الثلاثاء 17 / جمادى الأولى / 1446 - 19 / نوفمبر 2024
(08) مواصلة الأسباب التي جعلت الأمة تختلف هذا الاختلاف المذموم
تاريخ النشر: ٠٨ / ذو القعدة / ١٤٣٥
التحميل: 9366
مرات الإستماع: 2321

المقطع المرئي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فنواصل الحديث عن هذا الجانب من أسباب الاختلاف والتمزق والتفرق والتطاحن، وهو البغي.

هذا البغي قد يقودنا إليه ويوقعنا فيه بعضُ من نقتدي به من المتبوعين.

من أمثلة ذلك: في بغداد قديمًا كان رجل من أهل العلم يقال له: أبو جعفر الهاشمي في القرن الخامس الهجري، كان شديدًا على المبتدعة، وكما يقول الذهبي: كان منقطعًا إلى العبادة وخشونة العيش والصلابة في مذهبه، حتى أفضى ذلك إلى مسارعة العوام إلى إيذاء الناس، وإقامة الفتن، وسفك الدماء، وسب العلماء فحبس[1].

فهذا الاندفاع غير الموزون تجاه المخالفين قد يورث الفتن، قد يحصل شيء من البغي، ولذلك على الإنسان أن يتقي ربه -تبارك وتعالى.  

وأن يحاسب نفسه على كل ما يقول وما يفعل، ولا يغتر بأن شيخه يسارع في مثل هذه الأمور، ويطلق لسانه فيمن اختلف معه، ويرميه بالعظائم، هذا لا يجوز.

وقد ذكر أيضًا ابن الجوزي -رحمه الله- واقعة مشابهة لبعض ما يجري من بعض طلاب العلم، أنه في سنة خمسٍ وخمسين وخمسمائة، يقول: مُنع المحدِّثون من قراءة الحديث في جامع القصر، ما السبب؟

يقول: إن صبيانًا من الجهلة قرءوا شيئًا من أخبار الصفات، ثم أتبعوا ذلك بذم المتأولين وكتبوا على جزء من تصانيف أبي نعيم اللعن له والسب، فبلغ ذلك أستاذ الدار، فمنعهم من القراءة[2]. يعني هذا التصرف، لَعْن هذا العالم وكتابة ذلك على بعض كتبه، عبارات، يلعنون أبا نعيم صاحب الحلية، ويسبونه، فأدى ذلك إلى إيقاف قراءة الحديث بسبب هذا التصرف الذي هو من جملة البغي.

وشيخ الإسلام -رحمه الله- يذكر أن هذا الاختلاف الكثير الذي وقع وخولف فيه الأصل الكبير وهو الجماعة والمحافظة عليها، فأوقع الفرقة، والتقاتل، والتكفير والتلاعن والتباغض، وغير ذلك، يقول: هذا الباب أصله المحرم فيه من البغي، فإن الإنسان ظلوم جهول، كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ [البقرة:213].

هذا البغي قد يكون لمنافسة، لحسد بين أقران، قد يكون لحسد من غير الأقران، كون هذا الإنسان تميز، كون هذا الإنسان صار له ملكة في العلم، في الفقه، في الحديث، في غير ذلك، صار له أتباع وطلاب كثير، أو نحو هذا، فهو يحسده على أن يتابعه مثلاً هذا العدد في تويتر، هذا الأمر لا ينظر إليه من أراد الله والدار الآخرة؛ لأنه لا يلتفت إلى مثل هذه الأمور، بل يفرح إذا انتشر الخير على يده أو على يد غيره.

وهذا الإنسان الذي قد تُشن عليه الغارة يقول شيخ الإسلام: "قد يكون ذلك الخطأ الذي وقع فيه من باب التأويل والاجتهاد الذي يكون الإنسان فيه مستفرغًا وسعه، علمًا وعملاً" والله المستعان، والله يقول: رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا [البقرة: 286].

يقول: "وإذا كان كذلك فينبغي أن يُعلم أن للقلوب قدرة في باب العلم والاعتقاد العلمي، وفي باب الإرادة والقصد، وفي الحركة البدنية أيضًا"[3].

يعني: يقول: الإنسان له طاقة عقلية، قدرات عقلية وقدرات علمية وقدرات بدنية، فما خرج عن طاقته وقدرته فهو معذور لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا [الطلاق:7]، لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:233]، وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج:78].

يقول: "فالخطأ والنسيان هو من باب العلم، يكون إما مع تعذر العلم عليه، أو تعسره عليه"، فمثل هذا كما قال الله يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [البقرة:185]، فلا يكلفه فوق ما يطيق.

وهكذا فيما يتعلق بالمدارك العقلية والإمكانات في الفهم والتحصيل، فقد لا يفهم ما فهمت، وقد لا يبلغ ذلك ولا يصل إليه، فهذا يكون معذورًا ولا يلام.

ولكن البغي هو الذي يحمل على الإساءة والظلم والتجني والعدوان، يقول: "ثم إنه من مسائل الخلاف ما يتضمن أن اعتقاد أحدهما يوجب عليه بغض الآخر ولعنه".

يقول: أحيانًا يظن أنه يلزمه شرعًا أن يبغض هذا المخالف، وأن يفسّقه أو أن يكفره، أو نحو ذلك، يتخذ منه موقفًا.

يقول: "وهذه حال البغاة المتأولين مع أهل العدل، سواء كان ذلك بين أهل اليد والقتال من الأمراء ونحوهم، أو بين أهل اللسان والعمل من العلماء والعبّاد ونحوهم، وبين من يجمع الأمرين، ولكن الاجتهاد السائغ لا يبلغ مبلغ الفتنة والفرقة إلا مع البغي، لا لمجرد الاجتهاد"[4].

هذه الاختلافات الموجودة بين المنتسبين إلى السنة اليوم، هي اختلافات من باب الاجتهاد، فما الذي حول ذلك إلى حروب طاحنة؟ هو البغي، وإلا فإنه لا يوجد ما يوجب ذلك، والله المستعان.

يقول: "وكل ما أوجب فتنة وفرقة فليس من الدين، سواء كان قولاً أو فعلاً، ولكن المصيب العادل عليه أن يصبر عن الفتنة، ويصبر على جهل الجهول وظلمه"[5].

لأن المشكلة أيضًا -كما سيأتي- ردود الأفعال، فقد يتوهم الإنسان أنه وقع عليه ظلم، إساءة، تجنٍّ، فيحمله ذلك على ركوب الشطط -نسأل الله العافية- يعني: هذا الإنسان الذي لربما ينحرف ويضل، ويركب المراكب الصعبة، أحيانًا قد يكون منشأ هذا أنه يستشعر أنه وقع عليه ظلم، وهذا الظلم يوجب عليك الصبر، لا أن تركب طريقًا في الانحراف لتنتقم لنفسك، وتفعل ما يكون نكايةً بهذا الذي تعتقد أنه ظلمك، هذا لا يجوز، ومن أصعب الأشياء -أيها الأحبة- أن الإنسان لربما يقع عليه الأذى وهو على ضلال فلا ينبغي للإنسان أن يفتك بنفسه وأن يسيء إليها مثل الطفل الشقي الذي إذا أراد أن يُبدي سَخطه على أهله أو نحو ذلك ذهب وجلس في الشمس وفي الحر وفي الرطوبة، يعذّب نفسه ويؤذيها فيكون الأذى والانتقام واقعًا عليه، هو الذي يتأذّى، هو الذي يحصل له الألم، فيجلس على الأرض في وقت الحر، في وقت الظهيرة، في الشمس حافي القدمين ويُمرّغ ثيابه ويصر على هذا من باب العقوبة لهؤلاء الأهل الذين لم يعطوه، أو يشعر أنهم أساءوا إليه أو ظلموه. 

الإنسان الكبير أحيانًا يفعل ما هو أكثر من هذا، يستشعر أنه وقع عليه جناية، ثم بعد ذلك يحمله ذلك على ركوب الضلالات والانحرافات -نسأل الله العافية- وهذا قد يقع كثيرًا، إن لم تُزمّ تصرفات الإنسان بالتقوى والصبر، وإرادة ما عند الله فكفى به -نسأل الله العافية- أذىً أن يكون منحرفًا ضالا، وهذا أيضًا في التاريخ كثير، نزعة، انتقام تجعل هذا الإنسان يتجنّى ويحصل منه البغي على هؤلاء الذين يشعر أنهم أساءوا إليه، ولربما يتصرف تصرفات تذهب بدنياه وبآخرته، وإنما المؤمن هو الذي يضبط عمله وقوله بزِمام الشرع، فلا يتجاوز ذلك، ويكون على هدى.  

البغض والكراهية أحيانًا يحمل الإنسان أيضًا على البغي والتجني على الناس، والله يقول: وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ يعني: عداوة وبغض قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى [المائدة:8].

نهى أن يحمل المؤمنين بغضُهم للكفار على ألا يعدلوا عليهم، فكيف إذا كان البغض لفاسق أو مبتدع متأول من أهل الإيمان؟ كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله.

يقول: "فهو أولى أن يجب عليه ألا يحمله ذلك على أن لا يعدل على مؤمن، وإن كان ظالمًا له، فهذا موضع عظيم المنفعة في الدين والدنيا فإن الشيطان مُوكَل ببني آدم وهو يعرِض للجميع ولا يسلم أحد من مثل هذه الأمور، ودع ما سواها من نوع تقصير في مأمور أو فعل محظور باجتهاد أو غير اجتهاد وإن كان هو الحق.

ثم ذكر قول الله فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَار [غافر:55].

هذا هو الطريق، فأمره بالصبر، وأخبره أن وعد الله حق، وأمره أن يستغفر لذنبه.   

يقول: "ولا تقع فتنة إلا من ترْك ما أمر الله به، فإنه سبحانه أمر بالحق وأمر بالصبر، فالفتنة إما من ترك الحق وإما من ترك الصبر، فالمظلوم المُحق الذي لا يقصر في علمه يؤمر بالصبر، فإذا لم يصبر فقد ترك المأمور، وإن كان مجتهدًا في معرفة الحق ولم يصبر فليس هذا بوجه الحق مطلقًا، ولكن هذا وجه نوع حق فيما أصابه فينبغي أن يصبر عليه.

هذا كلام يكتب بماء الذهب.

يقول: "وإن كان مقصرًا في معرفة الحق فصارت ثلاثة ذنوب: أنه لم يجتهد في معرفة الحق، وأنه لم يصبه -يعني ما أصاب الحق وما عرفه- وأنه لم يصبر، وقد يكون مصيبًا فيما عرفه من الحق فيما يتعلق بنفسه ولم يكن مصيبًا في معرفة حكم الله في غيره، فيحكم عليهم بأحكام ظالمة".

يقول: "وذلك بأن يكون قد عَلِم الحق في أصلٍ يُختلف فيه بسماع وخبر أو بقياس ونظر أو بمعرفة وبصر، ويظن مع ذلك أن ذلك الغير التارك للإقرار بذلك الحق عاصٍ أو فاسقٌ أو كافر، ولا يكون الأمر كذلك؛ لأن ذلك الغير يكون مجتهدًا قد استفرغ وسعه ولا يقدر على معرفة الأول لعدم المقتضى ووجود المانع، وأمور القلوب لها أسباب كثيرة"[6].

يعني: لست مأمورًا أن تنقّر عن هؤلاء، وأن تشتغل بهم هل عرفوا فعلاً الحق وحادوا عنه أو لم يحيدوا عنه، أو تركوه عمدًا أو لم يتركوه عمدًا، دع أمر هؤلاء إلى الله -تبارك وتعالى.

فمثل هذا مما يقع في الصدور من الغل، واستشعار الإساءة والظلم كثيرًا ما يحمل صاحبه على البغي بالقول والفعل.

وهذه قضية نحن بحاجة كبيرة إلى تأملها في مثل هذه الأوقات.

إياك أن تركب مركبًا من مراكب الضلالة بسبب أنك ناقم، إياك، اصبر والأجر على الله لكن لا تؤذِ نفسك بركوب هذه المراكب الصعبة.

تُظلم ويحصل البغي والعدوان، شيخ الإسلام يقول: الإنسان قد يكون ظالمًا بالدعاء، يُظلم فيدعو على ظالمه بدعاء أعظم من المظلمة، فيكون ظالمًا بالدعاء، فكيف بما هو أكبر من الدعاء إذا حكم بكفره، أو سعى في إراقة دمه، أو نحو ذلك؟!.

شيخ الإسلام يقول: "إذا تأملت ما يقع من الاختلاف بين هذه الأمة علمائها، وعبادها، وأمرائها، ورؤسائها وجدت أكثره من هذا الضرب الذي هو البغي بتأويل أو بغير تأويل".

يقول: "فإن كل طائفة بغت على الأخرى فلم تعرف حقها الذي بأيديها ولم تكف عن العدوان عليها".

ثم بعد ذلك يصير هذا الباغي -نسأل الله العافية- كما قال شيخ الإسلام في موضعٍ آخر: "إن الجاهل في كلامه على الأشخاص، والطوائف، والمقالات بمنزلة الذباب الذي لا يقع إلا على العقير -يعني المكان المصاب- ولا يقع على الصحيح، يقول: "والعاقل يزن الأمور جميعًا هذا، وهذا"[7].

تكون أحكامه موزونة، مواقفه موزونة، تصرفاته موزونة، سواء كان الناس يحسنون إليه أو يسيئون إليه، يستشعر أنهم ظلموه، غمطوه حقه أو لا.

فعليه أن يتقي الله -تبارك وتعالى، وقد ذكر الإمام ابن عبد البر -رحمه الله- ما جاء عن مالك قال: "كان أبو بكر محمد بن عمرو بن حزم يقول: إذا وجدت أهل المدينة مجتمعين على أمر فلا تشك أنه الحق"[8].

ليس هذا هو الشاهد، الشاهد تعليق ابن عبد البر، إمام أهل المغرب والأندلس، بل إمام من أئمة أهل السنة، إمامان في وقت واحد توفيا في سنة واحدة، سنة أربعمائة وثلاث وستين، ابن عبد البر في المغرب والخطيب البغدادي في المشرق، صاحب تاريخ بغداد، يقول ابن عبد البر: "إذا وجدت أهل المدينة مجتمعين على أمرٍ فلا تشك أنه الحق".

يقول: فروايةُ هذا وشبهِه وكتابُه -يعني كتابته- أولى من رواية انطلاق الألسنة في أعراض أهل الديانة والفضل، ولكن أولوا الفهم قليل، والله المستعان"[9].

والله -تبارك وتعالى يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [المائدة:8]، الكلمة التي قلتَها: الله خبير. 

الخبير هو الذي يعلم بواطن وخفايا الأشياء، ما منطلق هذه الكلمة؟، قد تكون الكلمة في ظاهرها من قبيل المدح، ولكنه يقصد بها التنقيص والإساءة.

فيعلم -تبارك وتعالى- هذه المزاولات والتصرفات ما منشؤها، فنحن نتعامل مع من لا تخفى عليه خافية، ولا ينبغي لأحدٍ أن يؤذي نفسه، بل نرفُق بأنفسنا، فنحن الذين سنتحمل الحساب والتبعة والجزاء.

يقول ابن القيم: "إذا كان قد نهى عباده أن يحملهم بغضُهم لأعدائه على أن لا يعدلوا عليهم مع ظهور عداوتهم ومخالفتهم وتكذيبهم لله ورسوله، فكيف يسوغ لمن يدعي الإيمان أن يحمله بغضه لطائفة منتسبة إلى الرسول تصيب وتخطئ على أن لا يعدل فيهم، بل يجرد لهم العداوة وأنواع الأذى، ولعله لا يدري أنهم أولى بالله ورسوله وما جاء به منه علمًا وعملًا ودعوة إلى الله على بصيرة وصبرًا من قومهم على الأذى في الله وإقامة للحجة لله ومعذرة لمن خالفهم بالجهل، لا كمن نصب معالمه صادرة عن آراء الرجال فدعى إليها، وعاقب عليها وعادى من خالفها بالعصبية وحميّة الجاهلية"[10].

خامسا: من البغي: امتحان الناس بما لم يأمر به ربنا -تبارك وتعالى- وما أمر به رسولُه ﷺ.

امتحان الناس بأمور ما أنزل الله بها من سلطان كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- يقول: "وكذلك التفريق بين الأمة وامتحانها بما لم يأمر الله به ولا رسوله مثل أن يقال للرجل: أنت شَكِيلي أو قَرَفندي؟"

يقول: "فإن هذه الأسماء باطلة ما أنزل الله بها من سلطان، وليس في كتاب الله ولا سنة رسوله ﷺ ولا في الآثار المعروفة عن سلف الأمه لا شَكيلي ولا قَرفندي.

والواجب على المسلم إذا سُئل عن ذلك أن يقول: لا أنا شَكيلي ولا قَرفندي، بل أنا مسلم متّبع لكتاب الله وسنة رسوله".

وذَكر عن معاوية أنه سأل ابن عباس -ا- قال له: أنت على ملّة علي أو على ملّة عثمان؟

فقال: لست على ملّة علي، ولا على ملّة عثمان بل أنا على ملّة رسول الله ﷺ.

وكذلك كان كلٌّ من السلف يقولون: كل هذه الأهواء في النار، ويقول أحدهم: ما أبالي أي النعمتين أعظم عليّ أن هداني للإسلام، أو أن جنبني هذه الأهواء.

والله تعالى قد سمانا في القرآن المسلمين، المؤمنين، عباد الله، فلا نعدل عن الأسماء التي سمانا الله بها إلى أسماء أحدثها قوم وسموها هم وآباؤهم ما أنزل الله بها من سلطان، بل الأسماء التي قد يسوغ التسمي بها يعني: مثلًا الانتساب للمذاهب الفقهية ونحو ذلك كما ذَكر، أو الأمصار والبلدان ونحو هذا، فلا يجوز لأحد أن يمتحن الناس بها ولا يوالي بهذه الأسماء ولا يعادي عليها، بل أكرم الخلق عند الله أتقاهم من أي طائفة كان".

ليست العبرة بالأسماء، نحن لا نقر غير الأسماء الشرعية، ولكن في الوقت نفسه نحن نتعامل مع الناس بحسب ما هم عليه من لزوم الكتاب والسنة والاستقامة على الصراط المستقيم، هذا هو المعيار، مع إنكار الأسماء غير الشرعية والانتساب إليها، يقول: "وأولياء الله الذين هم أولياؤه هم الذين آمنوا وكانوا يتقون".

وذكر صفة هؤلاء المتقين: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ [البقرة:177]. هذا هو المُعوَّل. يقول: "والتقوى هي فعل ما أمر الله به، وترك ما نهى عنه، وقد أخبر النبي ﷺ عن حال أولياء الله وما صاروا به أولياء، كما في الصحيح عن أبي هريرة  أن النبي ﷺ قال: يقول الله تعالى: من عادى لي وليًّا فقد بارزني بالمحاربة، وما تقرّب إليّ عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، فبي يسمع وبي يبصر وبي يبطش، وبي يمشي، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه...[11]إلى آخر الحديث.

فكل من آمن بالله ورسوله واتقى الله فهو من أولياء الله، والله قد أوجب موالاة المؤمنين بعضهم لبعض، وأوجب عليهم معاداة الكافرين"[12]. فلا يُمتحن الناس بغير هذا.

إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواا [المائدة:55]، والله يقول: وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ۝ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات:9، 10].

وهكذا الأحاديث التي أوردناها والنصوص في هذا الباب: المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا[13]، هل نحن حققنا هذا وراعينا حقوق إخواننا المسلمين وإن حصل منهم ما حصل تجاهنا، وإن أساءوا إلينا، وإن ظلمونا؟، فنحن على الإخوة الإيمانية، فالله مع القتال يقول: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ [الحجرات:10].

سادساً: مقابلة البدعة بالبدعة، والانحراف بالانحراف، والضلالة بالضلالة، والجناية بالجناية، والخطأ بالخطأ، وهي من ردود الأفعال.

وكما سبق: أهل البدع المرجئة والخوارج، والممثلة في الصفات والمعطلة هذه كلها ردود أفعال، وإذا نظرت إلى حال كثير من المخالفات لوجدت أنها من قبيل ردود الأفعال، ردود فعل عنيفة، هذا يبالغ في هذا الجانب، ويأتي آخرون، ويبالغون في الجانب المقابل تمامًا، وهذا خطأ، والإنسان عليه أن يلزم الحق، ولا يعتبر بمن ضل عنه وحاد، هذا أمر لابد من أن نعرفه، وأن نستحضره دائمًا، وتجد الناس في كثير من الأحيان على طرفين، وانظر في واقعك تجد من هذا شيئًا كثيرًا، تجد هذا فيما يتبناه الإنسان من الآراء، وتجد ذلك أيضًا فيما يقال عن الأشخاص، هذا يجعله في حال من التقديس والتنزيه والإطراء والثناء، ولربما رفعه فوق منزلته، والآخر يجعله شيطانًا رجيمًا.

ما هكذا يكون العاقل فضلًا عن المؤمن، فضلًا عن طالب العلم، هذا لا يسوغ بحال من الأحول، أحيانًا لربما تكون المبالغة في مدح إنسان من قِبل المحبين تحمل آخرين على الوقوف في الطرف الآخر.

سابعاً: الخوض في أمور قد حُجب عن الخلق الإحاطة بها.

الشوكاني -رحمه الله- في تفسيره فتح القدير، في الكلام على الروح يقول: "حكى بعض المحققين أن أقوال المختلفين في الروح بلغت إلى ثمانية عشر ومائة قول"[14].

والله يقول: قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي [الإسراء:85] إذًا هي قضية غيبية، مائة وثمانية عشر قولا على أي أساس؟

هم يتكلمون في أمر لا سبيل إلى الإحاطة به، وقد استأثر الله -تبارك وتعالى- بعلمه، فهذا من الاشتغال بما لا ينفع، الاشتغال بالفضول.

ثامناً: الأخذ بالشاذ:

بعض الناس قد  يكون ذلك طبيعة له، يميل إلى الشذوذ في كل شيء، يعني: تجده في لباسه يميل إلى الأشياء الغريبة، القلم الذي معه غريب، السيارة غريبة، الأدوات غريبة، لون المنزل غريب، هي طبيعة، فآراء مثل هذا الإنسان تجدها شاذة وغريبة، الناس هنا وهو هناك.

تجد بعض الناس -على سبيل المثال، ورأيت أنا من هذا- يثني على الحَجّاج، ويعظّم الحجاج، ويقول: الحجاج مظلوم، ويمدحه شعرًا ونثرًا، ما حاجتك إلى هذا؟ ما وجدت أحدًا تتبناه إلا الحجاج؟ أفضى إلى ربه، لا داعي لمثل هذا المدح والرجل معروفة مظالمه، وتجد هذا الرجل مولَع بالحجاج، إذا جلس في مجلس فاتحهم بذلك، وابتدأهم، وابتدرهم بالثناء عليه.

وترى بعض من يبدي إعجابه الشديد بمثل أبي العلاء المعري، الشاعر المعروف الذي رمي بالزندقة، تدافع عنه وتتبناه وتحبه وتعجب به، لماذا؟

هو يخالف الآخرين، ماذا يقول الناس؟ تجد هذا الإنسان بالطرف الآخر، وهذا مشاهد، أحيانًا إذا عرفت حال هذا الإنسان، وما عنده من الخلل في الميزان مباشرة تعرف رأيه قبل أن تسمعه.

حينما يرسل لك مقطعًا أو نحو ذلك لفلان ما تحتاج أن تسمعه، أنت ستعرف، الناس هنا، إذًا هو سيكون في الجهة الأخرى.  

يأتي بالغرائب والعجائب، وهذا داء وعلة ومرض يحتاج الإنسان أن يتعالج منه، وقد لا يكون كذلك، قد تكون هذه جرأة عند الإنسان، أو قد يكون ذلك من باب حب المعرفة، والظهور والشهرة، خالف تذكر، فيأتي بفتاوى غريبة، فتاوى شاذة، كثيرًا ما يتبنى الأقوال التي لم يعهدها الناس، وما تبناها العلماء، وإنما يخالف هؤلاء جميعًا فيطير الناس بفتواه، وتبلغ الآفاق، وينشرها الناس، ويتحدثون عنها في المجالس، فتوى غريبة.

فمثل هذا قد يكون -نحن لا نعمم- الدافع أحيانًا هو طلب الشهرة، تعرفون خبر ذاك الذي بال في بئر زمزم، فلما سئل عن هذا، وأُخذ، قال: أردت أن أشتهر، أن يعرفه الناس، ولو بالبول ببئر زمزم.

فمن الناس من يكون بهذه الطريقة، بل بعض هؤلاء -نسأل الله العافية- لربما سب العلماء، الأئمة من المتقدمين والمتأخرين، فإن لم يجد بغيته لربما سب الصحابة، بل بعضهم لربما اجترأ على سب رب العالمين، ويضع ذلك في تغريدة، وهذا حصل. 

فتجد هذا للأسف الشديد يبحث عن هذه الشهرة بكل طريق.

يقول ابن مهدي -رحمه الله: "لا يكون إمامًا في العلم من أخذ بالشاذ من العلم، أو روى عن كل أحد، أو روى كل ما سمع"[15].

تاسعاً: التعصب:

التعصب للمذاهب، التعصب للطوائف، التعصب للمقالات، التعصب للأشخاص، كل ذلك، يقول شيخ الاسلام -رحمه الله: "من نصّب شخصًا كائنًا من كان فوالى وعادى على موافقته في القول والفعل فهو مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا [الروم: 32].

نصّب شخصًا كائنًا من كان، لا تقل: شيخي صاحب سنة، لا تتعصب، فإذا نصّبته وجعلته ميزانًا يقول شيخ الإسلام: فهذا من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعًا.

يقول: "وإذا تفقه الرجل وتأدب بطريقة قوم من المؤمنين، مثل اتباع الأئمة والمشايخ، فليس له أن يجعل قدوته وأصحابه هم المعيار، فيوالي من وافقهم ويعادي من خالفهم".

نحن نقع في هذا كثيرًا، نجعل هؤلاء هم المعيار، توافقهم إذًا أنت بمنزلةٍ ويكال لك المدح والثناء حثوًا، بل لا يكال، بل يقال حثوًا بلا كيلٍ ولا ميزانِ.

وإن كنت تخالفهم في شيء فهنا يقال فيك كل عظيمة وتُكال لك التهم، والسباب والشتائم حثوًا، لا تكال، بل تُقال حثوًا بلا كيلٍ ولا ميزانِ.

يقول شيخ الإسلام: "وليس لأحد أن يدعو إلى مقالة أو يعتقدها لكونها قول أصحابه، ولا يناجز عليها، بل لأجل أنها مما أمر الله به ورسوله، أو أخبر الله به ورسوله؛ لكون ذلك طاعة لله ورسوله"[16].  

القضية أننا أحيانًا -كما سيأتي- لشدة تعصبنا قد نرد الحق؛ لأنه عُرفت به الطائفة الفلانية التي نكرهها، يا أخي هذا حق، لا ترد الحق، لكن التعصب يحمل الإنسان على هذا.

التعصب يحمل الإنسان أحيانًا على رد الآيات، أحد العلماء من المعاصرين توفي -رحمه الله- سمعت شريطًا له قبل أكثر من خمس وعشرين سنة، ما رأيته لكن سمعت ذاك الشريط الوحيد، وأحببته، صاحب توحيد، وصاحب سنة، أحسبه والله حسيبه، دروس في التوحيد، والعقيدة، يذكر مناظرة لبعض غلاة الصوفية من القبوريين، يقول: فأوردت عليه الآيات وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ  [العنكبوت:61]، إلى آخره .

قال: يا ابني، هذه آية وهّابية -نسأل الله العافية، هو يسمع ترداد هذا من قِبل علماء يتهمهم بهذه التهم، فقال: هذه آية وهابية، إلى هذا الحد يرد القرآن، ولا يحب أن يسمع هذه الآيات في التوحيد، لبغضه لهؤلاء وتعصبه لباطله.  

فمثل هذا -نسأل الله العافية- قد يقع في أمورٍ عظيمة قد تذهب بدينه.

ويقول شيخ الإسلام: "وهذا يبتلى به كثير من المنتسبين إلى طائفة معينة في العلم أو الدين أو إلى رئيس معظّم عندهم"[17].

كل واحد ينبغي أن يراجع نفسه، لا تذهب أذهاننا إلى زيد وعمرو، لا، نحن هل سلمنا من مثل هذه القضايا؟ هل عالجنا المشكلات؟.

نحن كما قلنا منذ البداية: ليس المقصود الكلام هنا -لا بالتصريح، ولا بالتعريض- على قوم، أو آخرين، وليس هذا من أخلاقنا وما عُهد لا في الدروس الخاصة، ولا في العامة، ولا في المجالس الخاصة، ولا في المجالس العامة، إذا تكلم أحد في أحد قلنا له: سبح، اشتغل بما ينفع، اذكر الله .

وإذا جاء بعض الشباب هنا يسأل عن الطائفة الفلانية، أو الطائفة الفلانية، أقول: ما عندك غير هذا؟ اشتغل بما ينفع، اشتغل بذكر الله ، دع أهل العلم يختلفون، ويعرفون كيف يتفقون.

المقصود أن نعالج أنفسنا، أن نتبصر، عندنا نقص، وعندنا عيوب، وعندنا تقصير، لابد من المحاسبة والمراجعة، هل نحن متعصبون؟.

هل عندنا شيء من التعصب لشخص أو لطائفة أو نحو ذلك؟ قد تكون هذه التعصبات لنزعة، لميول معين، لاهتمامات معينة في أمور عملية أو علمية، تخصص علمي، أو تخصص عملي.

شيخ الإسلام -رحمه الله- يقول: "تجد كثيرًا من المتفقهة إذا رأى المتصوفة، أو المتعبّدة"، يعني: أصحاب التعبد دعنا من التصوف، يقصد الذين يهتمون بالعبادة، يقول: "لا يراهم شيئًا" هذا المهتم بالفقه.

يقول: "ولا يعدهم إلا جهالاً ضلالاً، ولا يعتقد في طريقهم من العلم، والهدى شيئًا، وترى كثيرًا من المتصوفة والمتفقرة -يعني الفقراء يقصد الصوفية- لا يرى الشريعة ولا العلم شيئًا".

يرى أن هؤلاء الذين يتفقهون يشتغلون بالعلم فيضيعون الأوقات والزمان، وكان ينبغي عليهم أن يُعنَوا بالعبادة البدنية، والخلوة وما إلى ذلك.

يقول شيخ الإسلام: "بل يرى أن المتمسك بها منقطع عن الله -يعني هذا الصوفي أو المشتغل بالعبادات البدنية يرى أن المشتغل بالعلم والتفقّه منقطع عن الله، وأنه ليس عند أهلها -يعني أهل الفقه والعلم- مما ينفع عند الله شيئًا".

يقول: "وإنما الصواب أن ما جاء به الكتاب والسنة من هذا وهذا حق، وما خالف الكتاب والسنة من هذا وهذا باطل"[18].

قد يكون عندي أنا اهتمامات، القيام على الفقراء والأرامل والمساكين والأيتام والجوعى، هذا عمل صالح، آخر عنده اهتمامات بالعلم، أنا لا أحتقر عمل ذاك، وذاك لا يحتقر عملي.

أنا قد يكون الاهتمام عندي هو الجوانب الدعوية للشباب، أو نحو ذلك، وهذا الإنسان يهتم بجوانب أخرى من الدين.

لا يصح أن أحتقر عمله، ولا يصح أيضًا أن يحتقر عملي، فقد يتعصب كل طرف لعمله ولاهتمامه، أو تخصصه، أو نحو ذلك، فيقع في الذنب.

هكذا التعصب للمذاهب الفقهية، قديمًا كان الناس -ولا زالوا- يتعصبون لمذاهبهم، من كان من أتباع أبي حنيفة أو مالك أو الشافعي أو أحمد -رحم الله الجميع.

واليوم قد يكون هذا التعصب لغير ذلك، يتعصب الإنسان لطائفة -أو نحو هذا- تنتسب إلى الدين، أو الدعوة، أو نحو ذلك، هذا لا يجوز، وإنما يكون الإنسان دائمًا مع الحق، كن مع الحق دائمًا، فالمصيب يعان، والمخطئ يسدد.  

إذا لقيت الله بهذا وبقلب سليم للمسلمين، ولزوم الكتاب والسنة والاعتصام بهما، فأبشر أنت على الطريق.

ينبغي أن نتواصى أن نلقى الله بهذا، أن نلقى الله بهذا دون أي اعتبار آخر، هذا هو الطريق.

التعصب للمذاهب انظر كيف بلغ بأصحابه، نعطيكم نماذج من العبارات التي جُعلت قواعد عند هؤلاء المتعصبين.

هذا يقول: الأصل أن كل آية تخالف قول أصحابنا فإنها تحمل على النسخ، أو على الترجيح، والأولى أن تحمل على التأويل من جهة التوفيق.

آخر يقول: الأصل أن كل خبر يجيء بخلاف قول أصحابنا فإنه يحمل على النسخ، أو على أنه معارض بمثله، ثم صار إلى دليل آخر، أو ترجيح فيه، بما يحتج به الأصحاب من وجوه الترجيح، أو يحمل على التوفيق، وإنما يفعل ذلك على حساب قيام الدليل، فإن قامت دلالة النسخ يحمل عليه، وإن قامت الدلالة على غيره صرنا إليه[19]. ما شاء الله، هكذا يتعامل مع الأدلة.

آخر يقول: الأصل أن الحديث إذا ورد عن الصحابي مخالفًا لقول أصحابنا فإن كان لا يصح كُفينا مئونة جوابه، وإن كان صحيحًا في مورده فقد سبق ذكر أقسامه، إلا أن أحسن الوجوه وأبعدها عن الشُّبه أنه إذا ورد حديث الصحابي في غير موضع الإجماع أن يحمل على التأويل أو المعارضة بينه وبين صحابي مثله[20].

نصوص الكتاب والسنة، أقوال الصحابة، كل ما خالف المذهب عنده ينبغي أن يتعامل معه بتأويل، أو دعوى نسخ، أو غير ذلك.

هذا الإنسان الذي يقع عنده التعصب للأسف لا تكون أحكامه صائبة، ولا عادلة، ولا مسددة، بل يكيل بمكيالين، تجد أنه حينما يتحدث عن المذاهب، أو الآراء، أو الأشخاص، أو الكتب، أو غير ذلك، لربما يستنكر تصرفًا، أو سلوكًا، أو خطأً، أو قولًا، أو فتوى، أو نحو ذلك صدر ممن يختلف معه، أو لا يحبه، فأقام عليه الشناعة وجرّده من كل فضيلة، ثم بعد ذلك يقع تصرف شبيه -بل مثيل- في موقف آخر من بعض أصحابه، أو من يحبهم، أو يعظمهم، فتجد هذا يُحمل على أنه حسن نظر في الأمور، وبعد نظر، وتصرف صحيح ومسدد، فيذكَّر يقال له: نسيت كيف كنت تتصرف، وكيف كنت تقول حينما صدر التصرف نفسه ممن لا تحبهم؟!، هذا لا يجوز.  

التعصب يجعلنا نقع في مثل هذه التعسفات، فلا نكون عادلين، ونبالغ -كما سبق- في مواقفنا تجاه المخالفين، كما يقول ابن عبد البر -رحمه الله- يصف بعض طلاب العلم في زمانه، يقول: "كلهم يتجاوز الحد في الذم، وعند كل واحد من الطائفتين خير كثير، وعلم كبير"[21]. لكن المشكلة التعصب.

وذكر الذهبي -رحمه الله- في ترجمة تقي الدين المقدسي -واسمه عبد الساتر بن عبد الحميد، يقول: "قلّ من سمع منه؛ لأنه كان فيه زعارة، وكان فيه غلو في السنة، عُني بالسنة، وجمع فيها، وناظر الخصوم وكفرهم، وكان صاحب حزبية، وتحرق على الأشعرية، فرموه بالتجسيم، ثم كان منابذًا لأصحابه الحنابلة، وفيه شراسة في أخلاقه مع صلاح ودين يابس"[22].  

يعني: هذه المواقف المتصلبة بهذه الطريقة التي يتجاوز فيها الإنسان الحد المشروع لا يُقَرُّ عليها، فتأتي الأحكام بسبب هذا التعصب ظالمة، جائرة.

انظر هذا المثال العجيب الذي ذكره الشوكاني -رحمه الله- يذكر أنه أدرك في أول زمان الطلب شيخًا يشتغل بالفقه يقال له صالح النَّهمي.

يقول: قد اشتهر في الناس بالعلم والزهد، وطلبَ علومَ الاجتهاد طلبًا قويًّا، فأدركها إدراكًا جيدًا، فرفع يديه في بعض الصلوات -يعني: في التكبير، ورآه يفعل ذلك بعض المدرسين في علم الفقه.

فماذا قال هذا المدرس؟ قال: اليوم ارتد الفقيه صالح[23]. من أجل ماذا ارتد؟ لأنه رفع يديه في التكبير، نسأل الله العافية.

ابن العربي ذكر مثالاً آخر وقع أمامه مع أبي بكر الطرطوشي -رحمه الله- وهذا من العلماء المشاهير، وذلك أنه جاء إلى المسجد الجامع في صلاة الظهر، وجعل يتنفل، يصلي، ويرفع يديه عند الركوع.

يعني: ليس فقط في تكبيرة الإحرام، بل عند الركوع، وعند الرفع من الركوع، يقول ابن العربي: وهو مذهب مالك والشافعي، يقول: فحضر عندي يومًا، يعني: كان يفعل هذا الطرطوشي، وشاهده رجل يعتبر في ذلك الوقت قائد البحرية في تلك الناحية في الأندلس، ومعه بعض الأعوان، فرأوا هذا العالم وما يعرفونه، أعني أبا بكر الطرطوشي.  

يقول: فلما نظروا إليه، ورفع يديه في الصلاة، قالوا: ألا ترون إلى هذا المشرقي، كيف دخل إلى مسجدنا؟ -المشرقي من المشرق، الذين يرفعون يدهم عند الركوع، وعند الرفع منه، قوموا إليه فاقتلوه، هذا قائد البحرية، قوموا إليه فاقتلوه، وارموا به في البحر، فلا يراكم أحد، يُقتل ويرمى في البحر، الإمام الطرطوشي رجل معروف في نصر السنة، وقمع البدعة ومحاربتها، وأقواله في هذا مشهورة وكلامه.

يقول أبو بكر بن العربي: فطار قلبي من بين جوانحي، وقلت: سبحان الله! هذا الطرطوشي فقيه الوقت، فقالوا لي: ولم يرفع يديه؟.

فقلت: كذلك النبي ﷺ كان يفعل، وهو مذهب مالك في رواية أهل المدينة عنه.

وجعلت أسكنهم وأسكتهم حتى فرغ من صلاته[24]. يريدون قتله وهو يصلي ويُرمى في البحر.

المسجد كان على البحر يقول ابن العربي: كنت في الظهيرة في شدة الحر أستنشق النسيم، يعني: عند النافذة، نافذة المسجد، وهؤلاء جلوس، فلما رأوه قالوا ما قالوا، فيريدون أن يلقوه في البحر، ويتخلصوا منه.

فهؤلاء إذا رأوا من يخالفهم وهم في حال من التعصب اجترءوا على القتل أو على الحكم بردته كما سبق من قول ذلك المدرس.

وكما يقول الشوكاني أيضًا بذكر هذه الجهالات، وما يحصل من هؤلاء من المعاداة، يقول: "أعظم من معاداة اليهود والنصارى، وظنوا أنه على شريعة أخرى، وعلى دين غير دين الإسلام، وأوقعوا في أذهان العوام أنه ناصبي، يقول: فانظر هذا الصنيع الشنيع الذي هو شبيه بلعب الصبيان"[25].

وشيخ الإسلام -رحمه الله- يتكلم عن العمل، وما يصدر من الإنسان يقول: "فصاحبه إما معتدٍ ظالم، وإما سفيه عابث، وما أكثر ما يصور ذلك الشيطانُ بصورة الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والجهاد في سبيل الله، ويكون من باب الظلم والعدوان"[26]. هو عند نفسه أنه ما شاء الله ينصر الدين، والواقع أنه ظالم ومعتدٍ.  

وهكذا لربما يُلصق بهذا من باب التعصب تهمٌ هو برئ منها، يعني: قد لا يتورع هذا المتعصب من الكذب على هذا الذي خالفه.

الذهبي -رحمه الله - ذكر عن شيخ القرّاء محمد بن عتيق القيرواني، يقول: كان يتعصب لمذهب الأشعري، ووقعت بينه وبين الحنابلة فتن، يقول: "قال ابن ناصر وجماعة: كان أصحاب القيرواني يشهدون عليه أنه لا يُصلي" يعني هو يريد أن يُدين هذا بقول أصحابه.

يقول: "كانوا يشهدون عليه أنه لا يصلي، ولا يغتسل من الجنابة في أكثر أحواله، ويُرمى بالفسق مع المُرد، واشتهر بذلك".

كيف هذا؟ يقول الذهبي: "قلت: هذا كلامٌ بهوى"[27]. يعني: هذا رجل من القراء وإن كان قد انحرف في باب الاعتقاد، لكن هذا لا يعني أن يظلم، وأن يرمى بمثل هذه الأمور.

رجل لا يصلي، ولا يغتسل من الجنابة، ويتهم بالفواحش لأننا اختلفنا معه؟!.

وذكر ابن كثير -رحمه الله- أشياء أيضًا من هذا القبيل، وذكر سببًا لهذا البغي أو أحد أسباب هذا البغي وهو التنافس على الدنيا، وأن هذا البغي هو من أعظم أسباب التفرق والاختلاف، وهو سبب لذهاب الريح، وتسلط الأعداء.

وهذا -للأسف كما قلت- قد يورث رد الحق الذي يكون مع المخالف كما ذكر شيخ الإسلام -رحمه الله- أمثلة من ذلك.

يقول: الفلاسفة أحيانًا يقولون بعض الأشياء الصحيحة فيردها خصومهم؛ لأن الفلاسفة قالوها، وهي حق، فيبالغون في ردّها، ولا يصدقون بها، وهكذا أيضًا مع غير الفلاسفة.

بل ذكر شيخ الإسلام أشياء غريبة وعجيبة، ذكر أن بعض الجهال إذا سمع الرافضة يسبون ويشتمون أبا بكر وعمر اشتغل بشتم علي ، وأن بعض الجهال من المسلمين إذا كان في الصف -يعني صف القتال، وسمع النصارى يشتمون النبي ﷺ شرع في شتم عيسى ، نسأل الله العافية، والإنسان يقبل الحق ويقر به ولا يقع في شيء من الباطل.  

يقول: كما قد يصير بعض جهال المتسننة في إعراضه عن بعض فضائل عليٍّ وأهل البيت إذا رأى أهل البدعة يغلون فيها، بل بعض المسلمين يصير في الإعراض عن فضائل موسى وعيسى بسبب اليهود والنصارى، وذكر شتم المسيح من قِبل بعض الجهال[28].

وذكر خبر أبي هريرة مع الشيطان، وأن النبي ﷺ قال: صدقك وهو كذوب[29]، وهو شيطان.

وهكذا في قوله عن ملكة سبأ: إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةًقال الله: وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ [النمل:34] فقال ذلك تصديقًا لقولها، طبعًا هذا على القول بأن هذا من الموصول لفظًا المفصول معنى.

وذكرنا لكم عبارة ابن مسعود لما قال له رجل: أوصني، فكان مما ذكر: ومن أتاك بحق فاقبل منه وإن كان بعيدًا بغيضًا[30].

ومن هنا لا يصح بحال من الأحوال أن نرد الحق لأنه جاء على يد من نكرهه ونبغضه، والمعلمي -رحمه الله- في كتابه التنكيل الذي أفرد جزءا منه بعنوان: "القائد إلى تصحيح العقائد" -هذا عنوان داخل الكتاب لكن أفرد بالطباعة- ذكر أمورًا دقيقة جميلة مهمة مفيدة في سبب رد الحق، من ضمن هذه الأشياء أنه يأتي على يد من يبغضه، أو يشنؤه أو يخالفه، وذكر كيف رد هؤلاء الكفار دعوة النبي ﷺ منهم من فعل ذلك احتقارًا له، ومنهم من فعل ذلك حسدًا، ومنهم من فعل ذلك لئلا يقال بأنه كان على باطل هذا العمر المديد، أو أن طائفته على باطل، وذكر جملة من الأمور يمكن أن تراجع[31].

والمشكلة أن مثل هذا التعصب والمواقف الحادة تجعل الطرف الآخر أحيانًا يتترس في باطله، ويغوص في ضلالته، كانت البداية لربما محدودة، هو ربما يقول: أنا أخطأت، أنا ما قلت هذا الكلام، أعوذ بالله، أنا ما يصدر مني هذا، والمفروض أن نقول: كثر الله خيرك، هذا هو الظن بك، جزاك الله خيرًا، مثلك ما يقول هذا، أحيانًا لا، عندنا الشاهد، ونجلس له ونأخذ بالحنك، فلا يبقى له مجال، ولربما نشن الغارة عليه، ثم بعد ذلك هذا الإنسان الذي كان الخطأ منه في البداية بسيطًا لربما يرتمي بأحضان الشياطين، فيتلقفونه، تتلقفه شياطين الإنس والجن.

بعض هؤلاء الذين لربما يشككون في أصول الإسلام، وفي ثوابته، ويطعنون فيها، ويمعنون في هذا الطعن لربما كانت القضية هي بعض الخطأ، أو بعض الانحراف، ثم واجهوا حملة شرسة، فجعلتهم يضلون.

وهذا الضلال مركب، مثل هذا المركب المطاطي الذي تراه في البحر في البداية قريبًا منك، ثم بعد ذلك ما يلبث أن يبتعد شيئًا فشيئًا، ثم يبتعد حتى لا تراه، يذهب بعيدًا.

فنحتاج إلى أننا نحاول أن نحتوي هذا الإنسان، أن نرده إلى الحق بأقرب الطريق، لا نكون سببًا في ضلاله وغوايته وبعده وانحرافه بسبب مواقفنا الصارمة تجاهه.

كما يقول بعض أهل العلم: إن أكثر الجهالة إنما رسخت في قلوب العوام بتعصب جماعة من جهال أهل الحق، أظهروا الحق في معرض التحدي والإدلاء، ونظروا إلى ضعفاء الخصوم بعين التحقير والازدراء، فثارت من بواطنهم دواعي المعاندة والمخالفة، ورسخت في قلوبهم الاعتقادات الباطلة، وتعذر على العلماء المتلطفين محو ذلك، مع ظهورها وفسادها[32]. يعني: هذه الانحرافات.

ويذكر هذا أيضًا أنه إذا اشتد تعصبهم وقع اليأس منهم، فالتعصب سببٌ يرسِّخ العقائد في النفوس، وهو من آفات علماء السوء، فإنهم يبالغون في التعصب للحق، وينظرون للمخالفين بعين الازدراء والاحتقار.

ثم يذكر ما يؤثّره ذلك، وينتجه يقول: تتوفر بواعثهم بعد ذلك على طلب نصرة الباطل، ويَقْوى غرضهم في التمسك بما نُسبوا إليه، ولو جاءوا من جانب اللطف والرحمة والنصح في الخلوة لا في معرض التعصب والتحقير لنجحوا في ذلك.

يقول: هؤلاء لربما -يعني الذين تكون عندهم مثل هذه الغلظة والصرامة- يعتبرون ذلك من قبيل الذبِّ عن الدين والنضال عن المسلمين، والواقع أن هذا يكون فيه هلاك الخلق، ورسوخ البدعة في النفوس.

إذًا نحن إذا أخطأ إنسان، إذا انحرف إنسان نحاول أن نحتويه، أن نرده إلى الحق، أن نتلطف بتفهيمه وتعليمه، أن نتحاور معه لا أن نتسلط عليه وكأننا ظفرنا بظفر، فرصة الآن عندنا شخص جديد أخطأ، شخص جديد أصدر قولًا أو رأيًا خالفنا فيه، افتح له "هاشتاج" وتعال.

هذا ما يصح، ليست الأمور بهذه الطريقة، لا تكون المعالجة بهذا الأسلوب، وإنما يكون ذلك بطرق حكيمة، يُراعَى فيها أمورٌ يكون من شأنها استجلاب هؤلاء للحق ورد هؤلاء للحق.

وقد نوقش بعض هؤلاء الذين -نسأل الله العافية- ركبوا مراكب صعبة وصاروا يشككون في أصول الدين ويثيرون الشبهات، ويحكي لي أحد المشايخ أنه كتب لأحدهم نصيحة تلطّف بها، فقال: لو أن هذه النصيحة جاءتني في البداية، أو لو أني عوملت من البداية بمثل هذا لما وصلت إلى هذه الحال، ثم ذكر له أنه محتفظ بعبارات قيلت له، يقول: فأرسل مجموعة من العبارات التي رُشق بها في أول مخالفته -نسأل الله العافية، طبعًا هو لا يجوز له هذا، كما قلنا:الإنسان لا يركب المراكب الصعبة بسبب جناية الآخرين عليه في زعمه أو ظنه أو توهمه، لكن نحن أيضًا لا نعين الشيطان على هذا، والله المستعان.

وشيخ الإسلام يذكر أن من أسباب انتقاص بعض المبتدعة للسلف، يقول: ما حصل في المنتسبين إليهم -يعني إلى السلف- من نوع تقصير وعدوان، وما كان من بعضهم من أمور اجتهادية الصواب في خلافها، فإن ما حصل من ذلك صار فتنة للمخالف لهم ضل به ضلالًا كبيرًا[33].

وهكذا، أحيانًا تكون طريقة المناقشة، أحيانًا المناظرة أمام الآخرين، أحيانًا في القناة الفضائية، أحيانًا في كذا، تحمل هذا الإنسان -كما يقول بعض أهل العلم- أن يأتي بالمتردية والنطيحة -يعني من الدلائل- من أجل أن يتشبث بباطله، وأن يخرج في النتيجة منتصرًا، فإن لم يستطع أن يورد من الدلائل والحجج فإنه يستعيض عن ذلك برفع الصوت، مع تحريك اليد، فإن لم يجدِ هذا فإنه يستعيض بالسباب والشتائم، بل قد يصل الأمر إلي مد الأيدي، ولربما رأينا في بعض المقاطع في قنوات ونحو ذلك بعض من يتحاورون يشتبكون بالأيدي في حال مزرية يخجل منها العاقل وهو يشاهد.

والعلماء -رحمهم الله- ذكروا بعض المناظرات قديمًا، كما ذكر ابن قدامة -رحمه الله- يقول: يصل الأمر إلى القذف، يتناظرون في المسجد في مسائل علمية أو فقهية، يصل الأمر إلى قذف العرض، يقول: ولربما مد يده فجذب لحيته، إذا أعيته الحجج يلجأ إلى السباب والشتائم، فإن أعياه ذلك مد يده، المهم أن ينتصر، وأن يخرج غالبًا، نسأل الله العافية.

العلم يفترض أن يكون رحمًا بين أهله، كما يقول الشافعي: رحم متصل، يقول: لا أدري كيف يتحول ذلك إلى عداوات قاطعة بين أهل العلم؟!.  

فيتحول هذا التعصب إلي نوع من التحزب، كما يقول شيخ الإسلام: "أمّا رأس الحزب فإنه رأس الطائفة التي تتحزب -أي تصير حزبًا، فإن كانوا مجتمعين على ما أمر الله به"[34]، إلى آخره.

يعني تتحول القضية إلى مناصرة، وكل شخص يقوي الآخر، ويؤازره وينابذ الآخرين، وهذا لا يصح ولا يسوغ بحالٍ من الأحوال.

والمشكلة حينما ينشأ جيل في بيئة كهذه، جيل ينشأ في بيئة متعصبة، بيئة يكثر فيها مثل هذا التراشق، والتحزّب، والعصبيات.

الذهبي -رحمه الله- يذكر نموذجًا من هذا يصف زمن معاوية بن أبي سفيان وحب الناس له، ومغالاة هؤلاء في تفضيله، يقول: لِمَا رأوا من إحسانه ولنشأتهم في الشام على حبه، فنشأ أولادهم على ذلك، كما أنه في الطرف الآخر في العراق نشأ جيل على حب علي كوّن منهم جيشه، وكانوا يبغضون من بغى عليه ويتبرءون منهم، وغلا خلق منهم في التشيّع.

ويختم الذهبي هذا بقوله: فبالله كيف يكون حال من نشأ في إقليم لا يكاد يشاهد فيه إلا غاليًا في الحب، مفرطًا في البغض؟، ومن أين يقع له الإنصاف والاعتدال؟.

فنحمد الله على العافية، أنْ أوجدنا في زمان قد انمحص فيه الحق واتضح من الطرفين، وعرفنا مآخذ كل واحد من الطائفتين وتبصرنا"[35]، إلى آخره.

يعني: هذا فيما سبق، ولكن في زماننا وفي كل زمان يقع مثل هذا، وينشأ جيل ولا يشاهد إلا هذا الانقسام والتعصب ويتقمص ذلك ويتلقف هذه الأمور، ثم بعد ذلك يكون نبتًا جديدًا يواصل هذه المسيرة الظالمة.

فهذا ينبغي للعاقل أن يتجرّد منه وأن يفكر وأن ينظر فيما يُقدم عليه، والطبع لص، الطبع سرّاق، فإذا استرسل الإنسان مع أهل زمانه فإنه يتأثر بذلك ولابد.  

وقد يكون الباعث على هذا التعصّب والتجني بهذه الطريقة -كما سبق- أمورًا أخرى وهو السبب العاشر الذي سنتحدث عنه -إن شاء الله تعالى- في الليلة الآتية، نحن سنواصل الحديث -إن شاء الله - في الأيام والليالي الآتية حتى نأتي على هذا الموضوع، بقيت فيه بقايا، والحديث ذو شجون، وأسأل الله أن ينفعنا وإياكم بذلك.

 
  1. انظر: سير أعلام النبلاء (18/ 548).
  2. انظر: المنتظم في تاريخ الملوك والأمم (18/ 138).
  3. الاستقامة (1/ 28).
  4. المصدر السابق (1/ 31).
  5. المصدر السابق (1/ 37).
  6. المصدر السابق (1/ 39).
  7. انظر: منهاج السنة النبوية (6/ 150).
  8. انظر: جامع بيان العلم وفضله (2/ 1113)، رقم: (2178).
  9. المصدر السابق.
  10. بدائع الفوائد (2/ 165- 166).
  11. أخرجه البخاري، كتاب الرقاق، باب التواضع (8/ 105)، رقم: (6502).
  12. مجموع الفتاوى (3/ 415-416).
  13. أخرجه البخاري، كتاب الأدب، باب تعاون المؤمنين بعضهم بعضاً (8/ 12)، رقم: (6026)، ومسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تراحم المؤمنين وتعاطفهم وتعاضدهم (4/ 1999)، رقم: (2585).
  14. انظر: فتح القدير للشوكاني (3/ 302).
  15. انظر: جامع بيان العلم وفضله (2/ 820)، رقم: (1539).
  16. مجموع الفتاوى (20/ 8-9).
  17. اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم (1/ 86).
  18. المصدر السابق (1/ 91).
  19. الأصول لأبي الحسن الكرخي، ص: (169).
  20. المصدر السابق.
  21. انظر: جامع بيان العلم وفضله (2/ 1134)، رقم: (2234).
  22. سير أعلام النبلاء (المقدمة/134).
  23. انظر: أدب الطلب ومنتهى الأدب للشوكاني (ص:85).
  24. أحكام القرآن لابن العربي (4/ 370).
  25. أدب الطلب ومنتهى الأدب، للشوكاني (ص:85).
  26. مجموع الفتاوى (14/ 482).
  27. سير أعلام النبلاء (19/ 418).
  28. مجموع الفتاوى (6/ 25- 26).
  29. أخرجه البخاري، كتاب بدء الخلق، باب صفة إبليس وجنوده (4/ 123)، رقم: (3275).
  30. الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم (4/ 186).
  31.  انظر: القائد إلى تصحيح العقائد (ص:13)
  32. الموافقات (5/ 289).
  33. مجموع الفتاوى (4/ 155).
  34. المصدر السابق (11/ 92).
  35. سير أعلام النبلاء (3/ 128).

مواد ذات صلة