الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله، وصحبه أجمعين. قال المفسر - رحمه الله تعالى -: "قال البخاري في أول كتاب التفسير: وسميت أمَّ الكتاب لأنه يبدأ بكتابتها في المصاحف، ويبدأ بقراءتها في الصلاة[1]، وقيل: إنما سميت بذلك لرجوع معاني القرآن كله إلى ما تضمنته، قال ابن جرير: والعرب تسمي كل جامع أمر أو مقدم لأمر - إذا كانت له توابع تتبعه هو لها إمام جامع - أُمًّا، فتقول للجلدة التي تجمع الدماغ "أم الرأس"، ويسمون لواء الجيش ورايتهم التي يجتمعون تحتها أُمًّا، قال: وسميت مكة أم القرى لتقدمها أمام جميعها، وجمعها ما سواها، وقيل: لأن الأرض دحيت منها".بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فقد سبق الكلام على بعض هذه المعاني في سبب تسمية سورة الفاتحة بأم القرآن، وعلى كل حال فتلك تعليلات يلتمسها العلماء في بيان وجه التسمية، ولا يقطع بشيء من ذلك، ولكن لعل أوجه الأقوال هو القول بأنها سميت بهذا؛ لأنها تجمع معانيه، ولا شك أن ما جمع ما تفرق في غيره يقال له ذلك في كلام العرب سواء كان ذلك في الذوات، أو كان في المعاني، وكذلك التقدم أيضاً فإنه يصح فيه مثل هذا، وعلى كل حال يبقى في القول بأنها سميت بذلك من أجل أنها كتبت في أول المصحف إشكال بناءً على أن ترتيب سور القرآن ليس توقيفياًً، والله أعلم.
"روى الإمام أحمد عن أبي هريرة عن النبي ﷺ أنه قال في أم القرآن: هي أم القرآن، وهي السبع المثاني، وهي القرآن العظيم[2] وروى أبو جعفر محمد بن جرير الطبري عن أبي هريرة عن رسول الله ﷺ قال: هي أم القرآن وهي فاتحة الكتاب وهي السبع المثاني[3] روى الإمام أحمد بن حنبل - رحمه الله تعالى - في مسنده عن أبي سعيد بن المعلى قال: "كنت أصلي فدعاني رسول الله ﷺ فلم أجبه حتى صليت قال: فأتيته فقال: ما منعك أن تأتيني؟ قال: قلت: يا رسول الله، إني كنت أصلي، قال: ألم يقل الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُم [سورة الأنفال:24]"[4].هناك فائدة خارجة عن موطن الاستشهاد من هذا الحديث وهي أن هذا الحديث يستدل به في أصول التفسير وقواعده على أن الآية قد ترد لمعنى ولكن تحتمل في ظاهرها وعمومها معانِيَ أخر، وإن لم يكن ذلك المعنى الذي وردت فيه من قبيل سبب النزول، لكنه معنى متبادر، فتحمل على هذه المعاني جميعاً إن لم يوجد معارض، فالذي يدل على هذا من السنة هذا الحديث، فالأصل المتبادر من قوله تعالى: اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ [سورة الأنفال:24] أن يستدل بها على أنها تدعو إلى طاعة الله ، وعبادته، وطاعة رسوله - عليه الصلاة والسلام -، وهنا استدل بها النبي ﷺ على أنه إذا ناداك باسمك فإن عمومها يشمل هذا.
ومن أمثلة ذلك قوله تعالى: وَكَانَ الْإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا [سورة الكهف:54]، وذلك أنه لما جاء النبي ﷺ لعلي وفاطمة، ووجدهما نائمين، فقال: ألا تصليان؟ فقال علي : "إن أرواحنا بيد الله متى شاء أن يبعثها بعثها"، فخرج - عليه الصلاة والسلام - ورجع وهو يلطخ فخذه ويقول: وكان الإنسان أكثر شيء جدلاً[5] مع أن الآية إنما نزلت لبيان حال جدل الكافر بالبعث.
ومن أمثلة ذلك أيضاً قوله تعالى: لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ [سورة التوبة:108]، أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ فقد وقع الخلاف بين الرجل الخدري والآخر الذي من بني عمرو بن عوف، فقال العوفي: إنه مسجد قباء، وقال الخدري: إنه مسجد النبي ﷺ، فقال النبي ﷺ: إنه مسجدي هذا.
كذلك في قوله ﷺ: يا أيها الناس! إنكم محشورون إلى الله حفاة عراة غرلاً، ثم قال: كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ [سورة الأنبياء:104][6].
فالآية سيقت في الاستدلال بالنشأة الأولى على البعث، فالذي خلق الخلق قادرٌ على أن يعيدهم ثانياً، فساقها النبي ﷺ في هذا المقام ليبين أنهم يبعثون كما ولدتهم أمهاتهم، فتعود إليهم أجزاؤهم التي فقدوها فقال: غرلاً، وبيَّن أيضاً أنه لا يكون معهم شيئ من اللباس والنعل، وما أشبه ذلك.
"ثم قال: لأعلمنك أعظم سورة في القرآن قبل أن تخرج من المسجد قال: فأخذ بيدي، فلما أراد أن يخرج من المسجد قلت: يا رسول الله! إنك قلت لأعلمنك أعظم سورة في القرآن، قال: نعم، الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته، وهكذا رواه البخاري وأبو داود والنسائي وابن ماجه[7]، روى البخاري في فضائل القرآن عن أبي سعيد الخدري قال: "كنا في مسير لنا فنزلنا، فجاءت جارية فقالت: "إنّ سيد الحي سليم، وإنّ نفَرَنا غيب؛ فهل منكم راق؟" فقام معها رجل ما كنا نأبنه برقية فرقاه فبرأ، فأمر له بثلاثين شاة، وسقانا لبناً".إن سيد الحي سليم: تعني أنه لديغ، وسمي اللديغ سليماً من باب التفاؤل؛ كما يسمون الأرض البيداء مفازة.
ما كنا نأبنه برقية: يعني ما كنَّا نعرفه برقية.
"فلما رجع قلنا له: أكنت تحسن رقية أو كنت ترقي؟ فقال: "لا، ما رقيت إلا بأم الكتاب"، قلنا: "لا تحدثوا شيئاً حتى نأتي، ونسأل رسول الله ﷺ، فلما قدمنا المدينة ذكرناه للنبي ﷺ فقال: وما كان يدريه أنها رقية، اقسموا لي، واضربوا لي بسهم[8]".قوله: وما كان يدريه أنها رقية هذا الأقرب فيه أنه من أوصاف سورة الفاتحة، وليس من أسمائها؛ فهي توصف بأنها رقية يرقى بها، وهذا يدل على أن الرقية لا يشترط لها شخص معين يتجشم الناس الذهاب إليه، ويجتمعون عنده كما هو حاصل الآن، فمثل هذا غير صحيح، وإنما يمكن لكل أحد أن يرقي بفاتحة الكتاب.
"روى مسلم في صحيحه والنسائي في سننه عن ابن عباس - ا - قال: "بينا رسول الله ﷺ وعنده جبرائيل إذ سمع نقيضاً فوقه"قوله: "إذ سمع نقيضاً فوقه" يعني أنه سمع مثل صوت الباب إذا فُتح.
"فرفع جبريل بصره إلى السماء فقال: هذا باب قد فتح من السماء ما فتح قط، قال: فنزل منه ملك فأتى النبي ﷺ فقال: أبشر بنورين قد أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك: فاتحة الكتاب، وخواتيم سورة البقرة، لم تقرأ حرفاً منهما إلا أوتيته وهذا لفظ النسائي ولمسلم نحوه[9]"البشارة هنا لا تعني أنه نزل بسورة الفاتحة في تلك اللحظة، وإنما نزلت سورة الفاتحة قبلُ في مكة، وهذا الحدث كان في المدينة.
"روى مسلم عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال: من صلى صلاة لم يقرأ فيها أم القرآن فهي خداج ثلاثاً غير تمام فقيل لأبي هريرة: إنا نكون خلف الإمام، فقال: اقرأ بها في نفسك فإني سمعت رسول الله ﷺ يقول: قال الله : قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، ولعبدي ما سأل، فإذا قال: الحمد لله رب العالمين قال الله: حمدني عبدي، وإذا قال: الرحمن الرحيم، قال الله: أثنى علي عبدي، فإذا قال: مالك يوم الدين، قال الله: مجَّدني عبدي - وقال مرة -: فوض إليَّ عبدي.."هذا الحديث جاء به هنا لبيان فضل سورة الفاتحة، وأخذ من هذا الحديث أيضاً تسمية سورة الفاتحة بسورة الصلاة وهذا من قوله: قسمت الصلاة...
ويمكن أن يستدل بهذا على أن البسملة ليست آية منها؛ لأنه على هذا لا تكون منقسمة على نصفين كما يفهم من هذا الحديث أن معنى الحمد غير معنى الثناء، فالحمد هو إضافة المحامد وصفات الكمال إلى المحمود، والثناء هو إعادة الحمد ثانياً أي تكرره وتثنيه من التثنية.
"فإذا قال: إياك نعبد وإياك نستعين، قال: هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل"
أي أن قوله: إِيَّاكَ نَعْبُدُ يكون لله حيث يتوجه المكلف إلى الله بأعماله له سبحانه، ويتقرب إليه، وقوله: {وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [سورة الفاتحة:5] أي أنه يطلب منه العون.
"فإذا قال: اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين، قال الله: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل وهكذا رواه النسائي[10]، وفي لفظٍ عند مسلم والنسائي: فنصفها لي، ونصفها لعبدي، ولعبدي ما سأل[11] وهو أنه قد أطلق فيه لفظ الصلاة والمراد القراءة كقوله تعالى: وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً [سورة الإسراء:110]"قوله: وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ أي بقراءتك، والمراد به قراءة الفاتحة على وجه الخصوص، فالصلاة والعبادة قد تسمى بجزئها، والنبي ﷺ قال: الحج عرفة[12] فدل ذلك على أنه ركنٌ فيها، والقاعدة في هذا الباب هي أنه إذا سميت العبادة بجزئها فإن ذلك يدل على أنه ركنٌ فيها، أو أنها لا تصح بدونه، ففي قوله - تبارك وتعالى -: وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا [سورة الإسراء:78] يدل هذا على ركنية القراءة في الصلاة؛ لأن تسمية العبادة بجزءٍ منها يدل على أنه ركنٌ فيها.
"كما جاء مصرحاً به في الصحيح عن ابن عباس - ا - وهكذا قال في هذا الحديث: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، فنصفها لي، ونصفها لعبدي، ولعبدي ما سأل، ثم بيّن تفصيل هذه القسمة في قراءة الفاتحة فدل على عظمة القراءة في الصلاة، وأنها من أكبر أركانها".هذا يدل أيضاً على أن إطلاق العبادة على جزءٍ منها يجعله من أركانها، فسورة الفاتحة ليس من أسمائها الصلاة، وإنما أطلقت الصلاة على جزءٍ منها وهي الفاتحة، فصدق عليها أن تكون ركناً في الصلاة.
"إذ أطلقت العبادة وأريد بها جزءٌ واحد منها وهو القراءة، كما أطلق لفظ القراءة والمراد به الصلاة في قوله: وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا [سورة الإسراء:78]، والمراد صلاة الفجر، كما جاء مصرحاً به في الصحيحين إنه يشهدها ملائكة الليل، وملائكة النهار، فدل هذا كله على أنه لابد من القراءة في الصلاة وهو اتفاق من العلماء، وقد دل عليه الحديث المذكور حيث قال - صلوات الله وسلامه عليه -: من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج[13] والخداج: هو الناقص، كما فسر به في الحديث: غير تمام، وأيضاً قد ثبت في الصحيحين عن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله ﷺ: لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب[14] وفي صحيحي ابن خزيمة وابن حبان عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: لا تجزئ صلاة لا يقرأ فيها بأم القرآن[15]. على كل حال فإن البحث في حكم قراءة الفاتحة في الصلاة مما يذكر في الفقه، لكن ذكره ابن كثير هنا، ومعلوم أن من منهجه - رحمه الله - أنه يشير إلى الأحكام الفقهية في هذا التفسير، فهو - رحمه الله - يفسر القرآن بالقرآن، ويفسر القرآن بالسنة وبالآثار، وكذلك أيضاً يذكر الأحكام لكنه لا يستطرد، ولا يتوسع فيها كما يفعل بعض من عني بمسائل الأحكام كالقرطبي - رحمه الله - في تفسيره، والشنقيطي في "أضواء البيان"، وأمثالهما، وأما ابن كثير فلا يتوسع لكنه يشير إلى الأحكام في هذا التفسير إشارة.
وقراءة سورة الفاتحة في الصلاة أظن أنها ركن لا تسقط لا خلف الإمام، ولا في حال الانفراد، ولا بحالٍ من الأحوال، فيجب على الإنسان أن يقرأها، اللهم إلا إن جاء والإمام راكع أو يهم بالركوع أو نحو هذا، فمثل هذا دل عليه حديث أبي بكرة لما جاء وركع دون الصف، فدل على أن ذلك يسقط لفوات محله، وتحتسب له هذه الركعة، وهذه مسألة فيها خلاف مشهور وكثير فيما إذا كان خلف الإمام في الصلاة الجهرية، لكن ظواهر الأدلة تدل على أنه يقرأ بفاتحة الكتاب، ولا يترك ذلك، فإن كان للإمام سكتات قرأ في سكتاته، وإن لم يكن له سكتات قرأ أثناء قراءته قراءة يسرع فيها حتى ينهي الفاتحة امتثالاً لأمر الله .
وهذه المسألة من المسائل التي لا يمكن فيها الخروج من الخلاف، لكن ينبغي العمل بالأحوط؛ لأنه إن قرأ فعند الآخرين أنه عاصٍ لله؛ لأن الله يقول: فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ [سورة الأعراف:204]، وعند من يقول بأنه يجب عليه أن يقرأ ويستدلون بمثل هذه الأحاديث، إذا ترك القراءة يقولون: لا تصح صلاته، فهو على هذا عند هؤلاء يأثم، وعند هؤلاء صلاته باطلة، لكن من اجتهد فأداه اجتهاده إلى أنها لا تقرأ خلف الإمام، أو سأل عالماً فأفتاه بهذا فلا يقال ببطلان صلاته بحالٍ من الأحوال، بل صلاته صحيحة، والله لا يكلفه بأكثر من هذا، وهذا من لطف الله .
ولذلك فالمسائل المختلف فيها مما يقْوى فيها الخلاف أو يخفَى مأخذ المسألة فإنها تعد من المسائل الاجتهادية، وإن وردت فيها الأدلة الصريحة مثل هذه المسألة، فالأدلة واضحة وصريحة لكنها متقابلة، فهذا التقابل صيّرها من مسائل الاجتهاد وليست من المسائل المقطوع بها، والله تعالى أعلم.
والله في مثل هذه المسائل لم يجعلها مما يترتب عليها النجاة، فالمسائل التي تترتب عليها النجاة بيّنها الله وحسمها مثل: وجوب الصلاة، ووجوب الصيام، والحج وما أشبه هذا، وأما باقي التفاصيل التي تحتها فهذه لا تتوقف عليها النجاة، بل يجتهد فيها العلماء ويختلفون.
"والأحاديث في هذا الباب كثيرة، فعلى المصلي أن يقرأ فاتحة الكتاب إماماً كان أو مأموماً أو منفرداً في جميع الصلوات، وفي كل ركعة ولا بد قال الله تعالى: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [سورة الأعراف:199-200]، وقال تعالى: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ وَقُل رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَن يَحْضُرُونِ [سورة المؤمنون:96-98]، وقال تعالى: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ* وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ* وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [سورة فصلت:34-36]، فهذه ثلاث آيات ليس لهنَّ رابعة في معناها".هذه من اللطائف التي في تفسير ابن كثير، فهذا التفسير يشتمل على لفتات ولطائف جميلة لو أن الواحد دوَّنها مع الأشياء الأخرى التي تمر به من قواعد التفسير، والقواعد التي تتعلق بالأحكام؛ فإنه ستجتمع عنده مجموعة من تلك الفوائد، واللطائف، والأحكام قد تصل إلى أن تكون بحثاً مستقلاً، فالقواعد التي في تفسير ابن كثير تصل إلى سبعين صفحة إذا كان مختصراً.
"فهذه ثلاث آيات ليس لهن رابعةٌ في معناها، وهو أن الله تعالى يأمر بمصانعة العدو الإنسي، والإحسان إليه؛ ليردَّه عنه طبعه الطيب الأصل إلى الموالاة والمصافاة، ويأمر بالاستعاذة به من العدو الشيطاني لا محالة إذ لا يقبل مصانعة، ولا إحساناً، ولا يبتغي غير هلاك ابن آدم؛ لشدة العداوة بينه وبين أبيه آدم".يعني دائماً مع العدو الإنسي ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ كما في هذه الآيات الثلاث، وأما العدو من الجن فليس فيه حيلة، فإنك إن تحسن إليه فليس لذلك معنى، ولا فائدة، وإنما يزداد شراً وعتواً، بل لا تستطيع الوصول إليه أصلاً حتى تحسن إليه، ولذلك فهو إنما يدفع بالاستعاذة.
"لشدة العداوة بينه وبين أبيه آدم من قبل كما قال تعالى: يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ [سورة الأعراف:27]، وقال تعالى: إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ [سورة فاطر:6]".الإنسان قد يبتلى بأضدادٍ وخصوم، وهؤلاء الأضداد والخصوم يتسلطون عليه إما بسبب زلةٍ زلها، أو سقطةٍ وقعت منه، أو ذنب أذنبه؛ فيقابله هؤلاء الأضداد والخصوم إما بإساءة فحسب، وإما بعداوة.
وتارةً يكون تسلطهم عليه من غير كسبٍ منه، ولا إساءة؛ لكنهم أعداء للمروءة، وأعداء لأهل الفضل، فإذا رأوا أحداً قد ميزه الله ، وأعطاه، وأفضل عليه؛ تحركت نفوسهم وعادوه، وطلبوا كل سبيل يوصلون الأذى فيه إليه، وهؤلاء إمامهم إبليس، فآدم لم يصنع به شيئاً أصلاً، ومع ذلك أبرم هذه العداوة، وتوعد ذريته: قَالَ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ [سورة الإسراء:62] حتى إنك تجد العبارات التي توعد بها عبارات قوية، فقوله: لأَحْتَنِكَنَّ هو توعد على أعلى المستويات مع أن آدم لم يصنع شيئاً به، لكنها بلوى.
والمقصود أن العداوة إن صدرت من شياطين الجن فعلاج ذلك الاستعاذة، وإن كانت صادرة من شياطين الإنس فالبعد والسلامة، فهذه العداوة هي مثل النار التي في الهشيم لا تبقي ولا تذر، فالبعد عنها هو العافية.
"وقال: أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاء مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا [سورة الكهف:50]، وقد أقسم للوالد آدم أنه له لمن الناصحين، وكذب، فكيف معاملته لنا وقد قال: فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [سورة ص:83]، وقال تعالى: فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ [سورة النحل:98-100]، ومعنى قوله: فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ [سورة النحل:98] أي إذا أردت القراءة كقوله تعالى: إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ.. [سورة المائدة:6] الآية".هذا من تفسير القرآن بالقرآن بمعنى أننا إذا أخذنا بظاهر اللفظ مجرداً فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ نجد أن قرأت فعل ماضي يعني إذا فرغت من القراءة، وهكذا ربما يفهم السامع، وهكذا فهم بعضهم، فقال: إن الاستعاذة تكون بعد الفراغ من التلاوة، فهذا قاله بعض أهل العلم، لكنه قولٌ شاذ، وهذه الآية إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ لا شك أن معناها إذا أردتم القيام، إذ لا يكون الوضوء بعد الفراغ من الصلاة قطعاً؛ لأنه لا تصح الصلاة إلا بوضوء، وكذلك فعل النبي ﷺ يفسر الآية، حيث كان يستعيذ قبل القراءة، ولذلك لجأ بعض أهل العلم للجمع بين هذا وبين ما فهموا من الظاهر فقالوا: إن الاستعاذة تكون في أول القراءة وبعد الفراغ منها؛ باعتبار أن الاستعاذة في البداية تكون امتثالاً، ولطرد الشيطان عنه فلا يشغل بوساوسه، وبعد الفراغ من أجل ألا يحصل له عجبٌ والتفات إلى العمل، وغرور، وتعاظم بعد هذا العمل الطيب الذي تعبد الله به، إلا أن هذا القول غير صحيح، فالاستعاذة إنما تكون في أول القراءة.
"أي إذا أردتم القيام، والدليل على ذلك الأحاديث عن رسول الله ﷺ بذلك، روى الإمام أحمد بن حنبل - رحمه الله - عن أبي سعيد الخدري قال: كان رسول الله ﷺ إذا قام من الليل فاستفتح صلاته وكبر قال: سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك ثم يقول: لا إله إلا الله ثلاثاً، ثم يقول: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم من همزه، ونفخه، ونفثه[16] رواه أهل السنن الأربعة وقال الترمذي: هو أشهر شيء في هذا الباب".هذا يدل على أن الاستعاذة تكون قبل القراءة، وفي الصلاة تقال في الركعة الأولى قبل قراءة الفاتحة، ولا تردد في كل ركعة، كما أنها لا تقال قبل قراءة السورة التي بعد الفاتحة.
ومن هذا الحديث يستفاد أن من الصيغ المشروعة في الاستعاذة أن تقول: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم من همزه، ونفخه، ونفثه، وهكذا السنة تفسر القرآن، فالله أمر بالاستعاذة بقوله: فَاسْتَعِذْ، وبعض أهل العلم: فُهِم من ذلك الإطلاق، وأن المقصود أن يستعيذ، فإذا قال الإنسان مثلاً: استعذت من الشيطان الرجيم، أو استعذت بالله من الشيطان، وهكذا استحسن بعضهم صيغاً من عند أنفسهم وقالوا: هكذا يستعيذ المرء بالله من الشيطان الرجيم، وهذا كلام غير صحيح، فالله أمر بالاستعاذة كما أمر بالصلاة، وكما أمر بالحج، والنبي ﷺ علمنا كيف نصلي، وكذلك علمنا كيف نستعيذ، فنقول كما قال: ((أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم من همزه، ونفخه، ونفثه)) وهذه أكمل صيغ الاستعاذة، ولها صيغ أخرى صحت عن رسول الله ﷺ.
والهمز هو الخنق، فالشيطان يخنق ويصرع كما قال الله : كَالَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ [سورة البقرة:275] أي: يخنقه فيصرعه، والنفخ يعني الكبر والتعاظم، والنفث يعني الشعر أو السحر.
"وقد فسر الهمزة بالموتة وهي الخنق، والنفخ بالكبر، والنفث بالشعر".
المقصود بالنفث الشعر السيء الذي يمدح الإنسان فيه بالباطل على سبيل التملق كما قال تعالى: وَالشُّعَرَاء يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ [سورة الشعراء:224]، وقد قيل: لا تصاحب شاعراً، فإنه يمدحك بالثمن، ويهجوك مجاناً، أي أنه إذا رأى منك ما رأى تولاك بالهجاء من غير أن تدفع له ثمناً، ولكنه لا يمدحك إلا وهو يرتقب منك العوض، والمقصود بهؤلاء الشعراء هم الشعراء القدامى، أما الآن فقد مات الشعر، وتركه الناس، وصار الشاعر إذا مدح وهجا لا يلتفت إليه، ولا يعبأ به، ولا يقرأ شعره، أما في الماضي فقد كانت القصيدة هي لسان البيان.
"كما رواه أبو داود وابن ماجه عن جبير المطعم عن أبيه قال: رأيت رسول الله ﷺ حين دخل في الصلاة قال: الله أكبر كبيراً - ثلاثاً -، الحمد لله كثيراً - ثلاثاً -، سبحان الله بكرة وأصيلاً - ثلاثاً -، اللهم إني أعوذ بك من الشيطان الرجيم من همزه، ونفخه، ونفثه، قال عمرو: همزه الموتة، ونفخه الكبر، ونفثه الشعر[17]، وقال ابن ماجه: حدثنا علي بن المنذر قال حدثنا ابن فضيل قال حدثنا عطاء بن السائب عن أبي عبد الرحمن السلمي عن ابن مسعود عن النبي ﷺ قال: اللهم إني أعوذ بك من الشيطان الرجيم، وهمزه، ونفخه، ونفثه[18] قال: همزه: الموتة، ونفخه: الكبر، ونفثه: الشعر". هذه من صيغ الاستعاذة، ومن الصيغ كما سبق: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، وكذلك قول الإنسان: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وله أن يتخير من هذه الصيغ ما شاء.
ولا يقال: إن قوله: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم من همزه، ونفخه، ونفثه يختص بصلاة الليل، وإنما هي صيغة من صيغ الاستعاذة، وإذا اختار الإنسان الصيغة الأكمل فلا شك أن ذلك أكمل، وإذا نوَّع تارة بهذا وتارة بهذا فهو حسن أيضاً.
"وروى الحافظ أبو يعلى أحمد بن علي بن المثنى الموصلي في مسنده عن أبي بن كعب قال: تلاحى رجلان عند النبي ﷺ، فتمزع أنف أحدهما غضباً، فقال رسول الله ﷺ: إني لأعلم شيئاً لو قاله لذهب عنه ما يجد؛ أعوذ بالله من الشيطان الرجيم وكذا رواه النسائي في اليوم والليلة[19]، وروى البخاري عن سليمان بن صُرَد قال: استب رجلان عند النبي ﷺ ونحن عنده جلوس، فأحدهما يسب صاحبه مغضباً قد احمر وجهه، فقال النبي ﷺ: إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه ما يجد، لو قال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فقالوا للرجل: ألا تسمع ما يقول رسول الله ﷺ، قال: "إني لست بمجنون"، وقد رواه أيضاً مع مسلم وأبي داود والنسائي[20]، وقد جاء في الاستعاذة أحاديث كثيرة يطول ذكرها هاهنا، وموطنها كتاب الأذكار، وفضائل الأعمال، والله أعلم.
وجمهور العلماء على أن الاستعاذة مستحبة ليست بمتحتمة يأثم تاركها، وحكى الرازي عن عطاء بن أبي رباح وجوبها في الصلاة وخارجها كلما أراد القراءة، واحتج الرازي لعطاء بظاهر الآية: فَاسْتَعِذْ وهو أمر ظاهره الوجوب، وبمواظبة النبي ﷺ عليها، ولأنها تدرأ شر الشيطان، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، ولأن الاستعاذة أحوط، فإذا قال المستعيذ: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم كفى ذلك".قوله: فإذا قال المستعيذ: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم كفى ذلك يعني يكون قد تحقق المطلوب.
قوله تعالى: فَاسْتَعِذْ جاء بصيغة الأمر، والأصل أن الأمر للوجوب، فاستدل القائلون بوجوب الاستعاذة عند قراءة القرآن بدليلين من المنقول، ودليلين من النظر؛ إلا أن الأخير منهما ليس دليلاً ولكنه مما يندب إليه المكلف وهو العمل بالأحوط، والعمل بالأحوط يندب إليه في الأحوال التي تحتمل ذلك وليس في كل قضية يندب إليه، فهناك قضايا لا يتأتى فيها العمل بالأحوط.
والمقصود أن أدلة القائلين بوجوب الاستعاذة من القرآن قوله تعالى: فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ [سورة النحل:98] وذلك أنه جاء بصيغة الأمر، ومن أدلة ذلك من السنة مواظبة النبي ﷺ على ذلك، واستدل على ذلك من النظر بأن ذلك يدرأ شر الشيطان، والعبد بحاجة إلى هذا بين يدي القراءة.
وعلى كل حال فالقول بوجوب الاستعاذة عند كل قراءة فيه إشكال، وذلك أنه إما أن يقال: إنه يوجد صارف وهو أنه لم ينقل عن النبي ﷺ في صفة صلاته في كل الأحوال أنه استعاذ، وإما أن يقال: إن خطب النبي ﷺ المنقولة عنه لم يرد فيها أنه كان يستعيذ إذا أراد أن يستشهد بآية أو آيات، وإما أن يقال: قد لا يوجد له صارف معلوم لدينا، وهذا باعتبار أن القواعد أغلبية، ويكون هذا من الأمثلة على نوع العبادات التي جاء الأمر فيها صراحةً ولكنه لا يحمل على الوجوب مع عدم وجود الصارف الظاهر، فالقواعد أغلبية بمعنى أنه إذا قيل: الأمر للوجوب فهذا يكفي أن يصدق على ثمانين في المائة، أو خمسة وسبعين في المائة، أو تسعين في المائة من الأمثلة، ويبقى قسم منها لا يعلم له صارف، ومع ذلك لا يحمل على الوجوب.
"ومن لطائف الاستعاذة أنها طهارة للفم مما كان يتعاطاه من اللغو والرفث".
هذه من لطائف هذا التفسير، فالطهارة للبدن تكون بالماء وضوءاً وغسلاً، أو بما يقوم مقامه كالتيمم، فالإنسان يتهيأ للصلاة، ويتهيأ للقراءة، فيكون متوضئاً حتى تحصل له هذه الطهارة، فهذه طهارة حسية، ويشرع له إذا أراد القراءة أن يجمع بين الطهارة الحسية والطهارة المعنوية وذلك بالاستعاذة، فهو كما يطهر بدنه بالغسل أو بالوضوء تهيؤاً للصلاة مثلاً؛ فكذلك يتهيأ للقراءة بطهارةٍ معنوية هي تطهير الفم من اللغو وما أشبه ذلك، والتنزه من الشيطان وملابسته، ووسوسته وما أشبه ذلك.
"وهو لتلاوة كلام الله وهي استعانة بالله، واعتراف له بالقدرة، وللعبد بالضعف والعجز عن مقاومة هذا العدو المبين الباطني الذي لا يقدر على منعه ودفعه إلا الله الذي خلقه، ولا يقبل مصانعة، ولا يدارى بالإحسان بخلاف العدو من نوع الإنسان، كما دلت على ذلك آيات من القرآن في ثلاث من المثاني، وقال تعالى: إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلاً [سورة الإسراء:65]، وقد نزلت الملائكة لمقاتلة العدو البشري فمن قتله العدو الظاهر البشري كان شهيداً، ومن قتله العدو الباطني كان طريداً، ومن غلبه العدو الظاهري كان مأجوراً، ومن قهره العدو الباطني كان مفتوناً أو موزوراً، ولما كان الشيطان يرى الإنسان من حيث لا يراه استعاذ منه بالذي يراه ولا يراه الشيطان".هذه الجملة من كلام ابن كثير فيها ثلاث لطائف:
الأولى: أن يجمع الإنسان بين الطهارة بالماء وطهارة الفم من اللغو، والتطهر المعنوي أيضاً بالتباعد عن الشيطان بهذه الاستعاذة.
الثانية: أن هذا يتضمن الاعتراف بالعجز عن دفع الشيطان، وأن المصانعة للشيطان لا حيلة للعبد فيها إلا أن يستعيذ منه.
الثالثة: أنه ذكر الفرق بين العدو الإنسي والعدو الجني، وأن الذي يغلبه عدوه من شياطين الجن يكون طريداً بخلاف ما إذا غلبه عدوه من الإنس، فالأول يكون فاجراً ضالاً بعيداً عن هدى الله قد تمكن منه الشيطان، واستحوذ عليه، وأما الثاني فهو مأجور إذا غلبه عدوه من الإنس.
ويتصل بهذه اللطيفة ما ذكره هنا من كون الشيطان يرى الإنسان ولا يراه، فحيلة الإنسان أن يستعيذ منه بالله الذي يرى الشيطان ولا يراه.
قال المفسر - رحمه الله تعالى - في تفسير الاستعاذة: "والاستعاذة هي الالتجاء إلى الله تعالى، والالتصاق بجانبه من شر كل ذي شر، والعياذة تكون لدفع الشر، واللياذ يكون لطلب جلب الخير". فمعنى الاستعاذة أي طلب العوذ؛ لأن السين والتاء للطلب تقول: الاستغفار يعني طلب المغفرة، وتقول: الاستعطاف يعني طلب العطف، والاستعاذة أي طلب العوذ، والعوذ يأتي بمعنى الإجارة أن يمنعك، وأن يعصمك وأن يجيرك من الشيطان الرجيم، وبعض أهل العلم كما أشار الحافظ ابن كثير - رحمه الله - هنا يفرق بين العوذ واللوذ فيقول: العوذ هو طلب الإجارة من المكاره، واللوذ هو الالتجاء لأجل تحصيل المطلوبات والمحبوبات، ويذكرون في هذا قول الشاعر:
يا من ألوذ به فيما أؤمله | ومن أعوذ به مما أحاذره |
وبعض أهل العلم يقول: العوذ يكون في هذا وفي هذا، قد يكون الغالب في الاستعمال والمتبادر عند الإطلاق في الاستعاذة أنها طلب العوذ بالإجارة من المكاره أي مما يخافه الإنسان، ويطلب الخلاص منه، والله أعلم.
"ومعنى أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: أي أستجير بجناب الله من الشيطان الرجيم أن يضرني في ديني أو دنياي، أو يصدني عن فعل ما أمرت به، أو يحثني على فعل ما نهيت عنه، فإن الشيطان لا يكفه عن الإنسان إلا الله، ولهذا أمر تعالى بمصانعة شيطان الإنس، ومداراته؛ بإسداء الجميل إليه ليرده طبعه عما هو فيه من الأذى، وأمر بالاستعاذة به من شيطان الجن؛ لأنه لا يقبل رشوة، ولا يؤثر فيه جميل؛ لأنه شرِّير بالطبع، ولا يكفه عنك إلا الذي خلقه.
وهذا المعنى في ثلاث آيات من القرآن لا أعلم لهن رابعة، قوله في الأعراف: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ [سورة الأعراف:199] فهذا فيما يتعلق بمعاملة الأعداء من البشر، ثم قال: وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [سورة الأعراف:200]، وقال تعالى في سورة قد أفلح المؤمنون: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ وَقُل رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَن يَحْضُرُونِ [سورة المؤمنون:96-98]، وقال تعالى في سورة حم السجدة: وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [سورة فصلت:34-36]".هذه فائدة كان قد ذكرها قبلُ وهي في كيفية التعامل مع شياطين الإنس، والتعامل مع شياطين الجن، وهي من اللطائف التي في هذا الكتاب.
"الشيطان في لغة العرب مشتق من شطن إذا بعد، فهو بعيد بطبعه عن طباع البشر، وبعيد بفسقه عن كل خير، وقيل: مشتق من شاط؛ لأنه مخلوق من نار". هذا الشيطان الذي نستعيذ منه المشهور أن مادته مشتقة من شطن كما ذكر أولاً، تقول: شطن بمعنى بَعُدَ، وتقول: شطنت البئر بمعنى أنها بَعُدَ قعرها حتى لا تصلها الدلاء، وتقول: شطنت ديار زيد، بمعنى بعدت، وقال الشاعر:
نأتْ بسعاد عنك نوىً شطون | فبانت والفؤاد بها حزين |
فقوله: نأتْ بسعاد عنك نوىً شطون يعني صارت ديارها بعيدة لا يوصل إليها إلا بمشقة، وقيل: للشيطان ذلك لأنه بعيدٌ عن الخير، وعن طاعة الله ، وبعيد عن الإيمان والهدى، وكل معروف، وبعيد عن رحمة الله ، فكل ألوان البعد هو موصوفٌ بها، وهذا المعنى الأول هو المشهور عند العلماء وهو: أنه مأخوذٌ من شطن.
والمعنى الثاني الذي ذكره هنا هو: أنه مأخوذ من شاط يشيط فهو شيطان، واللفظة دالة على الامتلاء عموماً تقول: غضبان على وزن فعلان، وظمآن وعطشان وجوعان، وما إلى ذلك من الألفاظ التي تدل على الامتلاء، فإذا قيل: إنه من شاط يشيط بمعنى عتا وتمرد، فازداد عتوه وتمرده، وخروجه عن طاعة الله ، وإفساده للخلق بما يلقيه إليهم من الوساوس، ويزين لهم من الشرور، تقول: استشاط فلانٌ غضباً أي امتلأ غضباً، وبلغ به الغضب مبلغه، وتقول: اشتط فلان في هذا الأمر، وهذا المعنى الثاني - شاط يشيط - يطلق عند العرب على كل عاتٍ متمردٍ سواء من الإنس، أو من الجن، ومنه البيت المشهور المعروف:
أيام يدعونني الشيطان من غضبٍ | وكنّ يهوينني إذ كنت شيطانا |
أي يوم أن كان عاتياً متمرداًفي أيام شبابه، وقال الشاعر يمدح سليمان - عليه الصلاة والسلام -:
أيما شاطنٍ عصاه عكاه | ثم يلقى في السجن والأكبال |
"وقيل مشتق من شاط؛ لأنه مخلوق من نار، ومنهم من يقول: كلاهما صحيح في المعنى ولكن الأول أصح، وقال سيبويه: "العرب تقول: تشيطن فلان إذا فعل فِعل الشياطين ولو كان من شاط لقالوا: تشيَّط". هذا الكلام من سيبويه - رحمه الله - تعليل لماذا كان الأول أصح من جهة تصريف الكلمة، فيقول: "العرب تقول: تشيطن إذا فعل فِعل الشياطين ولو كان من شاط لقالوا: تشيط"، فيقال: شاط فهو متشيط، لكن شطن فهو شاطن، وشيطان للمبالغة والدلالة على الامتلاء كما سبق معنا.
"فالشيطان مشتق من البعد على الصحيح، ولهذا يسمون كل من تمرد من جني وإنسي وحيوان شيطاناً قال الله تعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا [سورة الأنعام:112]، وفي مسند الإمام أحمد عن أبي ذر قال: قال رسول الله ﷺ: يا أبا ذر تعوذ بالله من شياطين الإنس والجن، فقلت: أو للإنس شياطين؟ قال: نعم[21]، وفي صحيح مسلم عن أبي ذر أيضاً قال: قال رسول الله ﷺ: يقطع الصلاة َالمرأة ُ، والحمار، والكلب الأسود، فقلت: يا رسول الله! ما بال الكلب الأسود من الأحمر والأصفر؟ فقال: الكلب الأسود شيطان[22]، وروى ابن جرير أن عمر بن الخطاب ركب بِرْذَوْناً فجعل يتبختر به فجعل يضربه، فلا يزداد إلا تبختراً، فنزل عنه وقال: "ما حملتموني إلا على شيطان، ما نزلت عنه حتى أنكرت نفسي"[23] [إسناده صحيح]".إذا قال الإنسان: أعوذ بالله من الشيطان، فـ "أل" هذه هل هي للعهد، فأنت تستعيذ بالله من الشيطان المعهود الذي هو إبليس مثلاً، أم أنها للجنس بمعنى أنك إذا قلت: أعوذ بالله من الشيطان أي من كل شيطان؟ يحتمل هذا وهذا، فبعض أهل العلم يقول: هي للجنس، فأنت تستعيذ بالله من كل الشياطين، ومعلومٌ أن الذي يوسوس ليس هو إبليس فقط وإنما إبليس وجنوده، أعوذ بالله من الشيطان أي من كل شيطان.
"والرجيم فعيل بمعنى مفعول، أي أنه مرجوم مطرود عن الخير كله".
باعتبار أن رجيم مصدر، فأصل المادة إذا أرجعناها إلى الفعل من رجم، وتقول: رجماً فهو رجيم، والمصدر يطلق ويراد به الفاعل تارةً، ويراد به المفعول تارةً أخرى، وبهذا فإن لفظة رجيم يمكن أن تكون بمعنى مرجوم، والمعنى الذي ذكره هنا فعيل بمعنى مفعول يعني مرجوم، فإن شئت فقل: هو مرجومٌ بالشهب كما قال تعالى: وَيُقْذَفُونَ مِن كُلِّ جَانِبٍ دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ [سورة الصافات:8-10]، والله أخبر عن النجوم أنه جعلها رجوماً للشياطين، فالشيطان يرجم بالشهب، ويرجم أيضاً بالذم، والسب، واللعن وما أشبه ذلك من كل قبيح يوصف به ويضاف إليه، وأيضاً هو مرجوم بمعنى مبعد ومطرود عن رحمة الله ، وقد يكون بمعنى فاعل أي رجيم بمعنى راجم؛ لأنه يرجُم الناس بالوساوس والخواطر السيئة، ويرجمهم بما يزين لهم من المنكر والباطل، لكن المعنى الأول هو المشهور، ولو قال قائل: إنه يحمل على المعنيين جميعاً فليس ذلك ببعيد والله أعلم، فهو مرجوم بالاعتبار الأول، وهو راجمٌ بالاعتبار الثاني، والقرآن يعبر به بالألفاظ القليلة الدالة على المعاني الكثيرة، والقاعدة أن اللفظ إذا احتمل معنيين فأكثر من غير ممانعة من حمله على أحدها فإنه يحمل على الجميع، والله أعلم.
"والرجيم فعيل بمعنى مفعول، أي أنه مرجوم مطرود عن الخير كله كما قال تعالى: وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِّلشَّيَاطِينِ [سورة الملك:5] وقال تعالى: إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ وَحِفْظًا مِّن كُلِّ شَيْطَانٍ مَّارِدٍ لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِن كُلِّ جَانِبٍ دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ [سورة الصافات:6-10]، وقال تعالى: وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاء بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ وَحَفِظْنَاهَا مِن كُلِّ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُّبِينٌ [سورة الحجر:16-18] إلى غير ذلك من الآيات وقيل: رجيم بمعنى راجم لأنه يرجم الناس بالوساوس والربائث، والأول أشهر وأصح.بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [سورة الفاتحة:1] افتتح بها الصحابة كتاب الله، واتفق العلماء على أنها بعض آية من سورة النمل، ثم اختلفوا هل هي آية مستقلة في أول كل سورة، أو من أول كل سورة كتبت في أولها، أو أنها بعض آية من كل سورة".المذاهب التي أشار إليها هي:
الأول: أنها أول آية من كل سورة -إضافة إلى كونها بعض آية من سورة النمل- سوى سورة براءة.
الثاني: أنها ليست آية من كل سورة وإنما تكون في بداية كل سورة لا على أنها من آيات السورة وإنما تكون للفصل بين السور.
وبعضهم يقول: هي آيةٌ من سورة الفاتحة فحسب.
وبعضهم يقول: لا هذا ولا هذا، أي أنها ليست آية مستقلةً أصلاً، لا للفصل بين السور، ولا من الفاتحة، وليست بآية من كل سورة، وإنما هي بعض آية من سورة النمل التي قال الله فيها: إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [سورة النمل:30].
والبحث في هذا طويل ومعروف ومشهور، ومن طلبه وجده في الكتب المطولة، وهناك مصنفات خاصة بالبسملة مستقلة، وبعضها مخطوط، وتجدون هذا في كتب التفسير، لا سيما كتب أحكام القرآن، وبعضهم يطيل فيه جداً، وتجدونه في شروح الحديث، والفقه، فالمسألة ليست خفية على أحد وإنما هي من المسائل المشهورة، والخلاف فيها كبير وكثير ومشهور، ومذاهب الأئمة فيها معروفة، وإن كانت هذه المذاهب تحتاج إلى تحرير سواء فيها أو في غيرها من كثير من المسائل، إلا أن هذه المسألة من أبرز المسائل التي إذا نظرت فيها عرفت أن هذه المذاهب لا ينبغي أن تؤخذ إلا من كتب أصحابها، وإلا فإنك تجد أشياء تنسب إلى الأئمة لم يقولوا بها في مثل هذه المسألة وفي غيرها وذلك إذا أخذت ذلك من الكتب الأخرى.
وأما المنقول عن الصحابة والتابعين فهو يحتاج أيضاً إلى تحرير، وإلى مراجعة في صحته وثبوته، ذلك أنه من أعجب الأشياء المنتشرة أنك تجد المسألة ينسب فيها أحد الأقوال إلى الخلفاء الأربعة وينسب القول الآخر الذي يخالفه تماماً إلى الخلفاء الأربعة كذلك!
فالحاصل أن هذه المسألة نموذج على ما ذكرت من شدة الحاجة إلى التحقق من نسبة الأقوال إلى قائليها سواء من الصحابة أو من غيرهم ممن جاء بعدهم من أصحاب المذاهب أو غيرهم أجمعين.
"وممن حكي عنه أنها آية من كل سورة إلا براءة: ابن عباس وابن عمر وابن الزبير وأبو هريرة وعلي . ومن التابعين: عطاء وطاوس وسعيد بن جبير ومكحول والزهري، وبه يقول عبد الله بن المبارك والشافعي وأحمد بن حنبل في رواية عنه، وإسحاق بن راهويه وأبو عبيد القاسم بن سلام - رحمهم الله -".هذا هو القول الأول وهو أنها آية من كل سورة إلا براءة، أي أنها معدودة من كل سورة وليست للفصل بين السور.
وهؤلاء يستدلون بأدلة، لكن ليس هنا مقام ذكر الأدلة والجواب عنها وإلا فلن ننتهي، لكن من أشهر أدلتهم حديث أنس في سورة الكوثر: "بينما رسول الله ﷺ بين أظهرنا إذ أغفى إغفاءةً، ثم أفاق وهو يضحك، فقال: أنزلت علي آنفاً سورة، ثم قرأ: بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ [سورة الكوثر:1][24]
وكذلك ما جاء في وصف قراءته ﷺ كما في حديث أم سلمة[25]، وكذلك في حديث أنس من أن قراءته ﷺ كانت مداً يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم[26].
هذه من أدلتهم الصحيحة الثابتة لكنها ليست صريحة في الدلالة على أن البسملة آية من كل سورة، فحديث أنس في سورة الكوثر مثلاً يبين أنه قرأ النبي ﷺ البسملة كما نبسمل في أوائل السور، فقد تكون مستقلةً تقال بين يدي قراءة السورة للفصل بين السور، فالمقصود أن هذا الدليل ليس بقاطع على أن البسملة آية من كل سورة، بل يوجد ما يدل على خلاف ذلك، فسورة قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [سورة الإخلاص:1] يقول العلماء: إنها بالإجماع أربع آيات من غير البسملة، وسورة الكوثر يقولون بالإجماع: إنها ثلاث آيات، فالبسملة تكون رابعة على هذا، ويقولون: إنها أقصر سورة، والإعجاز يتحقق بأقصر سورة هي ثلاث آيات.
ثم إن أثر ابن عباس الثابت عنه صريح في أنها ليست آية في كل سورة حيث قال: كان النبي ﷺ لا يعرف فصل السورة حتى ينزل عليه بسم الله الرحمن الرحيم[27].
وأصرح من هذا كله قول النبي ﷺ في سورة تبارك: إن سورةً ثلاثون آية شفعت لصاحبها حتى غفر له[28] وسورة تبارك ثلاثون آية من غير البسملة.
ومما يدل على أنها ليست آية في كل سورة ما ثبت عن النبي ﷺ من حديث أبي هريرة أنه كان يفتتح القراءة بـ الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [سورة الفاتحة:2][29].
فالمقصود أن هذه الأدلة وغيرها تدل على أن ما فهمه أصحاب هذا القول من مثل حديث أنس لما قرأ النبي ﷺ سورة الكوثر، وقرأ البسملة أن هذا الفهم ليس بقاطع أنها منها أبداً، كما أنه توجد أدلة أخرى يفهم منها خلاف ذلك، وإنما غاية ما في الأمر أن النبي ﷺ قرأ البسملة عند قراءته لسورة الكوثر، ولا يلزم أنه قرأها بناءً على أنها الآية الأولى من سورة الكوثر إطلاقاً، وعلى كل حال هذا هو القول الأول.
"وقال مالكٌ وأبو حنيفة وأصحابهما: "ليست آية من الفاتحة ولا من غيرها من السور"
مالك وأبو حنيفة يقولان ليست البسملة آيةً من الفاتحة ولا من غيرها من السور، وهذا يضيفونه إلى طائفة كثيرةٍ من القُرَّاء، من قراء مكة والمدينة والشام، وهو منسوب إلى الأوزاعي ورواية عن الإمام أحمد - رحمه الله -، ويقولون إنها ليست آية من الفاتحة ولا من غيرها مع إقرارهم أنها جزء من آية من سورة النمل.
ويلاحظ أن هذا قول لطائفة من القراء، كما أن القول الأول أيضاً منسوب إلى طائفة من القراء، ولذلك فإن مثل هذا أظنه يرجع إلى القراءة فهي ثابتة على أنها آية من كل سورة سوى براءة في بعض القراءات، وفي بعضها ليست كذلك لا في الفاتحة ولا في غيرها، ولذلك كما هو معلوم أن من أوجُه القراءات الصحيحة الثابتة المتواترة إسقاط البسملة أصلاً، فيصلون السورة بالسورة من غير بسملة، فلو أعيد هذا إلى القراءة أظن أن هذا سيحل الإشكال من أصله، فمن قرأ بقراءةٍ البسملةُ آيةٌ فيها من كل سورة سوى براءة فإنه لا يتركها أبداً، وتكون في عداد آيات السورة، ومن قرأ بقراءة فيها الإسقاط فله أن يسقط ويصل السور من غير بسملة، ويترك ذلك عند قراءته للسور في الأذكار كالمعوذات وقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [سورة الإخلاص:1]، وكذلك إذا قرأ في الصلاة لا يبسمل، بمعنى أنه لا يجب عليه أن يبسمل إذا قرأ بقراءة أخرى في الصلاة، وهذا يُحلُّ به الإشكال.
قال صاحب المراقي:
وبعضهم إلى القراءة نظر | وذاك للوفاق رأيٌ معتبر |
والخلاف شهرته أكثر في سورة الفاتحة، هل البسملة آية منها أم لا؟ وليست شهرة الخلاف في السور الأخرى بقدر ما هي بسورة الفاتحة، مع أنه خلاف موجود في هذا وفي هذا كما هو مشاهد، وكما قلت آنفاً: يمكن أن يرجع هذا إلى القراءة، لكن الذين يختلفون لا يلزم أنهم يقولون: إن هذا يرجع إلى القراءة وإلا لكان الموضوع قد انتهى، ولصار الاختلاف اختلاف تنوع أما الآن فالخلاف خلاف تضاد.
وأما لماذا أسقطت البسملة من سورة براءة؟ فالعلماء يتكلمون عنه، ويلتمسون فيه بعض التعليلات لكن لا يقطع بشيء منها، فبعضهم يقول: لأنها نزلت بالبراءة فلا يحسن أن تُبتدأ بـ بسم الله الرحمن الرحيم، وبعضهم يقول: إن الصحابة وقع عندهم تردد هل هي سورة مستقلة أم هي من الأنفال؛ لأنها تشبهها إلى حدٍ كبير، وبعضهم يقول غير هذا، والله أعلم.
"وقال داود: هي آية مستقلة في أول كل سورة لا منها، وهذه رواية عن الإمام أحمد بن حنبل"
هذا القول قول داود الظاهري، يقول فيه: "وهذه رواية عن الإمام أحمد بن حنبل"، بل هو مذهب الإمام، بل هو المنصوص عنه صراحة أنها كما قال هنا: آية مستقلة في أول كل سورة لا منها، أي أنها تنزل للفصل فقط بين السور وليست في عداد السورة، وهذا هو مذهب عبد الله بن المبارك - رحمه الله - واختاره جمعٌ من الأئمة من المتقدمين والمتأخرين كابن قدامة صاحب المغني، وشيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - وتلميذه ابن القيم، وحتى ابن جرير هذا ظاهر المنقول عنه، وكذلك الإمام ابن خزيمة.
لكنه لم يذكر القول المشهور الذي هو من أشهر ما يذكر عند ذكر الخلاف في البسملة، وهو: هل هي آية من الفاتحة أم لا؟ فهذا مذهب ومن أشهر المذاهب في هذه المسألة لم يذكره هنا، فالقول بأنها آية من الفاتحة وليست آية من كل سورة هذا منسوب إلى كثير من القراء، بل نسبه بعضهم إلى أكثر القراء، وينسب إلى جمعٍ من الأئمة من السلف وهذا يحتاج إلى تحرير أيضاً في نسبته وصحته عنهم، وقد نُسب إلى سعيد بن جبير، والشافعي - رحمه الله -، وهي قراءة نافع أصلاً - قراءة أهل مكة -، والشافعي - رحمه الله - كان من أهل مكة، ورواية عن أحمد، وهو قول ينسب لإسحاق بن راهويه - رحمه الله -، ولأبي عبيد القاسم بن سلام، ولأبي ثور، وجمع كثير جداً.
"فأما الجهر بها في الصلاة فمن رأى أنها ليست من الفاتحة فلا يجهر بها، وكذا من قال: إنها آية في أولها، وأما من قال بأنها من أوائل السور فاختلفوا".مسألة الجهر بالبسملة في الصلاة:
من رأى أنها ليست من الفاتحة ولا من غير الفاتحة فهذا قطعاً لا يجهر بها، لكن يبقى الكلام في من قال: إنها آية من الفاتحة أو أنها آية من كل سورة، فمن يقول: إنها آية للفصل بين السور، أو أنها آية من كل سورة أو غير ذلك لا يلزم منه القول بالجهر؛ لأننا إذا رجعنا إلى الأدلة المنقولة عن النبي ﷺ فنجد أن الثابت عنه ﷺ وعن خلفائه الراشدين هو ترك الجهر بالبسملة، يعني لو كان الإنسان يتخير القول بأنها آية من الفاتحة أو آية من كل سورة بناءً على ما ثبت في بعض أوجه القراءات فهل نقول: السنة له أن يجهر؟
قد لا يقال له ذلك؛ لأن النبي ﷺ لم يكن يجهر بقراءة البسملة.
قوله: "فأما الجهر بها في الصلاة فمن رأى أنها ليست من الفاتحة فلا يجهر بها، وكذا من قال: إنها آية في أولها" في ظني أن هذه العبارة تحتاج إلى تحرير ومراجعة وضبط؛ لأنها عبارة فيها إشكال، والله أعلم.
"وأما من قال بأنها من أوائل السور فاختلفوا، فذهب الشافعي - رحمه الله - إلى أنه يجهر بها مع الفاتحة والسورة، وهو مذهب طوائف من الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين سلفاً وخلفاً".إذا كانت القضية تتعلق بالقراءة خارج الصلاة فالأمر في هذا واسع، واختار كثيرٌ من القراء أنه يجهر بها إن جهر بالقراءة، ويسر بها إن أسرَّ، وهذا واضح ولا إشكال فيه، والنبي ﷺ لما قرأ سورة الكوثر قرأ بسم الله الرحمن الرحيم فهذا الكلام خارج الصلاة.
لكن حينما نقول: الجهر بها في الصلاة فهذه قضية عبادة، والنبي ﷺ كان يصلي بأصحابه، فالذين يقولون: إنه يجهر بها في الصلاة يستدلون بأدلة ومنها قراءة النبي ﷺ سورة الكوثر، حيث قرأ بسم الله الرحمن الرحيم فأسمع أصحابه، فيقال: هذا يستدل به للقراءة خارج الصلاة بحيث إذا جهر بالقراءة جهر بالبسملة، وإن أسر بالقراءة أسر بالبسملة، بل لا إشكال حتى إن جهر بالقراءة أن يسر بالبسملة إنما الإشكال في القراءة في الصلاة؛ لأن هذه قضية تتعلق بصفة الصلاة.
فالذين يقولون يجهر يستدلون بمثل حديث أنس[30]، ويستدلون بحديث أنس الآخر في وصف قراءة النبي ﷺ "كانت قراءته مداً يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم"[31]، وبحديث أم سلمة: "كان يقطع قراءته.."[32].
والحاصل أن هذا الوصف لقراءة النبي ﷺ لا يلزم منه أن يكون الجهر بالبسملة داخل الصلاة، أي أن ذلك ليس بقاطعٍ على أن النبي ﷺ كان يجهر بقراءة البسملة في الصلاة، وإذا وصلنا إلى هذا القدر فعندئذٍ نحتاج إلى دليلٍ آخر أوضح من هذا وأقوى منه في الدلالة على أنه يجهر بها، والحقيقة أنه توجد أدلة واضحة وصريحة في الجهر بها لكن لا يصح من هذه الأدلة شيء، فجميع الأدلة الصريحة الواردة في الجهر بالبسملة لا يصح منها شيء.
والعلماء أطالوا في الكلام عليها، وفي بيان عللها ووجوه ضعفها، فهي لم يصح منها شيء، ولو كانت صحيحة لارتفع بها الخلاف، أو كان سيقال على الأقل: إن النبي ﷺ كان أحياناً يجهر وأحياناً لا يجهر مثلاً، فأقول: لو صحت تلك الأدلة لقيل بهذا أو هذا، لكنه لم يصح منها شيء، مع وجود أدلةٍ أخرى تدل على أنه لم يكن يجهر، وهي أدلة صحيحة صريحة مثل حديث أنس في الصحيحين: "صليت خلف النبي ﷺ وأبي بكر، وعمر، فما كانوا يجهرون بـ"بسم الله الرحمن الرحيم"[33]، وكذلك حديث عبد الله بن مغفل [34].
فالمقصود أن عندنا أدلة صحيحة ثابتة صريحة في عدم الجهر، وأما في الجهر فأدلة صحيحة غير صريحة، أو أدلة صريحة غير صحيحة، ولذلك كان الأقرب في هذه المسألة هو أنه لا يسن الجهر بها، لكنه لو فعل ذلك ليعلّم الناس، أو لدفع مفسدة كأن يكون بين أناسٍ يرون الجهر بها ولا يفهمون، وإذا لم يجهر ربما أعاد بعضهم صلاته، أو شك في صحتها، وربما أقاموا الدنيا ولم يقعدوها، ففي هذه الحالة يجهر بها دفعاً لهذه المفسدة، فجمع القلوب وتأليفها في هذا معتبر.
"فجهر بها من الصحابة أبو هريرة وابن عمر وابن عباس ومعاوية ".
طبعاً هذا يحتاج إلى تحرير يعني مثل ما نقل عن معاوية أنه لما جاء إلى المدينة صلى، ولم يجهر بها، فأنكر عليه المهاجرون والأنصار، فصلى بهم بعد ذلك وجهر، فقالوا: كيف ينكر عليه المهاجرون والأنصار في مسجد رسول الله ﷺ وهم الذين تلقوا قراءته عنه، وعرفوا الصلاة منه، فيدل على أن النبي ﷺ كان يجهر، فنقول هذا الحديث أصلاً لا يصح، فهو لم يثبت عن معاوية، كما أن هناك أدلة أخرى صريحة لكنها في غاية الضعف، وبالمناسبة فإن الشيعة والرافضة يرون الجهر بالبسملة، وبعض ما دخل في هذا من الأحاديث هو بسبب كذب هؤلاء فهم أكذب الطوائف.
لكن يبقى أن القائل: إن السنة هي الجهر بالبسملة لا يشك في صحة صلاة من أسر بها، والقائل: إن السنة هي الإسرار لا يشك في صحة صلاة من جهر بها، فغاية ما في الأمر هو: ما السنة في ذلك؟، لكن المسألة تكون أكثر تأثيراً في إسقاط قراءتها بالكلية على أنها ليست من الفاتحة، فالإشكال هاهنا.
"وحكاه ابن عبد البر والبيهقي عن عمر وعلي - ا - ونقله الخطيب عن الخلفاء الأربعة".
هذا كله لا يثبت لا عن عمر ولا عن الخلفاء الأربعة .
"ونقله الخطيب عن الخلفاء الأربعة وهم: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي وهو غريب".
طالب العلم إذا رأى مثل هذا في مسألة فإنه يتوقف ويهاب، إذ كيف يقول الخلفاء الأربعة بهذا، والنبي ﷺ يقول: عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين[35] ثم يأتي من يقول: الجهر بها ليس من السنة؟! فالجواب أن يقال: إن هذا لا يثبت عنهم أصلاً، ولذلك حتى في التفسير تجد من يقول: قال ابن عباس ومجاهد وفلان وفلان، وأكثر هذا لا يثبت عنهم.
"ومن التابعين عن سعيد بن جبير وعكرمة وأبي قلابة والزهري وعلي بن الحسن وابنه محمد وسعيد بن المسيب وعطاء وطاوس ومجاهد وسالم ومحمد بن كعب القرظي وأبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم وأبي وائل وابن سيرين ومحمد بن المنكدر وعلي بن عبد الله بن عباس وابنه محمد ونافع مولى ابن عمر وزيد بن أسلم وعمر بن عبد العزيز والأزرق بن قيس وحبيب بن أبي ثابت وأبي الشعثاء ومكحول وعبد الله بن معقل بن مقرن، زاد البيهقي: وعبد الله بن صفوان ومحمد بن الحنفية، زاد ابن عبد البر: وعمرو بن دينار، والحجة في ذلك أنها بعض الفاتحة، فيجهر بها كسائر أبعاضها". يقول: "والحجة في ذلك أنها بعض الفاتحة"، وقال قبلُ: "فأما الجهر بها في الصلاة فمن رأى أنها ليست من الفاتحة فلا يجهر بها وكذا من قال: إنها آية في أولها" وقد سبق أن قلت: إن هذه العبارة تحتاج إلى تحرير، وعلى كل حال حتى على القول بأنها من الفاتحة فالمرجع في ذلك هو رسول الله ﷺ، فقد كان يقرأ ولا يجهر، والله يقول: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [سورة الأحزاب:21].
"وأيضاً فقد روى النسائي في سننه وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما والحاكم في مستدركه عن أبي هريرة : أنه صلى فجهر في قراءته بالبسملة، وقال بعد أن فرغ: إني لأشبهكم صلاة برسول الله ﷺ"[36]وضعفه جمع من أهل العلم، وعلى فرض صحته قالوا: ربما فعل ذلك أبو هريرة تعليماً لهم فقط، لا أن النبي ﷺ كان يجهر، وربما سمع النبي ﷺ يقرؤها يُسمع أصحابه كما كان يُسمعهم في الصلاة السرية بعض الآيات أي أن ذلك كان للتعليم، ففهِم أن السنة في ذلك الجهر، فيكون فهماً من أبي هريرة ، فالمقصود أن قوله: "إني لأشبهكم صلاة برسول الله ﷺ" لا يلزم منه أن النبي ﷺ كان يجهر بالبسملة، وهذا على فرض صحته.
"وفي صحيح البخاري عن أنس بن مالك أنه سئل عن قراءة النبي ﷺ فقال: كانت قراءته مداً، ثم قرأ بـ بسم الله الرحمن الرحيم، يمد بسم الله، ويمد الرحمن، ويمد الرحيم"[37]وهذا يستدل به من يقول بالجهر، ويستدل به من يقول: إن البسملة آية من الفاتحة، مع أن هذا ليس فيه دليل على أنها آية من الفاتحة كما هو واضح وإلا فالحديث ثابت وصحيح، وفيه وصفٌ لقراءته ﷺ ولا يعني أنه كان يجهر بها في الصلاة؛ فالحديث ليس فيه ما يدل على أن النبي ﷺ كان يفعل ذلك في صلاته.
"وفي مسند الإمام أحمد وسنن أبي داود وصحيح ابن خزيمة ومستدرك الحاكم عن أم سلمة - ا - قالت: كان رسول الله ﷺ يقطِّع قراءته: بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ[سورة الفاتحة1 : 4] وقال الدارقطني: إسناده صحيح"[38]هذا الحديث ثابت من حديث أم سلمة، لكنه لا يعني أن النبي ﷺ كان يجهر بها في الصلاة فليس فيه ذكر للصلاة أبداً، وهكذا نجد أن الأدلة الصحيحة غير صريحة، وهذا يستدل به من يقول: إن البسملة آية من الفاتحة، وهذا أيضاً ليس صريحاً.
"وروى الإمام أبو عبد الله الشافعي والحاكم في مستدركه عن أنس أن معاوية صلى بالمدينة فترك البسملة، فأنكر عليه من حضره من المهاجرين ذلك، فلما صلى المرة الثانية بسمل"[39]قوله: "فلما صلى المرة الثانية بسمل" يعني جهر، لكن هذا لا يصح.
"وفي هذه الأحاديث والآثار التي أوردناها كفاية ومقنع في الاحتجاج لهذا القول عما عداها فأما المعارضات والروايات الغريبة وتطريقها وتعليلها وتضعيفها وتقريرها فله موضع آخر.
وذهب آخرون إلى أنه لا يُجهر بالبسملة في الصلاة، وهذا هو الثابت عن الخلفاء الأربعة، وعبد الله بن مغفل وطوائف من سلف التابعين والخلف، وهو مذهب أبي حنيفة والثوري وأحمد بن حنبل".في كتابٍ واحد بل في صفحة واحدة ينسب إلى الخلفاء الراشدين أولاً أنهم يرون الجهر بالبسملة، أو أنهم كانوا يجهرون بها، ثم في نفس الصفحة يأتي القول الآخر، وهو مضاد ومناقض للقول الأول تماماً وهو أنهم ما كانوا يجهرون بها.
"وعند الإمام مالك أنه لا يقرأ البسملة بالكلية لا جهراً ولا سراً".
هذا بناءً على مذهبه من أنها ليست آية مستقلة أصلاً لا من السورة ولا من غير السورة، لكن هذا القول يبقى فيه إشكال، وإن كان يمكن أن يقال به على بعض الأوجه في القراءة، أما أن يقال: إنها ليست آية بإطلاق فهذا فيه إشكال كبير؛ لأن الأدلة على أنها آية واضحة.
"واحتجوا بما في صحيح مسلم عن عائشة - ا - قالت: "كان رسول الله ﷺ يفتتح الصلاة بالتكبير، والقراءة بـ الحمد لله رب العالمين"[40] هذا يستدل به على أن النبي ﷺ لم يكن يجهر بالبسملة، لكن لا يلزم من ذلك أن النبي ﷺ لم يكن يبسمل سراً، إنما فيما يُسمعهم كان يفتتح القراءة بالحمد لله رب العالمين.ويلاحظ أنه إذا جمعت هذه الأدلة جميعاً فإننا نخرج منها بنتيجة وهي: أن ا
نبي ﷺ لم يكن يجهر لكن لا يعني هذا أنه لا يبسمل، فالبسملة ثابتة وعدم الجهر بها هو السنة، ومن أسقطها فهذا يصح على بعض أوجه القراءة المتواترة، والقول بالجهر بها في الصلاة يحتاج إلى دليل آخر.
"وبما في الصحيحين عن أنس بن مالك قال: صليت خلف النبي ﷺ، وأبي بكر، وعمر، وعثمان، فكانوا يفتتحون بـ الحمد لله رب العالمين"[41]، ولمسلم: ولا يذكرون بسم الله الرحمن الرحيم في أول قراءة، ولا في آخرها"[42] ونحوه في السنن عن عبد الله بن مغفل "هذه أدلة صريحة وصحيحة في عدم الجهر لا يوجد مثلها عند القائلين بالجهر.
"فهذه مآخذ الأئمة - رحمهم الله - في هذه المسألة، وهي قريبة؛ لأنهم أجمعوا على صحة صلاة من جهر بالبسملة ومن أسر، ولله الحمد والمنة.قوله: "وهي قريبة" يعني أن ذلك لا يترتب عليه كبير أثر من صحة الصلاة وعدم ذلك، فالقضية في العمل المسنون هل هو الجهر أو الإسرار؟
وبعض أهل العلم لما رأى أدلة هؤلاء وأدلة هؤلاء قال: إن الإنسان مخير بالجهر وعدم الجهر، وهذا قول ابن حزم الذي خالف فيه شيخه داود.
"وروى الإمام أحمد بن حنبل في مسنده عن رديف النبي ﷺ قال: "عثر بالنبي ﷺ فقلت: تعس الشيطان، فقال النبي ﷺ: لا تقل تعس الشيطان، فإنك إذا قلت: تعس الشيطان تعاظم وقال: بقوتي صرعته وإذا قلت: بسم الله تصاغر حتى يصير مثل الذباب.[43] وقد روى النسائي في اليوم والليلة وابن مردويه في تفسيره عن أسامة بن عمير قال: كنت رديف النبي ﷺ فذكره، وقال: لا تقل هكذا فإنه يتعاظم حتى يكون كالبيت، ولكن قل: بسم الله فإنه يصغر حتى يكون كالذبابة[44]، فهذا من تأثير بركة بسم الله، ولهذا تستحب في أول كل عمل، وقول، فتستحب في أول الخطبة لما جاء، وتستحب البسملة عند دخول الخلاء لما ورد من الحديث في ذلك[45]، وتستحب في أول الوضوء لما جاء في مسند الإمام أحمد والسنن من رواية أبي هريرة وسعيد بن زيد وأبي سعيد مرفوعاً: "لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه"[46] وهو حديث حسن.
وهكذا تستحب عند الأكل لما في صحيح مسلم أن رسول الله ﷺ قال لربيبه عمر بن أبي سلمة : قل بسم الله، وكل بيمينك، وكل مما يليك[47].عمر بن أبي سلمة هذا هو ولد أم سلمة؛ وذلك أنه لما مات زوجها وتزوجها النبي ﷺ كان معها هذا الولد.
"ومن العلماء من أوجبها والحالة هذه".
على كل حال قراءة البسملة أو قول البسملة في افتتاح كل أمر عند الأكل ثبت فيه هذا الحديث: سم الله يا غلام ومسألة الوضوء: لا صلاة لمن لا وضوء له، ولا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه.
والخلاف في هذا مشهور ومعروف، ومن أهل العلم من يضعف الحديث، ومنهم من حسَّنه، فيقولها الإنسان من باب الاحتياط على الأقل؛ لقوة الخلاف في هذا، والحديث محتمل، فيحرص الإنسان ألا يترك البسملة، وأما حديث: كل أمرٍ لا يبدأ فيه بـ بسم الله، فمثل هذا الحديث لا يصح.
"وكذلك تستحب عند الجماع؛ لما في الصحيحين عن ابن عباس - ا - أن رسول الله ﷺ قال: لو أن أحدكم إذا أراد أن يأتي أهله قال: بسم الله، اللهم جنبنا الشيطان، وجنب الشيطان ما رزقتنا؛ فإنه إن يقدر بينهما ولد لم يضره الشيطان أبداً[48]، ومن هاهنا ينكشف لك أن القولين عند النحاة في تقدير المتعلق بـ الباء في قولك: بسم الله.."قوله: "ومن هاهنا ينكشف لك أن القولين عند النحاة في تقدير المتعلق بـ الباء في قولك: بسم الله" هنا يبدو أنه يوجد اختصار في الكلام بمعنى أنه حذف منه شيئاً، ثم قال بعده هذا، والخلاصة أنه ذكر أشياء متعددة كحديث: سم الله يا غلام، ولا صلاة لمن لا وضوء له، ولا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه بمعنى أنه يريد أن يقول: إن البسملة يصح أن يكون المتعلق فيها كوناً عاماً، ويصح أن يكون خاصاً في كل شيء بحسبه، ويصح أن يكون اسماً ويصح أن يكون فعلاً، فعندنا أشياء معينة مخصوصة مثل قوله تعالى: وَقَالَ ارْكَبُواْ فِيهَا بِسْمِ اللّهِ مَجْراهَا [سورة هود:41] فهنا اسم مصدر خاص أي أن جريها كائنٌ وواقعٌ بسم الله.
ومثل قول النبي ﷺ: يا غلام سم الله، وكل بيمينك يصح أن يقال في قوله: سم الله: إن التقدير فيه بسم الله آكل، أو بسم الله أبدأ، فهو لم يحدد فيه شيئاً وإنما أمره أن يقول البسملة في بداية الأكل.
وجاء أيضاً قوله تعالى: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ [سورة العلق:1] فذكر الفعل وقدمه، وكل هذا لا إشكال فيه، فالتنقير في مثل هذا أظنه لا يجدي كثيراً، فيمكن أن يكون المتعلق أو المقدر اسماً فتقول: بسم الله أي: أكلي بسم الله، أو بسم الله قراءتي، أو بسم الله ابتدائي، أو ابتدائي بسم الله، ويمكن أن يكون مقدماً أو مؤخراً، ويمكن أن يكون فعلاً خاصاً أو عاماً نحو: أقرأ بسم الله، آكل بسم الله، أمشي بسم الله، أدخل بسم الله، أو بسم الله أدخل، أو دخولي بسم الله، أو تجعله فعلاً عاماً فتقول: أبدأ بسم الله، أي أبدأ في الأكل، أو الشرب، أو الدخول، أو النوم ... الخ.
وبعض أهل العلم يستحسن أن يكون التقدير خاصاً؛ لأنه أعلق وألصق بالمراد، وبعضهم يستحسن أن يكون عاماً لتصلح البسملة في كل شيء، وبعضهم يقول: الأفضل أن يكون اسماً؛ لأن الاسم أدل على الثبوت، وبعضهم يقول: أن يكون فعلاً؛ لأن الفعل يدل على التجدد، وبعضهم يقول: يؤخر؛ لئلا يتقدم شيء على اسم الله ولأن ذلك أبرك، وعلى كل حال فأمر هذه المسألة سهل، فالمطلوب منك أن تقول: بسم الله، ودع عنك هذه التقديرات يقدرها من شاء كيف شاء.
إنه لمن المؤسف أن ننقّر عن أمور لا داعي ولا حاجة لتنقيرها لوضوحها ففي حديث النبي ﷺ مثلاً: لا يدخل الجنة قاطع[49] تجد إنساناً له رحم لا يعرفونه ولا يعرفهم ومع ذلك ينقِّرفي هذه المسألة، ويتكلف غاية التكلف في معرفة هل المقدر اسم أم فعل، وهل هو مؤخر أم مقدم؟ حتى ينوي هذا أو هذا، والله سبحانه لم يكلفه بهذا أصلاً وإنما حذره من قطع رحمه، فليصل أرحامه، وليقل: بسم الله إذا أراد فعل شيءٍ وانتهى الأمر، وليس معنى هذا أن الإنسان يترك مسائل العلم، وإنما المقصود أن ينزل الأمور كما ينبغي.
"وكلٌ قد ورد به القرآن، أما من قدره باسمٍ تقديره بسم الله ابتدائي، فلقوله تعالى: وَقَالَ ارْكَبُواْ فِيهَا بِسْمِ اللّهِ مَجْراهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ [سورة هود:41]".يقصد هنا أن هذا نظير هذه الآية باعتبار أنه اسم لكنْهنا في الآية خاص بخلاف تقدير ابتدائي، فإنه عام.
"ومن قدره بالفعل أمراً أو خبراً نحو: ابدأ بسم الله، أو ابتدأت بسم الله فلقوله تعالى: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ وكلاهما صحيح، فإن الفعل لا بد له من مصدر، فلك أن تقدر الفعل ومصدره، وذلك بحسب الفعل الذي سميت قبله إن كان قياماً أو قعوداً، أو أكلاً أو شرباً، أو قراءة، أو وضوءًا، أو صلاة، فالمشروع ذكر اسم الله في الشروع في ذلك كله تبركاً وتيمناً، واستعانة على الإتمام والتقبل، والله أعلم".قوله: "ومن قدره بالفعل أمراً أو خبراً" كان الأدق أن يقال: قدره بالفعل سواءكان ماضياً أو مضارعاً، فـ: "أبدأ بسم الله" هذا فعل مضارع، و"ابتدأت أو ابتُدئ بـ بسم الله، هذا في الماضي.
وعلى كل حال الكتاب له نسخ كثيرة جداً، وهذه النسخ يوجد بينها كثير من الفروقات، ومن هذه الفروقات ما هو بسبب تصحيف النُّساخ، ومنها بسبب أن الحافظ ابن كثير - رحمه الله - كان يعيد النظر في الكتاب مرةً بعد مرة، ويغير فيه كعادة المؤلفين، وسابقاً لم تكن توجد مطابع بحيث تأتي طبعة وتكتب أخرى بحيث تكون الأخيرة مصححة منقحة، وانتهى الأمر، وإنما الذي حدث أن النُّسخ ليس فيها تاريخ، فانتشرت النسخ الأولى بين العلماء، فبعضهم يعدل في النسخة التي بحوزته باعتبار أنها في ملكه، ثم تصير هذه النسخة لمن بعده، فيظن من بعده أن هذه التعديلات من تصحيحات المؤلف، وقد تكون هذه التعديلات فيها تصحيف فهو يعتمد هذا التعديل الذي في الهامش ويلغي ما هو في أصل النسخة، فالمقصود أن هذه الأخطاء بعضها وجدت بسبب التصحيفات، وبعضها من فعل المؤلف نفسه، وبعضها من فعل غيره، وهذه المشكلة موجودة في عدد من الكتب، بل إن بعضهم يتصرف فيكتب صفحات من عنده، فتفسير السعدي مثلاً توجد له طبعة سابقة فيها صفحات مكتوبة في الداخل وليست للسعدي.
وأحياناً المؤلف نفسه يعيد النظر لما في بعض النسخ التي كتبها فيقوم بإعادة الصياغة في بعض أوائل السور، بمعنى أنه يصوغها صياغة جديدة، وهذا شيء ليس فيه غرابة؛ لأن الإنسان إذا كتب وأعاد النظر فيما كتب مرةً بعد مرة يجد أنه قد فاتته بعض الأشياء التي تلوح واضحة؛ لأن الإنسان حينما يؤلف ويقرأ ما كتب فإنه يقرأ أفكاره، فلا تستغرب أن تفوت عليه أشياء واضحة أحياناً، والناقد بصير، وليس في هذا عيب.
ولذلك يحسن بالإنسان إذا كتب أو ألَّف أن يترك هذا الكتاب الذي كتبه مدة حتى ينساه، ثم يقرؤه بعد ذلك وسيستغرب كيف كتب بعض الأشياء، سيستغرب من ركاكة بعض العبارات، والتراكيب، وسينتقدها ويغيرها، وهكذا، بل ربما لو مضى عليه زمن يكفي في النمو فإنه سيغير كثيراً من الكتاب، ويحمد الله أنه لم يخرج هذا الكتاب، لكن الإنسان ما يرى عيوبه، فربما إذا ألف يظن من أول وهلة أن هذا الكتاب مخيوط، وأنه لا يوجد مثله، وأنه قد حقق فيه المسائل بأحسن عبارةٍ، ولكن غيره قد يرى أنه لا تبرأ به الذمة.
قال المفسر: "الله: علمٌ على الرب - تبارك وتعالى - يقال إنه الاسم الأعظم؛ لأنه يوصف بجميع الصفات، كما قال تعالى: هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاء الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [سورة الحشر:22-24]، فأجرى الأسماء الباقية كلها صفاتٍ له كما قال تعالى: وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا [سورة الأعراف:180]، وقال تعالى: قُلِ ادْعُواْ اللّهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَنَ أَيًّا مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى [سورة الإسراء:110]، وفي الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال: إن لله تسعة وتسعين اسماً، مائة إلا واحداً؛ من أحصاها دخل الجنة[50]
وفي قوله هنا: "الله: علمٌ على الرب - تبارك وتعالى -" أي أنه لا يسمى به غيره، فهو من الأسماء المختصة، وهذا الاسم لا يعرف أحد تسمى به لا في الجاهلية، ولا في الإسلام، وهو يختص بالله لفظاً ومعنى، فلفظاً بمعنى أن هذا اللفظ لا يصح أن يسمى به أحد غيره، ومعنى بمعنى أن الصفة التي تضمنها - وهي صفة الإلهية - لا يصلح شيءٌ منها للمخلوق لا جملةً ولا تفصيلاً.
قال: يقال إنه الاسم الأعظم معلوم أن من أسماء الله الاسم الأعظم الذي إذا دُعي به أجاب، وإذا سئل به أعطى، وهذا الاسم فيه خلافٌ معروف، وأشهر الأقاويل أن هذا الاسم الأعظم هو "الله".
والذي ذكره الحافظ ابن كثير هنا هو دليل من النظر، وذلك أن سائر الأسماء الحسنى جميعاً ترجع إليه لفظاً ومعنى، وكون الأسماء الحسنى ترجع إليه لفظاً؛ أي أنها تأتي بعده، ولا يأتي بعدَ شيءٍ منها كما في الآيات التي ذكرها هنا كقوله: هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ [سورة الحشر22 - 23] إلى آخر ما ذكر الله ، فلفظ "الله" تأتي الأسماء الأخرى بعده، ولا يأتي هو بعد شيء منها.
هذا في اللفظ، وأما في المعنى فإن هذا الاسم الكريم "الله" يتضمن صفة الإلهية وهي أوسع الصفات، وهذه الصفة ترجع إليها جميع الصفات، فإن الإله يجب أن يكون هو الرب، العليم، الحكيم، الخالق، البارئ، المصور؛ لأن الرب لا يمكن أن يكون عاجزاً جاهلاً فقيراً، أو متصفاً بشيء من صفات النقص، ولهذا يقال: إن صفة الإلهية متضمنة لصفة الربوبية، وصفة الربوبية من أوسع الصفات، فإن الرب هو السيد والمالك، والمدبر المتصرف، والمربي لخلقه بالنعم الظاهرة والباطنة، وهكذا تصور كم يدخل تحت هذا الاسم من المعاني التي هي صفات الكمال؟، فهذه الربوبية داخلة في معنى الألوهية، وهذا معنى كون الإلهية تتضمن الربوبية، والربوبية تستلزم الإلهية، فالذي تقول عنه: إنه هو الرب الخالق الرازق المصور يجب أن يكون هو المعبود وحده لا شريك له، فلا تصرف العبادة لأحدٍ سواه، فهذا الدليل هو الذي أشار إليه ابن كثير - رحمه الله - هنا وهو أن الأسماء الحسنى تعود إليه لفظاً ومعنى.
وأما الأدلة من المنقول على أنه الاسم الأعظم فهي ثلاثة أحاديث:
الأول: الحديث الذي ذكر فيه النبي ﷺ أن الاسم الأعظم في ثلاث سور، والاسم المتكرر في هذه السور الثلاث هو: "الله"، و"الحي القيوم" في سورة البقرة، وسورة آل عمران، وسورة طه قال تعالى في سورة البقرة: اللّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [سورة البقرة:255]، وقال في سورة آل عمران: آلم اللّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [سورة آل عمران1-2]، وقال في سورة طه: وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا [سورة طه:111].
فالمقصود أن هذه الأسماء الثلاثة متكررة في هذه السور الثلاث، ولهذا كان القول الثاني في القوة هو أن الاسم الأعظم هو "الحي القيوم" بعد القول الأول بأنه لفظ الجلالة "الله" بمعنى أن أقوى الأقوال في الاسم الأعظم أنه "الله"، ثم يليه في القوة "الحي القيوم".
والذي يدل على أن الاسم الأعظم هو "الله" الحديثان الآخران في الرجلين حينما دعوا الله بدعاءٍ يشتمل على ذكر بعض الأسماء الحسنى، فكان النبي ﷺ يقول: لقد دعا الله باسمه العظيم[51]، فإذا نظرنا في الأسماء المذكورة نجد أن المتكرر في الجميع هو "الله" وليس "الحي القيوم".
يقول: "فأجرى الأسماء الباقية كلها صفاتٍ له كما قال تعالى: وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى [سورة الأعراف:180]" هذا وجه الاستشهاد، فهو لا زال في الدليل النظري الذي ذكره وهو أن الأسماء الحسنى تعود إليه لفظاً ومعنى - أي لفظ "الله" - قال تعالى: وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى [سورة الأعراف:180] فلم يقل: وللعزيز الأسماء الحسنى، أو وللرزاق الأسماء الحسنى، وإنما أضافها إلى هذا الاسم الكريم فقال: وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فيكون محدَّثاً عنه ومخبَراً عنه، وتضاف إليه سائر الصفات كما قال في الآية الأخرى: قُلِ ادْعُواْ اللّهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَنَ أَيًّا مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى [سورة الإسراء:110]، فقوله: فَلَهُ الأَسْمَاء أي لله.
ومن ذلك قول النبي ﷺ: إن لله تسعةً وتسعين اسماً[52]، فما قال: إن للرزاق وإنما قال: إن لله تسعةً وتسعين اسماً فهذا الاسم هو أعظمها، والله تعالى أعلم.
"الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ: اسمان مشتقان من الرحمة على وجه المبالغة، ورحمن أشد مبالغة من رحيم".
وجه المبالغة هو أن الرحمن على وزن فعلان، فعدل به عن نظرائه حيث يقال: رحم يرحم فهو راحم ورحيم، فهنا قال: رحمن على وزن فعلان، والغالب أن يقال: على وزن فعيل أي رحم فهو رحيم، فهنا قال: رحمن، وهذا يدل على الامتلاء، كما تقول: ظمآن، وعطشان، وجوعان، وغضبان وما إلى ذلك، فهذا يدل على المبالغة.
وكذلك الرحيم على وزن فعيل، فهذا يدل على المبالغة، وحينما نقول: المبالغة لا يفهم منها المبالغة التي تكون من قبيل الخروج عن الحقيقة بتجاوزها، فليس هذا هو المقصود حينما يعبر بهذا عند شرح ألفاظ الكتاب والسنة، لذلك سألني أحد الشباب مرةً ونحن في درس من دروس التفسير فقال: كيف تقول بأن هذه صيغة مبالغة، وهل يقال عما في القرآن إنه مبالغة؟ قلت له: المبالغة التي يتحدث عنها العلماء ويذكرها البلاغيون وأهل اللغة ليست هي ما تعارف الناس عليه من أنه تجاوز الحقيقة، وتعديها بزيادة وإنما المقصود بالمبالغة ما يدل على الكثرة والتعاظم، وما أشبه ذلك من المعاني في كل موضع بحسبه.
يقول: "الرحمن الرحيم" اسمان مشتقان من الرحمة"، و"الله" إما مشتقٌ من أله يأله - بمعنى عبد يعبد - إلهةً أي عبادةً، والله مألوه أي معبود، أو من الإله، أو مشتقٌ من الإلهية، وقيل غير ذلك، لكن هذه أشهر الأقوال في هذا.
وعلى كل حال فـ"الله" اسمٌ مشتق على الراجح، ولا أدري هل الحافظ ابن كثير - رحمه الله - حينما قال: "الله علمٌ على الرب تبارك وتعالى" ولم يذكر مادة الاشتقاق، هل هو ممن يقول بأن هذا الاسم الكريم غير مشتق، وإنما هو علم على الذات الإلهية، وهذا قول لبعض العلماء، لكن الراجح أن هذا الاسم مشتق كما قلت، والأسماء المشتقة أبلغ من الأسماء الجامدة؛ لأن الأسماء المشتقة تتضمن أوصافاً، والاسم الجامد لا يتضمن صفةً، فأسماء الله أعلام وأوصاف، ولا يتأتى أن تكون أوصافاً إلا إذا كانت مشتقةً، بمعنى أنها تتضمن صفةً، أما إذا كان الاسم علماً جامداً فإنه لن يتضمن صفةً، فهذا الاسم الكريم مشتقٌ، ويتضمن صفة الإلهية، وكل أسماء الله مشتقة وليس فيها شيءٌ جامد.
وهنا يقول: "الرحمن الرحيم" اسمان مشتقان من الرحمة على وجه المبالغة" فالقدر الذي يدل عليه كل واحد منهما من جهة الصفة التي تضمنها هي صفة الرحمة، فكلاهما يدل على صفة الرحمة، إلا أن ثمة فرقاً بين هذين الاسمين من جهة اللفظ ومن جهة المعنى التكميلي، وأما المعنى الأصلي فإنه يدل على صفة الرحمة، لكن المعنى الزائد على المعنى الأصلي هو أن الرحمن أكثر مبالغةً من الرحيم، ومن هنا فرق العلماء بينهما، أو فرق كثيرٌ منهم بين الرحمن والرحيم، واختلفت أقوالهم في هذا، ولعل من أحسنها أن الرحمن يدل على الصفة الذاتية العائدة على الله من الرحمة، والرحيم يدل على تعلقها بالمرحوم، يعني القدر المتعدي من صفة الرحمة، يعني أن المعنى في الرحمن يكون صفة لازمة، وفي الرحيم يدل على القدر المتعدي إلى المخلوق، وهذا الذي اختاره الحافظ ابن القيم - رحمه الله -، ولعله أوجه هذه الأقوال، وأحسنها، والله أعلم، وإن كان بعضهم يقول غير ذلك، كمن يفرق من جهة سعة الرحمة وخصوصها، وهي إما في الدنيا أو في الآخرة، أو للمؤمنين أولغير المؤمنين، وهذا عند التأمل فيه إشكال.
"وفي كلام ابن جرير ما يفهم منه حكاية الاتفاق على هذا".
حينما يقال: إن الرحمن أشد مبالغةً من الرحيم؛ فيمكن أن نقول: إن ذلك من وجهين:
الوجه الأول: أن زيادة المبنى لزيادة المعنى.
والوجه الثاني: أنه عدل به عن نظرائه، تقول: رحمن من رحم يرحم فهو رحيم على وزن فعِل يفعَل فهو فعيل، فعدل به فقيل: فعِل يفعَل فهو فعلان، وما عدل به عن زنة نظرائه فإنه يكون أبلغ في المدح أو الذم، وكما قلت قبلُ أن مثل هذا الوزن يدل على الامتلاء، فهو أبلغ من رحيم، لكن على كل حال إذا ذكر الرحمن وحده فإنه يؤدي معنى الرحيم، أي أنه يدل على إثبات صفة الرحمة لله ، لكن إذا ذكر مع الرحيم كان الرحمن يدل على ما يتعلق بالرب من هذه الصفة، ويعود إليه، والرحيم يدل على ما يتصل بالمخلوق.
"وقال القرطبي: والدليل على أنه مشتق ما خرجه الترمذي وصححه عن عبد الرحمن بن عوف أنه سمع رسول الله ﷺ يقول: قال الله تعالى: أنا الرحمن، خلقت الرحم، وشققت لها اسماً من اسمي.."هذا دليل واضح وصريح في أن الرحمن اسم مشتق، وهذا يدل على أنه عربيٌ أصيل، وهذا خلافاً لمن قال: إنه عبراني مثلاً، وأن أصله الرخمن، فهذا وإن نقل عن بعض الأئمة لكنه لا يصح إطلاقاً، بل هو اسمٌ عربي، وهو مشتق ليس بجامد، ومما يدل على ذلك هذا الحديث.
"قال الله تعالى: أنا الرحمن، خلقت الرحم، وشققت لها اسماً من اسمي، فمن وصلها وصلته، ومن قطعها قطعته[53]".
هذا يدل على أن الصفة تشتق من الاسم، والأسماء تتضمن أوصافاً، ولكننا نأخذ الصفات من الأسماء - بالنسبة لأسماء الله -، فالقاعدة فيما يطلق على الله من الأسماء ليس في كون الأسماء تؤخذ من الصفات، وإنما العكس أي نأخذ الصفات من الأسماء، فالله لا يسمى إلا بما سمى به نفسه، لكن عند الكلام على المعنى اللغوي نقول: الرحمن مشتقٌ من الرحمة، والعزيز مشتقٌ من العزة وما أشبه ذلك، لكن الكلام في التسمية، لا يقال فيها: إن الأسماء تؤخذ من الصفات، وإنما نقول: الصفات تؤخذ من الأسماء.
"قال: وهذا نص في الاشتقاق، وإنكار العرب لاسم الرحمن لجهلهم بالله وبما وجب له".
يعني في مثل قولهم: وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ [سورة الفرقان:60]، فابن كثير - رحمه الله - هنا صرح بأنهم قالوا ذلك جهلاً، ففي قصة الحديبية لما قال النبي ﷺ: اكتب بسم الله الرحمن الرحيم قال سهيل بن عمرو: "لا نعرف الرحمن، وإنما اكتب باسمك اللهم"[54]، فالحافظ ابن كثير - رحمه الله - يرى أنهم قالوا ذلك بسبب جهلهم، وكثيرٌ من أهل العلم يرون أنهم قالوا ذلك على سبيل المكابرة، والدليل على أنهم قالوا ذلك على سبيل المكابرة أنهم سموا بعض الناس في الجاهلية بـ عبد الرحمن، وبدليل أن هذا الاسم جاء في أشعارهم، لكن على كل حال حتى لو سمي به البعض، أو جاء في أشعارهم؛ فإنه يمكن أن يجهله بعض العرب؛ فهم أهل جاهلية أصلاً، وبالتالي لا يستبعد عليهم مثل هذا، وعلى كل حال سواء قالوا ذلك على سبيل المكابرة أو الجهل فإنه قد أقر به بعضهم، وثبت في تسميتهم أو في بعض شعرهم "الرحمن".
وهذا الاسم أيضاً هو مختصٌ بالله لا يسمى به غيره، والعلماء يقولون: لم يعرف أحد تسمى بالرحمن غير مسيلمة الكذاب لقب نفسه بذلك، فعاقبه الله بأن قرن اسمه بالكذب، فلا يعرف إلا بمسيلمة الكذاب، ولذلك هم كانوا يقولون للنبي ﷺ: لا نعرف إلا رحمن اليمامة، وأعجب ما سمعت في هذا الصيف أن رجلاً في بعض نواحي هذه البلاد التي يكثر فيها الجهل اسمه "الرحمن"، وقد قلنا: إن العلماء يصرحون بأنه لا يعرف أحد تسمى به لا في الجاهلية، ولا في الإسلام؛ غير مسيلمة، والله المستعان.
"قال القرطبي: ثم قيل هما بمعنى واحد كندمان ونديم، قاله أبو عبيد، وقيل ليس بناء فعلان كفعيل، فإن فعلان لا يقع إلا على مبالغة الفعل، نحو قولك رجل غضبان للرجل الممتلئ غضباً، وفعيل قد يكون بمعنى الفاعل والمفعول".المراد بهذا ذكر الوجوه التي تدل على أن الرحمن أبلغ من الرحيم، فيقول: فعيل يأتي بمعنى فاعل، ومعنى مفعول، وفعيل مصدر، والمصدر يأتي بمعنى الفاعل، وبمعنى المفعول، وما كان على وزن فعيل فهو بمعنى فاعل أو مفعول، مثل: رجيم فهو بمعنى راجم أو مرجوم، وقد يكون بمعنى الفاعل والمفعول.
وعلى كلٍّ فهذا أحد الوجوه في التفريق بين الرحمن والرحيم.
"قال أبو علي الفارسي: الرحمن اسمٌ عام في جميع أنواع الرحمة يختص به الله تعالى".
أبو علي الفارسي من أئمة اللغة، وهو من المعتزلة.
"والرحيم إنما هو من جهة المؤمنين، قال الله تعالى: وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا [سورة الأحزاب:43]".
قوله: والرحيم إنما هو من جهة المؤمنين" هذا قول فيه نظر؛ والاستدلال بقوله تعالى: وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا ليس في محله؛ لأن هذا إنما هو من باب تقديم الجار والمجرور، فأصلها: وكان رحيماً بالمؤمنين، فلما قدم دل على الحصر أو الاختصاص أو نحو هذا، وإلا فالرحمة عامة وخاصة، والأمثلة على ذلك كثيرة، منها قوله تعالى: إِنَّ اللّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ [سورة البقرة:143] فهذا عام، وبالتالي فالقول بأن الرحمن يدل على الرحمة العامة، والرحيم يختص بالمؤمنين؛ قولٌ فيه نظر، وفيه إشكال، لوجود أمثلة كثيرة تخالف ذلك، والله أعلم.
"وقال ابن عباس - ا -: هما اسمان رقيقان أحدهما أرق من الآخر، أي أكثر رحمة، وقال ابن جرير: حدثنا السري بن يحيى التميمي، حدثنا عثمان بن زفر، سمعت العرزميَّ يقول: الرحمن الرحيم، قال: الرحمن لجميع الخلق، الرحيم قال: بالمؤمنين، قالوا: ولهذا قال: ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ [سورة الفرقان:59]، وقال: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [سورة طه:5]، فذكر الاستواء باسمه الرحمن ليعم جميع خلقه برحمته".هذا الكلام ليس لازماً، وإنما هو من الوجوه التي تلتمس في مثل هذا الاقتران، وإلا فلماذا حينما ذكر الاستواء ذكر معه اسم الرحمن؟ يوضحه أن العرش أوسع المخلوقات فيقولون: استوى عليه بأوسع الصفات، فرحمن أي رحمته واسعة كما قال: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ [سورة الأعراف:156]، لكن هذا الاقتران لا يلزم منه أن يكون الرحمن يدل على الرحمة العامة، والرحيم يدل على الرحمة الخاصة، وإنما يمكن أن نقول: الرحمة صفة متعدية، أما إذا قلنا: إن الرحمن يدل على ما يعود إلى الرب منها، فنقول: يدل على إثبات الصفة الذاتية بهذا القيد، وليس معنى ذلك أن صفة الرحمة صفة ذاتية، ولا يوجد أحد يقول بهذا، وإنما هي صفة متعدية، لكن إذا فرقت هذا التفريق بين الرحمن والرحيم، فقلت: إنه يدل على ما يعود إلى الرب منها، فيكون الرحمن دالاً على الصفة الذاتية، والرحيم دالاً على الصفة الفعلية والمتعدية.
"وقال: وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا [سورة الأحزاب:43]، فخصهم باسمه الرحيم، قالوا: فدل على أن الرحمن أشد مبالغة في الرحمة لعمومها في الدارين لجميع خلقه".لكن هذا ليس صريحاً في الدلالة أبداً.
"والرحيم خاصة بالمؤمنين، لكن جاء في الدعاء المأثور: رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما[55]".
على كل حال هذا الدعاء بغض النظر عن صحته فالعلماء تكلموا عليه وضعّفه من ضعّفه منهم؛ لكن توجد نصوص واضحة صريحة كقوله تعالى: إِنَّ اللّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ [سورة البقرة:143] فهذا وأمثاله يدل على أن الرحيم ليس بمختص بالمؤمنين، أو مختص بدارٍ دون الأخرى، وعلى كل حال إذا أثبت الإنسان صفة الرحمة، وأن الاسمين متضمنان لهذه الصفة؛ فبعد ذلك مثل هذه الأمور، والتفصيلات الخطب فيها يسير.
"واسمه تعالى الرحمن خاص به لم يسمَّ به غيره، كما قال تعالى: قُلِ ادْعُواْ اللّهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَنَ أَيًّا مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى [سورة الإسراء:110]".سبق أّن ذكرنا أن اسم "الله" مختص بالله تعالى لفظاً ومعنى، وقلنا: إن معنى قولنا: مختص لفظاً أي: أنه لا يصلح أن يسمى به غيره، ومختص معنىً أن صفة الإلهية التي تضمنها هذا الاسم لا يصلح شيء منها للمخلوق لا جملةً ولا تفصيلاً، وبالنسبة لاسمه "الرحمن" يقال فيه: هو مختصٌ بالله تعالى لفظاً لكنه ليس مختصاً به معنى؛ لأن المخلوق يوصف بالرحمة.
"وقال تعالى: وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ [سورة الزخرف:45]".
يعني أن قوله تعالى: أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ، وقوله: قُلِ ادْعُواْ اللّهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَنَ [سورة الإسراء:110] ذكر فيهما اسمه الرحمن مع اسمه "الله" الذي هو أشهر الأسماء، وأعظمها، وأوسعها؛ من جهة المعنى، وهذا الاقتران لا تكاد تجده في غير لفظ الجلالة "الله" إلا في الرحمن.
"ولما تجهرم مسيلمة الكذاب، وتسمَّى برحمن اليمامة؛ كساه الله جلباب الكذب، وشهر به، فلا يقال إلا "مسيلمة الكذاب"، فصار يضرب به المثل في الكذب بين أهل الحضر من أهل المدر، وأهل الوبر من أهل البادية والأعراب، وعلى هذا فيكون تقديم اسم الله الذي لم يسم به أحد غيره، ووصفه أولاً بالرحمن الذي منع من التسمية به لغيره كما قال تعالى: قُلِ ادْعُواْ اللّهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَنَ أَيًّا مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى [سورة الإسراء:110]، وإنما تجهرم مسيلمة اليمامة في التسمي به، ولم يتابعه على ذلك إلا من كان معه في الضلالة".الذين كانوا مع مسيلمة تابعوه وهم يعلمون أنه كذاب، والحاصل أن الحافظ ابن كثير - رحمه الله - يشير إلى وجه تقديم "الله" على "الرحمن"، فيمكن أن يقال: إن لفظ "الله" قُدِّم لأنه أعظم هذه الأسماء، وهي تعود إليه لفظاً ومعنى، وتأتي معطوفةً عليه، ويخبر بها عنه، ثم جاء بعده "الرحمن" الذي يختص بالله من جهة اللفظ دون المعنى، ثم جاء "الرحيم" وهو اسمٌ غير مختص من جهة اللفظ وإنما يسمى به المخلوق كما أنه يوصف بصفة الرحمة، فإذا أردت أن ترتب هذه الأسماء الثلاثة فالذي يأتي في المرتبة الأولى هو "الله"؛ لأنه مختص لفظاً ومعنى، ثم "الرحمن" فهو مختص باللفظ دون المعنى، ثم "الرحيم" فهو ليس مختصاً لا لفظاً ولا معنى.
"وأما الرحيم فإنه تعالى وصف به غيره، قال: لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ [سورة التوبة:128]، كما وصف غيره بذلك من أسمائه كما قال تعالى: إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا [سورة الإنسان:2]، والحاصل أن من أسمائه تعالى ما يسمى به غيره، ومنها ما لا يسمى به غيره كاسم الله، والرحمن، والخالق، والرازق ونحو ذلك، فلهذا بدأ باسم الله ووصفه بالرحمن؛ لأنه أخصُّ وأعرف من الرحيم؛ لأن التسمية أولاً إنما تكون بأشرف الأسماء، فلهذا ابتدأ بالأخص فالأخص، وقد جاء في حديث أم سلمة - ا - أن رسول الله ﷺ كان يقطع قراءته حرفاً حرفاً: بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [سورة الفاتحة:1-4] فقرأ بعضهم كذلك وهم طائفة، ومنهم من وصلها بقوله: الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [سورة الفاتحة:2]".من قوله: "وقد جاء في حديث أم سلمة.." هذا كلام جديد، وقضية جديدة لا أدري لماذا لم يضع لها عنواناً كعادة المختصر؟، والمقصود أنه بدأ يتكلم عن قضية ثانية، حيث انتهى من الكلام عن معاني هذه الأسماء الحسنى.
وقوله في آخر الكلام: إنه بدأ بالأشرف وهو اسم الله، أو أن الرحمن هو أشرف من الرحيم، أو حينما يقال: هذا أبلغ في التسمية أو نحو هذا فهذا لا إشكال فيه، وليس المقصود بهذا أن ما سواه غير موصوف بهذه الصفة، وإنما يقال ذلك في الأشياء الكاملة دون أن يكون المقصود غمط الأسماء الأخرى، وهذا يقال في القراءات كما في كثير من كتب التفسير حيث تجده يقول: هذه القراءة أبلغ من هذه القراءة وليس المقصود غمط القراءة الأخرى.
وأما ما يفعله بعض أصحاب الكلام على تفسير معاني القرآن، وأصحاب توجيه القراءات مما يحدو بهم إلى ترجيح إحدى القراءتين ترجيحاً يشعر بغمط الأخرى أو توهينها وهي ثابتة متواترة فهذا أمرٌ لا يليق مع القرآن، وإلا فإن سور القرآن تتفاوت وتتفاضل، فسورة قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ تعدل ثلث القرآن، وهذا معروف، وأهل السنة يقررونه خلافاً لبعض من أنكر ذلك وقال: إن هذه المفاضلة لا تقال، وإنها تشعر بغمط غير المخبر عنه، أو غير الموصوف بذلك، وأنه لا يقال ذلك في أسماء الله .
والجواب عمن قال بمنع ذلك أن يقال: بل إنها تتفاضل، وقد بلغت الغاية في الكمال، فالتفاضل إنما هو في الكمالات وليس في الكمال والنقص، ومراتب الكمال متفاوتة، ولهذا قال إبراهيم : رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى [سورة البقرة:260]، فلم يكن متردداً في هذه القضية بحيث يقال: إنه كان يشك في قدرة الله على إحياء الموتى والبعث، ولكنه أراد أن ينتقل من مرتبة من مراتب الكمال وهي علم اليقين إلى مرتبة أعلى منها وهي عين اليقين، فبعضهم يسمي المسافة بين هذين الأمرين شكاً، ولهذا قال النبي ﷺ: نحن أحق بالشك من إبراهيم عليه الصلاة والسلام[56] فالمقصود أن إبراهيم أراد أن ينتقل من مرتبة من مراتب الكمال إلى مرتبة أعلى منها.
وقل مثل ذلك حينما نتكلم عن أسماء الله الحسنى، أو عن سور القرآن، فنقول: هذه السورة أفضل من هذه السورة، أو هذه الآية أعظم في كتاب الله ، فهذا دلت عليه الأدلة، وإلا فما معنى الاسم الأعظم، وما معنى كون آية الكرسي هي أعظم آية في القرآن، وسورة الفاتحة أعظم سور القرآن؟ إنما أطلق ذلك بهذا الاعتبار.
وفي قول ابن كثير: "وقد جاء في حديث أم سلمة" هذا بداية الكلام على مسألة أخرى هي وصل البسملة بأول السورة، فهذا أحد الوجوه المعروفة، ولك أن تقطع بأن تقول: بسم الله الرحمن الرحيم، ثم تقف، ثم تأتي بالحمد لله رب العالمين، وهكذا.
- صحيح البخاري (ج 4 / ص 1621).
- أخرجه أحمد (9787) (ج 2 / ص 448) وإسناده صحيح على شرط الشيخين.
- أخرجه البيهقي في السنن الكبرى (ج 2 / ص 45) وفي السنن الصغرى (ج 1 / ص 124).
- سيأتي تخريجه.
- أخرجه البخاري في أبواب التهجد - باب تحريض النبي ﷺ على صلاة الليل والنوافل من غير إيجاب (1075) (ج 1 / ص 379).
- أخرجه البخاري في كتاب التفسير – باب تفسير سورة المائدة (4349) (ج 4 / ص 1691) ومسلم في كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها - باب فناء الدنيا وبيان الحشر يوم القيامة (7380) (ج 8 / ص 157).
- أخرجه البخاري في كتاب التفسير – باب ما جاء في فاتحة الكتاب (4204) (ج 4 / ص 1623).
- أخرجه البخاري في كتاب فضائل القرآن - باب فضل فاتحة الكتاب (4721) (ج 4 / ص 1913).
- أخرجه البخاري في كتاب صلاة المسافرين وقصرها - باب فضل الفاتحة وخواتيم سورة البقرة والحث على قراءة الآيتين من آخر البقرة (806) (ج 1 / ص 554) والنسائي واللفظ له في كتاب صفة الصلاة - باب فضل فاتحة الكتاب (912) (ج 2 / ص 138).
- أخرجه مسلم في كتاب الصلاة - باب وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة وإنه إذا لم يحسن الفاتحة ولا أمكنه تعلمها قرأ ما تيسر له من غيرها (904) (ج 2 / ص 10)، والنسائي في كتاب صفة الصلاة - باب ترك قراءة بسم الله الرحمن الرحيم في فاتحة الكتاب (909) (ج 2 / ص 135).
- صحيح مسلم في كتاب الصلاة - باب وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة وإنه إذا لم يحسن الفاتحة ولا أمكنه تعلمها قرأ ما تيسر له من غيرها (906) (ج 2 / ص 9)، والنسائي في كتاب صفة الصلاة - باب ترك قراءة بسم الله الرحمن الرحيم في فاتحة الكتاب (909) (ج 2 / ص 135).
- أخرجه أبو داود في كتاب المناسك - باب مَنْ لَمْ يُدْرِكْ عَرَفَةَ (1951) (ج 2 / ص 141) والترمذي في كتاب الحج عن رسول الله ﷺ - باب ما جاء فيمن أدرك الإمام بجمع فقد أدرك الحج (889) (ج 3 / ص 237) والنسائي في كتاب مناسك الحج - باب فيمن لم يدرك صلاة الصبح مع الإمام بالمزدلفة (3044) (ج 5 / ص 264) وابن ماجه في كتاب المناسك - باب من أتى عرفة قبل الفجر ليلة جمع (3015) (ج 2 / ص 1003) وصححه العلامة الألباني في مشكاة المصابيح برقم (2714 ).
- أخرجه مسلم في كتاب الصلاة – باب وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة وإنه إذا لم يحسن الفاتحة ولا أمكنه تعلمها قرأ ما تيسر له من غيرها (395) (ج 1 / ص 296).
- أخرجه البخاري في كتاب صفة الصلاة - باب وجوب القراءة للإمام والمأموم في الصلوات كلها في الحضر والسفر وما يجهر فيها وما يخافت (723) (ج 1 / ص 263) ومسلم في كتاب الصلاة – باب وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة وإنه إذا لم يحسن الفاتحة ولا أمكنه تعلمها قرأ ما تيسر له من غيرها (394) (ج 1 / ص 295).
- أخرجه ابن حبان (ج 5 / ص 91) وابن خزيمة (ج 1 / ص 248) وعدّه الألباني من الأحاديث الصحيحة كما في حاشية كتابه "أصل صفة صلاة النبي ﷺ".
- أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة - باب من رأى الاستفتاح بسبحانك اللهم وبحمدك (775) (ج 1 / ص 281) والترمذي في أبواب الصلاة - باب ما يقول عند افتتاح الصلاة (242) (ج 2 / ص 9) والدارمي (1239) (ج 1 / ص 310) وأحمد (11491) (ج 3 / ص 50) وصححه الألباني في مشكاة المصابيح برقم (1217).
- أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة – باب ما يستفتح به الصلاة من الدعاء (764) (ج 1 / ص 279) وابن ماجه في كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها - باب الاستعاذة في الصلاة (807) (ج 1 / ص 265) وضعفه الألباني في المشكاة برقم (817).
- أخرجه ابن ماجه في كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها - باب الاستعاذة في الصلاة (808) (ج 1 / ص 266) وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه (ج 2 / ص 380).
- أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (ج 7 / ص 94) وفي مسنده (ج 2 / ص 357) والنسائي في عمل اليوم والليلة (ج 6 / ص 104) وأصله في البخاري كما سيأتي.
- أخرجه البخاري في كتاب الأدب - باب الحذر من الغضب (5764) (ج 5 / ص 2267).
- أخرجه أحمد (21592) (ج 5 / ص 179) وقال شعيب الأرنؤوط: إسناده ضعيف.
- أخرجه مسلم في كتاب الصلاة - باب قدر ما يستر المصلي (510) (ج 1 / ص 365).
- انظر تفسير الطبري (ج 1 / ص 111).
- أخرجه مسلم في كتاب الصلاة - باب حجة من قال البسملة آية من أول كل سورة سوى براءة (400) (ج 1 / ص 400).
- سيأتي تخريجه.
- أخرجه البخاري في كتاب فضائل القرآن - باب مد القراءة (4759) (ج 4 / ص 1925).
- أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة – باب من جهر بالبسملة (788) (ج 1 / ص 288).
- أخرجه ابن ماجه في كتاب الأدب – باب ثواب القرآن (3786) (ج 2 / ص 1244) وحسنه الألباني في مشكاة المصابيح برقم (2153).
- أخرجه ابن ماجه في كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها - باب افتتاح القراءة (814) (ج 1 / ص 267) وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه برقم (814).
- سبق تخريجه في الحاشية رقم 1.
- سبق تخريجه في الحاشية رقم 3.
- سيأتي تخريجه.
- أخرجه البخاري في كتاب صفة الصلاة - باب ما يقول بعد التكبير (710) (ج 1 / ص 259) ومسلم في كتاب الصلاة - باب حجة من قال لا يجهر بالبسملة (399) (ج 1 / ص 299).
- أخرجه ابن ماجه في كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها - باب افتتاح القراءة (815) (ج 1 / ص 267) وأحمد (16833) (ج 4 / ص 85) وقال الأرنؤوط: إسناده حسن في الشواهد.
- أخرجه أبو داود في كتاب السنة - باب في لزوم السنة (4609) (ج 4 / ص 329) والترمذي في كتاب العلم - باب ما جاء في الأخذ بالسنة واجتناب البدع (2676) (ج 5 / ص 44) وابن ماجه في سننه في افتتاح الكتاب في الإيمان وفضائل الصحابة والعلم - باب اتباع سنة الخلفاء الراشدين المهديين (42) (ج 1 / ص 15) وصححه الألباني في مشكاة المصابيح برقم (165) وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (2735).
- أخرجه النسائي في كتاب صفة الصلاة - باب قراءة {بسم الله الرحمن الرحيم} (905) (ج 2 / ص 134) وضعف إسناده الألباني في ضعيف النسائي برقم (905).
- أخرجه البخاري في كتاب فضائل القرآن - باب مد القراءة (4759) (ج 4 / ص 1925)
- أخرجه أبو داود في كتاب العتق - باب الحروف والقراءات (4003) (ج 4/ ص 65) والترمذي في كتاب القراءات - باب في فاتحة الكتاب (2927) (ج 5 /ص 185) وأحمد (26625) (ج 6 / ص 302) وصححه الألباني في صحيح أبي داود برقم (4001).
- مسند الشافعي (ص 250).
- أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة - باب من لم ير الجهر بـ (بسم الله الرحمن الرحيم ) (783) (ج 1 / ص 285) وصححه الألباني في صحيح أبي داود برقم (783).
- أخرجه البخاري في كتاب صفة الصلاة - باب ما يقول بعد التكبير (710) (ج 1 / ص 259) ومسلم في كتاب الصلاة - باب حجة من قال لا يجهر بالبسملة (399) (ج 1 / ص 299).
- صحيح مسلم في كتاب الصلاة - باب حجة من قال لا يجهر بالبسملة (399) (ج 1 / ص 299)
- أخرجه أحمد (20611) (ج 5 / ص 59) والنسائي في السنن الكبرى (10388) (ج 6 / ص 142) وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (7401).
- أخرجه النسائي في اليوم والليلة (ج 1 / ص 373) وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب برقم (3128).
- أخرجه الطبراني في المعجم الأوسط (2803) (ج 3 / ص 161) وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (4714).
- أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة - باب التسمية على الوضوء (102) (ج1 / ص 37) والترمذي في أبواب الطهارة - باب ما جاء في التسمية عند الوضوء (25) (ج1 / ص 37) وابن ماجه في كتاب الطهارة وسننها - باب ما جاء في التسمية في الوضوء (397) (ج 1 / ص 139) وأحمد (11388) (ج 3 / ص 41) وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (7514).
- أخرجه البخاري في كتاب الأطعمة - باب التسمية على الطعام والأكل باليمين (5061) (ج 5 / ص 2056) ومسلم في كتاب الأشربة - باب آداب الطعام والشراب وأحكامهما (2022) (ج 3 / ص 1599).
- أخرجه البخاري في كتاب الدعوات - باب ما يقول إذا أتى أهله (6025) (ج 5 / ص 2347) ومسلم في كتاب النكاح - باب ما يستحب أن يقوله عند الجماع (1434) (ج 2 / ص 1058).
- أخرجه البخاري في كتاب الأدب - باب إثم القاطع (5638) (ج 5 / ص 2231) ومسلم في كتاب البر والصلة والآداب - باب صلة الرحم وتحريم قطيعتها (2556) (ج 4 / ص 1981).
- أخرجه البخاري في كتاب التوحيد - باب إن لله مائة اسم إلا واحداً (6957) (ج 6 / ص 2691) ومسلم في كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار - باب في أسماء الله تعالى وفضل من أحصاها (2677) (ج 4 / ص 2062).
- أخرجه أبو داود في كتاب الوتر - باب الدعاء (1497) (ج 1 / ص 554) والنسائي في كتاب صفة الصلاة - باب الدعاء بعد الذكر (1300) (ج 3 / ص 52) والترمذي في كتاب الدعوات – باب جامع الدعوات عن النبي ﷺ (3475) (ج 5 / ص 515) وصححه الألباني في صحيح أبي داود برقم (1495).
- سبق تخريجه.
- أخرجه أحمد (1680) (ج 1 / ص 194) والطبراني في الكبير (2497) (ج 2 / ص 355) وفي الأوسط (3339) (ج 3 / ص 340) وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب برقم (2528).
- أخرجه البخاري في كتاب الشروط - باب الشروط في الجهاد والمصالحة مع أهل الحرب وكتابة الشروط (2581) (ج 2 / ص 974).
- أخرجه الطبراني في الكبير (17080) (ج 20 / ص 154) وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب برقم (1821).
- أخرجه البخاري في كتاب الأنبياء – باب قوله :{وَنَبِّئْهُمْ عَن ضَيْفِ إِبْراَهِيمَ} [سورة الحجر:51] (3192) (ج 3 / ص 1233) ومسلم في كتاب الفضائل - باب من فضائل إبراهيم الخليل ﷺ (151) (ج 4 / 1839).