"مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [سورة الفاتحة:4] وتخصيص الملك بيوم الدين لا ينفيه عما عداه؛ لأنه قد تقدم الإخبار بأنه رب العالمين، وذلك عام في الدنيا والآخرة، وإنما أضيف إلى يوم الدين؛ لأنه لا يدعي أحد هنالك شيئاً ولا يتكلم أحد إلا بإذنه".هذا جواب على سؤال تقديره: إن الله مالك للدنيا والآخرة، فلماذا خصَّ يوم الدين بالذكر؟
الوجه الأول في الجواب أن يقال: إنه قال قبله: رَبِّ الْعَالَمِينَ [سورة الفاتحة:2] فهذا فيه ملك الدنيا والآخرة، فهو رب العالمين وسيدهم بإطلاق، ثم خص يوم الدين لعظمته، أو لأنه هو اليوم وما دونه كساعة كما قال تعالى: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ [سورة الروم:55]، أو لأنه هو الغاية، وما قبله من الأيام مراحل تطوي الناس إليه، فإذا وصلوا إلى ذلك اليوم فهو اليوم الأبدي السرمدي، وفي ذلك اليوم يقول الله : لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ [سورة غافر:16] فلا أحد يجيب، ثم يقال: لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ [سورة غافر:16] فلا أحد يدعي أن له شيئاً من الملك في ذلك اليوم.
فالحاصل أن الله أفرد يوم الدين لشيء من هذه الاعتبارات، أو لغيرها فالله أعلم، فهذه وجوه يذكرها أهل العلم.
"وإنما أضيف إلى يوم الدين لأنه لا يدعي أحدٌ هنالك شيئاً، ولا يتكلم أحد إلا بإذنه كما قال تعالى: يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَّا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا [سورة النبأ:38]، وقال تعالى: وَخَشَعَت الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا [سورة طه:108]، وقال تعالى: يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ [سورة هود:105]، وقال الضحاك: عن ابن عباس - ا -: "مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ: يقول لا يملك أحد معه في ذلك اليوم حكماً كملكهم في الدنيا"، قال: ويوم الدين يوم الحساب للخلائق، وهو يوم القيامة، يدينهم بأعمالهم إن خيراً فخير، وإن شراً فشر؛ إلا من عفا عنه، وكذلك قال غيره من الصحابة، والتابعين، والسلف، وهو ظاهر".
يعني أن الدِّين هو الجزاء، ومنه كما تدين تدان قال تعالى: إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [سورة الطور:16]، ومنه قول الشاعر: دِنّاهم كما دانوا، بمعنى جزيناهم كما فعلوا أو كما عاملونا، وهذا معروف ومشهور.
"والمَلِك في الحقيقة هو الله قال الله تعالى: هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ [سورة الحشر:23]، وفي الصحيحين عن أبي هريرة مرفوعاً: أخنع اسم عند الله رجل تسمى بملك الأملاك، ولا مالك إلا الله[1] وفيهما عنه عن رسول الله ﷺ قال: يقبض الله الأرض، ويطوي السماء بيمينه، ثم يقول: أنا الملك، أين ملوك الأرض؟ أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟[2]، وفي القرآن العظيم: لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ [سورة غافر:16]، فأما تسمية غيره في الدنيا بملك فعلى سبيل المجاز كما قال تعالى: إِنَّ اللّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا [سورة البقرة:247]، وَكَانَ وَرَاءهُم مَّلِكٌ [سورة الكهف:79]، إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنبِيَاء وَجَعَلَكُم مُّلُوكًا [سورة المائدة:20]، وفي الصحيحين: مثل الملوك على الأسرة[3]".
قوله ﷺ: مثل الملوك على الأسرة هذا في الجيش الذي يركب البحر غازياً في سبيل الله، وعلى كل حال فإن الملك في الدنيا ملكٌ محدود إنما يكون على فئةٍ من الناس، وفي رقعةٍ محدودة، ولأجلٍ محدود، فمن أعطي شيئاً من الملك فإنه يسلب منه لا محالة إما بالموت، أو العزل، وصاحب هذا الملك كان فاقداً له في الأصل، ثم إنه يعتوره من ألوان النقص والعبودية ما لا يخفى كما قال شيخ الإسلام في كتاب "العبودية: تجد الرجل ملكاً في الظاهر وهو عبدٌ ذليلٌ لمن لا يقوم ملكه إلا بهم في الباطن، ولهذا يقول الله في سورة البقرة في آية الكرسي: مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ [سورة البقرة:255] أي لا أحد يشفع عنده إلا بإذنه لكمال عظمته وملكه؛ لأن ملوك الدنيا يُشفع عندهم من غير إذن، فهم لا يُستأذنون عند الشفاعة، وقد يقبلون ذلك وهم لا يرغبون فيه إما خوفاً من غائلة من الشافع، ومن تنكره لهم؛ لأن ملكهم لا يقوم إلا به، أو لحاجتهم إليه في مصالح أخرى، أو حياءً منه وحرجاً وخجلاً، أما الله فلا أحد يستطيع أن يمارس عليه ضغوطاً، أو يُحرَج من أحد، أو يخاف من أحد، أو يضطر لقبول شفاعة أحد؛ لأنه يحتاجه في أمور أخرى حتى لا يرده، وما أشبه ذلك، بل ملكه - تبارك وتعالى - كامل ليس فيه نقص، بينما في الدنيا تجد الملك يعتوره أشياء من هذا النقص، ثم إن الذي يهب ذلك أولاً وآخراً هو الله ولهذا يقول الله : قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [سورة آل عمران:26].
"والدِّين الجزاء والحساب كما قال تعالى: يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ [سورة النور:25]، وقال: أَئِنَّا لَمَدِينُونَ [سورة الصافات:53] أي مجزيون محاسبون، وفي الحديث: الكيس من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت[4] أي حاسب نفسه كما قال عمر : "حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أنفسكم قبل أن توزنوا، وتأهبوا للعرض الأكبر على من لا تخفى عليه أعمالكم، يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ [سورة الحاقة:18][5]"
- أخرجه البخاري في كتاب الأدب - باب أبغض الأسماء إلى الله (5853) (ج 5 / ص 2292) ومسلم في كتاب الآداب - باب تحريم التسمي بملك الأملاك وبملك الملوك (2143) (ج 3 / ص 1688).
- أخرجه البخاري في كتاب الرقاق - باب يقبض الله الأرض يوم القيامة (6154) (ج 5 / ص 2389)ومسلم في كتاب صفة القيامة والجنة والنار (7227) (ج 8 / ص 42).
- أخرجه البخاري في كتاب فضل الجهاد والسير - باب الدعاء بالجهاد والشهادة للرجال والنساء (2636) (ج 3 / ص 1027) ومسلم في كتاب الإمارة - باب فضل الغزو في البحر (1912) (ج 3 / ص 1518).
- أخرجه الترمذي في كتاب صفة القيامة والرقائق والورع عن رسول الله ﷺ - باب 25 (2459) (ج 4 / ص 638) وابن ماجه في كتاب الزهد – باب ذكر الموت والاستعداد (4260) (ج 2 / ص 1423) وضعفه الألباني في ضعيف الجامع برقم ( 4305).
- انظر مصنف ابن أبي شيبة (ج 8 / ص 149).