الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
ففي هذه الليلة يكون الختام بإذن الله ختام الكلام على هذه القواعد التي اخترتها، وسيكون الحديث عن بعض الضوابط التي يمكن أن يرجع إليها عند احتمال اللفظ لمعنيين فأكثر، وهي التي تعرض أمامكم، وعامة ألفاظ القرآن تدل على معنيين فأكثر، والمقصود بذلك ما يعرف باختلاف التضاد، وأما اختلاف التنوع، فهو وإن تنوعت العبارات والأقوال إلا أن ذلك يرجع إلى شيء واحد؛ لكن الأقوال التي هي في أصلها من قبيل اختلاف التضاد عامة ألفاظ القرآن تحتمل معنيين فأكثر، ولهذا يحتاج طالب العلم إلى آلة، وإلى أصول يرجع إليها من أجل أن يرجح أو يجمع بين هذه الأقوال، فمن القواعد المتعلقة بذلك: أن الكلمة إذا احتملت وجوهًا لم يكن لأحد صرف معناها إلى بعض وجوهها دون بعض إلا بحجة، وسواء إذا كانت المعاني المحتملة لا يمكن اجتماعها أو أمكن اجتماعها، وذلك أن من أهل العلم من يختار أحد هذه المعاني ولو كان يمكن أن تجتمع.
فالعلماء كما هو معلوم لا يتفقون على طريقة واحدة في التفسير لكن لا يجوز أن يصرف ذلك إلى أحد هذه المعاني إلا بدليل في قوله -تبارك وتعالى: أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى [البقرة:16] معروف أن الشراء يكون بأن يدفع الإنسان عوضًا ويأخذ المعوض عنه، يدفع المال مثلاً من أجل أن يحصل على السلعة، ويبقى السؤال هنا: أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى هل هؤلاء كانوا على هدى؟ فبذلوه في مقابل الحصول على الضلالة لاحظتم الإشكال اشتروا الضلالة بالهدى هل كانوا يملكون الهدى فدفعوه ثمنًا للضلالة؟
لم يكونوا على هدى، فبعض العلماء نظر إلى هذا فقال: كانوا هؤلاء على الإيمان فحصل منهم ردة، لماذا قال ذلك؟ من أجل أنهم اشتروا الضلالة بالهدى دفعوه ثمن وأخذوا الضلالة فكانوا على هداية ثم صاروا على انحراف وكفر كما قال الشاعر:
بدلت بالجمة رأس أزعــــــر | وبالثنايا الواضحات الدر درا |
وبالطويل العمر عمراً حيدرا | كما اشترى المسلم إذ تنصرا[1] |
مسلم تنصر بذل الإسلام، استغنى عنه في سبيل الدخول في النصرانية، كما اشترى المسلم إذ تنصرا.
وبعض أهل العلم يقولون إن المقصود بالشراء أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى المقصود به الاستعاضة مطلق الاستعاضة، استعاضوا عنه وأن لم يكونوا على هدى أصلاً، وبعضهم يقول: المقصود بذلك الاختيار، اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى أي اختاروه، وهذا يقال له: شراء من باب التوسع في العبارة والإطلاق، إلى غير ذلك من المعاني.
انظروا الآن هذه المعاني هل يمكن أن تجتمع؟ فنقول: هؤلاء كانوا على الإيمان ثم ارتدوا، أو قول من قال إن المقصود به الاختيار والإيثار، أثروا الضلالة على الهدى وأن لم يكونوا على الإيمان هذا اختلاف تضاد أو اختلاف تنوع؟
اختلاف تضاد، هل نستطيع أن نجمع بين هذه الأقوال أو نحتاج أن نرجح؟
نحتاج أن نرجح! لا يجوز لنا أن نصرف هذا النص القرآني إلى أحد هذه المعاني إلا بالدليل، وأحيانًا يمكن أن نجمع هذه المعاني في قوله -تبارك وتعالى: لَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ [البقرة:228] ما الذي خلق الله في أرحامهن؟
بعضهم يقول: لا تكتم ذلك من أجل تطويل العدة أو من أجل تقصيرها قد تدعي أنها حاضت وطهرت، وحاضت وطهرت بدل من أن تنتظر تسعة أشهر.
وبعضهم يقول: المراد به الحيض، وهنا نستطيع أن نجمع بين القولين فنقول: لا تكتم ما خلقه الله في رحمها سواء كان حيضًا أو كان حملاً، لكن لو أراد أحد أن يرجح لا يجوز له أن يصرف ذلك إلى أحد هذه المعاني إلا بدليل يجب الرجوع إليه، ومما يعين على فهم هذه القاعدة ثلاث قواعد:
القاعدة الأولى: أنه قد يحتمل اللفظ معاني عدة، ويكون أحدها هو الغالب استعمالاً في القرآن فيقدم على غيره أن لم توجد قرينة تدل على أن المراد هو الآخر.
وأحيانًا هذه المعاني التي احتملها يمكن الجمع بينها.
وأحيانًا لا يمكن الجمع بينها، وحينما أقول: يمكن الجمع بينها لاشك أن المطلوب والأحسن هو أن يجمع بين هذه المعاني، لكن إن أراد أحد أن يرجح فإنه لا يجوز أن يصرف هذا النص إلى واحد منها إلا بدليل، وإنما ينبغي عليه أن يتوخى ويتحرى مراد الله -تبارك وتعالى- كيف يكون ذلك القاعدة هذه التي ذكرتها آنفًا أن يكون أحد هذه الألفاظ هو الأكثر استعمالاً في القرآن فيرجح به، في قوله -تبارك وتعالى: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ [آل عمران:7] المراد بالتأويل التفسير، تفسير الكلام بإظهار معناه والكشف عنه، ويأتي أيضًا بتفسير الرؤيا، تأويل الرؤيا بمعنى التفسير لها فهذا كله من قبيل التفسير، تقول: ما تأويل هذه الرؤية؟.
نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ [يوسف:36]، يعني بتفسيره.
ويأتي بمعنى ما يؤل إليه الأمر في ثاني حال إذا كان الشيء أمرًا فتأويله بفعل المأمور؛ لما قال الله للنبي ﷺ: فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا [النصر:3]، قالت عائشة -ا: "فكان ﷺ يكفي أن يقول في ركوعه وسجوده: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي، يتأول القرآن"[2]، بمعنى يحقق يمتثل أمر الله .
وتأويل النهي بترك المنهي، وتأويل الخبر بوقوع المخبر به كما قال الله : هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ [الأعراف:53] يعني وقوع ما أخبر به، يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ [الأعراف:53] الآية.
وتأويل الرؤية بالمعنى الأخر أي تحقق الوقوع هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ [يوسف:100] لم رآهم سجدوا له، الآن التأويل يأتي بمعنى التفسير، ويأتي بمعنى ما يؤل إليه أو حقيقة أمره التي يؤل إليها، والغالب استعمالاً في القرآن بمعنى ما يؤل إليه، فإذا أردنا أن نرجح هذين المعنيين: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ فنقول: ما يؤل إليه، هذه أمور غيبية لا يعلمها إلا الله -تبارك وتعالى- وهنا يصح الوقف في الآية ويكون ذلك من قبيل المتشابه النسبي أو المطلق؟
النسبي الذي يعلمه بعض الناس ويخفى على بعضهم، والمطلق الذي لا يعلمه ألا الله يكون من قبيل التشابه المطلق، ولكن إن فسرناه بالتفسير وما يعلم تفسيره إلا الله يكون من قبيل التشابه النسبي؛ لأنه لا يوجد شيء في القرآن لا يعلم معناه أحد إلا الله المعنى لأن الله خاطبنا بما نعرف بلغة العرب، وهذه الآية يصح فيها الوقف ويصح فيها الوصل، وكل ذلك ثبت عن ابن عباس -ا- فعلى الوصل إذا وصلت وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ [آل عمران:7] تكون الواو عاطفة، وبهذا الاعتبار يكون المراد بالتأويل التفسير، وإذا وقفت: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ يكون المراد به المعنى الثاني الذي هو التشابه المطلق وأنه لا يعلم حقائق هذه الأمور وما تأول إليه في ثاني حال إلا الله -تبارك وتعالى: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وتكون الواو وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ استئنافيه وبهذا نستطيع أن نصحح القولين بهذا الاعتبار، وأحيانًا لا نحتاج إلى الترجيح أصلاً مع أن أحد هذه المعاني هو الأكثر استعمال في القرآن في قوله -تعالى: وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ [التكوير:17] عسعس فعل ، وهو فعلٌ ماضٍ، ويدل على معنيين يمكن أن نقول متضادين: "أقبل وأدبر" وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ والله أقسم بالليل حال إقباله أو أقسم به حالة إدباره ما المعنى؟ في حال إقباله وإدباره لماذا قلت بحال إدباره؛ لأن الله قال: وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ [التكوير:18] يأتي بعده، لكن أيضًا فيه قرائن أخرى: وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ [المدثر:33] أليس كذلك! أو لا؟ فهنا أقسم به بحال إدباره ويحتمل أن يكون المقصود بعسعس يعني أقبل كقوله -تعالى: وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى [الليل:1]، وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى [الضحى:2] يعني أرخ سدوله عما بظلامه فأدبر هو الغالب بالقرآن.
فهنا إذا أردنا أن نرجح المعنيين ننظر في أكثر استعمال في القرآن فنرجحه، مع أنه يمكن في هذا المثال أن يقال: بأن الله أقسم بالليل في حال إقباله، وأقسم به حال إدباره ولا نحتاج إلى ترجيح هذا هو الأحسن بأن ذلك يدل على عظمة الله وبديع صنعه، وعظيم قدرته ، وهما مظهران تتجلى فيهما العظمة، وكلاهما يدل عليه القرآن، الله أقسم به صراحة في حال إقباله: وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى، وأقسم به في حال إدباره.
وهكذا في قوله -تبارك وتعالى: كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي [المجادلة:21] لأغلبن، هل المقصود بالغلبة هنا الغلبة بالحجة بالبرهان أو المقصود بها الغلبة بالقوة والسيف والسنان؟ ما هو الأكثر استعمالاً في القرآن؟
نقول: نفسر الآية: لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي المقصود بالغلبة الحجة لماذا؟ قال لآن بعض الرسل قتل كأين من نبي قتل على الوقف هنا، وإذا كان قد قتل فهو مغلوب؛ لأن الله قال: فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ [النساء:74] فجعل الذي يقابل الغلبة القتل، فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فقالوا هنا: إن الله كتب الغلبة هو وعد وحق ثابت راسخ لا يمكن أن يتخلف.
والمراد بالغلبة هنا بعضهم قال: الغلبة هنا بالحجة والبرهان.
وبعضهم يقول: الغلبة بالسيف والسنان، ما هو الأكثر استعمالاً بالقرآن؟ الغلبة بالحجة أو الغلبة بالسيف؟ بالسيف، فإذا أردنا أن نرجح بين المعنيين فعندئذِ يقول: كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي يعني بالقوة في ميدان المعركة بالسيف مع أنه في هذه الآية يمكن الجمع بين ذلك فيقال: في الغلبة تكون في الحجة والبرهان، وتكون بالسيف والسنان، وأن ما جاء في قوله -تبارك وتعالى: فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فهنا في مقابل القتل، ولكن ذلك لا يعني أن كل من قتل أنه مغلوب، وإنما العبرة بالغوالب، ولهذا قال الله حق عيسى : وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ [آل عمران:55] مع أن هذا ما تحقق في زمن المسيح، ولا بعد المسيح حتى بعث محمد ﷺ، ولهذا قال الله : فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ [الصف:14] يعني لم يكن لهم ظهور أتباع المسيح إلى بعث محمد ﷺ على خلاف بين أهل العلم في هذا الظهور بعضهم كابن القيم -رحمه الله-[3] يقول: كل من له شائبة في اتباع المسيح فهو أولى به من غيره، ولهذا الذين اتبعوا قسطنطين وبقوا على التثليث قسطنطين زعم أنه دخل في النصرانية فغلب اليهود، وصاروا مقهورين من قبل النصارى فهذه الغلبة، وهذا لا يخلوا من إشكال.
القاعدة الثانية: أنه قد يكون اللفظ محتملاً لمعنيين في موضع، ويعين في موضع آخر.
فهنا نستطيع أن نرجح بهذا الاعتبار سواء كان جمع أو لم يمكن، وأن أمكن الجمع أحسن أن يحمل على الجميع أحسن من الترجيح في قوله -تبارك وتعالى: وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ [البقرة:228]، القرء هنا مشترك بين الحيض والطهر، وهذا مشترك بين معنيين يمكن أن نقول: بأنهما نقيضان، ويمكن أن نقول: بأنهما ضدان يمكن، نعرف النقيضان لا يجتمعان ولا يرتفعان مثل: الحياة والموت لابد أن يقال: يا حي يا ميت! لا حي ولا ميت غير صحيح، حي ميت غير صحيح، الليل والنهار، ما فيه لا ليل ولا نهار لا يجتمعان في ذات واحدة وفي وقت واحد، ولا يرتفعان بالنفي عنها.
وأما الضدان لا يجتمعان في وقت واحد في ذات واحدة مثل: السواد والبياض، ويمكن ارتفاعهما فنقول: أصفر لا أسود ولا أبيض، فالقرء يمكن أن يكون من قبيل النقيضين باعتبار إذا قلنا: إنه لا يخلوا أما أن تكون طاهر المرأة أو حائض. والنفساء نقول: إن النفساء ملحقه بالحائض فهما نقيضان والمستحاضة ملحقة بالطاهر فهما نقيضان على هذا الاعتبار، وإذا قلت: لا، النفاس قسم مستقل، فيقال: هما ضدان فلا يقال: هي حائض طاهر في نفس الوقت، لكن ممكن لا حائض ولا طاهر نفساء، الله يقول: وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ هل المقصود به ثلاثة حيض أو ثلاثة أطهار؟
بعض أهل العلم رجح أن المراد بذلك الأطهار، وهو الذي اختاره الشيخ محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله-[4] باعتبار أن الله قد ذكره في موضع آخر قال الله -تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ [الطلاق:1]، وما هي العدة التي تطلق لها المرأة؟ أن تطلق في طهر لم تجامع فيه، أو تطلق وهي حامل فإذن الطهر هو الذي تطلق فيه المرأة، فهذا هو العدة التي أمر الله بتطليق النساء لها: يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ [البقرة:228].
وهناك قرينة أخرى وهي أن القرء مذكر، والحيض مؤنث، والعدد ثلاثة إذا كان المعدود مذكرًا يؤنث العدد، فهنا قال: ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ فنفسرها بالأطهار على هذا القول، ثلاثة أطهار، ولو أراد به الحيض فالحيضة مؤنثة لقال: ثلاث قروء، فالشاهد أن هنا من أهل العلم من يقول بأن ذلك قد بينته الآية الأخرى: فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ [الطلاق:1]، وفي قوله -تبارك وتعالى: خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ [البقرة:7] الختم بمعنى الطبع، ختم الله على القلوب وعلى سمعهم، وهل ختم على أبصارهم أو تكون الواو استئنافية؟ يعني هل الواو عاطفة وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ يعني وختم على أبصارهم أو انتهى، خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ نقطه، ثم الواو استئنافية وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ يحتمل هذا وهذا. أليس كذلك! لكن المعنى الثاني أن الواو استئنافيه دلت عليه الآية الأخرى وهي قوله -تبارك وتعالى: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً [الجاثية:23] جعل على بصره فدل على أن الغشاوة تكون على الأبصار وان الختم يكون على القلوب والأسماع فهنا نرجح بآية أخرى، في قوله -تبارك وتعالى: وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ [الحج:29] طبعًا في ثلاثة قروء المثال السابق يمكن الجمع بين الأقوال؟ نجمع بين القولين أطهار ونقول تتربص ثلاثة أطهار وثلاثة حيض؟
لا يمكن مع أن الشوكاني يقول: يمكن، وهذا من أغرب الأشياء لا يمكن تجمع.
نعطيكم مثالاً على ما يمكن الجمع فيه بين الأقوال وإذا أردنا أن نرجح توجد قرينة في قوله -تعالى: وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ العتيق بعضهم يقول: القديم، تقول هذا طيب عتيق، وهذه دار عتيقة، وهذه مدينة عتيقة، والعتيق هو القديم، وقيل: العتيق المعتق من الجبابرة لا يسلطون عليه، أبرهة ما حصل له وقصته لا تخفى.
وبعضهم يقول غير هذا، ونحن الآن يمكن أن نجمع بين هذه الأقوال، ونقول: معتق من الجبابرة، وهو عتيق بمعنى قديم، فالقدم تارة يزيد في نفاسة الشيء، وتارة يكون نقص فيه، الآن ما ترون الطيب العود القديم يكون أجود أليس كذلك؟ قال: هذا عتيق معتق، والناس يعنون ببعض الأشياء القديمة وتعتبر من النفائس كل ما تقادم عليها العهد، والبيت العتيق هنا يعني القديم، فهل يوجد ما يرجح هذه المعاني؟
نعم، قوله -تعالى: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ [آل عمران:96] هنا إذا أردنا أن نرجح بهذه الآية أن المقصود به القديم مع أنه يمكن الجمع بين هذه الأقوال، -والله تعالى أعلم.
القاعدة الثالثة: مما يعين في الترجيح أو النظر عند الاختلاف عند احتمال الآية أكثر من معنى، وهو أنه تحمل الآية على المعنى الذي استفاض النقل فيه عن أهل العلم وأن كان غيره محتملاً.
تحمل الآية على المعنى الذي استفاض النقل فيه عن أهل العلم وإن كان غيره محتملاً في قوله -تبارك وتعالى: وَإِنَّ مِنْهَا -يعني الحجارة- لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ [البقرة:74] ما المراد بــ يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ؟
بعض أهل العلم يقول: المقصود به تفيء الظلال، ظلال الحجارة يمينًا وشمالاً، وإلا فالجبل ليس له إدراك ولا يهبط من خشية الله شيء من أحجاره وصخوره.
وبعضهم يقول: المقصود به جبل معين وأنه لما يشقق فيخرج منه الماء وأن من الحجارة لما يتفجر منها الأنهار وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ [البقرة:74] قال: المقصود به الجبل الذي تجلى الله له لا قال موسى : رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ [الأعراف:143] لما تجلى ربه للجبل جعله دكا، فقالوا: يهبط من خشية الله هو ذلك الجبل فقط، وهذا يحتاج إلى دليل.
وبعضهم يقول: لا مانع أن يعطي الله الأحجار معرفة وإدراكًا يناسبها، ومعلوم قول النبي ﷺ: إني لا أعرف حجر كان يسلم علي بمكة قبل أن أبعث[5]، وحنين الجذع[6]، وما إلى ذلك من الشواهد.
وبعضهم يقول: هذا مجاز.
وبعضهم يقول: إنه يوجب الخشية لغيره لما يراها الإنسان ويتفكر ويتدبر ويعتبر يوجب الخشية لغيره فيحصل له الخشوع والخضوع وما إلى ذلك؛ لأنه يدل على صانعه، المعنى المستفيض عند أهل العلم من أهل السنة والعلماء الذين بهم العبرة أن الله أعطاها إدراكًا يناسبها، فهي تهبط من خشية الله كما أخبر الله ، فنحمله على هذا المعنى ولا داعي لتلك التكلفات أن المقصود الظلال، أو غير ذلك.
القاعدة الرابعة: إذا احتمل اللفظ عدة معاني ولم يمتنع إرادة الجميع فإنه يحمل عليها.
والأدلة على هذا متعددة، والنبي ﷺ لما قرأ: وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً [الكهف:54] استشهد بالآية على قضية أخرى[7].
وهكذا في قوله: إنكم محشورون إلى الله -تعالى- حفاة عراة غرلا، وقرأ: كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ [الأنبياء:104][8].
وقال كما في الصحيح لأبي سعيد بن المعلى لما دعاه النبي ﷺ وهو يصلي فلم يجبه فسأله النبي ﷺ عن ذلك؟ واحتج عليه النبي ﷺ بقوله -تبارك وتعالى: اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ [الأنفال:24][9]، ليس المقصود من الآية حينما خاطب الله الناس هل الخطاب ورد من أجل أنه إذا ناداك قال لك يا فلان، وإنما المقصود بها إذا دعاكم إلى الإيمان وطاعة الله -تبارك وتعالى- هذا هو المراد، لكن من عموم لفظها احتج بها النبي ﷺ على سعيد بن المعلى، والنبي ﷺ أعلم الناس بكتاب الله ومعانيه: اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ حتى لو قال: يا فلان تعال لابد يجيب ولو كان في الصلاة، فأبو سعيد كان يصلي واعتذر بالصلاة ومع ذلك النبي ﷺ ما عذره.
وهكذا ما أخرجه البخاري عن ابن عباس الحديث السابق: كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ[10].
وهناك صور تتفرع من هذه القاعدة، أذكر سبع صور:
الصورة الأولى: أن تكون المعاني متساوية أو متقاربة مع عدم المانع من إرادتها جميعًا، لا يوجد عندنا ما يمنع من أن تكون مراده، في قوله -تبارك وتعالى: وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا [النساء:157] الضمير يمكن أن يرجع إلى عيسى : وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا وإنما شبه عليهم ولبس وزعم اليهود أنهم قتلوه فراج ذلك على النصارى فما قتلوا عيسى يقينًا.
المعنى الثاني: وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا ما قتلوا هذه الشبهة والمقولة التي قيلت، ما قتلوه درسًا وبحثًا ونظرًا وإنما تلقفوها من غير إمعان ولا تفكر ولا تأمل ولا تمحيص! وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا فالآية تحتمل هذا، وتحتمل هذا، والواقع بالنسبة لهذا أنهم ما قتلوا عيسى يقينًا حقًا وكذلك أيضًا النصارى شبه لهم، فلم يتحققوا من ذلك فراج عليهم هذا وانطلى ولم يمحص التمحيص المطلوب، فكل هذا حق.
وفي قوله: وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ [يوسف:42]، فالضمير في اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ يحتمل أن يرجع إلى يوسف -، فالشيطان أنسى يوسف ذكر ربه، يحتمل أن يكون الشيطان أنسى يوسف ذكر ربه، يعني كان الأحرى والأولى أن يتوجه إلى الله ولا يكون له أدنى التفات إلى المخلوق الذي هو الملك، ويحتمل أن يكون فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ، أن الذي أنساه الشيطان هو الذي نجي، هو الذي نسي فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ [يوسف:42] لبث يوسف .
الصورة الثانية: أن تكون المعاني متقاربة مع ترجح بعضها مع أنه لا يوجد مانع من الحمل عليها: قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ [الفرقان:77] دعائكم فدعاء هنا يمكن أن تكون مضافة يكون المصدر دعاء مضافًا إلى الفاعل، يعني لولا دعاؤكم إياه!.
ويحتمل أن يكون مضافًا إلى المفعول لولا دعاءه إياكم فهذه المعاني يوجد بينها شيء من التقارب، مع أن أحد هذه المعاني أرجح من بعض، فإذا فسر بالأول: "لولا دعاؤكم إياه" فهذا هو الأقرب، (ما يعبئ بكم ربي لولا دعاؤكم إياه) فيكشف عنكم العذاب ويدفعه، ويمكن أن نقول: بأن الآية تدل على المعنيين، لولا دعاءه إياكم إلى الإيمان فيمهلكم، وأيضًا لولا دعاؤكم إياه وتضرعكم، كما قال الله : وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [الأنفال:33]، وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر:60] أدعوني هل المقصود به هنا الآن دعاء المسألة؟ اسألوني أعطكم! أو المقصود به دعاء العبادة ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ يعني أعبدوني أثبكم؟
الأرجح أن يكون دعاء عبادة؛ لأنه قال بعده: إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ [غافر:60]، يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي لكن لا يمتنع الحمل على المعنيين، فيمكن أن نقول بأن ذلك يشمل المعنيين جميعًا، ادْعُونِي يعني اسألوني! واعبدوني! وسيأتي مزيد إيضاح لهذه القضية.
الصورة الثالثة: أن تكون المعاني متلازمة في المعنى ولا مانع من الحمل على الجميع في قوله -تبارك وتعالى: وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ [الفلق:3] غاسق! قيل القمر وقيل الليل وبينهما ملازمة، فالقمر يخرج في الليل وعلامة الليل، فهنا لا نحتاج أن نرجح، فمن قال: إنه القمر، ومن قال: إنه الليل لا منافاة بين القولين بينهما ملازمة.
وهكذا في المثال السابق: وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ فإن كل عابد فهو سائل بفعله هو لماذا يعبد؟ لماذا يصلي ويصوم؟ من أجل طلب الثواب، وكل سائل فهو طالب بلسان المقال.
الصورة الرابعة: أن تتعدى القراءات المتواترة في اللفظة مع اختلاف المعنى في كل قراءة مع إمكان الحمل على الجميع، في قوله: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة:4]، وقراءة: (ملك يوم الدين) تكلمنا عن الأسماء الحسنى عن مالك وملك، وذكرت هناك الكلام في أي المعنيين أي الاسمين أبلغ ملك أو مالك؟
فبعض العلماء قال: ملك! وبعض العلماء قال: مالك! وذكرت أن كل واحد من الاسمين يدل على معنى لا يدل عليه الآخر، فمالك لا يدل على الملك، وملك قد يكون ملكًا لكنه لا يملك كل شيء! لا يملك بحيث لا يستطيع الملك أن يعتق عبيد غيره أو أن يبيع سيارتهم أو أن يبيع دارهم أو نحو ذلك هكذا؟
الجواب: لا، فالله أثبت لنفسه هذا، وهذا! فهو مالك وملك.
وهكذا في قوله تعالى: وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ [التكوير:24]، وفي القراءة الأخرى: (بظنين) والفرق بين القراءتين (ضنين) (وظنين) أن "ظنين" من الظن، وهو خلاف الجزم واليقين والعلم.
"وضنيين" بخيل، فهاتان قراءتان متواترتان فماذا نقول؟
نقول: كل قراءة تنزل منزلة آية مستقلة، فهنا ليس ببخيل لا يكتم شيئًا مما أوحاه الله إليه وعلمه، وكذلك أيضًا: ما هو بظنين لا يتكلم بالتخمين، والشك، والتخرص.
الصورة الخامسة: تلك المعاني الناتجة عن اختلاف مواضع الوقف والوصل والابتداء حال إمكان إرادة تلك المعاني جميعًا يمكن أن نمثل عليها بالآية السابقة آية آل عمران في قوله -تبارك وتعالى: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ ونقف! وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا [آل عمران:7] فهنا له معنى، أو نصل ونقول: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ [آل عمران:7] فيتغير المعنى.
وهكذا في قوله: وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ [آل عمران:146] ونقف! مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا [آل عمران:146] كيف يكون المعنى وَكَأَيِّنْ للتكثير وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ القتل وقع على النبي! الأنبياء كثر، ثم مَعَهُ رِبِّيُّونَ جماعات وأتباع كثر، فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله من قتل نبيهم ومقدمهم وقدوتهم ﷺ، ويمكن أن نصل نقول: وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ [آل عمران:146] يعني كأي النبي قتل...، القتل يكون وقع على الربيين الكثير فالذين بقوا منهم أحياء فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا للقتل الذي استحر فيه إخوانهم.
والقراءة الثانية المتواترة: وكأين من نبي قتل معه ربيون كثير فما وهنوا...، إلى آخره.
الصورة السادسة: وهي في اللفظ المشترك إذا أمكن حمله على جميع معانيه، والمشترك واللفظ الواحد يدل على معاني متعددة، وعندنا أدلة على هذا على أن المشترك يحمل على معانيه إذا أمكن، إذا لم يوجد مانع، لقوله -تعالى- مثلاً: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ [الأحزاب:56] فصلاة الله على عبده بمعنى أن يذكره في الملأ الأعلى، وصلاة الملائكة؟ بمعنى الاستغفار! وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ [الشورى:5].
وصلاة الآدميين بمعنى الدعاء بالرحمة، وهنا في لفظ واحد: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ فاستعمل لفظًا واحدًا في معنيين، هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ [الأحزاب:43]، أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ [الحج:18] مع اختلاف وتنوع السجود فالاشتراك أنواع:
تارة يكون في موضوع اللفظة المفردة نفس اللفظة سواء كانت اسمًا أو فعلاً أو حرفًا، وأحيانًا يمكن الجمع بين هذه المعاني المشتركة وأحيانًا لا يمكن، وأحيانًا تكون هذه المعاني من قبيل المعاني المتناقضة، وأحيانًا متضادة، وأحيانًا متخالفة، وفي قوله -تبارك وتعالى: وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ اشتراك في اسم أو فعل أو حرف؟
فعل، يحمل معاني متناقضة أو متضادة أو متباينة؟
متضادة، فالنقيضان لا يجتمعان ولا يرتفعان، نحن نقول: لا أقبل ولا أدبر! بقي في مكانه.
فهنا: وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ نقول: أقسم به في حال إقباله وإدباره! يمكن الجمع.
وقوله: إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ [الأعراف:83] الغابرين ممكن أن تكون بمعنى الباقين، وممكن أن تكون بمعنى الذاهبين، الباقي والذاهب، فهذه المعاني هذا مشترك، ويمكن الجمع بينها نقول: الباقين في العذاب والذاهبين في الهلاك!.
وإذا كان لا يمكن مثل: ثلاثة قروء كما سبق فهذا اشتراك في اسم وهكذا الغابر اسم، فالقرء اشتراك في اسم يحمل معاني متضادة، ويمكن أن تكون متناقضة باعتبار آخر لا يمكن الجمع بينها، وفي قوله: فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ [القلم:20] بعضهم يقول: بيضاء.
وبعضهم يقول: سوداء محترقة، فهي بيضاء أو سوداء! لكن المعنى في النهاية واحد ما هو هذا المعنى الواحد في النهاية، هذا المعنى الواحد أنه لا شيء فيها ما فيها نبات.
وأحيانًا هذا المشترك يجمع معاني متباينة غير متضادة، سواء الجمع بين هذه المعاني أو لم يمكن، في قوله -تعالى: لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاً وَلَا ذِمَّةً [التوبة:10] ما معنى إِلاً؟ قرابة، عهد، الله، وأيضًا إِلاً أبو بكر يقول حينما جاءه وفد مسيلمة وسألهم في حروب الردة قال لهم: "أسمعوني ما يقول مسيلمة؟"، فقالوا له: والطاحنات طحن، فالعاجنات عجن، فالخابزات خبزا، فاللقمات لقم..." إلى آخره، فقال: "أشهد أن هذا لم يخرج من إل"[11].
لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاً وَلَا ذِمَّةً [التوبة:10] هل هذه معاني متناقضة الآن العهد والقرابة والله؟!
لا، لكن معاني متباينة مختلفة يمكن الجمع بينها وإلا لا يمكن؟
يمكن فنقول: لا يرقبون في المؤمنين لا عهد ولا ذمة ولا رب! لا يرقبون الله ولا قرابة.
فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ [المدثر:51] قسورة قيل: الصياد، وقيل: الأسد، وقيل: النبل، وقيل: أصوات الناس، فيقال: فرت مما تفر منه عادة؛ لأنها وحشية، لكن أحيانًا ما يمكن الجمع بين هذه الأقوال، في قوله -تبارك وتعالى: وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى [البقرة:135] هذا اشتراك في حرف الآن "أو"، فهل "أو" هذه للتخيير؟ كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى يقول: تخير تكون يهودي أو نصراني حتى تهتدي هل هذا هو المراد؟ أو هذه للتقسيم؟
للتقسيم؛ لأن اليهود لا يقولون كونوا نصارى تهتدوا، بل يرون أن هذا كفر وضلال، وإنما قالوا: كُونُوا هُودًا اليهود قالوا: كونوا هودًا، وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا وإلا فهم يكفر بعضهم بعضًا وبينهم من العداوة ما لا يخفى وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا وقد يكون الاشتراك عارضًا من جهة اختلاف أحوال الكلمة دون موضوع اللفظ، يعني من جهة التصريف مثلاً، وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ [البقرة:282]، لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا [البقرة:233] لا تضار هل المقصود به لا يضارر كاتب ولا شهيد، لا يلحق به الضرر من أجل الكتابة أو الشهادة؟ (لا تضارر والدة بولدها) لا يلحق بها الضرر أو لا تضارر هي لا تضر الزوج مثلاً والد الولد بسبب الرضاع أو لا يضارر هذا الكاتب الشهيد بحيث يتشرط عليهم ويطلب منهم شروطًا وأمورًا مجحفة من أجل أن يكتب لهم، أو يشهد لئلا يضيع الحق فهذه لا يضار تحتمل هذا.
وتحتمل هذا من جهة التصريف ما هو من جهة أن اللفظ نفسها مثل كلمة: عَسْعَسَ [التكوير:17]، أو حرف "أو" مثلاً، أو نحو ذلك؟
لا، من جهة التصريف وهكذا أحيانًا طبعًا هذا يمكن الجمع بين الأقوال فيه نقول: لا ما يوقع عليها الضرر ولا توقع الضرر بغيرها، والقرآن يعبر به بالألفاظ القليلة الدالة على المعاني الكثيرة.
وتارة يكون الاشتراك بسبب تركيب الكلام، ما هو بسبب لفظة معينة، ولا بسبب تصريف أيضًا لفظة معينة، وإنما تركيب الكلام. وهذا قد يحمل معاني متضادة وقد يحمل معاني مختلفة ومتنوعة غير المتضادة في قوله -تعالى- مثلاً: وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ [النساء:127] ما المعنى؟ يحتمل معنيين وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ هذه يتيمة، ويحتمل أن يكون: وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ يعني ترغبون في نكاحهن لمالهن أو لجمالهن ولا يعطيها مهر مثيلاتها.
ويحتمل أن يكون: وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وترغبون عن نكاحهن لقلة جمالهن، أو لقلة مالهن، فهذه معاني متضادة ويمكن هنا أن نجمع بين هذه الأقوال، وقد تكون المعاني غير متضادة، قد يمكن الجمع بينها، وقد لا يمكن، إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ [فاطر:10] الضمير يرجع إلى أين؟
يحتمل أن يكون المعنى هكذا وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ [فاطر:10] العمل الصالح يرفع الكلم الطيب.
ويحتمل أن يكون أن يرجع إلى الله أن الله يرفع العمل الصالح.
ويحتمل أن يكون الكلم الطيب يرفع العمل الصالح؛ لأن الإنسان مهما عمل لا ينفع ما لم يقل لا إله إلا الله! إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه الكلم الطيب، هذه ثلاثة معاني، ويمكن أن يجمع بين هذه المعاني.
وأحيانًا لا يمكن الجمع يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ [البقرة:183] هل التشبيه في أصل الفرض؟ فرض؟ أو في الصفة؟ أن صيامنا كصيامهم، في أصل الفرض.
الصورة السابعة: ما يتعلق بأسباب النزول ومعلوم أن أسباب النزول تتعدد وإذا كان الوقت متقارب حملت الآية عليها، وإذا كان متباعدًا قلنا بتكرر النزول. انتهينا من هذه القاعدة في الجمع بين الأقوال المختلفة، وبهذا أكون يعني انتهيت من هذه القواعد المختارة.
تم بحمد الله وفضله.
- أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (3/ 45).
- أخرجه البخاري، كتاب الأذان، باب التسبيح والدعاء في السجود، برقم (817)، ومسلم، كتاب الصلاة، باب ما يقال في الركوع والسجود، برقم (484).
- انظر: هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى (2/ 560).
- انظر: أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (1/ 98)، و(1/ 100)، و(1/ 102).
- أخرجه مسلم، كتاب الفضائل، باب فضل نسب النبي ﷺ، وتسليم الحجر عليه قبل النبوة، برقم (2277).
- أخرجه البخاري، كتاب المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام، برقم (3583).
- أخرجه البخاري، كتاب التهجد، باب تحريض النبي ﷺ على صلاة الليل والنوافل من غير إيجاب، برقم (1127)، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب ما روي فيمن نام الليل أجمع حتى أصبح، برقم (775).
- أخرجه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا [الأنبياء:104]، برقم (4740)، ومسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب فناء الدنيا وبيان الحشر يوم القيامة، برقم (2859).
- أخرجه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ المَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ [الأنفال:24]، برقم (4647).
- أخرجه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا [الأنبياء:104]، برقم (4740)، ومسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب فناء الدنيا وبيان الحشر يوم القيامة، برقم (2859).
- انظر: الروض الأنف ت السلامي (2/ 265)، والبداية والنهاية ط هجر (9/ 473).