الثلاثاء 17 / جمادى الأولى / 1446 - 19 / نوفمبر 2024
(3 أ) هل سمعت بالجيش الذي يغزو الكعبة ؟
تاريخ النشر: ٢٥ / شوّال / ١٤٣٦
التحميل: 8045
مرات الإستماع: 4599

(3 أ) هل سمعت بالجيش الذي يغزو الكعبة؟

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.

أواصل الحديث بهذا الموضوع، فأقول: بعد أن ذكرنا في الليلة الماضية سؤالاً يتصل بحديث حاطب ، وحاصله أنه وقع منه نوع موالاة للمشركين، وموادة بنص الآية، وكان فعله ذاك هو سبب نزولها، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ [الممتحنة:1]، فهذا الذي صدر عن حاطب بصرف النظر عن الملابسات مما قام في قلبه، أو من دواعيه لهذا الفعل نخرج معه بنتيجة وهي أنه ما كل نوع من الموالاة يكون كفراً مُخرجاً من الملة، فالموالاة أنواع موالاة المشركين، ثم ما يكون منها من الكفر المُخرج من الملة لابد فيه من تحقق الشروط وانتفاء الموانع، فمن الذي يستطيع أن يُقدر النوع المخرج من الملة وغير المخرج من الملة؟، وما كان من قبيل المخرج من الملة هل تحققت فيه الشروط وانتفت الموانع من هذا أو ذاك أو لم تتحقق؟ ومن الذي خول الإنسان أن يُنقر عن قلوب الناس، ويبحث وراءهم لينظر هل تحققت الشروط فيهم وانتفت الموانع من أجل أن يكفرهم؟!

هذا لم يُعهد بعمل علماء المسلمين فضلاً عن عامتهم، ثم أيضاً إذا تبين له ذلك بحيث تحققت الشروط وانتفت الموانع، وكان من العلماء الراسخين فمن الذي خوله ليقوم بتنفيذ حكم الردة في هذا المُعين، مع أن هذه الأحكام من الردة أو الحدود قد تُترك لمصلحة راجحة، أو لدفع مفسدة غالبة، فالنبي ﷺ لم يقتل واحداً من المنافقين مع أنهم قالوا ما قالوا لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ [المنافقون:8]، وقال ابن أُبي أيضاً: "والله ما مثلنا وهؤلاء إلا كما قال الأول: سمِّنْ كلبَك يأكلْك"[1]، وقال: "إن رجعنا إلى المدينة ليُخرجن الأعز -يعني نفسه- منها الأذل -يعني النبي ﷺ"، هذا كفر، وكانت له مقالات مشابهة، وما قتله النبي ﷺ، بل حينما مات وجاء ابنه عبد الله إلى النبي ﷺ تعرفون أنه أعطاه قميصه ليُكفن به، وهو الذي قذف عرضه ﷺ، ثم إنه ﷺ أراد أن يُصلي عليه فنهاه عمر  حتى نزل قول الله : وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ [التوبة:84]، هذا رجل صدر منه من الكفر ما ترون، ومع ذلك النبي ﷺ لم يقتله وهو الإمام الأعظم ﷺ دفعاً لمفسدة، لئلا يقول الناس: إن محمداً يقتل أصحابه[2]، هذه مفسدة، فمن الذي يُقدر أن هذا يكون ردة أو ليس بردة، وأن هذه الشروط تحققت أو لم تتحقق في زيد وعمرو؟، ومن الذي طالبه بأن يبحث لينظر ويُفتش ويُنقب ويشق عن قلوب الناس؛ ليعرف هل تحققت الشروط وانتفت الموانع أو لا؟، ثم بعد ذلك من الذي خوله بتنفيذ الحكم المبني على ذلك؟، المشهور عند أهل العلم أن النبي ﷺ لم يُقم حد القذف على عبد الله بن أُبي لما قذف عائشة -ا؛ لدفع مفسدة أعظم، كان يعلم ﷺ أن آنافاً ستتورم لجلده وإقامة الحد عليه، فتركه، فهذا باب واسع وأصل عظيم من أصول الشريعة وهي أنها جاءت بتحقيق المصالح ودفع المفاسد، فمن الذي يستطيع أن يقدر المصالح الشرعية والمفاسد؟ من الذي يستطيع إذا كان كل أحد يفعل ما يحلو له، وما يروق له مع حداثة السن وقلة العلم، وقلة الورع، وضعف العقل، وكما ترون أنواع الفساد العام والخاص الذي يترتب على هذه الأعمال العِظام والجرائم الكبار.

نعود إلى سؤال آخر نوجهه إلى هذا الشاب لعله أن يُفيق، وأن يتبصر وأن يستدرك قبل فوات الأوان، وذلك ما جاء في حديث عائشة -ا- قالت: قال رسول الله ﷺ: يغزو جيشٌ الكعبةفإذا كانوا ببيداء من الأرض، يعني: الأرض المُنبسطة الواسعة، يُخسف بأولهم وآخرهم، قالت: قلت: يا رسول الله، كيف يُخسف بأولهم وآخرهم، وفيهم أسواقهم ومن ليس منهم؟، أسواقهم يعني أهل السوق منهم الذين يأتون معهم من التجار ونحو ذلك، قال: يُخسف بأولهم وآخرهم ثم يُبعثون على نياتهم[3]، متفق عليه، وفي أعراف الناس اليوم أن هؤلاء الذين يأتون مع الجيوش من التجار ونحوهم أو التجارات أو الأموال أن هذا هو دعم للجيش، فالجيش لا يستطيع أن يتحرك من غير هذه المؤن، فهم معهم، وهذا الجيش جاء يغزو الكعبة فعمهم الخسف، يُخسف بأولهم وآخرهم، وفي غير الصحيحين في بعض رواياته قال: يهلكون مهلكاً واحداً ويصدرون مصادر شتى، يبعثهم الله على نياتهم[4]، هذا اللفظ في حديث عائشة، وفي حديث أم سلمة: يُبعثون على ما في أنفسهم[5]، يعني: على نياتهم، لاحظ: جاء هذا الجيش يغزو الكعبة فأخبر النبي ﷺ أنهم يُبعثون على نياتهم، بمعنى أنهم في العاقبة لا يُحكم بخلودهم في النار باعتبار أنهم يتفاوتون في أحوالهم، فمنهم من يكون كافراً، ومنهم من ليس كذلك؛ لأنه قال: يُبعثون على نياتهم، يعني أن منهم من قد يكون ناجياً، ولاحظ أنه في هذا الجيش، جاء يغزو ماذا؟ جاء يغزو الكعبة، من الذي يستطيع أن يقدر في مثل هذه المسائل هذا يكفر وهذا لا يكفر؟، من الذي يستطيع بحسب نياتهم، بحسب ما قام في قلوبهم؟، ومن الذي يعلم ما في النيات؟ هو الله وحده، ولهذا سيأتي قول النبي ﷺ بأنه لم يؤمر بأن يشق عن قلوب الناس، وشيخ الإسلام -رحمه الله- يقول: "وقد يقاتِلون -يعني الكفار يقاتلون المسلمين- وفيهم مؤمن يكتم إيمانه يشهد القتال معهم، ولا يمكنه الهجرة وهو مُكره على القتال ويُبعث يوم القيامة على نيته"[6].

لاحظ: في جيش الكفار يقاتلون المسلمين، وفيهم مؤمن يكتم إيمانه مُكره فلا يكون هالكاً يوم القيامة، بمعنى أنه لم يكفر بهذا الفعل، هذا كلام شيخ الإسلام -رحمه الله، من الذي يُقدر هذه الأمور؟ إطلاق الأحكام هكذا إطلاقاً عامًّا مُجملاً لأدنى شُبهة هذا أمر لا يسوغ بحال من الأحوال، بل إن شيخ الإسلام -رحمه الله- حينما تكلم عن أهل قبرص، وكانت في ذلك الوقت بيد النصارى، فتحها المسلمون في زمن عثمان ثم استردها النصارى، فكان قد سُئل عن مسلمين في جيش النصارى، في جيش أهل قبرص، فشيخ الإسلام جعلهم على أصناف، لم يكفرهم جميعاً، وكانت بينهم وبين المسلمين حروب، جعلهم على أصناف لم يُكفر الجميع، فمنهم طائفة كفار، ومنهم منافقون، ومنهم من ليسوا كذلك، لكنهم على خطر عظيم بلا شك، ليس هذا الكلام للتهوين من الوقوع في هذه الأعمال من الموالاة للمشركين، وإنما الكلام هنا في موضوع آخر، الكلام في التبصر والتفكر والتعقل قبل أن يرد الإنسان موارد الهلكة، قبل أن يتخوض الإنسان في الدماء، ثم بعد ذلك قد يخسر دنياه وآخرته، يخوض في الدماء مستحلا لها، متقرباً إلى الله بقتل أهل الإيمان.

أسأل الله أن تكون هذه الأسئلة سبباً لفتح قلوب وبصائر، والله أعلم.

وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه.

  1. تفسير الطبري (22/ 664).
  2. أخرجه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب قوله: يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى المَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ وَلِلَّهِ العِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ المُنَافِقِينَ لاَ يَعْلَمُونَ [المنافقون:8]، برقم (4907)، ومسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب نصر الأخ ظالما أو مظلوما، برقم (2584)، وتفسير الطبري (22/ 664).
  3. أخرجه البخاري، كتاب البيوع، باب ما ذكر في الأسواق، برقم (2118)، ومسلم، كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب الخسف بالجيش الذي يؤم البيت، برقم (2884).
  4. أخرجه مسلم، كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب الخسف بالجيش الذي يؤم البيت، برقم (2884).
  5. أخرجه الترمذي عن صفية، أبواب الفتن عن رسول الله ﷺ، باب ما جاء في الخسف، برقم (2184)، وأحمد في المسند، برقم (26859)، وقال محققوه: "حديث صحيح".
  6. انظر: مجموع الفتاوى (19/ 224)، ومنهاج السنة النبوية (5/ 121).

مواد ذات صلة