بسم الله الرحمن الرحيم
الأسماء الحسنى
(11) المَلِك المالك المليك (المجلس الأول)
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، ربنا لك الحمد ملء السموات والأرض، وملء ما بينهما، وملء ما شئت من شيء بعد، أهل الثناء والمجد، أحق ما قال العبد، وكلنا لك عبد.
اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد, اللهم أنت أحق من ذُكر، وأحق من عُبد، وأنصر من ابتُغي، وأرأف من ملك، وأجود من سُئل، وأوسع من أعطى.
أنت الملك لا شريك لك، والفرد لا ند لك، كل شيء هالك إلا وجهك، لن تطاع إلا بإذنك، ولن تعصى إلا بعلمك, تطاع فتشكر، وتعصى فتغفر، أقرب شهيد, وأدنى حفيظ, حُلتَ دون النفوس, وأخذت بالنواصي، وكتبت الآثار، ونسخت الآجال, القلوب لك مفضية، والسر عندك علانية، الحلال ما أحللت، والحرام ما حرمت، والدين ما شرعت، والأمر ما قضيت, والخلق خلقك، والعبد عبدك، وأنت الله الرءوف الرحيم.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله أجمعين، أما بعد:
فحديثنا في هذه الليلة عن ثلاثة أسماء من أسماء الله -تبارك وتعالى- وهي المَلِك، والمليك، والمالك.
وسينتظم هذا الحديث بإذن الله -- سبع قضايا:
الأولى: بيان معاني هذه الأسماء الكريمة من جهة اللغة، ومعنى هذا الاسم في حق الله --.
الثاني: ذكر الفروقات بين هذه الأسماء الثلاثة.
الثالث: بيان الأبلغ في المعنى من هذه الأسماء.
الرابع: بيان الفرق بين ملكية الله تعالى، وملكية المخلوق.
الخامس: الأدلة من الكتاب والسنة على هذه الأسماء.
السادس: ما تدل عليه هذه الأسماء.
السابع: الكلام على ثمرات الإيمان بها.
أولاً: الكلام على معنى هذا الاسم:
من ناحية اللغة: المَلك, والمليك, والمالك هو ذو المُلك, مَلك, ومليك, ومالك يعني: من له المُلك، والمَلْك أيضاً والمُلك والمِلك هو احتواء الشيء والقدرة على الاستبداد به.
ومُلك الله -تبارك وتعالى- وملكوته هو سلطانه، وأصل هذه المادة المَلْك يرجع إلى الربط والشد، وهذا الربط والشد يرجع حاصله إلى القدرة التامة الكاملة, ثم قيل: مَلَكَ الإنسانُ الشيء مُلكاً؛ لأن يده فيه قوية صحيحة، مَلَك فلانٌ هذا المال، مَلَك فلانٌ هذا العقار, أو هذه الأرض, مَلَك فلان هذا الجهاز، وذلك إذا كانت يده عليه صحيحة قوية، يعني: لم يكن أخذه بغير حق، ما غصبه من آخر, وهو متمكن منه، أما إذا صار ذلك إليه لكن لم يمكَّن منه فإنه لا يقال: إنه ملكه.
فالمُلك في اللغة يدل على قوة في الشيء وصحة، والمالك للشيء متوثق منه، ومُحكِم لأمره أن يخرج عن يده، فلا يُمكِّن أحداً من إدخال يد معه، ولا التصرف فيه من غير إذنه.
أما المعنى في حق الله -تبارك وتعالى- فيمكن أن يقال: المَلِك هو المالك لجميع الأشياء المتصرف فيها، بلا ممانعة, ولا مدافعة, فهذه عبارة الحافظ ابن كثير -رحمه الله-([1]).
ويكون بهذا الاعتبار قد جمع بين المعنيين: التصرف المطلق، مع التملك لجميع الأشياء, يعني: أنه ملكها, ويتصرف فيها تصرفاً مطلقاً، هذان معنيان، فالخلق كلهم عبيده ومماليكه، وهو المتصرف بهم، المدبر لهم كما يشاء, وقدرته نافذة فيهم، وله السلطان التام على خلقه أجمعين -، وتقدست أسماؤه-، فهو الذي أبدع الخلق، ولا يكون أحد أحق بالتصرف فيما أبدع من الله --، فالملك له وحده.
والمَلِك هو المستغني عن غيره، وأما غيره فهو محتاج إليه، هذا هو المَلِك الحقيقي الذي له المُلك الكامل، وسيأتي في الكلام على مُلك الآدميين، ملك المخلوقين، فهو ملك ناقص.
ولذلك فإن ملوك الدنيا لا يقوم ملكهم إلا بالأعوان, ومن ثَمّ فإنهم مفتقرون إليهم، وهذا الافتقار هو نوع عبودية لمن لا يتحقق, ولا يقوم, ولا يثبت سلطانه إلا به.
يقول: ولذا تجد الرجل في الظاهر ملكاً مطاعاً، وهو في الباطن قد يكون عبداً لمن لا يقوم ملكه إلا به, ولربما استعبدته امرأة يحبها، أو استعبده المال، أو استعبدته شهواته وأهواؤه.
فالمَلِك هو المستغني عن غيره، وقد احتاج إليه غيره, والله -تبارك وتعالى- هو المالك لكل الخلائق والأكوان، والمتصرف فيها، فهو وحده ذو الملك والسلطان، قد استغنى بذاته --، وصفاته، وأفعاله عن كل مخلوق، ولا يوجد مخلوق إلا وهو في غاية الافتقار إليه.
المَلِك هو المستغني عن غيره، وقد احتاج إليه غيره, والله -تبارك وتعالى- هو المالك لكل الخلائق والأكوان، والمتصرف فيها، فهو وحده ذو الملك والسلطان، قد استغنى بذاته --، وصفاته، وأفعاله عن كل مخلوق، ولا يوجد مخلوق إلا وهو في غاية الافتقار إليه.
وقد ذكر الحافظ ابن القيم -رحمه الله- أن حقيقة المُلك لا تتم إلا بالعطاء، والمنع، والإكرام، والإهانة، والإثابة, والعقوبة، والغضب، والرضا، والتولية، والعزل، وإعزاز من يليق به العز، وإذلال من يليق به الذل، قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ آل عمران: 26([2]).
فهو -- الموصوف بصفة الملك، وهذه الصفة -كما سيتضح- تنتظم أوصافاً كثيرة متعددة من صفات العظمة, والكبرياء, والقهر, والتدبير، فهو الذي له التصرف المطلق في الخلق والأمر والجزاء، وله جميع العالم العلوي، والسفلي، فكلهم عبيد ومماليك ومضطرون إليه.
فربنا ومليكنا هو المَلِك الحق الذي يتضاءل كل مُلك دون ملكه, وهو الإله الحق، وهو الرب الحق، فالله خلق الخلق بربوبيته, وقهرهم بملكه واستعبدهم بإلهيته.
ولهذا قال الله -تبارك وتعالى-: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِالناس: 1، فذكر رب الناس، ثم قال: مَلِكِ النَّاسِ الناس: 2، ثم قال: إِلَهِ النَّاسِ الناس: 3، فهذه الإضافات الثلاث كما يقول الحافظ ابن القيم -رحمه الله- قد اشتملت على جميع قواعد الإيمان، وتضمنت معاني الأسماء الحسنى، فالرب هو القادر الخالق، البارئ، المصور، الحي، القيوم, العليم, السميع, البصير, المحسن, المنعم, الجواد, المعطي، المانع, الضار، النافع, المقدم, المؤخر، الذي يضل من يشاء، ويهدي من يشاء, ويسعد من يشاء, ويشقي من يشاء, ويعز من يشاء، ويذل من يشاء، إلى غير ذلك من معاني ربوبيته التي له منها ما يستحقه من الأسماء الحسنى.
وأما المَلِك فهو الآمر، الناهي، المعز، المذل، الذي يصرف أمور عباده كما يحب, ويقلبهم كما يشاء، وله من معنى الملك ما يستحقه من الأسماء الحسنى كالعزيز, الجبار، المتكبر، الحكم، العدل، الخافض, الرافع, المعز، المذل، العظيم، الجليل، الكبير, الحسيب, المتعالي, ومالك الملك, والمقسط([3]).
والمقصود: أن الله -تبارك وتعالى- يقرر هذا المعنى, وأن الملك المطلق له وحده لا شريك له: لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُالشورى: 49، قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَالزمر: 44.
تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ الملك: 1، لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ الحديد: 2.
فذكر -تبارك وتعالى- ملكه العظيم، وقدرته التامة في ملكه، وأنه لا يعجزه شيء، فهذا الاسم الكريم، "المَلِك" من الأسماء الأصول التي يدخل تحتها كثير من الأسماء والصفات؛ لأن هذا المُلك الذي يكون بهذه الصفة لا يكون إلا إذا تحققت تلك الأوصاف الكاملة، والمعاني العظيمة، والقدرة الباهرة، والخلق، والعظمة، والجبروت، والغنى، وما إلى ذلك من المعاني؛ لأن المَلِك ينتظم العزيز، الجبار، المتكبر، الحكم، العدل، الخافض، الرافع، المعز، المذل، العظيم، الجليل، الكبير، فهو صاحب السلطان القاهر، والمشيئة النافذة، الذي يصرف أمور عباده كما يجب.
وأما المالك فالله -تبارك وتعالى- هو مالك الأشياء كلها، ومصرفها على إرادته، لا يمتنع عليه منها شيء؛ لأن المالك في كلام العرب هو المتصرف في الشيء، القادر عليه، والله -تبارك وتعالى- قادر على الأشياء التي خلقها، ويخلقها، ولا يمتنع عليه منها شيء.
وأما المليك فإنه أبلغ من المَلِك؛ لأنه على وزن فعيل, فإن ما كان على هذه الزنة يدل على المبالغة، تقول: سميع, بصير, رحيم, وما إلى ذلك.
ثانياً: في ذكر الفروقات بين هذه الأسماء، ما الفرق بين الملك والمالك؟
الأول: أن المَلِك هو النافذ الأمر في ملكه، الذي ينفذ أمره في ملكه، وليس كل مالك ينفذ أمره، أو تصرفه فيما يملكه، الصبي يملك, والمجنون يملك, ولكن التصرف النافذ يكون للولي، مع أن الولي يتصرف، ولكنه لا يملك هذا المال الذي يتصرف فيه، إنما يتصرف فيه بالنيابة, لكنه لا يملكه، فالملك أعم من المالك بهذا الاعتبار، وهذا المعنى ذكره الزجاج([4]).
الثاني: أن الملك هو التام الملك، الجامع لأصناف المملوكات، وأما المالك فهو خاص المُلك.
تقول: أنا مالك لهذه الساعة، لكن هل أنا ملك؟ لا.
فهذا تملك خاص، وأما الملك فإن هذه اللفظة تدل على معنى أوسع من مجرد المالك، هو التام الملك، الجامع لأصناف المملوكات، لكن من ملك شيئاً معيناً، ملك سيارة لا يقال له: ملك, ملك داراً لا يقال له: ملك، ملك كتاباً، لا يقال: إنه ملك، ولكن الذي يملك صنوف المملوكات, ويتصرف فيها وينفذ أمره فيها هذا هو الملك، وهذا ذكره الخطابي([5]).
الثالث: وهو أن الملك هو المتصرف بالأمر والنهي؛ لأن معنى المُلك -كما ذكر بعضهم- هو التصرف المطلق, فأنت حينما تريد أن تتصرف فيما تملكه فهناك قيود، إذا أردت أن تبني في أرضك، هل تستطيع أن تفعل كما تشاء؟ لابد من قيود تتقيد بها, إذا كنت تركب سيارتك, هل تستطيع أن تفعل فيها ما تشاء؟ الجواب: لا.
فالملك هو المتصرف بالأمر والنهي، وذلك يختص بسياسة العقلاء, ولهذا يقال: مَلِكِ النَّاسِ الناس: 2، ولا يقال: ملك الأشياء, ما يقال: فلان ملك الأجهزة الفلانية, ولا يقال: فلان ملك السيارات الفلانية, وإنما يقال: مالك، والله هو الملك الحق: فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ المؤمنون: 116.
الرابع:أن الملك الحق هو الذي يكون له الأمر والنهي، فيتصرف في خلقه بقوله وأمره, والمالك هو المتصرف بفعله, الملك يتصرف بفعله وأمره، والله -تبارك وتعالى- هو مالك الملك, فهو المتصرف بفعله وأمره, أمره نافذ في الخليقة, وكذلك يتصرف فيهم كما يشاء؛ لأنهم عبيده ومماليكه, وهذا المعنى ذكره الحافظ ابن القيم -رحمه الله-([6]).
الخامس: الملك هو الذي يحكم ولا يملك, وأما المالك فهو الذي يملك ولا يحكم، والله -تبارك وتعالى- مالك وملك, وبناءً عليه كما سيأتي في الكلام على الأبلغ من هذه الأسماء يكون لكل واحد من هذه الأسماء مزية على الآخر, لكن على الوجوه الأخرى التي ذكرناها قبله يكون الملك أبلغ من المالك.
ثالثاً: أيهما أبلغ الملك أم المالك؟
ذكر بعض أهل العلم جملة من الأقوال في ذلك, بعضهم يقول: إن الملك أعم وأبلغ، فكل ملك مالك, وليس كل مالك ملكًا, وقالوا: لأن أمر الملك نافذ على المالك في ملكه حتى لا يتصرف إلا عن تدبير الملك، وهذا قال به جماعة كأبي عبيد القاسم بن سلام -رحمه الله-, والمبرد وآخرين([7]).
وبعضهم يقول: إن المالك أبلغ من الملك؛ لأنه يكون مالكاً للناس وغيرهم، فالمالك يقولون: أبلغ في مدح الخالق من الملك, وأما الملك فهو أبلغ في مدح المخلوقين من المالك؛ لأن المالك من المخلوقين قد يكون غير ملك، والله -تبارك وتعالى- إذا كان مالكاً فهو ملك, وهذا الذي اختاره القاضي أبو بكر بن العربي، فيرى أنه بالنسبة لله المالك أبلغ, وبالنسبة للمخلوقين الملك أبلغ([8]).
وتوسط الشوكاني -رحمه الله- في هذا -وهو قول له وجه جيد من النظر- فقال: "والحق أن لكل واحد من الوصفين نوع أخصية لا يوجد في الآخر، فالمالك يقدر على ما يقدر عليه الملك من التصرفات بما هو مالك له بالبيع والهبة والعتق ونحوها، والملك يقدر على ما لا يقدر عليه المالك من التصرفات العائدة إلى تدبير الملك وحياطته ورعاية مصالح الرعية، فالمالك أقوى من الملك في بعض الأمور، والملك أقوى من المالك في بعض الأمور، والفرق بين الوصفين بالنسبة إلى الرب سبحانه أن الملك صفة لذاته، والمالك صفة لفعله"([9]).
لو عندك رقيق، هل يستطيع الملك أن يعتقه عنك دون إرادتك؟ وهل ينفذ هذا العتق؟ الجواب: لا, هل يستطيع أن يطلق امرأتك؟, لا، أنت الذي تملك عقدة النكاح, هذا في أمثلة واضحة جدًّا.
وهذا القول قول جيد، وله وجه من النظر, ولهذا فإن الله -تبارك وتعالى- سمى نفسه بالملك, والمالك, فتكون كل هذه الكمالات, والمعاني متحققة في حقه -تبارك وتعالى-, وبهذا يعرف الإنسان التعليل، وسبب تسمية الله -- نفسه بهذه الأسماء التي بينها شيء من التقارب ملك, ومليك, ومالك, لكن لو كان الاسم فقط المالك, أو فقط الملك فقد يقول قائل: إن الملك لا ينفذ تصرفه في ملك غيره فيما يختص به في جميع الحالات.
ثم أيهما أبلغ المالك أو المليك؟
المليك أبلغ من المالك, لأن المالك والمليك مثل الناصر والنصير, والعالم والعليم, فأيهما أبلغ العالم أو العليم ؟ العليم أبلغ, فالمليك أبلغ من المالك.
وأمّا المَلِك فكما سبق هو من بعض الجوانب أبلغ في الدلالة على بعض المعاني, ومن بعض الجوانب المالك أبلغ في بعض المعاني.
رابعاً: في ذكر الفرق بين ملكية الله تعالى, وملكية المخلوق:
الله -تبارك وتعالى-كما جاء في القرآن قد سمي بعض المخلوقين بالمَلِك، كما قال --: وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ يوسف: 50، وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًاالكهف: 79، إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةًالنمل: 34، فالمخلوق يقال له ملك, ولهذا فإن هذا الاسم ليس من الأسماء المختصة بالله --، بل يسمى به المخلوق بلا إشكال, لكن هل يكون للمخلوق عند إطلاق ذلك عليه ما يكون للخالق؟
الجواب: لا, وذلك يظهر ويتبين من وجوه متعددة توضح الفرق بين الإطلاقين.
الأول:أن الثابت للبشر من معاني الملك يختلف تماماً عن الثابت للحق --، فالإنسان عندما يملك أو يقال بأنه ملك إنما هو مستخلف ومبتلى، وملكه طارئ يزول, ولا يدوم، فهو لم يكن ملكاً، ثم صار ملكاً، وسيترك هذا الملك ولا محالة، إما أن يتركه الملكُ، وإما أن يترك هو الملكَ، فمُلك البشر ملك استخلاف وابتلاء, وليس ملكاً حقيقيًّا دائماً.
أما الله -- فملكه ملك دائم ثابت مستقر، لا يزول بحال من الأحوال، فمن كان ملكاً وسيداً لكل شيء أزلاً وأبداً كان الملك كله بيده, ولم يكن له فيه شريك, وكان إن شاء ملّك من يشاء من عباده ما شاء من ملكه، وإن شاء نزعه منه، كما في الآية السابقة: تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُآل عمران: 26، فتمليك الرب -تبارك وتعالى- لأحد من العباد إنما هو تمليك عارية, والعارية مستردة، يستردها صاحبها إن شاء، عندما يشاء، فهي ملكية مؤقتة غير أصلية، ولهذا فإن إطلاق المُلك على المخلوق فيه شيء من التوسع، يسميه بعضهم بالمجاز، يقول: هذا مُلك مجازي، ما هو ملك حقيقي، الملك الحقيقي لله لأن المالك والملك الحق هو الله رب العالمين.
وذلك فإن الله -- مستحق للملك؛ لأنه هو الذي أوجد الأشياء وخلقها, واخترعها، ولا زال الناس يعبرون في حق من اخترع شيئاً, يقولون له: ملكية، يسمونه حق الاختراع, والابتكار، يقولون: هذا له حق الطبع؛ لأنه أوجد ذلك واخترعه، والنبي ﷺ يقول: (من أحيا أرضًا ميتة فهي له)([10]). وفي صحيح البخاري أن ذلك من قول عمر ([11]).
وإذا نظرت إلى ملوك الدنيا تجد أن الواحد منهم لا يستطيع بحال من الأحوال أن يؤسس ملكه على سبيل الانفراد، لابد له من أعوان, وجنود، لابد له من مستشارين، لابد له من منفذين، لابد له من كوارد، لابد له من قوة من البشر، لابد له من ظهير ومعين، إما من أهله وقرابته، أو من حزبه، أو من قبيلته، أو عشيرته، لكن الله -تبارك وتعالى- من الذي أعانه على إيجاد الخلق؟ من الذي قواه ودعمه وهو الذي أوجدهم، وهم أفقر ما يكونون إليه --؟، مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا الكهف: 51.
وفي الصحيح من حديث عمران بن حصين أن النبي ﷺ قال: (كان الله، ولم يكن شيء قبله، وكان عرشه على الماء، ثم خلق السموات والأرض، وكتب في الذكر كل شيء)([12])، يعني: في اللوح المحفوظ .
والله -تبارك وتعالى- يقول: لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى طه: 6.
فهذا هو الملك الحقيقي، وهكذا أيضاً فإن علة الملك التام هي دوام الحياة، فدوام الحياة لابد منه من أجل أن يكون الملك ثابتاً مستقرًّا، وإلا فإذا كانت الحياة متقضية كحياة الناس فإن من تحقق له شيء من الملك فإنه ينتظر في أي لحظة متى يرتفع ذلك عنه بالموت, والموت لا يفرق بين ملك ومملوك, وإنما يعم الجميع, وبهذا نعرف أن ملك جميع الخلق مهما كان ومهما عظم فهو زائل مضمحل لا محالة.
والله يقول: كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ الرحمن: 26-27، كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَالعنكبوت: 57، يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ غافر: 16، لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ غافر: 16، لا أحد يدعي الملك، ولهذا أضاف ملكه -- في سورة الفاتحة إلى يوم الدين: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ الفاتحة: 4.
حيث لا يدعي أحد الملك سوى الله --، وهو الملك الحقيقي الذي لا يقارن بغيره، فإذا كان مالكًا ليوم الدين فكونه مالكاً للدنيا من باب أولى: وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ آل عمران: 180.
فالله يرث الأرض ومن عليها, والحاصل أن الملك لله -تبارك وتعالى- في المبتدأ عند إنشاء الخلق، فلم يكن أحد سواه, وله الملك في المنتهى عند زوال الخلق؛ لأنه لا يبقى من الملوك أحد سواه، ووجه آخر أيضاً يبين هذا المعنى -وهو الفرق بين ملك الخالق, وملك المخلوق- أن ملوك الدنيا إذا أعطوا نقص ملكهم بهذا العطاء، فتنفذ لربما خزائنهم, ولربما اختلت ميزانياتهم، وتفرقت عنهم الأموال, الأمر الذي يؤذن بتفرق الناس عنهم، والملك لابد فيه من المال, وأما الله -تبارك وتعالى- فخزائنه ممتلئة لا تنقص، ولا تنفذ.
وهو الذي يعطي الملك لمن يشاء من خلقه، فكل تمليك إنما هو هبة منه --، قلّ ذلك أو كثر، وسيئول ذلك إليه لا محالة.
الثالث: هو أن البشر وما ملكوا كلهم ملك للهِ، وخالقِهم --، فهو المَلك, والمالك المُلك الحقيقي الدائم، يملك كل شيء، فهو يتصرف بهذه الخليقة، وهو المعز، المذل، يؤتي الملك من يشاء، فيملك ذوات الأشياء، ونواصي الخلق في قبضته، وتحت تصرفه، وله الملك أيضاً من جهة العبودية، فكل المخلوقين هم عبيد لله إما عبودية اختيار، وإما عبودية قهر، فمن الذي يوجدهم؟ ومن الذي يفنيهم؟ ومن الذي يتصرف بهم فيما بين ذلك؟ إنه الله --، فله الملك على الخلق أجمعين, ومن عداه فهو عبد ذليل، إنما يكون كماله ورفعته على قدر تحقيقه للذل والعبودية، فكلما كان العبد أعظم وأكثر مهارة وتحقيقاً للذل كلما كان ذلك رفعة في مرتبته، هذا الذي يصلح للمخلوق، أما التعاظم فإنه لا يكون إلا للمالك المعبود --.
وهذا من فضله ونعمته -- أن الملك جميعاً لله.
تصور لو كان الملك للمخلوقين ما الذي يحصل في هذا الكون؟
قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًاالإسراء: 100، تصور لو كان الإيجاد والإعدام, والسعادة, والشقاوة بيد الخلق ما الذي سيحصل؟
قد تجد للأسف بعض من ينتسب إلى الإسلام، لو أن الأمر بيده لا يكتفي بموت بعض من يناوئهم وينافسهم، لا يكتفي بموتهم، ولا تطيب نفسه بهذا، بل لو كان الأمر بيده لما اختار لهم إلا الدرك الأسفل من النار, وهذا شيء مشاهد، رميٌ بالعظائم، وأمور لا يعلمها إلا الله لو كان هؤلاء بيدهم الملك ماذا سيصنعون في خلق الله؟
والله هو الرءوف الرحيم، الذي يقبل توبة العبد، ويفرح بها، ويعطي، ويغدق الأرزاق على عباده، نحن لربما لو أن أحداً أخطأ علينا في شيء يسير، لربما تجد الدعاء أن يجمد الله الدم في عروقه، وأن ييتم أطفاله، ويرمل نساءه، وأن يجعله يتمنى الموت ولا يجده, وأن يجعله يفقد سمعه وبصره، لأجل خطأ بسيط، ربما يكون هذا الإنسان اتصل بالخطأ، أخطأ في الرقم، أو أي خطأ من الأخطاء، سرق شيئاً يسيراً لك، أو نحو ذلك، لو كان هؤلاء الناس لهم نصيب من الملك، أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًاالنساء: 53.
انظروا إلى اليهود، كيف حسدوا النبي ﷺ وحسدوا العرب على النبوة: أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًاالنساء: 54.
انظر إلى التحاسد بين الخلق, بين المسلمين، تجد شيئاً هائلاً، لا يقادر قدره، لو هؤلاء كان لهم الملك ماذا سيصنعون بالآخرين؟
فانظر إلى لطف الله --، ينسبون له الصاحبة، والولد، ويرزقهم، ويتلطف بهم غاية التلطف، يدعوهم للتوبة: أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ المائدة: 74.
هذا هو الخالق --، الملك الحقيقي، انظر إلى المخلوق وهو لا يملك شيئاً، ومع ذلك كيف تكون حاله!.
وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا الإسراء: 111.
الرابع: أن كل المخلوقات مفتقرة محتاجة إلى غيرها.
فالجماد فقير محتاج، والنبات كذلك, والحيوان كذلك, والإنسان كذلك، فالإنسان يجوع فيطلب الطعام، ولو كان ملكاً، ويمرض فيطلب الدواء، وهكذا سائر الكائنات، فالفقير لا يصلح للملك الكامل المطلق؛ لأنه مفتقر إلى غيره.
دخل ابن السماك على هارون الرشيد يوماً، فاستسقى الرشيد، فأُتي بقلّة فيها ماء مبرد، فقال لابن السماك: عظني.
فقال: يا أمير المؤمنين، بكم كنت مشتريًا هذه الشربة لو مُنعتها؟ فقال: بنصف ملكي.
فقال: اشرب هنيئًا، فلما شرب قال: أرأيت لو مُنعت خروجها من بدنك بكم كنت تشتري ذلك؟ قال بنصف ملكي الآخر.
فقال: إن ملكًا قيمة نصفه شربة ماء، وقيمة نصفه الآخر بولة لخليق أن لا يتنافس فيه.
فبكى هارون([13]).
ملك كامل من المحيط إلى حدود الصين، يدفع بكأس ماء, هل هذا ملك يستحق أن يغتر به الإنسان, ويكون معرضاً عن ربه -تبارك وتعالى- بسبب ما منحه الله وأعطاه؟.
وإنما المَلك الحق هو الذي يستغني عن كل أحد, ويفتقر إليه كل واحد، وإنما صاحب الملك المطلق هو الله تعالى، وملكه عام لجميع المخلوقات، بخلاف ملك البشر، هل يوجد بشر يملك جميع المخلوقات؟
أبداً، لا يوجد، حتى لو أن أمره سرى على كثير من المخلوقين، فهل يستطيع في سرهم وعلانيتهم أن يحكمهم بما يريد؟ أبداً.
الذين حاولوا بالحديد, والنار، وتسلطوا على رقاب الخلق عشرات السنين في الثورة الشيوعية، وكان الرجل لا يأمن أخاه، ولا أباه، قد سمعنا من الإخوان أول ما جاءوا من تلك البلاد، بعد سقوط الاتحاد السوفيتي، سألناهم عن أحوالهم، وكيف كان شأنهم، يقولون: الريبة عامة، الولد لا يثق بالأب, والأخ لا يثق بأخيه، والوالد لا يثق بالولد، فلا يمكن أن يبدي له أنه متدين، أو أنه يصلي أمامه، يخاف من ولده، أن هذا الولد قد سُلط عليه، إلى هذا الحد!.
ومع ذلك رأينا عشرات النماذج من هؤلاء على أحسن حال من التربية والعلم، رأينا من درسوا إلى الكافية لابن الحاجب في النحو، وحفظوا القرآن، وفي حال جيدة من العبادة والتهذيب في السلوك، والحرص على طلب العلم، حتى سألت بعضهم من أين جئت؟ من أين خرجتم؟
قالوا: خرجنا من -يسمونها- الحجرات، وهي أماكن تحت الأرض يدرسون فيها القرآن، لا يخرجون إلا بعد انتهاء المدة، بعد سنتين، ويكون في مكان غير بلدته وقريته، من أجل أن لا يذهب إلى أهله، وإنما يخرج ليلة الجمعة ليلا يغتسل ويرجع ما يراه أحد، ثم إذا تخرج منها أرسلوه إلى مكان غير بلدته، ويجلس في هذا المكان تحت الأرض، ويعلم الطلاب، ويخرجهم لا يراه الناس، ولا يختلط بهم، تخرجت نماذج عجيبة، محافظة على دينها.
فهل استطاع أولئك بقسرهم، وتهديدهم، ووعيدهم؟ رأينا بعض الصور الجثث كالجبال، ملايين تعتامها آلات الحفر، إلى هذا الحد رجال ونساء، وما استطاعوا مع ذلك أن يُجروا ما أرادوه على الناس في سرهم وخلوتهم.
الله أمره نافذ في الجميع، من شاء هدايته هداه، ومن شاء إضلاله أضله، ومن شاء إمراضه، أو شفاءه أو إحياءه أو إماتته، لا يتخلف أحد, ولا يحصل في الكون تحريكة، ولا تسكينة إلا بإرادته --، هذا هو الملك الحقيقي.
أما المخلوق فهو مسكين، عاجز ضعيف، هو محتاج إلى غيره، لا يستغني عن الناس، فضلاً عن أن يستغني عن الله -تبارك وتعالى-، والله -- قد جعل لكل شيء آفة في هذا الخلق.
ولكل شيءٍ آفةٌ من جنسه *** حتى الحديدُ سطا عليه المِبردُ
النبات له آفات، الحيوانات لها آفات من الميكروبات والفيروسات، حتى هذه الصناعات الجديدة الآن البرامج, والإنترنت, والكمبيوتر لها آفات لو تحدث بها الإنسان قبل عشرات السنين لربما ظُن أنه يمزح، أو يتوسع في العبارات، هذا الجهاز دخله فيروس، أو هذا أُرسل إليه فيروس، جهاز يمرض، وتصيبه الفيروسات، كل شيء له آفة.
الشباب يتحول إلى الهرم، والصحة يصيبها المرض، وتنتهي الحياة بالموت, وفرعون لما طغى، وقال: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى النازعات: 24، قال الله: وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ * الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ * إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ الفجر: 10 - 14.
وهكذا أيضاً آفة الدعوة التفرق، وآفة الدعاة ما قد يسلط عليهم ممن يقع في أعراضهم، ويشتمهم، ويظن بهم الظنون السيئة، وآفة العلم النسيان، إلى غير ذلك من الأمور، كل شيء له آفة.
وهذا يدل على أن الله -تبارك وتعالى- له الملك المطلق، لا تصيبه الآفات.
يقول ابن جرير -رحمه الله- في قوله تعالى: لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌالبقرة: 255، لا تحله الآفات، ولا تناله العاهات([14]).
فله الكمال المطلق، وفي الحديث أن النبي ﷺ يقول: (أمسينا وأمسى الملك لله، والحمد لله، لا إله إلا الله وحده لا شريك له)([15]).
خامساً: ما ورد من نصوص الكتاب والسنة في هذه الأسماء الكريمة:
فالمَلك ورد في القرآن ست مرات:
- في طه والمؤمنون: فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ طه: 114، المؤمنون: 116.
- في سورة الجمعة: يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الجمعة: 1.
- في سورة الحشر هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ الحشر: 23.
- الموضع الخامس: هو قوله: مَلِكِ النَّاسِ الناس: 2.
- السادس: القراءة الأخرى المتواترة في سورة الفاتحة: مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ هذه ستة مواضع.
وأما المالك فورد مرتين:
الأولى: بقوله: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ الفاتحة: 4.
الثانية: قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ آل عمران: 26.
وأما المليك فقد ورد في القرآن مرة واحدة: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ القمر: 54، 55.
وأما المُلك فقد ورد في القرآن فيما يقرب من ثمانية وعشرين موضعاً، كقوله تعالى: قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُالأنعام: 73 وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ الإسراء: 111، وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ آل عمران: 189 إلى غير ذلك من المواضع.
وأما ما ورد في السنة فقد جاء في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة مرفوعاً إلى النبي ﷺ قال: (ينزل الله إلى السماء الدنيا كل ليلة حين يمضي ثلث الليل الأول، فيقول: أنا الملك، أنا الملك، من ذا الذي يدعوني فأستجيب له؟، من ذا الذي يسألني فأعطيه؟، من ذا الذي يستغفرني فأغفر له؟، فلا يزال كذلك حتى يضيء الفجر)([16]).
فلا يزال كذلك حتى يضيء الفجر، هذا الحديث حينما يمضي ثلث الليل الأول، الناس اليوم لا ينامون في ذلك الوقت، يعني: يكون الوقت مبكرًا, ويقول: من ذا الذي يسألني؟ من ذا الذي يدعوني؟
لو أن أحدً من الأغنياء -وليس الملوك- إذا مضى الثلث الليل الأول أو الآخر فتح بابه، وقال: من ذا الذي يحتاج إلى قرض؟ من ذا الذي يحتاج إلى هبة؟ من الذي يحتاج إلى هدية؟ ما الذي يحصل؟
لو أن أحدً من الأغنياء -وليس الملوك- إذا مضى الثلث الليل الأول أو الآخر فتح بابه، وقال: من ذا الذي يحتاج إلى قرض؟ من ذا الذي يحتاج إلى هبة؟ من الذي يحتاج إلى هدية؟ ما الذي يحصل؟
فكيف لو أن ملكاً قال ذلك؟ يجلس للناس في وقت كل يوم, ويقول: من له حاجة فيأتي ونعطيه حاجته؟، والله كل ليلة ينزل: من ذا الذي يدعوني فأستجيب له؟ من ذا الذي يسألني فأعطيه؟ من ذا الذي يستغفرني فأغفر له؟ حتى يضيء الفجر.
وفي الصحيح من حديث عبد الله بن أنيس مرفوعاً إلى النبي ﷺ: (يحشر الله العباد، فيناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب: أنا الملك، أنا الديان)([17]).
وفي صحيح مسلم من حديث علي في دعاء الاستفتاح وفيه: (اللهم أنت الملك لا إله إلا أنت، أنت ربي، وأنا عبدك، ظلمت نفسي، واعترفت بذنبي، فاغفر لي ذنوبي جميعاً)([18])الحديث.
وفي الصحيح من حديث ابن مسعود أنه جاء حبر من الأحبار إلى رسول الله ﷺ وفيه: فقال: (يا محمد، إنا نجد أن الله يجعل السموات على إصبع, والشجر على إصبع، والماء على إصبع، والثرى على إصبع، وسائر الخلائق على إصبع، فيقول: أنا الملك)([19]).
وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة مرفوعاً: (يقبض الله الأرض ويطوي السموات بيمينه، ثم يقول: أنا الملك، أين ملوك الأرض؟)([20]).
وعند مسلم من حديث ابن عمر -ا- مرفوعاً: (يأخذ الله سمواته وأرضيه بيديه، فيقول: أنا الله -ويقبض أصابعه ويبسطها-، أنا الملك" حتى نظرت إلى المنبر يتحرك من أسفل شيء منه، حتى إني لأقول: أساقط هو برسول الله ﷺ؟)([21]).
وأما المليك فقد جاء في سنن أبي داود بإسناد صحيح من حديث ابن بريدة عن ابن عمر -ا- أن رسول الله ﷺ كان يقول إذا أخذ مضجعه: (الحمد لله الذي كفاني وآواني، وأطعمني وسقاني، والذي مَنّ علي فأفضل، والذي أعطاني فأجزل، الحمد لله على كل حال، اللهم رب كل شيء ومليكه وإله كل شيء أعوذ بك من النار)([22]).
وعند الترمذي بإسناد صحيح من حديث أبي هريرة أن أبا بكر قال: يا رسول الله، مرني بشيء أقوله إذا أصبحت، وإذ أمسيت، قال: قل: (اللهم عالم الغيب والشهادة، فاطر السموات والأرض، رب كل شيء ومليكه، أشهد أن لا إله إلا أنت، أعوذ بك من شر نفسي، ومن شر الشيطان وشركه)([23]).
وأما الملكوت فقد جاء في حديث عوف بن مالك وهو عند أبي داود والنسائي, وفيه ما كان النبي ﷺ يقوله في ركوعه وسجوده في قيام الليل (سبحان ذي الجبروت، والملكوت، والكبرياء، والعظمة)([24])يردد ذلك -عليه الصلاة والسلام.
سادساً: الكلام على ما تدل عليه هذه الأسماء:
اسم الملك يدل على ذات الله, وعلى صفة الملك بدلالة المطابقة, يدل على الأمرين معاً بدلالة المطابقة.
ويدل على أحدهما بدلالة التضمن، ويدل باللزوم, لا يكون ملكاً إلا من اتصف بجملة من الأوصاف، يدل على الحياة والقيومية, والأحدية, والصمدية, والعلم, والمشيئة, والقدرة, والحكم, والعدل والقوة, والقبض, والبسط, والعزة, والكبرياء, والهيمنة, والعظمة.
وكل ما يلزم من صفات الذات، وصفات الفعل لاتصافه وتسميته بالملك الحق.
فعموم ملكه مستلزم لإثبات القَدر، وأنه لا يكون في ملكه شيء بغير مشيئته، فالله أكبر من ذلك وأجل، والمَلك هو الذي يأمر وينهى، ويكرم ويهين، ويثيب ويعاقب, ويعطي, ويمنع, ويعز, ويذل, هذا كله من لوازمه.
وأما المليك فهو يدل على ذات الله وعلى صفة الملك معاً بدلالة المطابقة, ويدل على أحدهما بدلالة التضمن, ويدل باللزوم كذلك -كما سبق- على الحياة، والقيومية والأحدية، والصمدية، والعلم، والمشيئة.
وأما المالك فإنه أيضاً يدل على ذات الله وعلى صفة التملك الملكية المطلقة، بدلالة المطابقة، ويدل على أحدهما بدلالة التضمن، ويدل باللزوم أيضاً على الحياة, والقيومية، والعلم، والأحدية، والمشيئة، والقدرة، إلى آخر ما سبق، هذه ست قضايا.
([10])أخرجه أبو داود، كتاب الخراج والإمارة والفيء، باب في إحياء الموات (3/178)، رقم: (3073)، والترمذي، أبواب الأحكام عن رسول الله ﷺ، باب ما ذكر في إحياء أرض الموات (3/654)، رقم: (1378).
([12]) أخرجه البخاري، كتاب التوحيد، باب {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى المَاءِ}[هود: 7]، {وَهُوَ رَبُّ العَرْشِ العَظِيمِ}[التوبة: 129] (9/124)، رقم: (7418).
([15]) أخرجه مسلم، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب التعوذ من شر ما عمل ومن شر ما لم يعمل (4/2088)، رقم: (2723).
([16])أخرجه مسلم، كتاب الصلاة، باب الترغيب في الدعاء والذكر في آخر الليل والإجابة فيه (1/522)، رقم: (758).
([17]) أخرجه البخاري، كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى: وَلاَ تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الحَقَّ وَهُوَ العَلِيُّ الكَبِيرُسبأ: 23، (9/141).
([19])أخرجه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب قوله: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِالأنعام: 91 (6/126)، رقم: (4811)، ومسلم، كتاب صفة القيامة والجنة والنار، (4/2147)، رقم: (2786).
([20])أخرجه البخاري، كتاب الرقائق، باب يقبض الله الأرض يوم القيامة (8/108)، رقم: (6519)، ومسلم، كتاب صفة القيامة والجنة والنار (4/2148)، رقم: (2787).
([22]) أخرجه أبو داود، كتاب الأدب، باب ما يقال عند النوم (4/313)، رقم: (5058)، والنسائي في السنن الكبرى، كتاب النعوت (7/138)، رقم: (7647)، وأحمد (10/190)، رقم: (5983).