الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فنواصل الحديث في الكلام على أسباب الاختلاف التي تعود إلى مصادر التلقي وطرق الاستدلال.
ذكرنا نماذج من الزيادة على المصادر الصحيحة، وأما ما يتعلق بالنقص من هذه المصادر فيمكن أن نمثل لذلك بما وقع لطوائف من أهل الكلام حينما جعلوا معوَّلهم على العقل، فأدى ذلك إلى جعل النقل غير صالح للاحتجاج في أبواب الاعتقاد التي يُطلب فيها القطع واليقين كما يقولون.
فجعلوه تابعًا للعقل، إذًا عندهم لا يصح أن يكون ذلك على سبيل الاستقلال في الدِّلالة على التوحيد والإيمان، و ما ينبغي أن يعتقده المؤمن، وبعض الطوائف نقص من هذه المصادر، فرَدّ سنة رسول الله ﷺ، قالوا: لا حاجة إلى السنة، هذا وقع فيه طوائف مختلفة.
الخوارج -على سبيل المثال- منذ القدم طعنوا في النَقَلة من أصحاب النبي ﷺ فلما كفّروهم ردّوا هذه السنن، فضلّوا، والسنة شارحة للقرآن.
وكذلك أيضًا الذين طعنوا في أصحاب النبي ﷺ من الرافضة، وكفّروهم، إلا نفرًا يسيرًا، هؤلاء ألغوا سنة رسول الله ﷺ.
كذلك أيضًا الذين قالوا لا يُحتج بخبر الآحاد في مسائل الاعتقاد، فهذا رد جزئي للسنة، واليوم تسمع من بعض المنحرفين في هذا العصر من لربما يظهر من كلامه تعظيم القرآن، وأن القرآن قد احتوى على الهدى الكامل، وأن الله جعله تبيانًا لكل شيء، وأن هذا القرآن مشتمل على ألوان الهدايات، فإذا سمعت كلامه، قلت: يا فتاح! لعل الله فتح على قلبه وهداه.
وإذا به يرمي من بعيد إلى أمرٍ آخر يريد أن يقول: ما الحاجة إلى السنة؟ لسنا بحاجة إلى السنة، يكفينا القرآن، لأن هؤلاء إذا ألغوا سنة رسول الله ﷺ فالقرآن كما قال عليٌّ وجمعٌ من السلف: "حمّالٌ ذو وجوه"[1].
بمعنى أن ألفاظ القرآن تحتمل المعاني المختلفة، ولذلك عَمِدت الطوائف والفرق للاحتجاج بآيات من القرآن.
القدرية بطوائفها من الذين ينفون القدر، أو الذين يقولون بالجبر يحتجون بآيات من القرآن، وكذلك الخوارج والمعتزلة من الوعيدية، وما يقابلهم من المرجئة، هؤلاء يحتجون بآيات من القرآن، وهؤلاء يحتجون بآيات من القرآن، ولكن السنة هي التي تشرح القرآن، مثل هؤلاء يقال للواحد منهم: هل تصلي أو لا تصلي؟ قبل النقاش معك، من كان لا يصلي فإن النبي ﷺ يقول: العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر[2].
فإذا قال: أصلي، نقول له: كم تصلي الظهر؟ وكم تصلي العصر؟ وكم تصلي المغرب؟ وكم تصلي العشاء؟ وماذا تقول؟ وماذا تقرأ في الركعة الأولى والثانية والقيام والركوع والسجود؟ فلابد أن يرجع إلى السنة، وأن يذكر ما ورد في السنة، لأن ذلك لم يرد في القرآن، فيكون قد نقض أصله.
وإذا حصل النقض بمثال فإن ذلك يكفي في الإبطال، ما تحتاج إلى تطويل، قل له: الحق بأهلك وتدبّر وتبصّر في باقي الأمثلة حتى لا يضيع الزمان بجدل لا طائل تحته.
قل له: أجبت نفسك، إلا إذا قال: إنه عفيف الجبهة لا يصلي، ولا يسجد لله ، فهذا ليس بحاجة إلى نقاش في السنة، وإنما بحاجة إلى نقاش آخر.
فالمقصود -أيها الأحبة- أن النقص يكون بهذا الإلغاء للوحي أو لبعضه.
كذلك أيضًا رد الإجماع مثلًا، رد القياس الصحيح بشروطه وأركانه، هذا كله من النقص.
هناك أمر آخر، الجانب الآخر في الانحراف في هذا الباب، وهو:
طريقة الاستدلال، والتعامل مع النصوص:
قد يقول: أنا أؤمن بالكتاب والسنة، وعلى العين والرأس، أقبل عن الله ما جاء عن الله، وأقبل عن رسول الله ما جاء عن رسول الله ﷺ ولكن، لكن ماذا؟ قال: لكن أفهمها، أفهمها بحسب المعطيات التي وُجدت في هذا العصر، فلكل أهل زمان عقول، ولكل زمان فهم ومصطلحات ولغة ومعايير، فأنا لست بملزمٍ بفهم أحد.
فهْمُ السلف الصالح الذين خُوطبوا بالقرآن وهم أعلم الناس بالوحي بالكتاب والسنة وبشرائع الدين وأبرّ الأمة وأطهر الأمة قلوبًا، اختارهم الله لصحبة نبيه ﷺ يقول: لستُ مُلزمًا! هم رجال ونحن رجال.
تفهم على ضوء ماذا؟ قال: أفهم بحسب ما عندي من المعطيات العصرية، والقُدر والإمكانات العقلية، فالله أعطاني فهمًا أفهم به مباشرة عن الكتاب والسنة من غير أي معايير، حتى اللغة؟ قال: حتى اللغة، هناك قواعد، هناك أصول، هناك ضوابط، العلماء جمعوا هذه الأشياء.
الإمام محمد بن إدريس الشافعي جمع كتابًا في هذا سماه: "الرسالة" يضبط الفهم وجعل قواعد في الأصول، من أجل أن يكون ذلك أداة وآلةً للاستنباط الصحيح والفهم عن الله وعن رسوله ﷺ بعد أن كان ذلك في الأولين سَليقة، فدوّنه الإمام الشافعي -رحمه الله- لمّا تغيرت الألسُن، الأمر الذي أعقب تغير القلوب والأفهام، ودخلت العُجمة في الألسن والقلوب معًا.
ولهذا كان السلف حينما يسمعون بعض الغرائب في الفهم والانحراف في الاستنباط، يقولون: أهلكتهم العُجمة.
ولهذا الشاطبي -رحمه الله- في كتابه: "الموافقات" ويشير إلى هذا أيضًا في كتابه الآخر البديع "الاعتصام" يذكر هذه القضية، ويركز عليها طويلًا، لاسيما في الموافقات، ويجعل فهم مقاصد الشريعة، وفهم اللغة العربية من أركان الاجتهاد.
يقول: معرفة الحديث الصحيح من الضعيف، الحكم على الروايات يمكن أن يسأل عنه الفقيهُ المتخصصَ بالعلوم الحديثية والصناعة الحديثية.
والشاطبي يتكلم بكلام قد لا تبلغه بعض الأفهام، أُعرِض عنه، ولكن أذكر من كلامه -رحمه الله- ما يحصل به الكفاية في هذا المقام، يقول: من لا يفهم كما تفهم العرب عمن خاطبها في وجوه مخاطباتها فإنه لا يحل له أن يتكلم في نصوص الكتاب والسنة، ولا يستنبط[3]، وتكلم بكلام طويل بهذا المعنى.
هؤلاء يريدون أن يلغوا ذلك كله، ويفهمون بحسب المعطيات المزعومة عندهم، فيتخرصون، ويقولون على الله بلا علم.
الشاطبي -رحمه الله- كثيرًا ما يورد أمثلة لاسيما في الموافقات والاعتصام أورد بعض الأمثلة لفهم هؤلاء، كيف يفهمون، وشيخ الإسلام أورد أشياء.
هؤلاء المشكلة أنهم لإعراضهم عن ذلك كله أصلًا هم لا يرفعون بهذه العلوم -علوم الوحي- رأسًا.
شيخ الإسلام يقول: جيء بمصحف لأحد علماء الكلام يقال له: الأصبهاني، فأراد أن يقرأ بسورة الأعراف، بدلا من أن يقرأ المص [الأعراف:1] قال: المَصّ[4].
لا يعرف كيف يقرؤها، هذا عالم من علماء أهل الكلام، هؤلاء يقولون: نحن نفهم كما يفهم الصحابة، نحن رجال وهم رجال.
الشاطبي -رحمه الله- يورد بعض الأمثلة، هذا واحد من هؤلاء سُئل عن قوله:رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ [آل عمران:117].
قال: هذا هو الصَّرصَر، ما هو الصَّرصر؟ قال: صرَّار الليل، هذه الدُّويبة الصغيرة الحشرة التي تصوّت في الليل، لها صوت يقال: صَرصر، تسمع أصوات صَرصرة في الليل رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ قال: الصَّرصر[5].
الصَّرصر غير الصِّرّ، المادة تختلف تمامًا في اللغة، هذه صِرّ، وهذه صَرصر اسم لدابة.
النَّظَّام من شيوخ المعتزلة وله فرقة من فرق المعتزلة تنتسب إليه، وحال الرجل سيأتي الإشارة إليها -إن شاء الله تعالى.
يقول مثلًا -وهذه مسائل فقهية الآن- يقول: إذا آلى المرء بغير اسم من أسماء الله -تبارك وتعالى- لم يكن مُوليًا[6].
لماذا يا النَّظام؟، قال: لأن الإيلاء مشتق من اسم الله.
الإيلاء: من الأَلِيّة، وهي الحلف، والنّظام هذا عالم من كبار أئمة المعتزلة، يظن أن الإيلاء مشتق من اسم الله، يعني: هذه جهالة، من يسمعها ممن له أدنى بصر يداري الضحك.
بل في بعض المواقف -أنا لا أريد أن أطيل- ضجَّ الناس بالضحك من بعض ما قاله وتفوّه به بعض هؤلاء الضُّلال، يأتون بمضحكات مبكيات.
كذلك اتباع المتشابه، ضرب النصوص، يضربون بعضها ببعض، كما قال الله : فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ [آل عمران:7].
وفي الحديث: إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمّى الله، فاحذروهم[7]اتباع المتشابه قديم.
يبحثون عما يوافق أهواءهم، ويتطلّبون له التكلّفات والتأويلات البعيدة، من أجل أن يقرروا باطلهم، فإن عجزوا عن ذلك فإنهم يصادرون المعاني التي دلت عليها النصوص مما يدل على عقيدة من خالفهم.
هذه طريقة أهل الأهواء، ويأخذون من النصوص، النظر في النصوص، كما يقول الشاطبي -رحمه الله: نظر أهل الأهواء في النصوص. هم ينظرون إليها بنظر خاص، وهو نظر المتخيّر لما يؤيد هواه، بخلاف نظر أهل العلم والإيمان، فإنهم يَعرضون ما عَنّ لهم على النصوص، فيستخرجون الأحكام، ويستنبطون بناءً على ذلك -على النصوص، يعرضون ذلك على النصوص، أما هم فيعرضون الوحي على أهوائهم، فما وافق قبِلوه، وما خالف ردّوه، بعض الذين تابعوهم في عصرنا هذا، الذين يتخيّرون بهذه الطريقة، ويتبعون المتشابه، هؤلاء يَشغَبون على الناس كثيرًا في قضايا في أصول الدين وفروعه، وساعدهم على ذلك وسائل إعلامية متنوعة، ولربما ساعدهم بعض المنتكسين المنحرفين، الذين كانوا في يوم من الأيام يطلبون العلم، فيقفون على بعض الأشياء.
روايات هنا وهناك، فيجمعونها لهم في كتيب، ثم بعد ذلك يأتي ذاك الذي لا يفقه في دين الله قليلًا ولا كثيرًا ويورد هذه الشبهات، في كتاباته، أو في عموده، أو في كلامه أو في مقالاته.
اتباع المتشابه، وهذا باب وأصل كبير من أصول الضلال، وهو من أعظم الأبواب التي ضلّ بها من ضلّ من أهل الأهواء والبدع.
من هذه الطرق في الفهم والاستنباط، والتعامل مع قواعد الاستدلال: تقديم دعوى تحقيق مقاصد الشريعة على النصوص الثابتة الصريحة من غير اضطرار.
يعني: تجد النصوص تُردّ بحكم أن مقاصد الشريعة تأبى ذلك، فصاروا يَشغَبون على النصوص، ويردّون الأحاديث الصحيحة الثابتة الصريحة بحجة أنها تخالف مقاصد الشريعة، أو بحجة المحافظة على مقاصد الشريعة.
وهل هذه الأحاديث تخالف مقاصد الشريعة حتى تُرد؟! فصار التفلت من أحكام الله وحدوده وشرائعه، ومن هنا جاءت الرخص.
ليست الرخص الشرعية، وإنما ما يسمى برخص الفقهاء بزعمهم للتوسعة على الناس، فصار الشرع يُطوَّع ويذلّل من أجل أن يكون تابعًا لأهواء الناس، ما يطلبه المشاهدون، أو الجمهور.
والصحيح أن الشريعة إنما جاءت كما يقول الشاطبي -رحمه الله- لإخراج المكلف من داعية هواه[8]، من أجل ضبط المكلفين.
هم عكسوا القضية، وجعلوا الشريعة طوعًا لأهواء الناس، فجاء ما يسمى بمنهج التيسير المعاصر، يقولون: نبقى مع الأشياء القطعية، الأشياء المُجمَع عليها، وأما المختَلف فيه فهذا بابٌ لا نتطرق إليه، يعني: كأن الخلاف صار ذريعة عندهم للترخيص والتسهيل والتخيير، نبقى مع المجمَع عليه، وما مقدار المجمع عليه بالنسبة للمختلَف فيه؟!.
وهكذا أيضًا الاعتراض على النصوص بالرأي المجرّد، ومحاكمة النصوص إلى الآراء، أو الأذواق والمواجيد، الأذواق والمواجيد عند بعض الطوائف.
وهكذا أيضًا الاجتهاد أو القياس في مورد النص، وقد تُردّ كثير من النصوص بحجة أنها تخالف الأصول، تخالف القياس.
ابن القيم -رحمه الله- ذكر عشرات الأمثلة من هذا النوع في كتابه البديع "إعلام الموقّعين" عشرات الأمثلة، وأجاب عنها بإجابات بديعة قوية محكمة.
هذه التي يقولون بأنها تخالف القياس، وبين أن أقيستهم فاسدة، وشيخ الإسلام تكلم على هذا في عدد من كتبه، وكذلك ابن القيم: لا يوجد نص من القرآن ولا من السنة صحيح يخالف شيئًا من القياس، ولا العقل.
بل شيخ الإسلام -رحمه الله- يقول: بل لا يوجد من كلام الصحابة شيء صحيح ثابت يخالف العقل الصحيح.
يقول: هم أعلم الناس بالمقرّرات العقلية الصحيحة، وليست بالقواعد اليونانية الفاسدة، فهذا القياس إذا عورضت به النصوص فهو قياس فاسد، يسمونه فاسد الاعتبار.
وهذا معروف عند الأصوليين، فساد الاعتبار إذا خالف النص، وإذا جاء نهر الله بطل نهر مَعقِل، لا قياس ولا اجتهاد.
المهم أنه لما وُجد مثل هذه الانحرافات في مصادر التلقي بالزيادة أو النقصان، أو في طريق التعامل مع هذه المصادر في الفهم والاستنباط والاستدلال، حتى وُجد من يقول الآن في هذا العصر: نحن بحاجة إلى أن نؤلّف في أصول الفقه من جديد.
يؤلف بماذا؟ بحسب أي فَهم؟ بحسب هواه، يطالب بالإعادة، إعادة تأليف أصول الفقه من جديد!، يلغي كل تلك القواعد المستنبطة من فهوم السلف ويأتي بأصول فقه جديدة، يُفهَم على ضوئها ويُستنبط من خلالها! هذه دعوى عريضة موجودة في هذا العصر.
المهم أنه نتج عن هذا الخلل الجرأة على نصوص القرآن، وعلى نصوص السنة، والجرأة على الصحابة والسلف الصالح، جرأة عجيبة.
أحد هؤلاء من علماء الكلام، كما ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- وللأسف هو من المشاهير يقول: "في القرآن حِجاج".
انظر، إزراء بالقرآن!، يقول: "في القرآن حجاج" حُجج يعني، "وإن لم يكن فيه الغَلبة والفَلْج". الغلبة والفلج عندهم أين؟، في المقررات العقلية عندهم التي تلقوها من اليونان والهند والفرس.
يقول: القرآن فيه حِجاج، ولكن ليس فيه الغلبة والفلج. يعني: هذا الحجاج ليس بمُقنع لكن يصلح للوسطاء، هو ما يقول العبارة هذه، أنا أقرأ لكم عبارته حتى لا أتجنى على أحد، لكن هذا معنى الكلام.
يقول: "في القرآن حجاج، وإن لم يكن فيه الغَلبة والفَلْج، غير أن العاميّ يكتفي به، كقوله تعالى: أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ [ق:15] -انظر الاعتراض الآن- يقول: وليس من أنكر الحشر ينكره لأجل العَياء، يعني يقول: ما رددت عليه -لاحظ الجرأة!- يقول: وكذلك قوله تعالى: وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ [النحل:62] أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى [النجم:21] وليس هذا يدل على نفي الولد قطعًا، فمبادئ النظر كافية لهم"[9].
يقصد أن العَوامّ هؤلاء ربما هذه المبادئ البسيطة تكفيهم، لكن أهل العلوم الكلامية عنده ما يكفيهم هذا، هذا كلام رب العالمين، ويقال عنه مثل هذا الكلام، وبهذه الجرأة؟!.
الرازي يذكر كلامًا طويلا -لا أطيل بذكره- في نهايته يقول: فخرج مما ذكرناه أن الدلالة النقلية لا يجوز التمسك بها في المسائل العلمية"[10].
ولذلك إذا قرأت في كتاب من كتب الاعتقاد عند هؤلاء -علماء الكلام- تشفق عليهم، تقول: كأنه ما نزل وحي ولا جاء رسول، كأنك تقرأ في كتاب في المنطق تمامًا، هذه كتب العقيدة، بل يقولون: إن الأخذ بظواهر النصوص من الكتاب والسنة من أصول الكفر.
هذا موجود، نسأل الله العافية.
الشاطبي -رحمه الله- تكلم على هذه القضية، وردِّ النصوص، والقدح في الرواة من الصحابة فمن بعدهم، والأحاديث التي ردُّوها ذكر جملة منها.
الخطيب البغدادي نقل عن عمرو بن عبيد، عمرو بن عبيد هذا من روّاد المعتزلة الأوائل من أصحاب واصل بن عطاء، ومن تلاميذ الحسن البصري، هذا رجل كان يُذكر بالعبادة والزهد.
هذا الذي قال فيه الخليفة:
كُلُّكُمْ يَطْلُبُ صَيْدَا.
كُلُّكُمْ يَمْشِي رُوَيْدَا.
غَيْرُ عَمْرِو بْنِ عُبَيد.[11]
يعني: يقصد أن كل هؤلاء العلماء من المحتالين على الدنيا بالدين إلا عمرو بن عبيد.
عمرو بن عبيد تعرفون خبره -إن شاء الله تعالى- في هذه المجالس، هذا رجل كان يكذب على الحسن البصري، من تلاميذ الحسن البصري، كثيرًا ما يقول: هذا قول الحسن، فإذا نوقش في هذا، قال: أقول: حسن يعني القول حسن، يعني هذا القول حسن! نعم، لكن ماذا يقول عن هؤلاء؟.
لما ذكر حديث ابن مسعود حديث الصادق المصدوق: يُجمع خلق أحدكم في بطن أمه[12]كلنا نعرف الحديث، ماذا يقول؟ انظر يذكر الرواة من الأعمش.
يقول: لو سمعت الأعمش يقول هذا لكذبته. الأعمش من أئمة التابعين، من حفاظ السنة الكبار، يقول: ولو سمعتُ زيد بن وهب يقول هذا ما أجبته، ولو سمعت عبدالله بن مسعود يقول هذا ما قبلته، ولو سمعت رسول الله ﷺ يقول هذا لرددته، ولو سمعت الله تعالى يقول هذا لقلت له: ليس على هذا أخذت ميثاقنا[13].
والله إني أقول هذا الكلام وأخشى أن يسقط علينا سقف المسجد، أعوذ بالله.
هذا متى؟ هذا في زمن التابعين، هذا عمرو بن عبيد كان يقول عن عبدالله بن عمر من علماء الصحابة يصلح للخلافة، كان يقول عنه: هذا حشوي! بل رموا الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- بالعظائم: بالتجسيم والتشبيه.
عيسى حينما قال: تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ [المائدة: 116] موسى لما قال: رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ [الأعراف: 143]والنبي ﷺ، ما سَلِم هؤلاء الأنبياء، بل ما سَلِم رب العالمين منهم.
النَّظّام، وما أدراك ما النَّظّام؟ النَّظام ذكر عنه ابن قتيبة أنه كذّب هذا الحديث، وردّ عليه، يقول ابن قتيبة في آخر الرد أيضًا على النَّظام، يقول: وله أقاويل في أحاديث يدّعي عليها أنها مناقضة للكتاب، وأحاديث يستبشعها من جهة حجة العقل، وذكر أن جهة حجة العقل قد تنسخ الأخبار، وأحاديث ينقض بعضها بعضًا[14]. يعني: عند النظام -كما سيأتي إن شاء الله- أن العقل ينسخ النقل، إلى هذا الحد! انظر الجرأة!.
هذا متى؟ ما هو في القرن الخامس عشر، هذا في القرن الثاني الهجري، بل في أواخر القرن الأول الهجري، في قرون متقدمة عمرو بن عبيد، وأمثال عمرو بن عبيد، وإن كان النّظام جاء بعده.
الشافعي -رحمه الله- يقول: ذاكرتُ -حديث القرعة يعني- المرّيسي، بشر المريسي هذا من المعتزلة الجهلة، كان دائمًا يناقش الشافعي، ويجادل الشافعي، وأم المرّيسي تكلم الشافعي تقول: لعل الله أن يصلح قلبه وأن يهديه بك، فكان الشافعي يتحمّل لعل وعسى.
يقول: ذاكرت المريسي في هذا الحديث حديث القرعة بين الستة الأعبُد فقال: هذا قمار[15].
النبي ﷺ حكم بالقرعة في هذه القضية، والمريسي يقول: هذا قمار.
سُئل عمرو بن عبيد -كما يقول عمرو بن النضر- عن شيء، فأجاب فيه، فقال له عمرو بن النضر: ليس هكذا يقول أصحابنا -انظروا الإزراء بالسلف الآن سيرد بماذا عمرو بن عبيد، قال: ومن أصحابك لا أب لك؟ قلت: أيوب -يعني السختياني، ويونس -يعني ابن عبيد، وابن عون -يعني عبدالله بن عون، والتَيمي. -هؤلاء الأئمة في زمن التابعين- قال: هؤلاء أنجاس أرجاس أموات غير أحياء، هذا الآن العابد! هذا كلكم يطلب صيدا، كلكم يمشي رويدا، غير عمرو بن عبيد؟! أنجاس أرجاس أموات غير أحياء[16].
وتستغرب إذا جاء كويتب صعلوك من الصعاليك في آخر الزمان قبل ظهور الدجال، سَلِ الله العافية.
واصل بن عطاء تكلم يومًا، فقال عمرو بن عبيد هذا: ألا تسمعون؟! على سبيل الإعجاب بكلام واصل، ما كلام الحسن..؟ لاحظ هو من تلاميذ الحسن هو وواصل، ما كلام الحسن وابن سيرين عندنا كما تسمعون إلا خِرقة حيض ملقاة[17]، قبحه الله.
السلف يقولون: قال الحسن، قال ابن سيرين، قال فلان، عنده كلامهم خرقة حيض ملقاة!
وآخر من زعمائهم، كان يقول: إن علم الشافعي وأبي حنيفة جملته لا يخرج من سراويل امرأة[18].
لا يخرج من سراويل امرأة: يعني هم يتكلمون على الحيض علماء الحيض والنفاس، وهي عبارة تُردد إلى اليوم، فقهاء وعلماء الحيض والنفاس، الإزراء بأهل العلم، والحيض والنفاس الله ذكرهما في القرآن.
النَّظّام هذا -كما يقول عنه بعضهم- طعن في خِيار الصحابة والتابعين من أجل فتاويهم، وعاب على أصحاب الحديث رواية أحاديث أبي هريرة، وزعم أن أبا هريرة كان أكذب الناس.
وطعن في عمر الفاروق وعاب عثمان، وابن مسعود، ثم ذكر عليًّا..، هذا النظام الآن، تلميذ أبي هُذيل العلّاف -كما سنعرف بعد قليل- هذا تنتسب إليه فرقة من المعتزلة، ذكر عليًّا وزعم أنه سُئل عن بقرة قتلت حمارًا، يعني: ما الحكم؟ يعني هل يُعوّض صاحب الحمار بالبقرة؟ أو ماذا يكون؟ فقال علي : أقول فيها برأيي. يقول النَّظام هذا: نعم، من هو حتى يقضي برأيه؟ من هو حتى يقضي برأيه؟[19].
نسأل الله العافية، ما سَلِم منهم أحد لا عمر، بل ولا النبي ﷺ ولا القرآن، ولا جبريل، ولا رب العالمين.
فهؤلاء مع جرأتهم كانوا أجهل الناس بكلام السلف وبأقوال السلف، وكما ذكر شيخ الإسلام -رحمه الله- أنهم يذكرون الإجماع أحيانًا ولا يعرفون قول السلف في المسألة.
ويُوردون القولين والثلاثة والأربعة والخمسة ويجادلون في مناقشة هذه الأقوال ويطوّلون الكلام، وقول السلف الذي دل عليه الكتاب والسنة لا يعرفونه، ولا يُوردونه من جملة هذه الأقوال، وإنما يُوردون أقاويل باطلة، كل هذه الأقاويل أصلًا من قبيل الغلط، أقاويل منحرفة، ولا يعرفون القول الذي دلّ عليه الكتاب والسنة، فهم أجهل الناس بهذا.
واليوم تسمع من يقول مثل هذا الكلام: وما شأني؟ بعضهم يقول: وما شأني بالإجماع؟ لستُ مُلزمًا بالإجماع، وبعضهم يقول: ومن هؤلاء؟ تقول لي: قال أبو قِلابة، وقال أيوب، وقال فلان، وقال فلان، من هؤلاء؟! مجاهيل.
مثل الذين يقولون: ومن الذي يضمن لك أن صحيح البخاري ما دُس فيه أحاديث؟ ما الذي يضمن لك؟ هذا تحتاج معه إلى دورات حتى تصل معه إلى أصول ومنطلقات تستطيع معه الحوار، يكون هناك قواسم مشتركة، وأرضية للنقاش وللحوار، أنت تناقش إنسانًا ما عنده شيء إطلاقًا، ما في قاعدة مشتركة، تقول له: هذا حديث في البخاري، يقول لك: ما أدراني أن البخاري ما دُس فيه أحاديث؟ فهّمه أن البخاري ما دُس فيه أحاديث.
أحيانًا الجواب يكون: كم بلغ سعر الحِنطة؟ بمعنى أنك تقول له: كيف الحال؟ ولا تجيب، لا تتعب نفسك إذا كانت الجهالة وصلت إلى هذا المستوى.
والذي زاد من هذا الشر والانحراف حتى بلغ مداه هو ترجمة كتب اليونان والفرس والروم والهند، التعريب للكتب، كتب المنطق والفلسفة، فجعلوا منها ميزانًا للحقائق الشرعية، فيعرضون عليها نصوص الوحي، فما وافقها قبلوه، وما خالفها أنكروه وردّوه.
كان ابتداء هذا فيما ذكره بعض أهل العلم، كما جاء عن ابن أبي زيد القيرواني -رحمه الله- كان يقول: رحم الله بني أمية، لم يكن فيهم قط خليفة ابتدع في الإسلام بدعة، وكان أكثر عُمّالهم -يعني الولاة والأمراء لبني أمية- من العرب، فلما زالت دولتهم ودارت إلى بني العباس، قامت دولتهم بالفرس، وكانت الرياسة فيهم، وفي قلوب أكثر الرؤساء منهم -يعني من الفرس الذين صاروا وزراء لبني العباس- الكفر والبغض للعرب دولة الإسلام فأحدثوا في الإسلام الحوادث. هذا كلام ابن أبي زيد القيرواني -رحمه الله-...، إلى أن يقول: فأول الحوادث التي أحدثوها إخراج كتب اليونان إلى أرض الإسلام[20].
وذكر السبب في خروجها، خلاصة الكلام الذي ذكره: أن خالد بن برمك، ويحيى بن خالد بن برمك الذي قُتل -كما هو معلوم- هذا الرجل يقول القيرواني: إنه كان يواصل ملك الروم بالهدايا المتتابعة، فاستراب ملك الروم وعرض هذا الأمر على كبار أهل دولته ومملكته، وقال لهم: هذا الرجل ما زال يرسل الهدايا، وإنما ذلك لشيء، وأخشى أن يطلب مني ما يشق عليّ، فما ترون؟
ثم بعد ذلك رأى هو أن يسأل رسوله إذا جاء بهدية، يقول له: سل صاحبك ماذا يطلب؟ ماذا يريد؟.
فرجع إليه وسأله، فرد عليه يحيى بن خالد فرِحًا مسرورًا مستبشرًا، قال: يريد الكتب التي بُني عليها البناء، كانت هناك كتب المنطق والفلسفة هذه، يقولون: إنه بُني عليها بناء عند الروم، وأُغلق بابه بالحجارة والجص والطين، طُيّن الباب، يعني: ما يصل إليها أحد.
باعتبار أنهم تخوّفوا على أهل ملتهم إذا نظروا في كتب الفلاسفة هذه أن يتزعزع دينهم، وإيمانهم ويقينهم بعقائدهم النصرانية، فيرجعون عنها إلى دين الفلاسفة، فبنوا عليها هذا البناء.
فلما رجع الرسول إلى ملك الروم، وذكر له مثل هذا الكلام فرح ملك الروم، وجمع الكبراء من أهل مملكته، وأخبرهم بما ردّ عليه يحيى بن بَرمك، وقال لهم: قد كنت ذكرت لكم -يعني عن هذا الرجل- أنه لا يخلو من حاجة، وقد أفصح بحاجته، وهي أخف الحوائج عليّ.
وقد رأيت رأيًا فاسمعوه فإن رضيتموه أمضيته، يقول: حاجته الكتب اليونانية يَستخرج منها ما أحب ويردُّها، قالوا: فما رأيك؟.
قال: قد علمت أنه ما بنى عليها من كان قبلي إلا أنه خاف إن وقعت في أيدي النصارى كان سببًا لهلاك دينهم وتبديد جماعتهم، وأنا أرى أن نبعث بها إليه، وأن أسأله ألا يردها، يُبتلَون بها، ونسلم نحن من شرِّها، فإني لا آمن أن يكون بعدي من يتجرأ على إخراجها إلى الناس، فيقعوا فيما خِيف عليهم.
قالوا: نعم الرأي رأيت أيها الملك، فأمضه.
فبعث بالكتب إلى يحيى بن خالد، فلما وصلت إليه جَمَع عليها كل زنديق وفيلسوف، فمِمّا أُخرج منها كتاب (حد المنطق)، يقول أبو محمد بن أبي زيد القيرواني: وقَلّ من أنعمَ النظر في هذا الكتاب، وسلم من زندقة.
ثم جعل يحيى البرمكي هذا المناظرةَ في داره، والجدال فيما لا ينبغي، يعني: من الذات الإلهية إلى الأرض السابعة، يجادلون في كل شيء، لا يوجد خط أحمر، كل شيء معروض للنقاش، كما يقول بعض المنحرفين اليوم في قناة فضائية، يجمع هؤلاء الذين قد جمعهم يجعلهم على فريقين، ثم بعد ذلك يعرض عليهم قضايا، حد الزنا ماذا تقولون؟ الذي يؤيد هنا يرفع يده، والذي يؤيد هنا يرفع يده.
هذا كلام يقال؟! ويقول: نحن نناقش كل شيء بلا استثناء، كل شيء عندنا قابل للنقاش، كل شيء عندهم قابل للنقاش! نسأل الله العافية.
فالشاهد يقول القيرواني: فيتكلم كل ذي دين في دينه، ويجادل عليه آمنًا على نفسه، تكلم الزنادقة، وتكلم أهل الانحرافات المتنوعة، فإذًا مقتضى هذا الكلام أنها قد عُربت في خلافة هارون الرشيد؛ لأن يحيى بن خالد كان مُستوزَرًا في خلافة الرشيد، وقُتل في سنة سبعٍ وثمانين ومائة.
هكذا قال جمعٌ من أهل العلم، وذكر آخرون أن ذلك وقع من قِبل المأمون، لما هادن بعض ملوك النصارى، كَتَب يطلب من خزانة كتب اليونان، وذكروا واقعة مشابهة لما سبق، وأن الملك جمع خواصه واستشارهم، ويقولون: إنهم جميعًا أشاروا بمنع بعثها وإرسالها.
يقولون إلا أحد البطارقة، واحد فقط هو الذي خالفهم، وقال لهم: جهّزها إليهم. فما دخلت هذه العلوم على دولة شرعية إلا أفسدتها وأوقعت بين علمائها.
على كل حال: كانت البدايات قبل هذا، يعني: المشهور أن المأمون أول من ترجم كتب اليونان، لكن الواقع أن المأمون كان ذلك في وقته بصورة أكبر وبدعم أعظم، وكان يَزِن الكتاب بالذهب، لمن يترجم كتبًا من تلك الكتب، وإلا فقد وقع ذلك في وقت قبل هذا.
يعني: خالد بن يزيد بن معاوية المتوفى سنة خمس وثمانين للهجرة كان مولعًا بالكيمياء، وكانت البداية في الترجمة على يديه، يقولون: هو أول من بدأ يعرِّب كتب اليونان[21].
على كل حال: النبي ﷺ أخبر أن هذه الأمة ستفترق، وحصل هذا، وصارت كل فرقة تتشبث بمقررات منطقية وفلسفية، وما يسمونه بالقواعد العقلية من أجل المناظرة والذبّ عن مبادئها، والرد على الخصوم، وكَثُر الجدال، والاحتجاج والكلام في قضايا الدين والاعتقاد، وزاد الشر شرًّا والضُر ضُرًّا، نسأل الله العافية.
وتترست كل طائفة، وكل فرقة بهذه العلوم الكلامية والفلسفية، وجعل هؤلاء جدالَهم مبنيًا عليها، وتشعّبت هذه الطوائف والفِرق وانقسمت على نفسها، فكثُر الافتراق، وعمّت الأهواء.
هذا كان بسبب ترجمة هذه الكتب، ووصلت للأسف إلى أبعد مدى، حتى الأندلس التي كانت بعد سقوط الدولة الأُموية تمثل دولة مستقلة عن الدولة العباسية، يقال: أول من أدخل الفلسفة إلى الأندلس هو أمير الأندلس عبدالرحمن بن الحكم بن هشام بن عبدالرحمن بن معاوية بن هشام بن عبدالملك بن مروان الأموي.
يقولون: كان يشبه المأمون من هذه الناحية، طلب الكتب الفلسفية، إضافة إلى الجبروت، فكان يُشبَّه بالوليد بن عبدالملك في هذا الجانب، وهذا متوفى سنة مائتين وتسع وثلاثين للهجرة.
لاحظوا: الوقت مبكر، ووصلت إلى الأندلس!.
ثم بعد ذلك صارت هذه الكتب -للأسف الشديد- ثقافة، فزلّت بها ألسن كثير من المشتغلين بالعلوم الشرعية، حتى جاء أبو حامد الغزالي، واستفزّ العلماء -كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- وقال: إنه لا يبلغ مرتبة الاجتهاد من لا يعرف المنطق[22].
وقال أيضًا: إنه لا يوثق بعلم من لا يعرف المنطق.
فصار العلماء يقبلون على هذه العلوم، فيذكرون ذلك في ثنايا كتبهم، ومصنفاتهم، وصار ذلك يَعلق بالقلوب والألسن والأقلام، فإذا ألّف أحدهم فإما أن يذكر ذلك في سبيل الرد وسياق الجدل مع الخصوم، أو يذكر ذلك في سبيل التقرير والإثبات؛ ليُثبت أنه قد بلغ هذه المرتبة.
فدخلت هذه العلوم الكلامية في التفسير وشروح الحديث، وسُرِق علم أصول الفقه من أهل السنة، الذي أول من ألّف فيه الشافعي، وصارت عامّة المؤلفات في أصول الفقه أصحابها من المعتزلة والأشاعرة، وعلماء الكلام، للأسف!.
فدخلت فيها هذه الأشياء، بل دخل حتى في العلوم الأخرى من علوم العربية كالنحو، وصار ذلك صعبًا على التلاميذ، فما عبارة الإسناد والمُسنَد والمُسنَد إليه، وما إلى ذلك التي في النحو وفي البلاغة إلا من عبارات أهل المنطق والكلام.
ودخل هذا في علوم البلاغة، بل دخل في القواميس اللغوية، فصارت هناك معانٍ لم تكن موجودة في كتب الأولين، كتب الثقات، مثل الأزهري "تهذيب اللغة" وابن فارس، وأمثال هؤلاء من المتقدمين، فتجد في كلام المتأخرين كصاحب اللسان وصاحب القاموس، ونحو هذه الكتب عبارات لا يُعرف لها أصل في كلام العرب.
مثل تفسير: استوى باستولى! هذه كيف دخلت؟ ثم يأتي يتتلمذ على هذه الكتب فئام من الناس، خلائق لا يحصيهم إلا الله ، ويتلقّفون ذلك ويتلقّونه ويظنون أنه علم صحيح ثابت، وهكذا.
ذكر الحافظ ابن كثير -رحمه الله- أنه في حوادث سنة ستمائة وسبع وثمانين لما أخذ التتار بغداد في سنة ستمائة وسبع وخمسين.
يقول: عَمِل الخواجه نصير الدين الطوسي، نصير الشرك الطوسي، الذي ألّب التتر على دخول بغداد، ويقال: إنه حرّضه على قتل الخليفة، قُتل الخليفة العباسي، ونُهبت بغداد وحصلت أمور هائلة تعرفون كثيرًا منها.
يقول ابن كثير -رحمه الله- عن هذا -نصير الدين الطوسي- لما تسلّط، يقول: إنه عمل دار حكمة، فيها فلاسفة، لكل واحد في اليوم ثلاثة دراهم، ودار طب. دار الحكمة يعني الفلسفة يسمونها الحكمة، من يجترئ أن يقيم دارًا للفلاسفة في حاضِرة الخلافة؟.
فجاء هذا الرافضي وعَمِل ذلك، وجعل دار طب فيها للحكيم -يعني: الطبيب- درهمان، وصرف لأهل الحديث جعل لهم دار الحديث لكل مُحدّث نصف درهم في اليوم، هذه مثل خطة دنلوب -كما هو معلوم- لما جعل المتخرج من العلوم الشرعية ما يأخذ إلا أجورًا يسيرة بسيطة، ثم بعد ذلك العلوم الأخرى يأخذون الأجور العالية، فصار الناس لا يسمحون لأولادهم بدراسة العلوم الشرعية في الأزهر.
فصار النجباء والأذكياء يذهبون إلى العلوم التجريبية، والعلوم المادية من أجل الكسب المادي، المستقبل كما يقولون.
وأصحاب المعدّلات الضعيفة يدرسون العلوم الشرعية، ولا نُعمم أن كل من درس هو من هؤلاء، فقد يدخل الرجل رغبةً.
فصار الناس يشتغلون بالفلسفة، وفشا ذلك، كما يقول ابن كثير، يقول: ما كان الناس يشتغلون بها قبل ذلك إلا الآحاد في خُفية.
يقول: وبُدّلت بغداد بعد تلاوة القرآن بالنغمات والألحان، وإنشاد الأشعار وكان وكان -حكايات، وبعد سماع الأحاديث النبوية بدرس الفلسفة اليونانية، والمناهج الكلامية والتأويلات القُرمطية، وبعد العلماء بالحكماء -الحكماء يعني الفلاسفة، وبعد الخليفة العباسي بشرّ الولاة من الأناسي، وبعد الرياسة والنّباهة بالخساسة والسفاهة، وبعد الطلبة المشتغلين بالظَلَمة والعَيَّارين، -يعني الشَّبِّيحة-، وبعد الاشتغال بفنون العلم من التفسير والحديث والفقه وتعبير الرؤيا بالزَّجل والموشَّح ودوبيت ومواليا.
نقول: وما أصابهم ذلك إلا ببعض ذنوبهم[23].
واليوم الفلسفات الجديدة، الفلاسفة من الغربيين والشرقيين؛ ألبرت حوراني، وستافلو بون، وإدوارد سعيد، ومايكل كوك، وإيريك هوفر، ومن شاكلهم، وكذلك أيضًا تلامذة هؤلاء، أركون، وبقية القائمة التي تعرفون.
فصار يُتهافت على كتاباتهم المترجمة، وغير المترجمة من أصحاب عُجمة القلوب، ويُظن أن ذلك من الثقافة، وتجد تلك الدور المعروفة التي تُعنى بنشر هذه الكتب المشبوهة في المعارض، والمحافل التي تباع فيها الكتب، تجد فِئامًا من الناس من الرجال والنساء يجتمعون على هذه الدور يتهافتون، ويفرحون بالظََّفَر الكبير والفوز العظيم إذا وجدوا نسخة من كتاب مايكل، أو إيريك، أو غوستاف، أو جورج، أو ميري، للأسف الشديد.
وتجد هذا الذي كان يشتغل بالعلم الشرعي، كان من طلاب العلم، ثم بعد ذلك حصل له انحراف وانتكاسة يرسل رسائل وتغريدات، قال غوستاف لوبون، أو قال إيريك هوفر، بعدما كان يقول: قال الله، قال رسوله، قال معاذ ، قال ابن سيرين، صار إيريك و مايكل وأمثال هؤلاء!.
بعد ذلك اتسع الخرق على الراقع، وانتشرت البدع والضلالات والأهواء، فبعد أن كان الانحراف يبدأ محدودًا، وربما ساذجًا ما يلبث حتى يتحول إلى ضلالات عظمى.
وهذا ما سنتحدث عنه -إن شاء الله تعالى- في الليلة الآتية، كيف تبدأ هذه القضايا؟، كما يقول شيخ الإسلام: تكون في أولها شبرًا، ثم تكثُر في الأتباع حتى تصير أذرعًا وأميالًا وفراسخ! كيف حصل التوسع؟ كيف كانت البدايات ساذجة وبسيطة،؟ حتى يخاف المؤمن على نفسه ولا يُفرِّط بدينه، فهي نفس واحدة، لا تُغرِّر بها.
الزم الجادّة، والصراط المستقيم، وابتعد عن الأهواء والضلالات، هي نفس واحدة، وغدًا يوضع الإنسان في خرقة في كفن، ثم بعد ذلك يبقى مرتهنًا بإيمانه وعمله ويقينه، فإذا جاءه الملَكان وانتهراه، من ربك؟ وما دينك؟ ومن هذا الرجل الذي بُعث فيكم؟ فعندها يظهر اليقين والثبات، ويعرف الإنسان على أي أرضٍ كان يقف.
لا يُغرِّر أحد بدينه بسبب عداوة زيد وعمرو، أو عداوة الفئة الفلانية، والطائفة الفلانية، فيحمله بغضهم على بُغض الدين، ومحادّة الله ، ومحادة رسوله ﷺ، تتحول القضية من تصفية حسابات إلى نكاية بالنفس، نسأل الله العافية.
الحذرَ الحذرَ، والإنسان يطلب النجاة، وسيصير الجميع عما قريب إلى الله -تبارك وتعالى، هذا، والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.
- انظر: التنوير شرح الجامع الصغير (1/ 438).
- أخرجه الترمذي، أبواب الإيمان عن رسول الله ﷺ، باب ما جاء في ترك الصلاة (5/ 13)، رقم: (2621)، والنسائي، كتاب الصلاة، باب الحكم في تارك الصلاة (1/ 231)، رقم: (463).
- انظر: الموافقات (1/ 39)
- انظر: مجموع الفتاوى (4/ 96).
- انظر: الاعتصام للشاطبي (1/ 301).
- انظر: المصدر السابق (1/ 301).
- أخرجه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب: مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌآل [عمران:7 ](6/ 33)، رقم: (4547)، ومسلم، كتاب العلم، باب النهي عن اتباع متشابه القرآن، والتحذير من متبعيه، والنهي عن الاختلاف في القرآن (4/ 2053)، رقم: (2665).
- انظر: الموافقات (2/ 264).
- انظر: درء تعارض العقل والنقل (7/ 360).
- انظر: المصدر السابق (5/ 335).
- انظر: الكامل في ضعفاء الرجال لابن عدي (6/ 195).
- أخرجه البخاري، كتاب بدء الخلق، باب ذكر الملائكة (4/ 111)، رقم: (3208)، ومسلم، كتاب القدر، باب كيفية خلق الآدمي في بطن أمه وكتابة رزقه وأجله وعمله وشقاوته وسعادته (4/ 2036)، رقم: (2643).
- انظر: تاريخ بغداد (14/ 70)، وتهذيب الكمال في أسماء الرجال (22/ 129).
- انظر: تأويل مختلف الحديث لابن قتيبة (ص:93- 94).
- انظر: سير أعلام النبلاء (10/ 200).
- انظر: الاعتصام للشاطبي (1/ 158).
- انظر: المصدر السابق (2/ 741).
- انظر: المصدر السابق (2/ 742).
- انظر: الفرق بين الفرق (ص:134).
- انظر: صون المنطق (1/ 42).
- انظر: لوامع الأنوار البهية (1/ 9).
- انظر: مجموع الفتاوى (9/ 172).
- انظر: البداية والنهاية (10/ 107).