(3 ب) أولئك الذين نهاني الله عن قتلهم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.
أواصل الحديث في هذا الموضوع، فأقول لهذا الشاب: ما تقول في هذه الأحاديث الثلاثة المتشابهة في موضوعها؟ حديث عبيد الله بن عدي بن الخيار: "أن رجلاً من الأنصار حدثه: أتى رسولَ الله ﷺ في مجلس"، الأنصاري جاء إلى النبي ﷺ في مجلس، "فسارّه يستأذنه في قتل رجل من المنافقين، فجهر رسول الله ﷺ"، الرجل يتكلم سرًّا مع النبي ﷺ "فجهر النبي ﷺ فقال: أليس يشهد أن لا إله إلا الله؟، قال الأنصاري: بلى يا رسول الله، ولا شهادة له"، يعني: أنه منافق، "قال رسول الله ﷺ: أليس يشهد أن محمداً رسولالله؟، قال: بلى يا رسول الله، ولا شهادة له، قال: أليس يصلي؟، قال: بلى يا رسول الله، ولا صلاة له، فقال رسول الله ﷺ: أولئك الذين نهاني الله عنهم[1]، أولئك: يعني يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، ويُصلي، نهاني الله عنهم، يعني: عن قتلهم، فكيف بقتلهم وهم يصلون في المسجد؟، بأي شيء يلقى الله -تبارك وتعالى- من فعل ذلك في المساجد.
ولاحظوا خطوات الشيطان والاستدراج، كان الشعار قبل سنين أخرجوا اليهود والنصارى من جزيرة العرب، من الذي يُخرجهم؟ من الذي خولك بإخراجهم؟ فيعمد إلى هذا وذاك، من الذي خولك؟ ثم لم يلبث الأمر إلى أن تحول إلى قتل المصلين، قتل الناس في المساجد، صار الناس يتخوفون حينما يتوجهون إلى المسجد، ولربما قالت المرأة المسنة لابنها: لعلك تذهب إلى مسجد في ناحية البلد، أو تذهب فتصلي في فناء المسجد، خوفاً عليه، خوفاً من ماذا؟ من شهود الجمعة في داخل المسجد، إلى هذا الحد صار الأمر، ويكفي هذا الدعاء من المسلمين الكبار والصغار، والعجائز، والمجامع العامة في المسجد الحرام، والمسجد النبوي والجُمع وعلى المنابر، وهي من أحرى أوقات الإجابة يوم الجمعة والناس يؤمنون في الدعاء على هؤلاء، الإنسان لو دعا عليه واحد وهو غير ظالم له لم ينم تلك الليلة، فكيف بدعاء هذه الأمة، ولعل فيهم من مستجابي الدعوة؟، كيف يفلح هذا؟ وكيف يعيش؟ وكيف يأكل ويشرب وينام ويرتع؟، هذا حديث: أولئك الذين نهاني الله عنهم، هؤلاء الذين يعمد إلى قتلهم أو ذبحهم أحياناً، هؤلاء أليسوا يشهدون أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وهم يصلون بدليل أنه عمد إليهم في المسجد؟.
أولئك الذين نهاني الله عنهم، أنت تبحث عما عند الله، تريد الأجر، تقدم نفسك بهذه الطريقة، وهذه القِتلة الكريهة مع أنه لا يجوز للإنسان أن يكون قتله بيده، ولو كان يقاتل الكفار المحاربين، هذه العمليات التي تُسمى بالعمليات الانتحارية هي لا تجوز حتى في قتال الكفار المحاربين الذين لا شبهة في قتالهم؛ لأنه يقتل نفسه بيده، وهذه النفس لا يملكها، وجميع النصوص التي يحتج بها من أجاز ذلك في قتال الكفار المحاربين ليس فيها دليل واحد أن قتله يكون بيده هو، كل الأدلة التي يستدلون بها يكون فيها مُخاطرة لكن القتل يقع بيد العدو، لا يوجد دليل واحد على جواز هذا العمل، وهذا يقتل بهذه الطريقة يقتل من؟ يقتل أهل الإسلام، وأين؟ في بيوت الله -تبارك وتعالى، أولئك الذين نهاني الله عنهم، أنت أعلم من رسول الله ﷺ؟! تستدرك عليه؟ من الذي علمك أن هذا سائغ والنبي ﷺ يقول: أولئك الذين نهاني الله عن قتلهم، هذا الحديث الأول.
الحديث الثاني -وهو في معناه: حديث أبي سعيد الخدري قال: "بعث عليٌّ حينما كان في اليمن إلى رسول الله ﷺ من اليمن بذهب في أدم"، يعني: جلود، "فقسمها رسول الله ﷺ بين زيد الخيل، والأقرع بن حابس، وعُيينة بن حصن، وعلقمة بن عُلاثة"، لاحظ هؤلاء سادة في قومهم يتألفهم النبي ﷺ، "فقال أناس من المهاجرين والأنصار: نحن أحق بهذا، فبلغ ذلك النبي ﷺ فشق عليه، وقال: ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء، يأتيني خبر من في السماء صباحاً ومساء، فقام إليه، هذا الشاهد، ناتئ العينين مُشرف الوجنتين ناشز الوجه كث اللحية محلوق الرأس مشمر الإزار فقال: يا رسول الله، اتقِ الله، يعني: عنده أن النبي ﷺ لم يعدل وأنه ظلم بهذه القسمة، فهو يعظ النبي ﷺ، فقال النبي ﷺ: أولستُ بأحق أهل الأرض أن أتقي الله، ثم أدبر، فقام إليه خالد سيف الله فقال: يا رسول الله ألا أضرب عنقه، فقال: لا، لاحظ: الكلمة التي قالها كبيرة عظيمة لكن ما العلة التي منعت النبي ﷺ من قتل هذا الناشز؟
قال: لا، إنه لعله يُصلي، فهذا القتل والناس يصلون والذبح لأهل الإيمان وتجد الرجل يُذبح وهو رافع السبابة يتشهد بناء على ماذا؟ لعله يصلي، فقال خالد : إنه رُبّ مصلٍّ يقول بلسانه ما ليس في قلبه، فقال النبي ﷺ: إني لم أؤمر أن أشق قلوب الناس، ولا أشقبطونهم يعني: ندع أمره إلى الله، هذا يصلي، فهذا الذي يبحث خلف الناس ليعرف هل هذا كافر أو ليس بكافر ويريد أن يحكم على كل أحد، هل هذا على جادة؟ النبي ﷺ يقول: لعله يصلي، حينما قيل له: هذه الصلاة ماذا تنفعه؟ فقال: لم أؤمر أن أشق قلوب الناس ولا أشق بطونهم، قال: ثم نظر إليه ﷺ وهو مُقفٍّ فقال: إنه سيخرج من ضِئضئ هذا قوم يتلون كتاب الله لا يجاوز حناجرهم، هم يقرءون القرآن لكنها قراءة لا تُجاوز الحناجر، قيل: بمعنى أنها لا ترتفع إلى الله ، وقيل: إن أثرها لا يصل إلى القلب، فقلوبهم لا تتأثر بالقرآن، وقيل: إن المراد أن هذه القراءة لا فقه معها، فقلوبهم لا تعقل ما يقرءون، فهم جهلة.
يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، قال عُمارة وهو أحد رواته: "فحسبته أنه قال: لئن أدركتهم لأقلتنهم قتل ثمود[2]،هذا حديث أبي سعيد الخدري .
الحديث الثالث: وهو حديث محمود بن الربيع الأنصاري أن عِتبان بن مالك -وكان من أصحاب النبي ﷺ ممن شهد بدراً من الأنصار، وحديثه معروف: "لما كف بصره طلب من النبي ﷺ أن يُصلي له في موضع في بيته ليصلي فيه، فجاء إليه النبي ﷺ في نفر من أصحابه، وجاء رجال من الأنصار"، فالشاهد من الحديث: "فقال قائل منهم لما اجتمعوا في بيت عِتبان: أين مالك بن الدُّخشن؟ فقال بعضهم: ذلك منافق لا يحب الله ورسوله"، لاحظ وصفه بصفتين: منافق ولا يحب الله ورسوله، ماذا قال النبي ﷺ؟ هل قال له: أحسنت اذهب إليه فاقتله؟، فقال النبي ﷺ: لا تقل، يعني: لا تقل هكذا، ألا تراه قال: لا إله إلا الله يريد بذلك وجه الله، لاحظ هذه شهادة، شهادة من النبي ﷺ، شهد له بأنه يريد بذلك وجه الله، وهم يرون في تصرفاته أعمال المنافقين، فقال ذاك القائل: "الله ورسوله أعلم، قال: قلنا: فإنا نرى وجهه ونصيحته إلى المنافقين، فقال: فإن الله حرم على النار من قال: لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله[3]، فأنت ما يدريك هذا الرجل الذي قال: لا إله إلا الله ما يدريك عن حاله، فكيف حكمت بكفره وقد دخل في الإسلام بيقين، فلا يجوز إخراجه منه إلا بيقين، وكما قال شيخ الإسلام -رحمه الله: "إن الحكم بالكفر والردة لا يثبت بالاحتمال"[4].
وهذا الحديث له رواية أخرى أيضاً من حديث أنس ، قال: "لما أصيب عتبان بن مالك في بصره بعث إلى رسول الله ﷺ: أحب أن تأتيني فتصلي في بيتي وتدعو لنا بالبركة، فقام رسول الله ﷺ في نفر من أصحابه فدخلوا عليه فتحدثوا بينهم، فذكروا مالك بن الدُّخشن، فقال بعضهم: يا رسول الله، ذاك كهف المنافقين"، لاحظ العبارة كهف المنافقين، "ومأواهم، فأكثروا فيه، فقال رسول الله ﷺ: أوَليس يُصلي؟، قالوا: نعم يا رسول الله، صلاة لا خير فيها، فقال رسول الله ﷺ: نُهيت عن قتل المصلين، نُهيت عن قتل المصلين[5]، فما تقول في هذا؟!، وهم يرون أعمال المنافقين تتمثل فيه.
إذًا القضية ليست سهلة، الحكم على الناس بالكفر والردة في غاية الخطورة، ثم ما وراء ذلك من قتلهم واستباحة دمائهم أشد وأشنع، فالحذرَ الحذرَ ثم الحذر، فهذه أمور قد يحصل لك معها عكس المراد تماماً، فبدلاً من أن يكون فاعل ذلك يريد الجنة، وما عند الله يهوي على أم رأسه في النار، فلا يغرر أحد بنفسه.
أسأل الله -تبارك وتعالى- أن ينفعني وإياكم بما سمعنا، وأن يهدي قلوبنا ويصلح أعمالنا وأحوالنا، وأن يهدي ضال المسلمين، وأن يجمع كلمتهم على الحق، وأن يعيذنا جميعاً من مضلات الفتن، اللهم ارحم موتانا، واشفِ مرضانا، وعافِ مبتلانا، واجعل آخرتنا خيراً من دنيانا، ربنا اغفر لنا ولوالدينا، ولإخواننا المسلمين، والله أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه.
- أخرجه أحمد في المسند، برقم (23670)، وقال محققوه: "إسناده صحيح، رجاله ثقات رجال الشيخين غير صحابيِّه، وإبهامه لا يضرُّ، وقد سمِّي في الروايات الأخرى عبدَ الله بن عدي الأنصاري".
- أخرجه البخاري، كتاب المغازي، باب بعث علي بن أبي طالب ، وخالد بن الوليد ، إلى اليمن قبل حجة الوداع، برقم (4351)، ومسلم، كتاب الزكاة، باب ذكر الخوارج وصفاتهم، برقم (1064).
- أخرجه البخاري، كتاب الصلاة، باب المساجد في البيوت، برقم (425).
- انظر: الصارم المسلول على شاتم الرسول (ص:517).
- أخرجه أبو داود، كتاب الأدب، باب في الحكم في المخنثين، برقم (4928)، عن أبي هريرة ، والطبراني في الكبير واللفظ له، برقم (44)، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (2506).