الثلاثاء 17 / جمادى الأولى / 1446 - 19 / نوفمبر 2024
(07) مواصلة الحديث في أبرز سِمات أهل الاختلاف والتفرق تعود إلى مصادر التلقي وطرق الاستدلال
تاريخ النشر: ٠٨ / ذو القعدة / ١٤٣٥
التحميل: 10644
مرات الإستماع: 2569

المقطع المرئي

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:           

فما زلنا نتحدث عن أسباب الاختلاف والتفرق، وذكرنا من سمات هؤلاء، ومن أبرز سماتهم: كثرة التفرق والاختلاف على أقل الأشياء، وأدنى الأمور.

ذكرنا طرفًا من أحوال الخوارج وفرقهم، وأواصل في هذا الحديث.

طائفة الصُّفرية من الخوارج:

من الخوارج طائفة يقال لها: الصُّفرية، هؤلاء أتباع زياد بن الأصفر[1]، هؤلاء اتخذوا عمران بن حطان زعيمًا وإمامًا لهم.

وعمران بن حطان يقولون: إنه كان من العباد النساك، وهو من الشعراء الشجعان، وكان شديدًا في مذهب الصُّفرية، وهو الذي مدح عبد الرحمن بن ملجم الذي قتل عليًّا - وأرضاه- وقال فيه أبياته المشهورة:

يا ضربةً مِن تقيٍّ ما أَراد بها إلا ليبلُغَ من ذِي العرشِ رضوانا
إنِّي لأذكرُهُ يومــًا فأَحسَبُهُ أَوفى البريَّةِ عنـد الله مــيزانا[2]

نسأل الله العافية، الضلال المبين، علي بن أبي طالب عندهم بهذه المنزلة، يتقربون إلى الله بقتله، وهذا يَعدُّ قاتله من أعظم الناس منزلة عند الله ، هكذا يبلغ الضلال بأصحابه.

طائفة العَجارِدة:

طائفة أخرى من هؤلاء يقال لهم: العَجارِدة، هؤلاء أتباع عبد الكريم بن عجرد، وهذا كان من أتباع عطية بن الأسود الحنفي الذي مضى طرفٌ من خَبرِه.

العجاردة هؤلاء افترقوا إلى عشر فرق، وذكر بعض أهل العلم أنهم افترقوا إلى خمس عشرة فرقة، هذه فرقة واحدة -العجاردة- تنقسم إلى هذه الفرق الكثيرة!

يجمعهم القول بأن الطفل يُدْعى إذا بلغ، وتجب البراءة منه قبل ذلك، يعني: لا يحكمون بإسلامه.

كل من عنده أولاد وبنات، أو ذكور وإناث فإنهم إذا بلغوا يعرض عليهم الإسلام، قبل ذلك لا يتولاهم، تصور هذا المذهب، وكيف ينشأ هؤلاء الأطفال في أحضان هؤلاء القساة!.

ويقولون: لابد أن يُدْعى إلى الإسلام، أو يصف الإسلام، واختلفوا مع طوائف الخوارج الأخرى، كالأزارقة، وغيرهم.

لاحظ القضية ما عادت تقف عند قولهم بتكفير المُحكِّمة مثلاً كما كانت بداية الخوارج، لا حكم إلا لله، كلمة حق أريد بها باطل.

هؤلاء العجاردة يرون أن سورة يوسف ليست من القرآن، يقولون: لا يمكن أن تكون سورة، أو قصة تحتوي على عشق، وتكون من سور القرآن، بل هي قصة من القصص[3].

وصلت القضية إلى إنكار سورة مجمع عليها من كتاب الله -تبارك وتعالى، هكذا يفعل الشيطان بهؤلاء المنحرفين، فما يقف الانحراف عند حد -نسأل الله العافية.  

فرقة الشُّعيبية:

من فرق هؤلاء فرقة يقال لها: الشُّعيبية، هؤلاء ظهر زعيمهم الذي يدعى بشعيب، رجل يقال له شعيب.

اختلف مع رجل من الخوارج اسمه ميمون.

ما سبب هذا الاختلاف؟ انظروا إلى العقول والفقه والفهم، وأنا أورد هذا من أجل أن تعجب، وأن تحمد الله على نعمة العقل والسنة والعلم والسلامة من هذه الأهواء والبدع والضلالات، وأن تتمسك بلزوم الكتاب والسنة، وأن تعتصم بذلك، وأن تبتعد عن الشر وأهله والفتن وأصحابها.

انظر: كان لميمون على شعيب مال فتقاضاه، قال: أعطني مالي، فقال شعيب: أعطيكه -إن شاء الله.

فقال ميمون: قد شاء الله ذلك الساعة، هات المال.

فقال شعيب: لو كان قد شاء ذلك لم أستطع إلا أن أعطيكه.

يعني: لو شاءه الآن فلابد أن أعطيك الآن.

فقال ميمون: قد أمرك الله بذلك، وكل ما أمر به فقد شاءه، وما لم يشأ لم يأمر به.

هنا لا يفرقون بين الأمر الكوني والأمر الشرعي الذي يعرفه صغار أهل السنة، صغار التلاميذ.

فانقسموا، وافترقت العجاردة عند ذلك، فتبع قوم شعيبًا، وقيل لهم: الشُّعيبية، على قضية اقضني المال الذي عندك، انقسموا إلى فرقتين، فهنا تبع قوم ميمونًا، وتبع الآخرون شعيبًا، وكتبوا في ذلك إلى عبد الكريم بن عجرد.

عبد الكريم بن عجرد هو الزعيم، وكان محبوسًا في السجن، فكاتبوه، فأرسل في الجواب: إنما نقول: ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، ولا نلحق بالله سوءًا.

هذا الجواب، فوصل الجواب إليهم، ولكن عبد الكريم هذا كان قد توفي حين وصول الجواب، مات في الحبس، فلما وصلهم الجواب ادعى ميمون أنه قال بقوله، قال: هو يوافقني، يقول: لأنه قال: لا نلحق بالله سوءًا.  

وقال شعيب: بل قال بقولي؛ لأنه قال: نقول ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن.

لاحظ الآن يتركون أئمة السنة والعلماء الأعلام الأئمة الجبال، ويختلفون على قول عبد الكريم هذا المجهول الخارجي.

فمالت الخازمية وأكثر العجاردة إلى قول شعيب، ومالت الحمزية مع القدرية إلى ميمون.

ثم زادت الميمونية على كفرها في القدر نوعًا من المجوسية، فأباحوا نكاح بنات البنات وبنات البنين، القضية ما تقف عند لا حكم إلا لله.  

ورأوا قتال السلطان، هذا مفروغ منه عند الخوارج، وهو من أصولهم: الخروج على أئمة المسلمين، وليس ذلك فقط، بل من رضي بحكمه فقتاله فرض، من رضي بحكمه.

فأما من أنكره فلا يرون قتله إلا إذا أغار عليهم، يعني: أحد يقول مثلاً: حكم السلطان غير شرعي، لا يتعرض له أصحاب الفرقة هذه إلا إذا عابهم، إلا إذا انتقدهم فهنا يرون قتله.

أو كان دليلا للسلطان، يعني يعتقدون أنه يبلغ خبرهم إلى السلطان أو يشي بهم، فهذا عندهم يجب قتله.

طائفة المعلومية، وطائفة المجهولية:

من هؤلاء أيضًا طائفة يقال لها: المعلومية، وطائفة أخرى اسمها: المجهولية، فهؤلاء من الخازمية، لكن المعلومية خالفت من سبقها من الخوارج في شيئين: ادعوا أن من لم يعرف ربه -تبارك وتعالى- بجميع أسمائه الحسنى فهو جاهل به، والجاهل به كافر.

والثاني: أنهم قالوا: إن أفعال العباد غير مخلوقة لله تعالى، يعني: قالوا بقول القدرية.

المجهولية قالوا كقول المعلومية بوجوب معرفة الله بأسمائه -معرفة الأسماء الحسنى، أن هذا يجب لكنهم قالوا: يكفي أن يعرف بعضها ولو جهل البعض، فقيل لهم: المجهولية.

هل يعقل هذا؟!، ينقسمون بهذه الطريقة؟!.

يقولون: من عرف ربه ببعض أسمائه فقد عرفه، وحكموا بكفر المعلومية؛ لأنهم قالوا: يجب أن يعرف بجميع الأسماء، وإلا فإنه يكون كافرًا، فقالوا: هم كفار. بذلك -نسأل الله العافية.

طائفة الصَّلتية:

طائفة منهم يقال لها: الصَّلتية، أنا لست أعرِّف الآن بفرق الخوارج، لكني أذكر هذه العجائب، وكيف ينقسمون، هؤلاء منسوبون إلى صلت بن عثمان، وقيل: صلت بن أبي الصلت، وكان من العجاردة، غير أنه قال: إذا استجاب لنا الرجل وأسلم توليناه، وبرئنا من أطفاله؛ لأنه ليس لهم إسلام حتى يُدرِكوا فيُدعَون حينئذ إلى الإسلام.

طائفة الحَمزية:

طائفة يقال لها: الحمزية، أتباع حمزة بن أكرك الذي عاث في سجستان، وخرسان، وكرمان، وتلك البلاد، وهزم الجيوش الكثيرة، هذا في الأصل كان من العجاردة الخازمية، ثم خالفهم في باب القَدر والاستطاعة.

فقال بقول القدرية فأكفرته الخازمية في ذلك، ثم زعم مع ذلك أن أطفال المشركين في النار، فأكفرته القدرية في ذلك، ثم إنه والى القَعَدة من الخوارج، يعني: الذين لم يهاجروا إليه، مع قوله بتكفير من لا يوافقه على قتال مخالفيه من فرق هذه الأمة، الذي يقول: لا يحق لك أن تقاتل هؤلاء -أيًّا كانوا؛ لأنه كان يقاتل الخوارج أيضًا- هذا عنده كافر، من أنكر عليه قتال من خالفه فهو كافر -نسأل الله العافية- ويقول: إن هؤلاء من المشركين، يعني: الذين يخالفونه في قتال أولئك، وكان إذا قاتل قومًا وهزمهم أمر بإحراق أموالهم وعقر دوابهم، وكان مع ذلك يقتل الأسرى من المخالفين.   

هذا ظهر في أيام الرشيد، وبقي الناس في فتنته إلى أيام المأمون، ووقعت أمور وعظائم على يده.

هذا بدأ بقتال البَيْهسية، طائفة من الخوارج، وقتل الكثير منهم، ثم بايعه موافقوه بعد ذلك بالخلافة، وصار يدعى بأمير المؤمنين، وقالوا فيه أشياء وأشعار، ومدائح.

حمزة هذا أرسل سرية إلى الخازمية من الخوارج، فقتل منهم مقتلة عظيمة، ثم ذهب بنفسه على رأس جيش إلى هراة فمنعه أهلها من دخولها، ماذا صار يفعل؟.

صار يستعرض الناس خارج المدينة، يضع حواجز، ثم بعد ذلك الذين يأتون من خارج البلد يريدون دخول البلد، أو الخروج منها يقتلهم.  

فقتل خلقًا كثيرًا، فخرج إليه عمرو بن يزيد الأزدي -هذا والي هراة- مع جنده فدامت الحرب بينهم شهورًا، وقُتل من أهل هراة جماعة كبيرة جدًّا، ثم أغار حمزة على مناطق قريبة ومحاذية من أرياف هراة، فدامت الحرب مدة طويلة، وأحرق أموال هؤلاء، وعقر أشجارهم، ثم بعد ذلك وصل إلى سجستان، فمنعه أهل بعض تلك النواحي من دخول البلد، فصار يستعرض الناس خارجها بالسيف، كل من اجتاز في تلك الصحراء قتله.

ثم تنكر لأهل بعض تلك النواحي، يعني: ألبس جنده بالسواد الذي كان شعارًا لجند السلطان -يعني: للعباسيين- فألبسهم السواد ليخدع أهل البلد، فبلغهم ذلك -يعني عرفوا، قيل لهم: ترى الرجل لبس لباس الجيش -جيش الدولة العباسية، فعندها منعوه من دخول البلدة، فعقر نخلهم، وقتل المجتازين في صحاريهم، ثم قصد ناحية أخرى هناك، وقتل بها الكثير من الخوارج الخلفية، وعقر أشجارهم، وأحرق أموالهم، وانهزم رئيسهم، يقال له: مسعود بن قيس، وعبر في هزيمته واديًا وغرق هناك، فشك أتباعه -أتباع مسعود- في موته وصاروا ينتظرونه بعد ذلك ويعتقدون برجعته قرونًا متتابعة.

لاحظ الآن عندهم إمام غائب، ما عادت القضية كما بدءوا: لا حكم إلا لله.

ثم بعد ذلك رجع حمزة من كرمان وأغار في طريقه على بُسْت، ونواحٍ في نيسابور، وكان بها من الخوارج الثعالبة، فقتلهم ودامت فتنته بتلك النواحي في آخر أيام الرشيد، وفي بداية خلافة المأمون، فلما تمكن المأمون من الخلافة كتب إلى حمزة كتابًا استدعاه فيه إلى طاعته، فما زاد إلا عتوًّا في أمره، فبعث المأمون بطاهر بن الحسين لقتاله، فدارت بينهم حروب قُتل فيها من الفريقين أكثر من ثلاثين ألفًا -هذا زعيم واحد من زعماء الخوارج، وانهزم فيها حمزة إلى كرمان، وذهب إلى بعض تلك الجبال.

فرقة الثعالبة:

من فرق هؤلاء: الثعالبة، أتباع ثعلبة بن مُشكان، هؤلاء يدعون إمامته بعد عبد الكريم بن عجرد الذي مات في الحبس.

ويزعم هذا أن عبد الكريم بن عجرد كان إمامًا، قبل أن يخالفه ثعلبة في حكم الأطفال، فلما اختلفا في ذلك كفَرَ ابن عجرد، وصار ثعلبة هو الإمام في نظر هؤلاء.

ما هو السبب في اختلافهما؟ انظر إلى السبب.

السبب أن رجلاً من العجاردة خطب إلى ثعلبة ابنته، قال: زوجني ابنتك، واذكر لي مهرها، ثم أرسل امرأة إلى أم تلك البنت يسألها هل بلغت البنت؟.

فإن كانت قد بلغت ووصفت الإسلام على الشرط الذي يعتبره العجاردة؛ لأنهم لا يعتبرون للصغير قبل البلوغ، لا يعتبرون له إسلامًا، فيريدون أن يمتحنوها قبل أن يتزوجها، إذا كانت قد بلغت، فيقول: إذا اجتازت الامتحان فالمهر لا تسأل عنه. يعني: نعطيك ما شئت.

فقالت أمها: هي مسلمة في الولاية. يعني: يكفي أنها بنت مسلمين بلغت أو لم تبلغ، فأُخبر بذلك عبد الكريم بن عجرد، وثعلبة بن مُشكان، فاختار عبد الكريم البراءة من الأطفال قبل البلوغ، وقال ثعلبة: نحن على ولايتهم صغارًا وكبارًا إلى أن يبين لنا منهم إنكار للحق.

فلما اختلفا في ذلك برئ كل واحد منهما من صاحبه، وصار أتباع كل واحد منهما فرقًا.

لاحظ: على قضية خطبة فتاة، انقسموا هذا الانقسام!.

وصارت الثعالبة بعد ذلك ست فرق، فرقة أقامت على إمامة ثعلبة، ولم تقل بإمامة أحد بعد ثعلبة، ولم يكترثوا لما وقع من خلاف.

فرقة المَعْبَديّة:

ومن فرق هؤلاء طائفة يقال لهم: المَعْبدية، قالوا بإمامة رجل منهم بعد ثعلبة اسمه مَعبد، خالف جمهور الثعالبة في أخذ الزكاة من العبيد إذا كانوا أغنياء، وكيف يكون المملوك غنيًّا وهو وما يملك لسيده؟! لكن هكذا قالوا.

وقالوا: إذا كان فقيرًا فإنه يعطى أيضًا من الزكاة، فهنا أكفره سائر الثعالبة بسبب ذلك.

لماذا يقول: إن المملوك تؤخذ منه الزكاة إذا كان غنيًّا، أو يعطى من الزكاة إن كان فقيرًا؟، فكفروه، هذا خلاف يستوجب التكفير؟!.

طائفة الأخنسية:

من هؤلاء طائفة يقال لهم: الأخنسية، أتباع رجل كان يُعرف بالأخنس كان في أول الأمر على مذهب الثعالبة في موالاة الأطفال، ثم خنس من بينهم، فقال: يجب علينا أن نتوقف عن جميع من في دار التُّقية إلا من عرفنا منه إيمانًا فنواليه عليه، أو كفرًا فنبرأ منه، وقال بتحريم القتل والاغتيال في السر.

يعني الغيلة والغدر، ما كلهم كان يقول بهذا.

وقال أيضًا: لا يُبدأ أحد من أهل القبلة بقتال حتى يُدعى إلا من عُرف بعينه أنه مخالف وكافر، وصار له أتباع على هذا القول، وبرئ من سائر الثعالبة، وبرئ منه سائرهم.

طائفة الشيبانية:

من هؤلاء طائفة من الثعالبة يقال لهم: الشيبانية، أتباع شيبان بن سلمة الخارجي، هذا خرج أيام أبي مسلم بزمن بني العباس، فتحالف مع أبي مسلم على أعدائه في بعض المعارك، وكان مع ذلك يقول بأشياء من تشبيه الله -تبارك وتعالى- بخلقه وما إلى ذلك، فكفّره سائر الثعالبة نظرًا لهذا القول في تشبيه الله ، وكذلك أيضًا هؤلاء الخوارج كفروه قالوا: لأنه أعان أبا مسلم، كيف يعين هؤلاء الكفار، ويتحالف معهم؟ إذًا هو كافر، فكفروه، هذا حكم به عامة الخوارج، بل كل  الخوارج.

ممن أكفره طائفة يقال لهم: الزيادية، أصحاب زياد بن عبد الرحمن.

والشيبانية يزعمون أن شيبان تاب من ذنوبه، وقالت الزيادية: إن ذنوبه كان منها مظالم للعباد لا تسقط بالتوبة، وإنه أعان أبا مسلم على قتاله مع الثعالبة كما أعانه على قتاله مع بني أمية.

قالوا: هذا ما تقبل توبته بهذه الطريقة، والذين بقوا معه قالوا: تاب.

طائفة الرشيدية:

من هؤلاء الثعالبة طائفة يقال لهم: الرشيدية، ينسبون إلى رجل اسمه رشيد، وقالوا: فيما سُقي -يعني: من الزرع- بالعيون والأنهار الجارية نصف العشر، وإنما يجب العشر الكامل فيما سقته السماء فحسب.

وخالفهم زياد بن عبد الرحمن، فأوجب فيما سقي بالعيون والأنهار الجارية العشر، يعني: كالذي سقي بالسماء؛ لأنه بدون تعب ومشقة.

فهذا حينما خالفهم، وقال بأنه يجب العشر الكامل فيما سقته العيون، وقال: لا تجوز البراءة ممن قال بأن فيه نصف العشر.

يعني: الذين خالفوهم، قال: لا نبرأ منهم، هذا خطأ، فقال رشيد الذي تنسب إليه الرشيدية: إن لم تجز البراءة منهم فإنا إذًا على قولهم ورأيهم ومذهبهم وعملهم، فافترقوا بذلك فرقتين، كفر بعضهم بعضًا.

مسألة فيما سقت العيون العشر أو نصف العشر!، إلى هذا الحد!.

طائفة المُكرَميّة:

الطائفة السادسة من هؤلاء الثعالبة يقال لهم: المُكْرَمية، أتباع أبي مكرم، زعموا أن تارك الصلاة كافر ليس لأجل ترك الصلاة، ولكن لجهله بالله ، وزعموا أن كل ذي ذنب هو جاهل بالله والجهل بالله كفر.

يعني: القضية ليست فقط الكبائر، كل صاحب ذنب فهو جاهل بالله، إذًا فهو كافر، بهذا الاعتبار.

فرفة الأباضية وفرقها:

من فرق هؤلاء الخوارج: الأباضية، هؤلاء يتفقون على القول بإمامة عبد الله بن أباض، وافترقوا فيما بينهم فِرقًا يجمعها القول بأن كفار هذه الأمة -يعنون المخالفين- برآء من الشرك والإيمان، وأنهم ليسوا مؤمنين ولا مشركين، ولكنهم كفار.

وأجازوا شهادتهم، وحرموا دماءهم في السر، واستحلوها في العلانية، وصححوا مناكحتهم والتوارث منهم، وزعموا أنهم في ذلك محاربون لله ولرسوله، لا يدينون دين الحق، وقالوا باستحلال بعض أموالهم دون بعض.

ثم افترق هؤلاء الأباضية فيما بينهم إلى أربع فرق: الحفصية، والحارثية، واليزيدية، وأصحاب طاعة لا يُراد الله بها.

طائفة اليزيدية:

اليزيدية هؤلاء هم أصحاب يزيد بن أُنيسة الذي قال بتولي المُحكِّمة الأولى قبل الأزارقة، وتبرأ ممن بعدهم إلا الأباضية فإنه يتولاهم، وزعم أن الله سيبعث رسولًا من العجم، ويُنزِّل عليه كتابًا من كتب السماء كُتبَ في السماء، وينزِّل عليه جملة واحدة هذا الكتاب، ويترك شريعة المصطفى ﷺ ويكون على ملة الصابئة المذكورة في القرآن.

وأيضًا يزيد هذا يتولى أهل الكتاب الذين يقرون بنبوة محمد ﷺ لكن يقولون: إنه بُعث للعرب خاصة، هذا موجود عند بعض أهل الكتاب.

فهو يتولاهم، وإن لم يدخلوا في الإسلام، وقال: إن أصحاب الحدود من موافقيه وغيرهم كفار مشركون، وكل ذنب صغير أو كبير فهو شرك.

إذًا القضية لا تختص بالكبائر، يعني: ليس كل الخوارج يقولون بأن فاعل الكبيرة كافر، هذا يقول به طوائف منهم.

طائفة الحفصية:

الحفصية من هؤلاء قالوا: بإمامة حفص بن أبي المقدام، الذي زعم أن بين الشرك والإيمان معرفة الله تعالى وحدها.
فمن عرفه، ثم كفر بما سواه من رسول، أو جنة، أو نار، أو عمل بجميع المحرمات من قتل النفس، واستحلال الزنا وسائر المحرمات فهو كافر بريء من الشرك.

ومن جهل بالله تعالى، وأنكره فهو مشرك، وتأول هؤلاء في عثمان ﷺ مثلما تأول الرافضة في أبي بكر وعمر، وزعموا أن عليًّا هو الذي أنزل الله فيه: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ[البقرة:204].

وأن عبد الرحمن بن ملجم هو الذي أنزل فيه: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ [البقرة:207] هذه الآية نازلة قبل أن يولد عبد الرحمن بن ملجم.

طائفة الحارثية:

من هؤلاء طائفة يقال لها: الحارثية، أتباع حارث بن مزيد الإباضي، وهم الذين قالوا في باب القدر بمثل قول المعتزلة، وزعموا أن الاستطاعة قبل الفعل، وأكفرهم سائر الأباضية في ذلك، وزعموا أنه لم يكن لهم إمام بعد المُحكِّمة الأولى إلا ابن إباض وبعده حارث بن مزيد الإباضي.

طائفة أصحاب طاعة لا يُراد الله بها:

الطائفة الأخرى: أصحاب طاعة لا يُراد الله بها، هذا اسم الفرقة الآن!

يزعمون أنه يصح وجود طاعات كثيرة مما لا يُراد بها وجه الله تعالى.

من الإباضية رجل يقال له: إبراهيم، دعا قومًا من أهل مذهبه إلى داره، وأمر جارية له كانت على مذهبه بشيء فأبطأت عليه -انظر كيف يختلفون الآن- فحلف ليبيعنها في الأعراب -هم عندهم هؤلاء الأعراب كفار، فقال له رجل منهم يقال له ميمون من العجاردة: كيف تبيع جارية مؤمنة إلى الكفرة؟

فقال له إبراهيم: إن الله تعالى قد أحل البيع، وقد مضى أصحابنا وهم يستحلون ذلك، فتبرأ منه ميمون، وتوقف آخرون منهم في ذلك، وكتبوا بذلك إلى علمائهم، فأجابوهم بأن بيعها حلال، وأنه يستتاب ميمون، ويستتاب من توقف في إبراهيم، هذا قول الآن العلماء، فصاروا في هذا ثلاث فرق: إبراهيمية وميمونية وواقفة.

هذا داعيهم على غداء، أو على عشاء الآن، وتأخرت الجارية، فحلف على أن يبيعها إلى الأعراب، فانقسموا إلى ثلاث فرق.

تبع إبراهيم على إجازة هذا البيع قوم يقال لهم: الضَّحّاكية، وأجازوا نكاح المسلمة من كفار قومهم في دار التُّقية، فأما في دار حكمهم فلا يستحلون ذلك.

وقوم منهم توقفوا في هذه المسألة، وقالوا: إن ماتت هذه المرأة لم نصلِّ عليها، ولم نأخذ ميراثها؛ لأنا لا ندري ما حالها.

وتبع بعد هؤلاء الإبراهيمية قوم يقال لهم: البَيْهَسيّة، أصحاب أبي بَيْهَس هَيْصَم بن عامر.

قالوا: إن ميمونًا كفر بأن حرم بيع الأمة في دار التُّقية من كفار قومنا، وكفرت الواقفة بأن لم يعرفوا كفر ميمون. كيف خفي عليهم أنه كافر؟ ومن لم يكفر الكافر فهو كافر، فكفروه.

وما عرفوا صواب إبراهيم أيضًا، يعني: ما عرفوا الحق من الباطل إذًا هم كفار، ما عرفوا حال هذا وهذا.

وكفر إبراهيم بأن لم يتبرأ من أهل الوقف، يعني: الذين توقفوا ما تبرأ منهم فهو كافر.

قالوا: وذلك أن الوقوف إنما يكون بما يسع على الأبدان، وإنما الوقوف على الحكم بعينه ما لم يوافقه أحد، فإذا وافقه أحد من المسلمين لم يسع من حضر ذلك إلا أن يعرف.

يعني: من عرف الحق ودان به، ومن أظهر الباطل ودان به، لابد أن تعرف أن هذا محق، وهذا مبطل، وإذا ما عرفت أو توقفت فالحكم بالردة، -نسأل الله العافية.

هؤلاء البَيْهسية قالوا: إن من واقع ذنبًا لم نشهد عليه بالكفر حتى يرفع إلى الحاكم، ويُحدّ، ولا نسميه قبل الرفع مؤمنًا ولا كافرًا.

هؤلاء يقول بعضهم بأن الإمام حاكم، إذا كفر كفرت الرعية جميعًا.

وأيضًا العوفية من البَيهسية انقسموا إلى فرقتين:

فرقة قالت: من رجع عنا من دار هجرته -يعني جاء إلينا ثم رجع أو رجع من الجهاد إلى حال القعود- برئنا منه.

وطائفة قالت: بل نتولاه؛ لأنه رجع إلى أمر كان مباحًا له.

وكل هؤلاء قالوا: إذا كفر الإمام كفرت الرعية، الغائب منهم والشاهد. -نسأل الله العافية.

من هؤلاء البَيهسية طائفة يقال لهم: أصحاب التفسير، فرقة يقال لهم: أصحاب التفسير، زعموا أن من شَهِد من المسلمين شهادة أُخذ بتفسيرها وكيفيتها.

طائفة أصحاب السؤال:

وطائفة من هؤلاء يقال لهم: أصحاب السؤال، قالوا: الرجل يكون مسلمًا إذا شهد الشهادتين، وتبرأ، وتولى.

يعني: تبرأ من غيرهم، وتولاهم، وآمن بما جاء من عند الله جملة، وإن لم يعلم فيسأل ما افترض الله عليه، ولا يضره أن لا يعلم حتى يُبتلى به فيسأل، وإن واقع حرامًا يعلم تحريمه فقد كفر، ليست القضية مختصة بالكبيرة.

وقالوا بمثل قول الثعلبية في الأطفال، ووافقوا القدرية في القدر، وقالوا بأن الله تعالى فوض إلى العباد ولا مشيئة له في أفعال العباد، فبرئت منهم عامة البَيهسية.

طائفة الشَّبيبية:

طائفة من هؤلاء يقال لهم: الشَّبيبية، ينتسبون إلى رجل يقال له شبيب بن يزيد الشيباني، المكنى بأبي الصحاري، هؤلاء أيضًا يعرفون بالصالحية لانتسابهم إلى صالح بن مِشْرح الخارجي، وكان شبيب من أصحاب صالح، ثم تولى الأمر بعده على جنده.

ذكر أصحاب التواريخ أن شبيبًا هذا في ابتداء أمره قصد الشام، ونزل على رَوح بن زنباع.

لاحظ بداية المشكلة، فنزل على رَوح بن زنباع، ورَوح بن زنباع هذا له منزلة عند عبد الملك بن مروان.

وقال له: سل لي أمير المؤمنين، لاحظ: أمير المؤمنين، سل لي أمير المؤمنين أن يفرض لي في أهل الشرف. يعني: هؤلاء من زعماء القبائل والعشائر، أو نحو ذلك يُعطوَن بعض المال أكثر من غيرهم.

قال: فإن لي في بني شيبان تبعًا كثيرًا، فسأل رَوح بن زنباع عبد الملك بن مروان.

فقال عبد الملك: هذا رجل لا أعرفه، وأخشى أن يكون حروريًّا، فذكر رَوح ذلك لشبيب، قال: عبد الملك يقول: أنا لا أعرفه، قال: سيعرفني بعد هذا.

فحقد عليه ورجع إلى قومه بني شيبان، وجمع من الخوارج الصالحية مقدار ألف، واستولى بهم على ما بين كَسْكر والمدائن.

فبعث إليه الحجاج بعبيد الله بن أبي المَخارق في ألف فارس، فهزمه شبيب، فوجه إليه بعبد الرحمن بن   محمد بن الأشعث، فهزمه شبيب، فوجّه بعتّاب بن وَرْقاء، فقتله شبيب، وما زال على ذلك حتى هزم للحجاج عشرين جيشًا.

وكانت القضية في منشئها أنه يريد شيئًا من المال.

فحمله المنع على ركوب هذه العظائم، هزم للحجاج عشرين جيشًا في مدة سنتين، وقيل: إنه قتل له عشرين قائدًا.

ثم إنه كبس الكوفة ليلاً، ومعه ألف من الخوارج، ومعه أمه غزالة وامرأته في مائتين من نساء الخوارج قد اعتقلن الرماح، وتقلدن السيوف، فلما كبس الكوفة ليلاً قصد المسجد الجامع، وقتل حراس المسجد، والمعتكفين فيه ونصب أمه غزالة على المنبر حتى خطبت، وصلى بأصحابه في المسجد صلاة الفجر، وقرأ فيها سورتي البقرة وآل عمران، ثم خرج إليه الحجاج بأربعة آلاف، واقتتل الفريقان في سوق الكوفة إلى أن قُتل كثير من أصحاب شبيب، وانهزم شبيب فيمن بقي معه إلى الأنبار، فوجه الحجاج في طلبه جيشًا، فهزموا شبيبًا هذا إلى الأهواز، وبعث الحجاج قائدًا ومعه ثلاثة آلاف من المقاتلين لطلب شبيب، فنزل عند شط الدُّجيل، وركب شبيب جسر الدُّجيل ليعبر فهذا القائد أمر أصحابه بقطع حبال الجسر، فاستدار الجسر، وغرق شبيب مع فرسه وهو يقول: ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ [الأنعام:96].

إلى آخر لحظة، هذا الخارجي يغرق مع فرسه، ومن غير أي إظهار للندم، أو الرجوع أو الضعف!.

فبايع أصحابه في الجانب الآخر -الذين عبروا- غزالة أم شبيب، فتابعهم جند الحجاج، وقتلوا أكثرهم وقُتلت غزالة وزوجة شبيب، وأُسر الباقون، وغاص قوم من الجند فأخرجوا جثة شبيب، ثم بعثوا بهؤلاء الأسرى إلى الحجاج، فأمر بقتل رجل منهم.

انظروا ماذا قال!، انظروا الجلد على الباطل! -وسيأتي نماذج من الجلد على الباطل، هذا الرجل قال للحجاج والحجاج صاحب بطش، ومن يجرؤ على الحجاج وقد أمر بقتل هذا الرجل؟.

فقال: اسمع مني بيتين أختم بهما عملي. الآن ماذا سيقول؟ سيتشهد؟ سيتوب؟ لا، قال:

 أبرأ إلى الله من عمرٍو وشيعته ومن عليٍّ ومن أصحاب صِفِّينِ

يعني عمرو بن العاص.

ومـن معاويةَ الطاغي وشيعتِه  لا بارك اللهُ في القوم الملاعـين[4]

هذا الذي ختم فيه حياته -نسأل الله العافية، انظر إلى الخاتمة، يموت على الضلالة والباطل، فأمر الحجاج بقتله، وقتل جماعة منهم، وأطلق الباقين.

السمة الثانية من خواص أهل الأهواء أصحاب التفرق والاختلاف: أنهم يتبعون المتشابه، كما قال الله فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ [آل عمران:7].

والكلام في المتشابه يطول، والنبي ﷺ قال: إذا رأيتم الذين يتّبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمّى الله، فاحذروهم[5].

وقد تكلمت على اتباع المتشابه في الكلام على موضوع آخر، في مجالس أخرى في الكلام على خواص أهل الأهواء والبدع.

السِّمة الثالثة التي تجمع هؤلاء جميعًا أهل الافتراق وهي: اتباع الهوى، كما قال الله فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ [آل عمران:7] وهو الميل عن الحق اتباعًا للهوى.

وقال: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ [القصص:50]، أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ [الجاثية:23].

فهذه من خصائصهم، ولهم سمات أخرى -على كل حال- وذلك كاتباع الظن إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ [الأنعام: 116].

وكذلك اتخاذ رءوس من الجُهّال، كما قال النبي ﷺ: إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من الناس، ولكن يقبض العلماء، حتى إذا لم يترك عالمًا اتخذ الناس رؤساء جُهالاً، فسئلوا، فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا[6].

سماتهم كثيرة لا أطوِّل بذكرها؛ فليس الحديث في هذه المجالس عن السمات، بخلاف سمات أهل السنة، انظروا مثلاً ما ذكره قَوّام السنة في كتابه: "الحجة في بيان المحجة" ماذا يذكرون من سِمات أهل السنة،

وينبغي أن نعرض أنفسنا على هذه السمات، وكما قلت لكم: هذا الحديث موجه إلينا، نحن نعظ به أنفسنا ونُذكّر أنفسنا ونتبصّر به، نحن لا نتحدث عن قوم آخرين. 

يقول: "من مذهب أهل السنة: التورع في المآكل، والمشارب، والمناكح، والتحرز من الفواحش والقبائح، والتحريض على التحاب في الله، واتقاء الجدال، والمنازعة في أصول الدين، ومجانبة أهل الأهواء والضلالة، وهجرهم ومباينتهم، والقيام بوفاء العهد والأمانة، والخروج من المظالم والتبعات، وغض الطرف عن الريبة والحرمات، ومنع النفس من الشهوات، وترك شهادة الزور، وقذف المحصنات، وإمساك اللسان عن الغيبة والبهتان، والفضول من الكلام، وكظم الغيظ، والصفح عن زلل الإخوان، والمسابقة إلى فعل الخيرات، والإمساك عن الشبهات، وصلة الأرحام، ومواساة الضعفاء، والنصيحة في الله، والشفقة على خلق الله، والتهجد لقيام الليل لاسيما لحملة القرآن، والبَدار إلى أداء الصلوات ..."[7]إلى آخر ما ذكر.

وذكر علامات أخرى يقول: "لمحبة أهل السنة علامة ولبغض أهل البدعة علامة: إذا رأيت الرجل يذكر مالك بن أنس، وسفيان بن سعيد الثوري، وعبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي، وعبد الله بن المبارك، ومحمد بن إدريس الشافعي، والأئمة المرضيين بخير فاعلم أنه من أهل السنة.

وإذا رأيت الرجل يخاصم في دين الله، ويجادل في كتاب الله، فإذا قيل له: قال رسول الله ﷺ قال: حسبنا كتاب الله، فاعلم أنه صاحب بدعة يرد السنة

إذا رأيت الرجل يخاصم في دين الله، ويجادل في كتاب الله، فإذا قيل له: قال رسول الله ﷺ قال: حسبنا كتاب الله، فاعلم أنه صاحب بدعة يرد السنة.

وإذا رأيت الرجل إذا قيل له: لم لا تكتب الحديث؟ يقول: العقل أولى، فاعلم أنه صاحب بدعة، وإذا رأيته يمدح الفلسفة، وما إلى ذلك، ويمدح الذين ألفوا الكتب فيها، فاعلم أنه ضال، وإذا رأيت الرجل يسمي أهل الحديث حشوية أو مشبهة، أو ناصبة، فاعلم أنه مبتدع، وإذا رأيت الرجل ينفي صفات الله أو يشبهها بصفات المخلوقين، فاعلم أنه ضال"[8].

هذه بعض السمات، هذا يذكره العلماء في كتب العقائد، فيحتاج العبد إلى أن ينظر في حاله، ولسنا بحاجة إلى أن نقول اليوم: إذا رأيت الرجل يحب فلانًا وفلانًا فاعلم أنه من أهل السنة.

هذه جملة من الأسباب التي ترجع إلى منهج النظر والتلقّي والاستدلال.

أمور ترجع إلى الناظر:

فأول ذلك: إذا تصدر أو تكلم من لا يُحسِن. فهذا يفسد أكثر مما يصلح، إذا وُسد الأمر إلى غير أهله، وقد ذكر الشاطبي -رحمه الله- أن الاختلاف في القواعد الكلية لا يقع بين المتبحرين في علم الشريعة العالمين بمواردها ومصادرها، بدليل اتفاق العصر الأول، وعامة الثاني.

يقول: "فلما وُسد الأمر إلى غير أهله، وتصدر للفتيا والتدريس كل من وجد في نفسه زيادة فهم وفضل ذكاء، ولكن لم ترسخ قدمه في العلم وقع الافتراق"[9].

وقد عد أهل العلم -كما يقول الشاطبي- من البلايا أن يعتقد الإنسان في نفسه أو يُعتقد فيه أنه من أهل العلم والاجتهاد ولم يبلغ ذلك، فيعمل على ذلك.

يعني: يجعل نفسه بهذه المنزلة، ويعدّ رأيه بجملة آراء أهل الاجتهاد.

يقول: "فتراه آخذًا ببعض جزئيات الشريعة في هدم كلياتها"، هو التصور عنده ناقص، فيأخذ ببعض الجزئيات يهدم بها الكليات.

يقول: "وقد بكى ربيعة -يعني شيخ الإمام مالك، ربيعة بن عبد الرحمن- فسُئل فقال: استُفتي من لا علم له وظهر في الإسلام أمر عظيم، وقال-يعني ربيعة: لَبعض من يفتي هنا أحق بالسجن من السُّراق"[10].

لأن هذا يفسد الدين.

ابن حزم يذكر أنه قد يحمل اسم التقدم في الفقه في بلد ما عند العامة من لا خير فيه، ومن لا علم عنده ومن غيره أعلم منه يقول: "وقد شهدنا نحن قومًا فُساقًا حملوا اسم التقدم في بلدنا، وهم ممن لا يحل لهم أن يفتوا في مسألة من الديانة، ولا يجوز قبول شهادتهم"[11].

يعني ما تُقبل شهادته فضلاً عن أن يكون بهذه المنزلة.

والحافظ ابن القيم -رحمه الله- تكلم على هذا المعنى وذكر أن الله -تبارك وتعالى- أقام لكل عالم ورئيس وفاضل من يُظهر مماثلته -يعني يحاكيه- ويرى الجهال -وهم الأكثرون- مساجلته، يرون أن هذا نظير لفلان، وعلى طراز فلان، وأنه يجري معه في الميدان، وأنهما عند المسابقة كفرسي رهان.

يقول: لاسيما إذا طوّل الأردان، وأرخى الذوائب الطويلة وراءه كذنب الأتان، وهذر باللسان، وخلا له الميدان الطويل من الفرسان.

يقول:

فلو لبس الحمارُ ثيابَ خزٍّ لقال الناسُ يا لكَ من حمارِ

يقول: وهذا الضرب إنما يُستفتون بالشكل لا بالفضل، وبالمناصب لا بالأهلية، وقد غرهم عكوف من لا علم عنده عليهم، ومسارعة من أجهل منهم إليهم، تعج منهم الحقوق إلى الله تعالى عجًّا عجيبًا، وتضج منهم الأحكام إلى من أنزلها ضجيجًا[12].

هؤلاء أرباع المتعلمين وأنصاف المتعلمين.

وقد ذكر الشوكاني -رحمه الله- في "البدر الطالع" في ترجمة أحد علماء اليمن، يقال له علي بن قاسم متوفى سنة ألف ومائتين وتسع عشرة، ذكر عن هذا العالم كلامًا جيدًا.

يقول: "الناس على طبقات ثلاث: الطبقة العالية، وهم العلماء الأكابر، وهم يعرفون الحق والباطل، وإن اختلفوا لم ينشأ عن اختلافهم الفتن لعلمهم بما عند بعضهم بعضًا".

هذا اختلاف العلماء الذين يحملون العلم الحقيقي، وقد رسخت أقدامهم فيه.

الطبقة السافلة يقول: "العوام على الفطرة، لا ينفرون عن الحق وهم أتباع من يقتدون به، إن كان مُحِقًّا كانوا مثله وإن كان مُبطِلاً كانوا كذلك".

هؤلاء ليست منهم المشكلة، أين المشكلة؟ الطبقة المتوسطة هذه.

يقول: "وهم منشأ الشر، وأصل الفتن الناشئة في الدين، وهم الذين لم يُمعنوا في العلم حتى يرتقوا إلى رتبة الطبقة الأولى، ولا تركوه حتى يكونوا من أهل الطبقة السافلة، فإنهم إذا رأوا أحداً من أهل الطبقة العليا يقول ما لا يعرفون مما يخالف عقائدهم التي أوقعهم فيها القصور فَوّقوا إليه سهام التقريع ونسبوه إلى كل قول شنيع، وغيروا فطر أهل الطبقة السفلى -يعني العامة- عن قبول الحق بتمويهات باطلة، فعند ذلك تقوم الفتن الدينية على ساق"[13].

تقوم الفتن على ساق، حينما يوجد هؤلاء الذين تحصرموا ولم يتزبّبوا بعدُ.

فهؤلاء لا يحتملون المخالفة، ولهم شيء من النظر والمطالعة، فإذا اطلعوا على مخالفة لعالم أو نحو ذلك فإنهم يقيمون الدنيا، يقيمون الشناعة، فهؤلاء هم منشأ الفتن والمشكلات، ومن أعظم أسباب الافتراق والانقسام على أمور لا توجب ذلك.

من الأسباب: الإفراط والتفريط:

وانظروا إلى الطوائف والفرق التي خرجت، أصول الفرق، الخوارج مثلاً غلو في فهم آيات الوعيد، وأعرضوا عن آيات الرجاء والوعد بالمغفرة والتوبة، فماذا حصل؟

قابلهم المرجئة فقالوا: لا يضر مع الإيمان ذنب.

في باب الأسماء، الخوارج يقولون: فاعل الكبيرة كافر، هذا يقول به طوائف منهم، والمرجئة يقولون: لا يضر مع الإيمان ذنب، وهو مؤمن كامل الإيمان، إيمانه كإيمان جبريل .

المعتزلة قالوا: منزلة بين المنزلتين.

الشيعة غلو في عليٍّ وفي الأئمة حتى أوصلوهم إلى مرتبة العصمة، قابل هؤلاء النواصب الذين عابوا وذموا عليًّا وعادوه.

فدين الله وسط -كما يقول شيخ الإسلام -رحمه الله- بين الغالي فيه والجافي عنه، والله تعالى ما أمر بأمر إلا اعترض الشيطان فيه بأمرين لا يبالي بأيهما ظفر، إما إفراط فيه، وإما تفريط فيه[14].

يقول: إذا كان على عهد النبي ﷺ وخلفائه الراشدين قد انتسب إلى الإسلام من مرق منه مع عبادته العظيمة، حتى أمر النبي ﷺ بقتالهم؛ فيُعلم أن المنتسب إلى الإسلام أو السنة في هذه الأزمان قد يمرق أيضًا من الإسلام والسنة، حتى يدعي السنة من ليس من أهلها، بل قد مرق منها، وذكر أن من أعظم أسباب هذا: الغلو. يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ [النساء:171]، والنبي ﷺ يقول: إياكم والغلو في الدين؛ فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين[15]هذا الغلو، هذا الإفراط أو التفريط قد يكون في الأحكام كما قلنا: الوعيدية والمرجئة.

في الأسماء: الخوارج، المعتزلة، المرجئة، يعني: تكفير فاعل الكبيرة مثلاً، أو أنه بمنزلة بين المنزلتين، أو أنه كامل الإيمان، هذا إفراط وهذا تفريط.

وهذا الغلو كما أنه يكون في أحكامنا قد يكون أيضًا في بعض الشيوخ، فتجد المبالغات، وتجاوز الحد، يغلو بشيخه، أو بمن يحب، فيوصله إلى مرتبة يبالغ في وصفه، بل قد يجعله بمرتبة لا تصلح إلا لله .

الذين غلو في عليٍّ أو الذين غلو في المسيح من النصارى، فعبدوه من دون الله، فالحب قد يزيد.

المشكلة أن هؤلاء الذين لا يتَّزنون في مثل هذه المحبة أنهم أيضًا قد يتحولون إلى الطرف الآخر تمامًا.

هؤلاء الذين يبالغون في المدح والمحبة، قد ينقلب عليك لأتفه سبب أو لأدنى مخالفة، ثم تتحول عنده إلى شيطان مارد، في الأول: أوصاف يبالغ فيها، ثم بعد ذلك تحول إلى شيطان رجيم، هذا كله من الإفراط والتفريط.

التاريخ مليء وكتب التراجم مليئة بالمبالغات، هذا يقول: عندنا بخرسان يظنون أن الإمام أحمد لا يشبه البشر، يظنون أنه من الملائكة.

آخر يقول: نظرة عندنا من أحمد تعدل عبادة سنة.

الذهبي -رحمه الله- يقول: هذا غلو لا ينبغي، لكن الباعث له حب ولي الله في الل[16].

الإمام أحمد إمام عظيم، والصدِّيق الثاني، من أئمة أهل السنة، ولكن أيضًا مثل هذا الكلام: يظنون أنه من الملائكة، هذا فيه غلو.

وهكذا من هذه النماذج: أن إمام الحرمين الجويني لما مات غُلقت الأسواق، يقولون: وكسر أربعمائة من تلاميذه محابرهم وأقلامهم، وجلسوا عامًا لا يغطون رءوسهم يطوفون في البلد نائحين عليه، مبالغين في الصياح والجزع[17].

هذا لا يجوز، هذه مبالغة، هذا غلو، فهذا غلو في المحبة. 

وقد يكون الغلو بالكراهية والبغض، من الأمثلة أن طلاب العلم في مجلس أبي بكر الذَّكْواني لما فرغوا من الكتابة عنه، دعا أحدهم أصحابه لحضور مجلس أبي نعيم.

وأبو نعيم -رحمه الله- كان قد تأثّر بشيءٍ من العلوم الكلامية، ومقالة أهل الكلام.

وكان الحنابلة قد هجروه، وكانت هناك أمور، فلما سمع بعض من يُنسب إلى الحديث وليس هؤلاء بأهل علم، وإنما بعض من ينتسب إليهم ممن يسيء إليهم بسوء تصرفه وجهله، قاموا إلى الداعي الذي قال: نحضر الدرس، وبأيديهم السكاكين التي يبرون بها أقلامهم، وكاد الرجل أن يقتل.

يقول الذهبي -رحمه الله: ما هؤلاء بأصحاب حديث، بل فجرة جهلة، أبعد الله شرهم[18].

يعني: أهل الحديث ينزهون عن هذا، ليست هذه هي أخلاقهم، ولكن يوجد من ينتسب إليهم، ويكون بهذه المثابة.

كذلك أيضًا أحيانًا المبالغة في تحقير المخالف، والغمط منه، وما إلى ذلك.

هذا أحد فقهاء العراق من الأحناف ذهب إلى الحج، ولما رجع قال مُبشرًا لأهل الكوفة الذين على مذهبه: أبشروا يا أهل الكوفة، فإني قدمت على أهل الحجاز فرأيت عطاء وطاوسًا ومجاهدًا، فصبيانكم بل صبيان صبيانكم أفقه منهم[19].  

إلى هذا الحد؟!، صبيانكم وصبيان صبيانكم أفقه من هؤلاء الأئمة علماء التابعين؟!.

وهكذا قد يحمل هذا الإفراط في البغض والمخاصمة والعداوة أن يُنسب إلى الإنسان ما هو بريء منه.

يذكر عن بعضهم أن ابن كُلّاب، وهو من رءوس المتكلمين في البصرة، أنه إنما ابتدع ما ابتدعه من القضايا الكلامية ليدس دين النصارى في ملتنا، وأنه أرضى أخته بذلك.

يقول الذهبي: وهذا باطل، والرجل أقرب المتكلمين إلى السنة[20].

يعني: لا يتورع أحيانًا هذا المبالغ من قذف أعراض الناس، أو رميهم بالتهم الكبار على سبيل الغلو في البغض، وهكذا في أمثلة كثيرة لا نطوِّل بذكرها.

الثالث من أسباب التفرق: اتباع الظن وما تهوى الأنفس:

وقد ذكر شيخ الإسلام -رحمه الله- أن عامة التفرق والاختلاف إنما هو بسبب اتباع الظن وما تهوى الأنفس. وأن السبيل إلى علاج ذلك هو سلوك سبيل العلم، والقيام بالقسط، ولو على حساب النفس والأقربين[21].

لا يتكلم أحد إلا بعلم في دين الله ، وفيمن يتكلم فيه، إذا كان لا يعرف حاله، ما سمع منه، ما جلس معه، كيف يتكلم فيه بالظنون الكاذبة؟.  

وكذلك القيام بالقسط -كما سيأتي- والله -تبارك وتعالى- يقول: إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ [الأنعام:159].

يقول شيخ الإسلام: "فكيف يجوز مع هذا لأمة محمد ﷺ أن تفترق وتختلف حتى يوالي الرجل طائفة، ويعادي طائفة أخرى بالظن والهوى، بلا برهان من الله تعالى"[22].

هات برهانًا، لماذا تبغض هذا؟ لماذا تتكلم في عرضه؟ لماذا تعاديه؟

يقول: "وقد بَرّأ الله نبيه ﷺ ممن كان هكذا، فهذا فعل أهل البدع كالخوارج الذين فارقوا جماعة المسلمين، واستحلوا دماء من خالفهم.

وأما أهل السنة والجماعة فهم معتصمون بحبل الله وأقل ما في ذلك -يعني هذا الإنسان الذي عنده نوع من اتباع الهوى- أن يفضل الرجل من يوافقه على هواه وإن كان غيره أتقى لله منه، وإنما الواجب أن يقدم من قدمه الله ورسوله، ويؤخر من أخره الله ورسوله، ويحب ما أحبه الله ورسوله، ويبغض ما أبغضه الله ورسوله، وينهى عما نهى الله عنه ورسوله، وأن يرضى بما رضي الله به ورسوله، وأن يكون المسلمون يدًا واحدة، فكيف إذا بلغ الأمر ببعض الناس أن يضلل غيره ويكفره، وقد يكون الصواب معه وهو الموافق للكتاب والسنة؟.

يقول: "ولو كان أخوه المسلم قد أخطأ في شيء من أمور الدين فليس كل من أخطأ يكون كافرًا ولا فاسقًا، بل قد عفا الله لهذه الأمة عن الخطأ والنسيان، وقد قال تعالىرَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا [البقرة:286].

وثبت في الصحيح أن الله قال: قد فعلت[23].

يقول: "لاسيما وقد يكون من يوافقكم في أخص من الإسلام مثل أن يكون مثلكم... ". إلى آخر ما يقول.

يقول: "ثم بعد هذا قد يخالف في شيء وربما كان الصواب معه، فكيف يُستحل عرضه ودمه، أو ماله مع ما قد ذكر الله تعالى من حقوق المسلم والمؤمن؟.

وكيف يجوز التفريق بين الأمة بأسماء مبتدعة لا أصل لها في كتاب الله، ولا سنة رسوله ﷺ؟[24].

هذا كذا، وهذا كذا، وهذا كذا، وطحن في هذه الأمة، وتمزيق وتشقيق -نسأل الله العافية، لا يسلم من ذلك أحد لا كبير ولا صغير.

ومن سلم من هذا لا يسلم من هذا، ومن سلم من ذاك لا يسلم من الآخر -نسأل الله العافية، وهذا يورث البغي، وهو:

الرابع من هذه الأسباب: البغي الذي يكون به العدوان.

قد يكون هذا الاندفاع بحسن نية ورغبة في نصرة الحق،يوجد جيل يقرأ ويغار على الدين، ويطالع ويحضر بعض الدروس، ويقرأ عن سير الأئمة، ثم بعد ذلك يريد أن تكون الأمور بالمسطرة، كل شيء بحد دقيق لا يخرج عنه أحدٌ أدنى خروج لا باجتهاد، ولا تأويل، ولا خطأ، ولا جهل، فإذا رأى من أحدٍ أدنى مخالفة زهد فيه، وزهّد الناس فيه، وصار يعيبه في المجالس، ويتكلم في حقه، ويستحل عرضه ويغتابه.  

هذا اجتهد، هذا إنسان عنده فضائل كثيرة، عنده علم كثير، لا نعلم أنه يتبع الهوى، له رأي في المسألة الفلانية، انتهى، افتح له هاشتاج ثم بعد ذلك تصوب إليه السهام، يا أخي خالفك.   

هب أن هذا الإنسان قال شيئًا، وأنا لا أحب أن أمثل لكن أقول: قد يقول في مسألة فقهية، أو مسألة من المسائل الواقعية يكون له رأي فيها.

ثم بعد ذلك لا يحتمل منه هذا الخطأ لسبب أو لآخر، لأننا مثلاً عهدنا واعتدنا على سماع كلام في هذه القضية، ولا نحتمل المخالفة فيها.

الآن لو جاء من أفتى مثلاً وقال بأن الشيء الفلاني يجوز، ونحن اعتدنا على أن هذا غير جائز، هو ليس له أن يثير هذه الفتاوى الغريبة، لكن اجتهد فأخطأ.

هنا تقوم الشناعة، لكن من الذين يفعلون هذه الشناعة؟ ليسوا العامة، وليسوا من العلماء الراسخين في العلم، وإنما من الطبقة هذه الوسط الذين قال عنهم هذا الشيخ من شيوخ الشوكاني: إنهم أصل الشر ومنشأ الفتن.

افتح له هاشتاج وابدأ، فيُمحى كل فضل، وكل خير وكل علم، وكل معروف ويُجهّل ويُرمى بالعظائم؛ لأنه خالفنا في هذه المسألة الفقهية أو خالفنا في الموقف من القضية الفلانية التي حصلت.

حصل موقف فهذا رفضه أو وافقه أو غير ذلك، يُنهَى تمامًا، هكذا نفعل بأنفسنا، ونسقط أهل العلم فينا، وما من أحد إلا ويخطئ، فهذا يسقط بهذه القضية، وهذا يسقط بهذه القضية، وهذا يسقط بهذه القضية.

ويجترئ كل أحد، ثم بعد ذلك يصير العالِم في حال من المهانة في نفوس الناس، بل قد يعاديه بعضهم لله وفي الله بزعمه، والسبب أنه أخطأ في هذه المسألة التي لا توجب شيئًا من ذلك.

غاية ما هنالك أنه اجتهد يا أخي، الرجل غير متبع للهوى، ثم ماذا؟ فللأسف ليس هناك ميزان ولا معيار توزن به الأمور ويوزن به الناس لدى كثيرٍ منا.

ثم دعك من الأسلوب والطريقة التي نتعامل بها طريقة قاسية، طريقة عنيفة، وعبارات مؤلمة وجارحة لا تصلح لأفجر الناس تقال لخيار الناس، أهل الفضل وأهل العلم وأهل الدين من لهم أيادٍ بيضاء وجهود ونصح للأمة يُتعامل معهم بهذه الطريقة لخطأ؟، لتقصير في نظرنا؟، هذا لا يجوز بحال من الأحوال.

  1. الفرق بين الفرق (ص:70).
  2. انظر: تاريخ دمشق لابن عساكر (43/ 495).
  3. الفرق بين الفرق (ص:18).
  4. انظر فرق الخوارج في كتاب الفرق بين الفرق (ص:74-92).
  5. أخرجه البخاري، كتاب تفسير القرآن، بَابُ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ [آل عمران:7] (6/ 33)، رقم: (4547)، ومسلم، كتاب العلم، باب النهي عن اتباع متشابه القرآن، والتحذير من متبعيه، والنهي عن الاختلاف في القرآن (4/ 2053)، رقم: (2665).
  6. أخرجه البخاري،  كتاب العلم، باب: كيف يقبض العلم (1/ 31)، رقم: (100)، ومسلم، كتاب العلم، باب رفع العلم وقبضه وظهور الجهل والفتن في آخر الزمان (4/ 2058)، رقم: (2673).
  7. انظر: الحجة في بيان المحجة (2/ 571-571).
  8. انظر: المصدر السابق (2/ 539-540).
  9. انظر: الاعتصام للشاطبي (2/ 680).
  10. انظر: جامع بيان العلم وفضله (2/ 1225)، رقم: (2410)، والاعتصام للشاطبي (2/ 680).
  11. الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم (6/ 167).
  12. انظر: إعلام الموقعين عن رب العالمين (4/ 159- 160).
  13. البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع (1/ 473).
  14. انظر: مجموع الفتاوى (3/ 381).
  15. أخرجه النسائي، كتاب مناسك الحج، باب: التقاط الحصى (5/ 268)، رقم: (3057)، وابن ماجه، كتاب المناسك، باب قدر حصى الرمي (2/ 1008)، رقم: (3029).
  16.  سير أعلام النبلاء (11/ 211).
  17. وفيات الأعيان (3/ 170)، وسير أعلام النبلاء (18/ 476).
  18. سير أعلام النبلاء (17/ 460).
  19. المصدر السابق (5/ 235).
  20. المصدر السابق (11/ 175).
  21. بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية (1/ 435).
  22. مجموع الفتاوى (3/ 419-420).
  23. أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان قوله تعالى: وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ [البقرة: 284] (1/ 116)، رقم: (126).
  24. مجموع الفتاوى (3/ 421).

مواد ذات صلة