلاً، ولا كثيراً من الزمان بغير ذكر الله وقراءة القرآن، واسأل نفسك، وانظر في أمرك، وحالك، كم ستختم ختمة في هذا الشهر؟.

من السلف من كان يختم في رمضان في كل يوم ختمة، ومنهم من كان يختم في كل ثلاث، فأنت يا عبد الله كيف سيكون حالك مع كتاب الله ؟

من السلف من كان إذا فرغ - وهم كثير - الإمام من صلاة التراويح شمروا يصلون لأنفسهم إلى وقت السحر.

ولكن نحن نقول: النبي ﷺ، وعدنا في هذا الشهر بثلاثة، وعود ينبغي أن لا نفرط فيها:

من قام رمضان إيماناً، واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه[1].

وهذا أمر في وقتنا يسير على من يسره الله عليه؛ لأننا لا نصلي من الليل إلا قليلاً، وقد تفضل الله علينا حيث أخبرنا النبي ﷺ : إنه من قام مع الإمام حتى ينصرف كتب له قيام ليلة[2]

فلا تفرط في هذا، ولا تُشغل عنه، فإنك لا تنصرف إلى خير منه بحال من الأحوال، والناس في مثل هذه الأيام هم أفرغ ما يكونون، ليست أيام اختبارات، ولا أشغال، وإنما عندهم متسع من الوقت، والزمان يستطيعون فيه التقرب إلى الله والتفرغ لطاعته.

ثم أيضاً: من صام رمضان إيماناً، واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن قام ليلة القدر إيماناً، واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه[3].

هذه ثلاثة وعود، إذا أخطأ الإنسان هذه أصابته الأخرى، وإذا أخطأته الأخرى أصابته الثالثة، والمغبون، والخاسر من أخطأ هذه جميعاً، فانصرم رمضان، ولم يغفر له، ولذلك لما رقى النبي ﷺ درجات المنبر الثلاث، فقال: آمين، آمين، آمين فقيل له: يا رسول الله، ما كنت تصنع هذا؟ فقال: قال لي جبريل: أرغم الله أنف عبد دخل رمضان فلم يغفر له، فقلت: آمين[4].

من ضيع هذه الفرص فلا شك أنه مضيع، وليس العيد بلبس الجديد، ليس العيد بأن يفرح الإنسان، ولم يخرج برحمة الله والقبول، والمغفرة، إنما يفرح الناس بالعيد بما من الله عليهم من الصيام، والقيام، وحق لهم أن يفرحوا بذلك.

أما ذاك الذي لم يصم، أو لم يقم، فبماذا يفرح؟ فالإنسان، وإن لبس الجديد فالواقع أنه قد يكون حظه من هذا الصيام الجوع، والعطش.

ولذلك أقول: نحن حينما نتذكر قول النبي ﷺ : من صام رمضان إيمانًا، واحتساباً من قام رمضان إيماناً، واحتساباً.

بمعنى أنه لم يتذمّر، ولم يتسخّط، ولم يتثاقل، وكثير من الناس يبدؤون بداية غير صحيحة.

من الناس من يقول: إن شاء الله ما يكون غداً رمضان، وإذا سمع أن الشهر قد أعلن ضاق ذرعاً بذلك، وتضايق، وتثاقل، وتأفف، وهذا لا يليق، فالله غنيٌّ عنا، وغني عن عبادتنا، وغني عن صيامنا، فنحن الفقراء إلى الله - تبارك، وتعالى -.

الواجب أن الإنسان يفرح، كيف بحال عبد يتأفف من عبادته، ومن موسم للتقرب إليه، والله ينظر إليه، ويسمع كلامه؟! يُخشى ألا يُقبل منه عمل، يُخشى أن يطرد، ويبعد، ويرد عليه صومه، ويقال له: نحن في غنى عنك، وعن صيامك.

فالإنسان يبتهج بمواسم الخيرات من صام رمضان إيمانًا، واحتساباً احفظوها، وذكروا بها من وراءكم، من أهل، وزوجة، وولد، لأن الكثيرين يخطئون هذه القضية، ويتبرمون بهذه العبادة.

ثم أيضاً ألفت النظر إلى بعض المعاني التي جاءت عن النبي ﷺ حيث إن النبي ﷺ قال: الصوم جُنة ما لم يخرقها يعني بالغيبة[5].

فدل ذلك على أن هذه الجُنة ترس، يخرق بالكلام في الناس، والوقيعة في الأعراض، كذلك: من لم يدع قول الزور، والعمل به فليس لله حاجة أن يدع طعامه، وشرابه[6].

فيحرص الإنسان على حفظ صيامه وإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث، ولا يصخب، فإن سابه أحد، أو قاتله، فليقل: إني امرؤ صائم[7] كل هذا مما ينبغي أن يُعتنى به.

فاحرصوا على الصيام، لا تفرطوا في الصيام، لا تفرطوا في شيء، وتقعوا في شيء مما يخل به، واحرصوا على القيام، لا تقعوا في شيء يمكن أن يجعل الإنسان لم يحقق هذا المعنى.

من قام رمضان إيماناً، واحتساباً وكأني بنا في آخر يوم من الشهر، أو آخر الأيام نقول: "اللهم اختم لنا رمضان برضوانك".

كلمح البصر، كما تمر الأعمار، واجعل هذا الشهر بداية للتغيير في واقعك، في حياتك، في عملك، في صلاتك، أيًّا كان حالك، وعملك مع الله والناس طبقات، ومراتب، انظر في جوانب التقصير، واحرص أن تستدركها.

إن كنت مقصرًا مع القرآن فابدأ حياة جديدة، وإن كنت مقصراً مع الصيام في سائر العام فاجعل هذا ترويضاً للنفس؛ ليكون لك نصيب من الصيام في سائر السنة، وإن كنت مقصراً في صلاة الليل فاجعل لنفسك نصيبًا، تعتاد هذه الأيام لتستمر على شيء من صلاة الليل بعد رمضان.

اعرف ماذا تريد، وماذا أنت عليه من عمل؛ من أجل أن الإنسان يتقدم دائماً، ويصلح، نسأل الله لي، ولكم القبول، وصلى الله، وسلم على نبينا محمد، وآله، وصحبه.

  1.  أخرجه البخاري، كتاب صلاة التراويح، باب فضل من قام رمضان، رقم: (2009)، ومسلم، باب الترغيب في قيام رمضان، وهو التراويح، رقم: (759).
  2.  أخرجه الترمذي، أبواب الصوم عن رسول الله ﷺ باب ما جاء في قيام شهر رمضان، رقم: (806)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (2417).
  3.  أخرجه البخاري، كتاب فضل ليلة القدر، باب فضل ليلة القدر، رقم: (2014)، ومسلم، باب الترغيب في قيام رمضان وهو التراويح، رقم: (760).
  4. أخرجه ابن خزيمة في صحيحه، كتاب الصيام، باب استحباب الاجتهاد في العبادة في رمضان رقم: (1888)، وابن حبان رقم: (409)، والحاكم في المستدرك على الصحيحين، رقم: (7256)، وصححه الألباني في صحيح الجامع، رقم: (75).
  5.  أخرجه النسائي، كتاب الصيام (2235) والدارمي، رقم: (1884)، وضعفه الألباني في سلسلة الأحاديث الضعيفة، رقم: (6438). 
  6.  أخرجه البخاري، كتاب الأدب، باب قول الله تعالى: وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ [الحج: 30] رقم: (6057).
  7.  أخرجه البخاري، كتاب الصوم، باب: هل يقول إني صائم إذا شُتم، رقم: (1904)، ومسلم، كتاب الصيام، باب فضل الصيام، رقم: (1151).
رمضان والبرنامج المفتوح

الحمد لله رب العالمين، والصلاة، والسلام على أشرف الأنبياء، والمرسلين، وعلى آله، وصحبه أجمعين، أما بعد:

أيها الأحبة، نبارك لكم في هذه الليلة التي صفدت فيها الشياطين المردة، وأغلقت أبواب النار، وفتحت أبواب الجنة، دخل فيها أفضل شهور العام، إنه شهر القرآن، وشهر القيام، والصيام، شهر الرحمة، والعتق من النار.

وأذكِّر في هذه البداية بشأن البدايات.

من شأن البدايات الصحيحة أن تنتج، وتورث - بإذن الله - النتائج الصحيحة، فمن صحت بدايته رُجي أن تستقيم نهايته، وعاقبته.

ولذلك أقول: الله الله في حسن البدايات، بإقبال القلوب، والجوارح على ربها، وخالقها في هذا الشهر الكريم.

هذا الشهر ليس بشهر للسهر في أمور لا تجدي، ولا تنفع، وليس بشهر التجارات في الأعمال، والأرباح، والمكاسب الدنيوية، وليس بشهر التجول في الأسواق، ولا بشهر القنوات الفضائية التي تعرض المنكر، وتفتن الناس، وتشغلهم عن ذكر الله وطاعته، وعبادته.

الناس يستعدون في هذ الأيام، ولكن شتان بين من يستعد بقراءة القرآن، والعكوف على طاعة الله والاشتغال بمرضاته، شتان بين هذا، وبين أولئك الذين يستعدون لتهيئة أماكن للسهر فيما لا يجدي، أو يستعدون بالبضائع، أو لربما التسوق.

أو أولئك الذين يستعدون لدخول الشهر بجلب ألوان المطاعم، والمآكل إلى بيوتهم، التي كأنها قد خوت، وخلت في سائر العام.

فيأكل الإنسان في ليالي هذا الشهر من ألوان المطعومات ما لا يأكله في سائر العام، وهذا خلاف مقصود الصيام.

ولذلك أقول كما أذكِّر في كثير من المناسبات، وقد تحدثت في الليلة الماضية عن بعض الجوانب التي ينبغي أن يتفطن الإنسان لها.

فأقول: لا يصح أن يبقى الإنسان أمام برنامج مفتوح، لا يدري ماذا يصنع فيه.

لابد أن يكون لك منهج محدد، واضح في هذا الشهر، تختم في كل ثلاثة أيام، ودع عنك التواني، والكسل، والجنة تحتاج إلى عمل، تحتاج إلى مجاهدة، تحتاج إلى صبر، تحتاج إلى تضحيات، فإن أبيت ففي كل خمس.

أما أن يبقى الإنسان يحرحر إلى آخر الشهر، قد ينهي ختمة، وقد لا ينهي، ويقرأ في فضول الأوقات، وبين الناس، وهم يتحدثون، وهو يشرب، ويأكل، فهذا من التفريط، والتضييع.

وانظروا ماذا جنت علينا الأوقات التي قضيناها في سنوات مضت في شهر رمضان من سهر مع أناس قد لا نتعلم منهم العلم، ولا نكتسب منهم العمل الصالح.

ماذا جنى علينا التجول بالأسواق؟ ماذا جنى علينا الاشتغال بالنظر بالقنوات على الإفطار، وفي غير الإفطار حتى تظهر أنوار الصبح؟ ماذا جنى هذا؟

فلماذا يبقى الإنسان في حال واحدة، تتكرر عليه دائماً، ابدأ بداية قوية، واهجر الكسل، واهجر أولئك الذين لا يزيدونك من الله إلا بعداً، وأصلح حالك مع الله، فالموت قريب، وهي مسألة وقت، وكل إنسان سيدرج في أكفان، ثم يوضع في قبره، ولا أنيس له إلا العمل، والآخرة دار لا تصلح للمفاليس.

إذا أراد الواحد أن يعرف في نهاية الشهر على أي شيء ينتهي، فلينظر في عمله في بدايته، وليضرب ذلك بتسعة، وعشرين، أو بثلاثين، حتى يعرف.

نحن حينما نقرأ نصف وجه في الركعة الواحدة، نعرف أننا بعد عشرة أيام لا ننهي أكثر من مائتين، وخمسين آية من سورة البقرة، بعد عشرة أيام.

وفي نهاية رمضان لا ننتهي من سورة الأعراف، حسبناها، ما ننتهي في كل سنة من سورة الأعراف.

وبعض السلف كان إذا كبّر استفتح بالفاتحة، ثم البقرة، ولا يركع إلا بعد العنكبوت.

وبعضهم كان إذا ركع قبل أن ينتهي من سورة البقرة، قالوا: قصرت بنا. يرون أن هذا من التقصير، والإيجاز.

فرمضان هو شهر الصلاة، شهر الصيام، ليست المنافسة أن نخرج قبل المسجد الآخر، الكثير من الناس يفرحون بهذا، خرجنا قبل هؤلاء بخمس دقائق، وهذا المسجد يخرج قبل غيره بعشر دقائق، وهذا يقيم الصلاة قبل المسجد الفلاني بعشر دقائق، ورأيت أناسًا يصلون في مساجد في يوم الجمعة لا يستفيدون شيئاً من الخطبة لضعفها، ولكن فقط يذهبون من أجل أن هذا يخرج قبل الآخرين بربع ساعة، أو بعشر دقائق.

ثم ماذا؟ هذه الأوقات الشريفة التي استغلوها في عشر دقائق، وضيعوا مقصود الجمعة من سماع الخطبة، ماذا استفادوا في عشر دقائق؟ لو كنا نحسب الأوقات بهذه الطريقة - بعشر دقائق - لتغيرت أحوال الأمة رأساً على عقب.

فتذكروا هذه المعاني، وذكروا بها من ورائكم، من أهل، وأولاد، وإخوان، وقرابات، وأصحاب.

ابدأ من هذه الليلة، فهي من ليالي رمضان، والشياطين مصفدة، والطريق مفتوح، وأبواب الجنة مفتحة، وأجل كثيراً من أعمالك، وأشغالك.

وصية أخيرة، وهي: أن الواحد يجرب ألا يكثر من الطعام، يكتفي بشيء قليل مع الإفطار، ثم يأتي، ويسمع القرآن لاسيما إذا قرأ من كتاب في التفسير مختصر، اجعل لك برنامجًا.

وأسأل الله أن يبارك لنا، ولكم في القرآن العظيم، ويجعلنا، وإياكم هداة مهتدين.

اللهم اجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا، ونور صدورنا، وجلاء همومنا، وذهاب أحزاننا، اللهم ذكرنا منه ما نسينا، وعلمنا منه ما جهلنا، وارزقنا تلاوته آناء الليل، وأطراف النهار على الوجه الذي يرضيك عنّا.

اللهم ارحم موتانا، واشفِ مرضانا، وعافِ مبتلانا، واجعل آخرتنا خيراً من دنيانا، اللهم كما بلغتنا رمضان فأعنّا فيه على الصيام، والقيام.

اللهم اجعلنا فيه من المقبولين، ومن العتقاء من النار، اللهم وفقنا لقيام ليلة القدر.

وصلى الله، وسلم على نبينا محمد، وآله، وصحبه.

 
رمضان بين الجد والتفريط

الحمد لله، والصلاة، والسلام على رسول الله، أما بعد:

فدعونا في هذه الليلة نفكر بطريقة مسموعة - كما يقال - إذا أردنا أن نتأمل أحوال الناس في الجد، والاجتهاد، أو التفريط في العمل في رمضان، سنجد المراتب في غاية التفاوت.

لو أردنا أن نأخذ المرتبة الأولى: أفضل شهور العام هو رمضان، وأفضل الليالي في العام هي ليالي العشر، والذي يفرط فيها هو في غيرها أكثر تفريطاً، والذي لا تحركه هذه النصوص التي ترغب في العمل في رمضان لا أدري ما الذي سيحركه للعمل في شوال، وفي غيره من الشهور.

فأقول: تجد أن الناس على مراتب متفاوتة.

المرتبة الأولى:وهي التي كان عليها النبي ﷺ إذا دخلت العشر أحيا ليله، وأيقظ أهله، وشد المئزر، يبتعد عن النساء، ويجد، ويجتهد في القيام، من أول الليل، إلى آخره، وهو يصلي، أحيا ليله، هذه مرتبة.

المرتبة الثانية: من يصلي مع الناس في أول الليل كصلاتنا هذه، وفي آخر الليل، وما بين ذلك يجلس في المسجد، أو يجلس في بيته، ويقرأ القرآن.

المرتبة الثالثة: وهو من يصلي هذه الصلاة في أول الليل، وفي آخر الليل، وينشغل بين ذلك بقراءة كتب الفقه، والحديث، والسيرة، وما أشبه هذا.

المرتبة الرابعة: وهو من ينام، يريد أن يتقوى على القيام في آخر الليل، يصلي التراويح، ثم ينام، ثم يقوم.

المرتبة الخامسة: وهو من يشتغل بأمر مباح، زيارات لأناس من رحمه، من الأخيار، من الصالحين، هذه المرتبة الخامسة، يزور في مثل هذه الأيام، واللحظات، والأوقات النفيسة.

المرتبة السادسة: من يقضي الوقت في الأسواق، يتجول في الأسواق يشتري للعيد، ويضيع عليه الوقت بهذا.

المرتبة السابعة: من يمضي عليه الوقت في استراحات، وقيل، وقال، ولعب، ورق، وما أشبه هذا.

المرتبة الثامنة: من يجلس أمام القنوات الفاسدة المفسدة.

المرتبة التاسعة: من يذهب إلى الأسواق يتتبع العورات، وينظر إلى هذه، ويلاحق تلك، ويعصي الله .

المرتبة العاشرة: وهم أولئك الذين يقضون لياليهم على الفواحش، والسكر، ومحادة الله وهذا موجود.

تصور الآن: كم من المسافة بين ذلك الذي وقف، وصفّ قدميه من بعد صلاة العشاء إلى القيام، طول الليل في صلاة، ثم من أخذ مصحفه يقرأ ما بين ذلك، وبين هؤلاء الذين يقضون ليلهم في معصية! كم من الفرق بين هذه المرتبة، وهذه المرتبة! وكل إنسان أعرف بحاله، أدرى بنفسه، فمن أي المراتب أنت يا عبد الله؟

أيام شريفة، عظيمة، المفرط فيها ضيع خيرًا كثيراً.

هذا مثال، لك أن تقيس على باقي الأمور في الحياة، وأيام العمر، وساعات العمر، وبهذا يتفاوت الناس في المراتب في الآخرة، وفي السير على الصراط المنصوب على جسر جهنم.

هنا مجاهدة، وعمل، وصبر، وهناك جزاء، هذا أمر يُحتاج إلى معرفته، والإنسان يحتاج إلى أن يتبصر، ويفكر، وينظر في حاله، وفي صيامه، وفي ليله.

فأسأل الله لي، ولكم القبول، وأن يعيننا على أنفسنا، ويبصرنا بضعفنا، وعجزنا، وأن يأخذ بأيدينا، ويلهمنا رشدنا.

وصلى الله على محمد، وآله، وصحبه.

 
كيف نستفيد من رمضان؟

إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده، ورسوله، صلى الله، وسلم، وبارك عليه، وعلى آله، وصحبه أجمعين، أما بعد:  

فيحسن، ونحن في بداية هذا الشهر الكريم أن نتفطن لجملة من القضايا من أجل أن يكون صيامنا، وقيامنا، وعملنا، وعبادتنا في هذا الشهر على وجه، وحالة، وصورة مرضية، ولهذا سأذكر جملة من الوقفات، أو الوصايا:

أولها: أن إدراك هذا الشهر نعمة، فالكثيرون اخترمتهم المنايا قبل رمضان بأيام، وربما بأسابيع، كم من أخ عزيز نعرفه لم يصم معنا هذا العام، لم يبلَّغ رمضان، فإذا بلّغ الله عبداً من عباده شهره الكريم فإن هذه نعمة تستحق الشكر، وإن شكرها أن يستغل العبد أيام هذا الشهر، ولياليه على الوجه الصحيح، في الاشتغال بما ينفع، ويرفع من ذكر، وصلاة، وتلاوة، وما إلى ذلك مما ينبغي أن يشتغل به.

وإذا كان الأمر كذلك، أقول: ماذا أعددت لهذا الشهر، ونحن في أيامه الأولى؟ ماذا أعددت؟ وكيف ترى حالنا فيما مضى من الأيام؟ وإذا أردنا أن نعرف ما نحن عليه في آخر الشهر - والعاقل ينبغي أن ينظر، ويتبصر، ويفكر، ويعتبر بما مضى، وخلا من أيامه، ولياليه يعتبر ذلك فيما يستقبل - فهذه الأيام الثلاثة التي مضت إذا أردت أن تعرف حالك في آخر الشهر انظر كم قرأت من القرآن على سبيل المثال، واضرب ذلك بعشرة، ثم بعد ذلك تستطيع أن تعرف في آخر الشهر حالك مع القرآن، وقل فيما عداه كقولك في هذا، انظر إلى حالك في إطلاق اللسان، والنظر، واستغلال الأوقات، والاشتغال بما يفيد، وحفظ الصيام، اجعل ذلك مقياسًا تعتبر به ما بقي من الشهر فإنه يمضي كلمح البصر، ثم بعد ذلك يفيق الإنسان على حقيقة مرة أحياناً، وهي أنه لم يخرج بكبير طائل في هذا الموسم العظيم الذي ينبغي أن يعد الإنسان له عدته.

فإن أصحاب المواسم من التجار، يستعدون لموسمهم في بيعهم، وشرائهم، وتعاملاتهم، وهكذا نجد الكثيرين يستعدون لاستقبال هذا الشهر بأمور مباحة كالتجارة، فتزدان الأسواق، وتزدهر، ويكثر مرتادوها حتى إنه يخيل للإنسان أحياناً أن هذا الشهر هو شهر التسوق، هو شهر الإمعان، والإيغال في الملذات، والشهوات، والأكل، والشرب، والشراء، والتجول في الأسواق، وهذه حال مخالفة قطعًا لما شرع الله - تبارك، وتعالى - له هذا الشهر، وما شرّع فيه من العبادات من صيام، وقراءة للقرآن.

ينبغي على كل واحد منا أن يتفكر، ويتبصر، ويعزم أن يكون هذا الشهر متميزاً لا أقول عن سائر الأيام، بل أقول: ينبغي أن يكون متميزاً عن كل رمضان أدركته من قبل، لا يكفي أن يتميز على سائر الشهور في العمل، والعبادة، بل ينبغي أن يتميز على كل رمضان أدركناه.

لماذا لا يكون هذا هو الأفضل؟ إن الكثيرين لا تجد كثيراً من الفرق، والتميز بين أيامهم في شعبان، ورجب، وسائر الشهور، وبين العمل في رمضان، بل العكس أحياناً، يزداد النوم في رمضان، واللهو، والغفلة، والتسوق، ولربما يكثر كثير من الناس من الاجتماع، والخلطة في هذا الشهر، فيكون لهم ملتقيات يومية، أو شبه يومية، وتمتد تلك الملتقيات إلى السحر، وما كانوا يفعلون ذلك في سائر شهور العام، فهذا غلط، ولا ينبغي أن يكون بمثل هذه الحالة.

أما الأشرار، وما أدراك ما الأشرار الذين أخذوا على عاتقهم القيام بمهمة الشيطان على أكمل الوجوه، وأتمها بإضلال عباد الله، وإغوائهم، وإفسادهم، وإشغالهم عما هم بصدده من الصيام، والقيام عبر فضائيات فاسدة مفسدة تضل الناس عن الصراط المستقيم، فهؤلاء الله حسيبهم، ولكن ينبغي ألا يكون المؤمن بحال من الأحوال ممن يتلقون عن هؤلاء، أو يكثِّرون سواد المشاهدين لتفاهاتهم، وضلالاتهم، وحماقاتهم، وما يعرضونه من سخرية، واستهزاء بالله، ورسوله، وكتابه، وعباده المؤمنين في أفضل شهور العام، إن هؤلاء لا يحققون نجاحًا يذكر إذا قاطعهم الناس.

ثم بعد ذلك أقول: ينبغي ألا تفرط بلحظة من لحظات هذا الشهر، النوم ينبغي أن يكون بحد محدود لا يسترسل الإنسان معه، وهكذا الخلطة مع الآخرين أيًّا كانت ينبغي أن تكون بحدود ضيقة قدر الإمكان، بل أكثر من هذا الاشتغال لربما بالعلم ينبغي ألا يكون على حساب القرآن، وتلاوته، وتدبره.

ولهذا أقول: ينبغي للإنسان أن يسأل نفسه من البداية كم ختمة ستختم في هذا الشهر؟ إذا قلنا: إن القراءة المعتدلة التي ينجز الإنسان فيها يقرأ في عشرين دقيقة جزءاً من القرآن، ففي الساعة ثلاثة أجزاء.

فلو أن الإنسان قرأ بعد كل صلاة، بعد الفجر، والظهر، والعصر مثلاً، قرأ ساعة، وسبع دقائق فإنه يستطيع أن يختم القرآن في كل ثلاثة أيام، يقرأ كل يوم عشرة أجزاء، كل ثلاثة أيام ختمة، في نهاية الشهر عشر ختمات، وهذا خير كثير، ويكون قد حقق فيه ما جاء عن رسول الله ﷺ : لا يفقه القرآن من قرأه في أقل من ثلاث[1].

ثلاث ساعات تقريباً تكفي في قراءة معتدلة جادة لا يكون الهاتف الجوال أمامك تنظر فيه بين لحظة، وأخرى، ولا تشتغل مع أحد يتحدث، أو يقاطع قراءتك، أو نحو ذلك.

إذا فعلت ذلك فإنك تستطيع أن تنجز هذا الإنجاز بإذن الله - تبارك، وتعالى - بل لماذا لا يجعل الإنسان له وِرداً بعد صلاة التراويح؟ الناس لربما يجلسون إلى صلاة الفجر، لماذا لا يجعل له ورداً بعد الثانية عشرة؟

التلاوة التي يقرؤها: يستقبل القبلة، ويكبر، وهو جالس إن شاء، فإن صلاة القاعد على النصف من صلاة القائم.

وقراءة في صلاة خير من قراءة خارج الصلاة كما هو معلوم، وقد ذكر هذا أهل العلم مثل شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -[2] وغيره.

فيجلس الإنسان يجعل له ورداً في صلاة الليل، يقرأ فيه جزأين، أو ثلاثة أجزاء، أو أربعة أجزاء، أو خمسة أجزاء، وهو جالس، هذا الوقت الذي تقضيه في القراءة يمكن أن يُقضى في قراءة، وفي صلاة في آن واحد.

المقصود أن نجعل لنا وردا ًمحدداً بحيث لا ينقص، يمكن أن يزيد، لكن لا ينقص، لكن لا تجعل القراءة بحسب ما يتاح، فإنك تنقطع عن مطلوبك، ولا يتحقق لك مقصود، وينقضي الشهر، ولم تخرج بكبير طائل، وهذا أمر معلوم مشاهد. 

خطط، ثم نفذ هذا بحزم، وقل مثل ذلك فيما يتصل بالصدقات، أحياناً ينقضي الشهر، وإذا نظر الإنسان في صدقاته فإنه قد لا يجد شيئاً يستحق أن يذكر، فلماذا لا يجعل الإنسان لنفسه شيئاً معلوماً محدداً منذ البداية؟ لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ [الطلاق:7] كلٌّ بحسبه.

الطالب ينفق مما عنده، والموظف ينفق مما عنده، والتاجر ينفق مما عنده، والله لا يضيع أجر من أحسن عملاً.

الذي لا يملك إلا ألف ريال، ويتصدق بمائة ليس كالذي يملك مائة مليون، ويتصدق بمائة، فرق بين هذه المائة، وهذه المائة.

ولذلك أقول: انظر في الذي تريد أن تقدمه، لا تترك هذا حتى تتسارع أيام الشهر، ثم ينقضي، ولم تفعل ما كنت تريد، إذا كنت تريد أن تفطر الصائمين مثلاً توجد المكاتب التعاونية، توجد جمعيات، ومبرّات، ومستودعات خيرية لها أرقام معروفة، حسابات للصدقات، وللزكوات تستطيع أن تحول لهم، وتقول لهم: أنا أريد أن أفطر هذا الشهر مائة، أنا أفطر هذا الشهر عشرة، أنا أفطر هذا الشهر ألفًا وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ [المطففين:26].

وليست القضية تحتاج أحياناً إلى كثير من العمل، أو المال، اليوم تسهلت كثير من الأمور، يستطيع الإنسان، وهو في بيته أن يحول لحساب الجمعية، ويستطيع الإنسان إن لم يكن يملك شيئاً من المال أن يقوم بأعمال يسيرة يبلغ بها عند الله إن كانت له فيها نية.

في هذه الأيام للأسف - وهذا يشكو منه الإخوان في الجمعيات، والمكاتب التعاونية شكوى مرة - صار الاحتساب نادراً، عزيزاً.

حينما يطلبون من هؤلاء الشباب المشاركة في البذل، والعمل، والبرامج التي تقدم في هذه المخيمات للإفطار، أو المخيمات الدعوية، أو نحو ذلك، تجد الكثيرين يسأل، أو يشترط ماذا سيعطى من المال؟ أين الاحتساب؟ نعم كنا في فترة، في مدة مضت نقول: إن هذا الذي يعمل محتسباً في نهاية المطاف لربما يدير ظهره، ثم يقال: ما على المحسنين من سبيل.

فلو أنه يعطى ما يقابل هذا العمل من أجل أن يحاسب على التأخر، والتباطؤ، والتثاقل، وضعف الإنجاز، والإنتاج لكان أولى، لكن للأسف هذا تحول إلى شيء آخر، فصارت كثير من النفوس يغلب عليها النزعة المادية، وأين العمل للدين؟ وأين البذل في سبيل الله، بذل الجهد، بذل العلم، بذل البدن، بذل المال؟ كل إنسان لا يريد أن يقدم في هذه الدنيا شيئًا إلا مقابل عرض من متاع هذه الحياة الفاني، هذا الكلام غير صحيح.

ثم أيضاً إذا أردت أن يتحقق لك ما تصبو إليه من حقيقة الصيام الذي يكون في نهاية الأمر على ما ذكر الله - تبارك، وتعالى - : لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:183] فإن هذه التقوى لا تحصل للإنسان، وهو في حال من التخمة، والشبع، والامتلاء في ليالي الصيام.

ثم بعد ذلك ينام في النهار، ولذلك تجد الكثيرين في رمضان تستعر شهواتهم، تضطرب نفوسهم، وربما يعافسون من الشهوات، واللذات المحرمة، والمباحة أكثر مما ينالون في غير رمضان، وهذا مشاهد.

وإذا أردتم أن تعرفوا حقيقة هذا اسألوا أهل الحسبة، اسألوا المحتسبين فيما يجدونه لدى بقايا السهر من كثير من الشبان الذين لا يراعون حرمة الصيام، ولا يتقون الله في هذا الشهر الكريم.

فأقول: لا يمكن أن تتحقق التقوى على هذه الحال، لكن تقلل من الطعام، والشراب.

الشافعي - رحمه الله - يقول: "ما شبعت منذ ست عشرة سنة"[3] وعلل ذلك بأن الشبع يورث التثاقل، ويقعد الإنسان عن المعروف، والخير، وطاعة الله، وطاعة رسوله  ﷺ.

ولما سئل الإمام أحمد - رحمه الله - : أيجد الرجل الرقة، والخشوع مع الشبع؟

قال: هذا لا يكون.

ولذلك تجد الإنسان يأتي متخماً أحياناً، ويصلي مع الإمام، ويُعرَض القرآن من أوله إلى آخره في صلاة التراويح، ولو سألته: ماذا قرأ الإمام؟ ماذا قرأ في صلاة العشاء؟ يقول: لا أعرف.

وإذا خشع الإمام كأنه جاء من مكان بعيد يريد أن يعرف ماذا قرأ الإمام، ولربما يخطئ الإمام، وهو يحفظ هذه السورة، أو السور لكنه في وادٍ آخر، ولذلك أقول: من أراد أن يخشع في صلاته، وفي عبادته، وأن يرق في هذا الشهر فليتقلل من الطعام، والشراب.

وللأسف الشديد تجد الناس قبل شهر رمضان لربما يخيّل للناظر إلى حالهم، وإلى حال أسواقهم أن البيوت فارغة من الطعام، والشراب، خالية، يعني إذا نظر ناظر ممن لا يعرف هذا الشهر، ولا يعرف الإسلام، إذا نظر إلى حالنا مع هذا الشهر، والأسواق، والأطعمة التي تتكدس، وانكباب الناس على هذا اللون من السلع، والمعروضات في الأسواق يخيل إليه أن هذا الشهر هو شهر الأكل، والشرب، وهذا عكس المقصود! عكسنا القضية تماماً.

بل أنا أقول: ينبغي أن الإنسان يتخفف هذا الشهر قدر المستطاع من كل ما يقعده، ويثقله، ويشغله عن طاعة الله، وطاعة رسوله، والاشتغال بذكره، وقراءة كتابه.

الأشياء التي يحتاج إليها في رمضان، وفي العيد يشتريها قبل رمضان حتى لا ينشغل، لا يحتاج أن يذهب إلى الأسواق، والمرأة تتجول لتشتري للعيد، والأسواق تمتلئ من الناس، وتضيع أوقات شريفة لا يمكن بحال من الأحوال أن تعوّض.

ثم أيضاً أقول: إذا أردنا أن نستشعر ما نقرأ، وما نسمع في صلاتنا فينبغي أن يكون للإنسان مع قراءته للقرآن نظر في كتاب من كتب الغريب، غريب القرآن، الكلمات الغريبة ينظر في معناها.

فإذا ختم القرآن لا تبقى كلمة لا يفهم معناها، وإن قرأ التفسير الميسر جزّأه على الشهر فإن ذلك سيكون له أبلغ الأثر بإذن الله اقرأ الجزء قبل أن تسمعه في الصلاة، ثم استمع القراءة ستجد أن القراءة لها طعم آخر، ولهذا يقول ابن جرير - رحمه الله - : "عجبت لمن يقرأ القرآن، وهو لا يعرف معانيه كيف يلتذ بقراءته"[4].

ثم بعد ذلك أقول: هذا الشهر إذا حسبت ساعاته على التمام، والكمال، إذا قلنا: إنه يبلغ ثلاثين يوماً، فإن ذلك يبلغ سبعمائة، وعشرين ساعة، حتى تعرف متى تنام، كم من الساعات تنام، كم من الساعات تقرأ، وفي اليوم أربع، وعشرون ساعة، وكما قلنا: في الساعة يمكن أن تقرأ ثلاثة أجزاء.

وإذا ضربتَ سبعمائة، وعشرين ساعة ضرب 3 يساوي: ألفين، ومائة، وستين جزءاً، طبعاً الإنسان لا يقرأ في الأربع، والعشرين ساعة، لكن اجعل ذلك على النصف مثلاً، فهذا القدر من الأجزاء إذا قسمته على ثلاثين جزءًا في اليوم - القرآن بكامله - فإنك تخرج باثنتين، وسبعين ختمة، فإذا كنت تقرأ نصف ساعات اليوم فمعنى ذلك أنك ستقرأ ستًّا، وثلاثين ختمة.

وإذا قلنا: إنك ستقرأ في ربع ساعات اليوم فإنك ستختم ثماني عشرة ختمة، ست ساعات، فإذا نصفتها فإنها تكون تسع ختمات.

هذه مقادير ليست يسيرة، لكن يحتاج الإنسان أنه يخطط، ويفكر، ليلة القدر خير من ألف شهر، ألف ضرب ثلاثين يساوي ثلاثين ألف يوم.

إذا قسمتها على ثلاثمائة، وستين - أيام السنة - يصير عندك ثلاث، وثمانون سنة، وكسر.

لو قلنا: إن الإنسان يعيش خمسًا، وستين سنة، وصام خمسين رمضان، خمس عشرة ما صام، قبل البلوغ، فهذا يعني أنه أدرك خمسين رمضان معناها تعادل أربعة آلاف، ومائة، وستًّا، وستين سنة.

هذا شيء سهل؟ ليس هذا بالشيء اليسير، ليلة واحدة في هذا الشهر، فانظر كيف تُقضى الليالي فيه، وانظر إلى حالنا مع الأوقات، ومع ختم القرآن، وقراءته، وما يحصل من التثاقل.

عثمان كان يختم في كل ليلة ختمة[5] وهو خليفة، عنده أعباء الخلافة، مشغول، فنحن مشغولون بماذا؟.

وبعض السلف كان يختم في القيام كل ثلاث، وبعض المعاصرين يفعل هذا، بعض المعاصرين يختم في كل عشر ختمة في الصلاة، في صلاة القيام، وبعض السلف يختم في الصلاة في كل سبع، وبعضهم في كل عشر، والشافعي - رحمه الله - يختم في رمضان في كل يوم، وليلة ختمتين[6] يعني في الشهر ستون ختمة.

والأسود النخعي في كل يومين يختم في رمضان[7].

وكان قتادة يختم في رمضان في كل ثلاث، وفي غير، ومضان في كل سبع، وفي العشر الأواخر في كل ليلة[8].

وما كانوا يشتغلون بشيء غير القرآن، الإمام مالك إذا جاء رمضان ترك الحديث، والفقه، والزهري إذا دخل رمضان ترك الحديث، والتحديث، ولا يشتغل بغير القرآن، والمصحف[9]، وهكذا كان سفيان الثوري - رحمه الله -[10].

هذا الذي كان عليه السلف الصالح والناس في هذا درجات، منهم من يتشغل بالذنوب، والمعاصي، ويشتط في هذا، ومنهم من يشتغل بالمباحات فهو خير ممن دونه، ومنهم من يشتغل ببعض أعمال البر، ولكنها مفضولة، يشتغل بالعلم.

بعض الشباب ترى أنه في أيام العشر الأواخر هو يقرأ في الأجرومية، أو شرحها، أو شرح الورقات في أصول الفقه، هذه الأشياء التي نتحدث عنها كلها واقعة، كل ما أذكره رأيته، أيام العشر الأجرومية!.

وواحد معه ألوان كثيرة جدًّا، وجالس في المسجد النبوي، ودارس دورة في تحليل الشخصية، وصدق ما قالوا له، والناس يقرأون، ويعتكفون، في العشر الأواخر معه حزمة ألوان، ويطالع في الناس، ويكتب يحلل في شخصياتهم.

هذا غبن فاحش، إهدار للوقت فيما لا طائل تحته، ومنهم من يشتغل بما هو أفضل من هذا كالفقه، والحديث، أو لربما يفتح النت، ويكتب مقالات، ويرد على بعض المخالفين، أو نحو هذا، فهذا خير، لكن هل هذا هو الأفضل؟

من عرف حقيقة الشهر ما يجد وقتًا يفتح فيه الإنترنت فضلا عن أن يفتحه كل ساعة ليرى من عقّب على مقالته.

ما عرفنا قيمة الشهر، والإنسان يعجب حينما يرى بعض طلبة العلم، أحياناً أقرأ مثلاً في الموسوعة الشاملة، أبحث عن قضية، وأنظر في التواريخ، والأوقات تجد أنها في رمضان تعليقات، وكتابات في أوقات السحر، وفي غيره في العشر الأواخر، طلبة علم يكتبون أشياء عادية، وتعقيبات، وللرفع، شكراً على مرورك.

فمثل هذا ما يحسن، ولا يليق، فرمضان ليس لهذا، وليس للسهر في غير طائل، نسهر لقيام الليل، وقراءة القرآن، فلابد من معرفة هذه الحقيقة، وفي الحديث: رب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع، ورب قائم ليس له من قيامه إلا السهر[11].

وفي الحديث الآخر: ليس الصيام من الأكل، والشرب، إنما الصيام من اللغو، والرفث، فإن سابك أحد، أو جهل عليك فقل: إني صائم، إني صائم[12].

ولهذا يقول النبي ﷺ كما في الصحيح من حديث أبي هريرة : من لم يدع قول الزور، والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه، وشرابه[13].

وفي حديث أنس : من لم يدع الخنا، والكذب فلا حاجة لله أن يدع طعامه، وشرابه[14].

 وهذا يدل على أنه ليس المراد من الصيام هو الجوع، والعطش، إنما تحقيق التقوى، كسر الشهوات، تطويع النفس الأمارة للنفس المطمئنة، فهل تحقق لنا هذا؟ "من لم يدع قول الزور"، الزور يدخل فيه مجالس الزور، مشاهدة القنوات الفاسدة، يدخل فيه الكذب بجميع صوره، وأشكاله، يدخل فيه الغيبة، واللهو، واللغو، والباطل، بجميع صوره.

وجاء عن النبي ﷺ : الصيام جُنة فلا يرفث، ولا يجهل[15] وفي رواية: فلا يرفث، ولا يجادل[16].

"لا يجهل" يعني لا يفعل شيئًا من أفعال أهل الجهل، والسفه "ولا يصخب" رفع الأصوات، وما أشبه ذلك، ولهذا يقول النبي ﷺ : فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث، ولا يصخب، فإن سابّه أحد، أو قاتله فليقل: إني صائم[17].

ويدخل في الرفث الكلام الفاحش، ويدخل فيه الجماع، وأدخل فيه بعض أهل العلم اللعن، والشتم، والسب، والقذف، قذف الأعراض.

فينبغي أن نعرف حقيقة الصيام، فهو جُنة، ترس، وكما قال النبي ﷺ : الصيام جُنةٌ، وحصن حصين من النار[18] الصيام جُنة، كجُنةِ أحدكم من القتال[19]

ولهذا جاء في رواية: الصيام جُنة ما لم يخرقها[20] وفي رواية: ما لم يخرقها بالغيبة[21].

احفظ صومك، لا تذكر أحدًا إلا بخير، لا تتعرض للناس، ولا تقع في أعراضهم، لا تصريحاً، ولا تلميحاً، فالصوم سترة من الآثام، ومن النار، لما فيه من الإمساك عن الشهوات، والنار محفوفة بالشهوات، فمن كف نفسه عن الشهوات كان ذلك له ستراً، وحرزاً من النار، هذا ينبغي أن يدرك.

وأمر آخر: وهو أن الصيام ينبغي أن نحقق فيه ما قاله النبي ﷺ : من صام رمضان إيماناً، واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه[22] "إيماناً" بأن الله شرّعه، وفرضه، وكتبه، ليست عادة، ولا موافقة، "واحتساباً" للأجر، والثواب عند الله فلا يتسخّط، ولا يتبرم.

تسمع عبارات أحيانًا غير لائقة، كان الناس يتحرون رمضان ليلة الأربعاء، وتبدأ الرسائل تنتشر متناقضة، وتسمع بعض من يقول: إن شاء الله ما يكون بكرة رمضان.

الله - تبارك، وتعالى - غني عنّا، وعن صيامنا، وعن عبادتنا، فإذا كان الإنسان يستقبل الشهر بمثل هذا أمَا يخشى أن يرد عليه العمل، ولا يقبل الله - تبارك، وتعالى - منه صيامه، فيكون ممن ليس له حظ في الصيام إلا الجوع، والعطش؟.

بعض الناس يتبرم، ولربما يفرح إذا أعلن هلال شهر شوال؛ لأنه يرى أن الصوم ثقيل على نفسه، فيحصل منه مثل هذا الضجر - نسأل الله العافية - فـمن صام رمضان إيماناً، واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه.

فتطيب نفسه بالصيام، ولا يستطيل أيامه، ولا يستثقل صيامه، وإنما يفرح، ويبتهج.

وأخيراً: رمضان فيه ثلاث فرص، احرص أن لا تضيع منك هذه الفرص:

من صام رمضان إيماناً، واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه.

من قام رمضان إيماناً، واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه[23].

من قام ليلة القدر إيماناً، واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه[24].

فمن فاتته هذه الفرص الثلاث فهو مفرط، ومضيع، ولهذا جاء في الحديث: رغم أنف امرئ أدرك رمضان فلم يغفر له[25].

نسأل الله - تبارك، وتعالى - أن يعيننا، وإياكم على الصيام، والقيام، وعلى ذكره، وشكره، وحسن عبادته، وأن يتقبل منا، ومنكم أجمعين.

اللهم ارحم موتانا، واشفِ مرضانا، وعافِ مبتلانا، واجعل آخرتنا خيرًا من دنيانا.

وصلى الله، وسلم على نبينا محمد، وآله، وصحبه.

  1.  أخرجه أبو داود، أبواب قراءة القرآن وتحزيبه وترتيله، باب تحزيب القرآن، برقم (1394)، والدارمي في سننه، برقم (1534)، وقال الألباني: "إسناده صحيح على شرط الشيخين"، في صحيح أبي داود، برقم (1260).
  2.  مجموع الفتاوى (23/ 282)، والفتاوى الكبرى لابن تيمية (2/ 295).
  3.  تاريخ دمشق لابن عساكر (27/ 239)، وتهذيب الأسماء واللغات (1/ 54)، وسير أعلام النبلاء (10/ 36). 
  4.  تفسير الطبري (1/ 10).
  5.  انظر: إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري (7/ 485)، والتوضيح لشرح الجامع الصحيح (24/ 167).
  6.  حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (9/ 134)، وتاريخ دمشق، لابن عساكر (51/ 393).
  7.  حلية الأولياء (2/ 103).
  8.  المصدر السابق (2/ 339).
  9.  انظر: لطائف المعارف لابن رجب (ص: 171).
  10.  المصدر السابق.
  11.  أخرجه ابن ماجه، كتاب الصيام، باب ما جاء في الغيبة والرفث للصائم، برقم (1690)، والنسائي في الكبرى، برقم (3236)، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (3488).
  12.  أخرجه ابن خزيمة في صحيحه، برقم (1996)، والحاكم في المستدرك، برقم (1570)، وقال: "هذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه"، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (5376).
  13.  أخرجه البخاري، كتاب الصوم، باب من لم يدع قول الزور، والعمل به في الصوم، برقم (1903).
  14. أخرجه الطبراني في الأوسط، برقم (3622)، وقال عقبه: "لم يرو هذا الحديث عن ابن جريج إلا عبد المجيد، تفرد به: عبد الله بن عمر الخطابي، ولا يروى عن أنس إلا بهذا الإسناد" والصغير، برقم (472)، وعبد الرزاق في المصنف، برقم (7455).
  15.  أخرجه البخاري، كتاب الصوم، باب فضل الصوم، برقم (1894)، ومسلم، كتاب الصيام، باب حفظ اللسان للصائم، برقم (1151).
  16.  عزاها الحافظ ابن حجر في فتح الباري (4/ 104) لسعيد بن منصور.
  17. أخرجه البخاري، كتاب الصوم، باب هل يقول: إني صائم إذا شتم، برقم (1904)، ومسلم، كتاب الصيام، باب فضل الصيام، برقم (1151).
  18.  أخرجه أحمد في المسند، برقم (9225)، وقال محققوه: "حديث صحيح، وهذا إسناد حسن" وحسنه الألباني في صحيح الجامع الصغير، برقم (3881).
  19.  أخرجه النسائي، كتاب الصيام، ذكر الاختلاف على محمد بن أبي يعقوب في حديث أبي أمامة، في فضل الصائم، برقم (2230)، وابن ماجه، كتاب الصيام، باب ما جاء في فضل الصيام، برقم (1639)، وأحمد في المسند، برقم (16278)، وقال محققوه: "إسناده صحيح على شرط مسلم، رجاله ثقات رجال الشيخين غير أن صحابيه لم يخرج له سوى مسلم"، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (3879).
  20.  أخرجه النسائي، كتاب الصيام، ذكر الاختلاف على محمد بن أبي يعقوب في حديث أبي أمامة، في فضل الصائم، برقم (2233)، وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة، برقم (6438).
  21.  قالها الدارمي - رحمه الله - مفسراً لرواية: الصوم جنة مالم يخرقها فقال: قال أبو محمد: "يعني بالغيبة"، انظر سنن الدارمي، برقم (1773)، وعزاها الحافظ ابن حجر للدارمي - رحمهما الله - فقال: "زاد الدارمي: بالغيبة"، فتح الباري لابن حجر (4/ 104)، وليس كما قال، وإنما قالها مفسراً كما تقدم.
  22.  أخرجه البخاري، كتاب الإيمان، باب صوم رمضان احتسابًا من الإيمان، برقم (38)، وبرقم (1901)، كتاب الصوم، باب من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا ونية، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الترغيب في قيام رمضان وهو التراويح، برقم (760).
  23. أخرجه البخاري، كتاب الإيمان، باب تطوع قيام رمضان من الإيمان، برقم (37)، وبرقم (2009)، كتاب صلاة التراويح، باب فضل من قام رمضان، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الترغيب في قيام رمضان وهو التراويح، برقم (759).
  24.  أخرجه البخاري، كتاب الصوم، باب من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا ونية، برقم (1901)، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الترغيب في قيام رمضان وهو التراويح، برقم (760).
  25.  أخرجه البخاري في الأدب المفرد، برقم (646)، والبزار في مسنده، برقم (6252)، وابن خزيمة في صحيحه، برقم (1888)، وقال الألباني في صحيح الأدب المفرد: "حسن صحيح"، برقم (503).
وانتصف رمضان

الحمد لله، والصلاة، والسلام على رسول الله، أما بعد:

فأيها الأحبة: انتصف شهرنا هذا، وتقضت أيامه، وساعاته، وكأنه ليلة، مضى نصفه بما فيه، من شمر، وعمل، وجد، واجتهد فإنه يلقى ذلك عند الله في خزائن أعماله، ومن فرط، وقعد عن العمل الصالح فإنه يجد غبّ ذلك إذا لقي ربه - تبارك، وتعالى -.

وحالنا هذه يمكن أن أصورها بقوم قد أبحروا، نحن في هذه الحياة على هذه الأرض مبحرون، والشمس لا تتوقف، وكل لحظة تقربنا إلى آجالنا، تقربنا إلى الآخرة، وفي كل لحظة يتساقط أقوام، يتساقط كبار، وصغار، رجال، ونساء حينما حانت آجالهم، وجاءهم قدر الله المحتوم، وتقضت أعمارهم.

الكل يركب في هذا المركب الذي لا يتوقف، كر الليل، والنهار، كل لحظة تزداد فيها أعمارنا، وهذه الأعمار مهما بلغت قصيرة على قلة من العمل، وكثرة من التفريط، ولكن الله - تبارك، وتعالى - هيأ لنا هذه المواسم، مواسم الخيرات من أجل أن نتّجر بها مع الله .

جلست أتفكر قبيل هذه الصلاة بعدد ساعات هذا الشهر، وفيما تكافئه ليلة القدر، فساعات هذا الشهر عشرون، وسبعمائة ساعة، ولو نظر الإنسان إلى ما يقرؤه من كتاب الله فإنه يقرأ باعتدال ثلاثة أجزاء في الساعة، الجزء يحتاج إلى عشرين دقيقة بقراءة معتدلة.

وهذا يعني أنك إذا ضربت سبعمائة، وعشرين في ثلاثة أجزاء فإن ساعات هذا الشهر يمكن أن يُقرأ فيها  ألفين، ومائة، وستين جزءًا من القرآن، والقرآن ثلاثون جزءًا، فإذا قسمت ألفين، ومائة، وستين على ثلاثين فإن ذلك ينتج اثنتين، وسبعين ختمة.

يعني يستطيع الإنسان لو قرأ سائر الوقت بقراءة معتدلة أن يقرأ اثنتين، وسبعين ختمة، فإذا حذفت نصف الوقت بما يذهب به النوم، وما يزاوله الإنسان من أعماله، وأشغاله فيبقى ما لا يقل عن ثلاثين ختمة.  

فكم قرأنا في منتصف الشهر؟ أحيانا ًتكون النتيجة مخجلة، لو حسبنا ما بين المغرب، والعشاء، وكان بعض السلف يختم فيه، كانوا يؤخرون العشاء، وبعضهم يصلي فيه إلى العشاء، ويقول: إنه وقت غفلة.

من أذان المغرب إلى أذان العشاء ساعتان، أي ستون ساعة خلال الشهر، في ستين ساعة كم يستطيع أن يختم من ختمة؟ وهذا الوقت بماذا يمضي علينا؟ ماذا عملت اليوم بين المغرب، والعشاء، وأمس، وقبل أمس؟ وقد يعتبر الإنسان أنه يجد ضيقاً في الوقت، وإذا نظر يجد أوقاتًا مهدرة.

ليلة القدر أخبر الله أنها خير من ألف شهر، أفضل من ألف شهر، دعونا نحسبها بألف شهر، خير من ألف شهر، الشهر إذا حسبناه بثلاثين يوماً هذه ثلاثون ألف يوم.

والسنة ثلاثمائة، وستون يوماً، فإذا قسمت ثلاثين ألفًا على ثلاثمائة، وستين فإن ليلة القدر تزيد على ثلاث، وثمانين سنة، أفضل من ثلاث، وثمانين سنة، ليلة واحدة! من الذي يعيش منا هذا العمر؟ قليل من يبلغ ثلاثًا، وثمانين!.

والنبي ﷺ أخبر أن أعمار الأمة ما بين الستين، والسبعين، وقليل من يجاوز هذا[1] أكثر من ثلاث، وثمانين سنة، ليلة واحدة، لو قيل للناس: من عمل في ليلة واحدة أعطي راتب ثلاث، وثمانين سنة، ماذا يفعل الناس؟ ماذا يفعلون؟   

أرأيتم كم يفعلون من أجل أربعة أسهم! أيام الأسهم، رأيتم الطوابير في الشوارع، ورأيتم المناظر المخزية التي عرضت في بعض الصحف، في بعض البلاد المجاورة يذهبون، وينامون في الحدائق، وينامون على الأرصفة، وفي الشوارع من أجل أربعة أسهم.

وحيل، وهذا يستأجر بطاقة هذا، وهذا يشترك معه، الآن يعطيه الأسماء، من أجل أربعة أسهم.

كم سيجني عليها الأربعة أسهم إلا الفقر، والقُلّ!، فأقول: ليلة واحدة أكثر من ثلاث، وثمانين سنة.

النبي ﷺ يقول: أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين.

فمعنى ذلك لو قلنا: ما بينهما خمس، وستون سنة، إنسان عاش خمسًا، وستين سنة، افترض أنه ما بدأ يصلي التراويح، ولا يصوم رمضان حتى بلغ الخامسة عشرة من عمره، معنى هذا أنه صلى، وصام خمسين سنة.

هذا الذي مات حينما بلغ خمسًا، وستين متوسط الأعمار.

انظروا: ثلاث، وثمانون سنة ضرب خمسين ينتج عن هذا أربعة آلاف، ومائة، وست، وستون سنة.

هذا الذي صلى خمسين ليلة قدر، كم كان عمر نوح - عليه الصلاة، والسلام - ؟ أعمارهم كانت طويلة، ولهذا كانوا يلقون من الأجور، ويعملون أعمالاً، ويزدرعون للآخرة، حينما يعيش الإنسان ألف سنة، ويوفق للعمل الصالح، لكن نحن كم نعيش؟ خمسين سنة، ستين سنة، سبعين سنة، المعمر الذي يبلغ الثمانين، التسعين، المائة.

لكن أولئك يعيشون بالألف، وبالأربعمائة سنة، وبالخمسمائة سنة، ونحو هذا.

دعوة نوح ﷺ ألف إلا خمسين سنة، هذه الدعوة، كم جلس قبلها، وكم جلس بعدها؟ الله أعلم.

أعمار طويلة، فنحن ماذا عسى أن نعمل أيها الأحبة بستين سنة على كثرة النوم، وكثرة أشغال الدنيا، ولهوها، وعبثها، وما فيها من شهوات؟ كم نعمل للآخرة؟  

إن ليلة القدر تكافئ هذا المقدار، أربعة آلاف، ومائة، وست، وستون سنة، فكيف يُفرَّط بمثل هذه الأيام؟ كيف تضيّع؟ لا أفهم، كيف تزدهر القنوات؟ كيف تزدهر المطاعم؟ كيف تزدهر المطابخ؟ كيف تزدهر محلات الزهور، ومحلات الأثاث، ومحلات الزينة، ومحلات الأواني، والملاعب، ومحلات الرياضة، والأسواق، والشوارع، وكل شيء يحيى في رمضان؟.

اللعب بجميع أنواعه يزدهر في رمضان، كيف؟ ما العلاقة بين هذا، وبين ليلة القدر؟ ما العلاقة بين هذا، وبين شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس، وبينات من الهدى، والفرقان؟!، قضية لا يمكن أن تُفهم بالنسبة لي على الأقل!

فأقول: مضى نصفه مع تقصير كبير، فالعاقل يستدرك فينبغي ألا يمضي النصف الآخر بمثل هذا التقصير، الجد الجد، فما هي إلا أيام سريعة، ثم يمضي هذا الشهر كلمح البصر، ثم يمضي ما بعده من الشهور، والأعوام كلمح البصر، ويتذكر الإنسان أن حياته جميعاً كانت كلمح البصر.

ولهذا قال الله : وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ [الروم:55].

وتتلاشى تلك الأحلام، والشهوات، وكذا أيام التعاسة، والبؤس على من لزم طاعة الله لحديث: يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار يوم القيامة، فيصبغ في النار صبغة، ثم يقال: يا ابن آدم هل رأيت خيرًا قط؟ هل مر بك نعيم قط؟ فيقول: لا، والله يا رب، ويؤتى بأشد الناس بؤسًا في الدنيا من أهل الجنة، فيصبغ صبغة في الجنة، فيقال له: يا ابن آدم هل رأيت بؤسًا قط؟ هل مر بك شدة قط؟ فيقول: لا، والله يا رب ما مر بي بؤس قط، ولا رأيت شدة قط[2].

هذه هي الحياة، أحلام، شهوات، وآمالها، وطموحاتها، وشهاداتها، وما يظن الكثيرون أنه مستقبل وظيفي، وما إلى ذلك.

كل هذا يتلاشى، ويمضي، ثم بعد ذلك تحقّ الحقائق، ويبصر الإنسان ما تحت قدميه، على أي أرض يقف، ويعرف ما قدم هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ [يونس:30].

فأسأل الله أن يلطف بنا، وأن لا يكلنا إلى أنفسنا طرفة عين، وأن يعيننا على ذكره، وشكره، وحسن عبادته، وأن يغفر لنا، ولوالدينا، ولإخواننا المسلمين، وأن يتقبل منا، ومنكم أجمعين.

وصلى الله على نبينا محمد، وآله، وصحبه. 

  1.  أخرجه الترمذي، أبواب الزهد عن رسول الله ﷺ باب ما جاء في فناء أعمار هذه الأمة ما بين الستين إلى السبعين، برقم (2331)، وابن ماجه، أبواب الزهد، باب الأمل والأجل، برقم (4236)، والحاكم في المستدرك، برقم (3598)، وقال: "هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه"، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (1073).
  2.  أخرجه مسلم، كتاب صفة القيامة والجنة والنار، باب صبغ أنعم أهل الدنيا في النار وصبغ أشدهم بؤسًا في الجنة، برقم (2807).
وماذا بعد رمضان؟

الحمد لله رب العالمين، والصلاة، والسلام على أشرف الأنبياء، والمرسلين، نبينا محمد، وعلى آله، وصحبه أجمعين، أما بعد:

فهذه آخر ليلة من هذا الشهر الكريم، والله - تبارك، وتعالى - أعلم من سيدرك رمضان الآخر، ومن لا يدركه، وقد قيض الله لمن شاء من عباده من أسباب التوفيق، والهداية، والعمل الصالح، فاستغلها من استغلها، وضيعها من ضيعها.

وأولئك الذين جاهدوا أنفسهم في ليلهم، ونهارهم في تلاوة كتاب الله، والعمل الصالح في هذا الشهر، إنهم لا يجدون في ساعتهم هذه شيئاً من التعب، وإنما هي ذكرى.

وأولئك الذين قضوا الأوقات فيما لا طائل تحته في أحسن الأحوال لا يجدون من أنسهم في هذه الساعة شيئاً.

تصرّمت الأيام، والليالي على الجميع، لكن ما هي النتائج؟ هؤلاء جاءوا بختمات كثيرة، وأعمال كثيرة، وهؤلاء جاءوا بمشاهدات للقنوات، ولعب بالورق، وسهر بلا طائل، وذهاب إلى الأسواق، ونوم عن الصلوات، فما هي قيمة الراحة التي استراحوها، والإجمام الذي استجموه، كل ذلك قد ذهب.

والحياة تمضي بهذه الطريقة، وحينما ينقضي عمر الإنسان لا يجد من تعبه، ولا من لذته شيئاً، وإنما يجد النتائج أمامه.

هذه هي الحقيقة الكبرى التي تغيب عن الأذهان في كثير من الأحيان بسبب غلبة الغفلة، فإذا كُشف الغطاء تبينت الحقائق.

ولذلك أقول: إذا كان الإنسان يعرف هذه المعاني، ويدركها، ويدرك لماذا خلق، وماذا ينتظره، ورمضان كان فترة كافية لتهذيب نفسه، وتطويعها لربها، وخالقها .

فهل بمجرد ما تأفل شمس هذا الشهر من الغد نهجر المساجد؟ يُهجر كتاب الله إلى السنة القادمة في رمضان؟ هل هذا يليق؟ فهل لدينا تصور عن حالنا الذي يجب أن نكون عليه، وأن نلتزمه قبل أن تطلق هذه الشياطين، وبعد أن تطلق؟ على أي شيء ستكون من أول يوم من الفطر؟

كيف ستكون؟ هل ستلازم وردًا من القرآن تقرؤه في كل يوم؟ في كم ستختم - إن شاء الله - في الشهور القادمة، والأيام، والليالي؟ هل وضعت لك تصوراً - إذا كنت تقرأ الآن، وتختم - في الشهور الباقية؟ أم أننا من عبيد المواسم؟

عبّاد رمضان، وإذا انقضى رمضان انتهى كل شيء؟ العبادة في كل الأوقات، وإذا كان رمضان ينتهي بغروب شمس يوم الغد فإن أشهر الحج تدخل من غروب شمس الغد، موسم جديد، عظيم جدًّا، وهكذا حينما تنقضي أشهر الحج يأتي محرم، صيامه أفضل الصيام بعد رمضان، وفيه صوم عاشوراء يكفر سنة ماضية[1] وفي نهاية العام يوم عرفة من صامه كفّر سنة ماضية، وسنة آتية[2] والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة[3].

نحن دائماً في عبادة، والآفاق مفتوحة، وأبواب الخير مفتوحة، والموفق من وفقه الله، أقبل على الله يفتح لك أبواب الخير، والبركة، ويعينك على نفسك، ويحصل لك من النفحات الإلهية، والألطاف الربانية ما لا يخطر على بال، ولكن من أعرض أعرض الله عنه، والجزاء من جنس العمل.

ولذلك أقول: لا يصلح أن نسير، ونحن سادرون في هذه الحياة، لابد أن نضع لنا تصورات مستقبلية، ماذا نريد أن نعمل، ماذا نريد أن ننجز، كيف نريد أن نكون؟ وابدأ، لا تؤجل عمل اليوم إلى الغد، من يوم العيد، عندك ورد من القرآن؟

عروة بن الزبير كان يقرأ في كل يوم ربع القرآن، يقول: ما تركته أبداً إلا الليلة التي نشرت فيها رجلي[4].
لما أصابها المرض الذي يأكل اللحم، والعظام نشرت بالمنشار، بغير تخدير، يقول: في تلك الليلة.

علي كان له ورد من الأذكار، يقول: "ما تركته في ليلة، قيل له: ولا يوم صفّين؟"، حرب، معروفة، تراشقوا حتى بالحجارة لما تكسّر الحديد، وبالتراب، ولا يوم صفّين؟ قال: "ولا ليلة صفّين"[5] ما يتركونه.

الحسن بن صالح، وأخوه، وأمه كانوا يقسمون طول السنة - ليس رمضان - الليل إلى أثلاث، هذا يقوم الثلث الأول، وهذا يقوم الثلث الثاني، والأم تقوم الثلث الثالث.

ماتت الأم، قالوا: لا يخلو الثلث من صلاة، ما نقطع العادة في هذا البيت.

فصاروا يقتسمونه نصفين، هذا يصلي نصف الليل، وهذا يصلي نصفه الآخر.

فمات أخوه، فقال: لا نقطع هذه العادة من هذا البيت، فصار يصلي الليل كله إلى أن مات[6].

ونحن يا إخوة صلاتنا العشاء، والكلمة هذه التي يستثقلها لربما بعضنا، والتراويح كلها ساعة واحدة، وهؤلاء طول السنة يقتسمون الليل، وهذا يصلي الليل.

وعثمان أيام خلافته يصفّ قدميه خلف المقام، ويختم القرآن في ركعة، البارحة جالس أحسبها بالآلة، وجدتها تحتاج عشر ساعات إذا كان يقرأ الجزء في عشرين دقيقة، عشر ساعات يحتاج أن يقرأ، وخليفة، خلف المقام ركعة واحدة!.

نحن كم نستطيع أن نصلي في اليوم، والليلة؟ كم نستطيع أن نقرأ؟ كم جزءًا نقرأ؟ هؤلاء يعملون أعمالا مثل الجبال، ويأتون بحسنات أمثال الجبال يوم القيامة.

ونحن نأتي بماذا مع كثرة الذنوب، والمغريات، والملهيات؟ فلابد أن يكون عند الإنسان منهج في الحياة يسير عليه لا يفرط به أبداً، مهما كان.

ولو حصل للإنسان إعاقة في يوم، انقطع، ما استطاع، لا تتثبط، وتقول: ما في فائدة.

لا، فيه فائدة، كمل من اليوم الذي بعده، أرغم الشيطان، واستمر، فالشيطان هو الذي يأتيك يقول لك: ما في فائدة، انقطعت يومين، ثلاثة أيام، أسبوعًا، ما يخالف، كمل بعده، ولا تنقطع، وهكذا. 

نسأل الله لنا، ولكم القبول، والتوفيق، وأن يعيننا، وإياكم على أنفسنا، وأن يغفر لنا، ولوالدينا، ولإخواننا المسلمين، وأن يتقبل منا، ومنكم الصيام، والقيام، وألا يجعل آخر عهدنا برمضان.

وصلى الله على نبينا محمد، وآله، وصحبه. 

  1.  أخرجه مسلم، كتاب الصيام، باب استحباب صيام ثلاثة أيام من كل شهر وصوم يوم عرفة وعاشوراء والإثنين والخميس، برقم (1162).
  2.  المصدر نفسه.
  3.  أخرجه البخاري، أبواب العمرة، باب وجوب العمرة وفضلها، برقم (1773)، ومسلم، كتاب الحج، باب في فضل الحج والعمرة، ويوم عرفة، برقم (1349).
  4.  سير أعلام النبلاء (4/ 426).
  5.  أخرجه مسلم، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب التسبيح أول النهار وعند النوم، برقم (2727)، عن مجاهد، عن ابن أبي ليلى، عن علي، عن النبي ﷺ بنحو حديث الحكم، عن ابن أبي ليلى، وزاد في الحديث قال علي: ما تركته منذ سمعته من النبي ﷺ قيل له: ولا ليلة صفين؟ قال: ولا ليلة صفين.
  6.  حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (7/ 328), وسير أعلام النبلاء (7/ 369).

مواد ذات صلة