إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [سورة الفاتحة:5] وهذه الجملة معناها وتفسيرها أي: نخصك وحدك بالعبادة، ونخصك وحدك بالاستعانة في جميع أمورنا، فالأمر كله لله -تبارك وتعالى- فهو الذي يُيسر العسير، ويُقرب البعيد، وهو الذي يوفق للهدى، وهو الذي يُعين على الطاعة، وتحقيق المطالب الدنيوية والأخروية؛ لأنه هو الذي يملك ا لدنيا والآخرة.
وهذه الآية تدل على أنه لا يجوز للعبد بحال من الأحوال أن يصرف شيئًا من أنواع العبادة إلى غير الله لأنه يقول: إِيَّاكَ نَعْبُدُ كما أنه إذا استعان، فإنما يستعين بربه وخالقه : إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله فالحصر فيها يدل على تخصيصه -تبارك وتعالى- بالاستعانة إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [سورة الفاتحة:5].
فهذه الآية فيها شفاء القلوب من داء التعلق بغير الله -تبارك وتعالى- وفيها الشفاء من عِلل الرياء والعُجب والكِبر، وما إلى ذلك.
أيها الأحبة: سؤال الهداية إلى الصراط المستقيم يُعد من أجل المطالب، وأعلى المواهب، وأسمى الغايات، فلما كان كذلك علّم الله -تبارك وتعالى- عباده كيف يسألون الهداية إلى الصراط المستقيم؛ وذلك بما يتقدم بين يدي هذا السؤال من حمده، والثناء عليه، وتمجيده، ثم ما يذكرون من عبوديتهم وتوحيدهم له، فهاتان وسيلتان إلى مطلوبهم: التوسل إليه بأسمائه وصفاته: الله، الحمد لله، الرب، رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين؛ فهذا كله توسل بأسمائه وصفاته.
والثاني: إِيَّاكَ نَعْبُدُ [سورة الفاتحة:5] توسلٌ إليه بعبوديته، فهاتان الوسيلتان - كما يقول الحافظ ابن القيم -رحمه الله- لا يكاد يُرد معهما الدعاء فانظر إلى هذا الترتيب بين هذه المذكورات إلى هذا الموضع بين يدي السؤال، الشق الآخر من هذه السورة الكريمة للعبد، ومبدأه سؤال الهداية، فيكون سؤال الهداية موطأً بين يديه بالتوسل بأسمائه وصفاته، وبالتوسل بالتذلل إليه بإعلان العبودية، والفقر الكامل، والعجز التام عن تحصيل الحاجات والمطالب، فيكون استعانته بربه وخالقه؛ لأنه لا يستطيع أن يعمل شيئًا، أو يُحقق مطلوبًا، أو نجاحًا أو فلاحًا إلا بإعانة الله له.
فالنصف الأول من هذه السورة الكريمة للرب -تبارك وتعالى- كما في الحديث الذي أشرت إليه في بعض الليالي الماضية قسمت الصلاة - يعني: الفاتحة - بيني وبين عبدي نصفين، فنصفها لي ونصفها لعبدي فنصفها الأول الذي هو للرب -تبارك وتعالى- أوله التحميد، وآخره التعبيد، أي: نصرف العبادة لك وحدك.
إن كل ما بالخلق من النِعم الظاهرة والباطنة فمن الله -تبارك وتعالى- وحده، لا شريك له، ولهذا يأتي الجمع كثيرًا بين الشكر والتوحيد، وكثير من أهل العلم، ومنهم كبير المُفسرين أبو جعفر ابن جرير -رحمه الله- قد فسّر الحمد بالشكر فالله -تبارك وتعالى- يجمع بين الشكر والتوحيد، ففي الفاتحة جمع بين الحمد لله رب العالمين في أولها، وفي وسطها: التوحيد الخالص إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [سورة الفاتحة:5] وهذا له نظائر في كتاب الله -تبارك وتعالى- وقد ذكر هذا المعنى شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- اجتمع فيها الحمد والتوحيد.
كذلك في قول ربنا -تبارك وتعالى- مُعلمًا عباده كيف يقولون: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [سورة الفاتحة:5] ما يدل على أن العبد لا بد أن يكون عابدًا لله -تبارك وتعالى- ولا بد أن يكون مُستعينًا به، فلا بد له من العبادة حتى تتحقق له النجاة، ويحصل له الفلاح والنجاح في الدنيا والآخرة، ولا بد له أيضًا من الاستعانة؛ لأنه لا يمكن أن يُحقق العبادة إلا بالاستعانة، وإذا علم العبد أنه لا بد له في كل وقت وحال وحين من مُنتهى يطلبه، وهو إلهه وربه ومليكه، وكذلك مُنتهًا يُستعان به؛ وذلك هو صمده الذي يصمد إليه في استعانته وعبادته.
قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [سورة الإخلاص:1] الواحد في ذاته، وأسمائه، وصفاته، وأفعاله، وفي إلهيته، وربوبيته، وأسمائه، وصفاته اللَّهُ الصَّمَدُ [سورة الإخلاص:2] أي: الذي تصمد إليه الخلائق في حاجاتها ورغباتها وفقرها واستعانتها ومطالبها كلها، فهنا قال: إِيَّاكَ نَعْبُدُ [سورة الفاتحة:5] فهذا هو المُنتهى، وهو تحقيق العبودية وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [سورة الفاتحة:5] فهذا كلام قصير جامع مُحيط، لا يخرج عنه شيء، كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله وانظروا إلى هذه المعاني الجزلة، في هذه الجُمل القصيرة، والقرآن يُعبر به بالألفاظ القليلة، الدالة على المعاني الكثيرة.
ثم أيضًا هذا يُعلِّم العبد أن يكون رغبته وتوجهه كله إلى ربه وخالقه وهو أن يبتغي وجه ربه الأعلى، ومن ثَم فإنه يتوجه بكُليته إلى هذا المعبود مُستحضرًا أن كل ما أوتي، وكل عمل يوفق إليه، وإحسان يقوم به، فإنما ذلك بفضل الله -تبارك وتعالى- عليه، ورحمته، فهو لا يرى له فضلاً، ولا ما يوجب مِنة على ربه -تبارك وتعالى- أو على أحد من خلقه، فيكون عمله كله لله، وبالله، لماذا؟
لأن قوله: إِيَّاكَ نَعْبُدُ [سورة الفاتحة:5] هنا الوِجهة إلى الله وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [سورة الفاتحة:5] يقول: أنا ضعيف عاجز ليس مني شيء، ولا لي شيء، وإنما المِنة والفضل لله وحده، دون ما سواه، نستعين به، لا حول ولا قوة إلا بالله، لا تحول من حال إلى حال إلا بإعانته، فيقول: حينما أتصدق فهذا بإعانة الله، حينما أحج فهذا بتوفيقه وهدايته وإعانته، وحينما أُصلي، أو أصوم، أو أقرأ القرآن، أو أذكر ربي -تبارك وتعالى- فهذا كله من إعانته وهدايته وتوفيقه، وإلا لم يحصل شيء من ذلك لا قليل ولا كثير.
وانظروا إلى حال أولئك الذين هانوا على الله، فثبطهم عن عبادته، وعن القيام بمرضاته، فصاروا في حال من الضياع والتضييع والتفريط وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا [سورة الكهف: 28] مُضيع ومُفرط، فمثل هذا حاله تُقابل حال أولئك الذين حصلت لهم الإعانة، وقاموا بوظائف العبودية، فهذا العبد لا ينتظر من الآخرين جزاءً ولا شكورًا، ويقول: هذا بتوفيق الله، وأنا أعمله لله، ليس لي شيء، ولا مني فضل، ولم أعمل ذلك إلا ابتغاء وجه الله.
إذًا لست أنتظر من الآخرين الشكر والثناء والتقدير والإطراء والتقديم، ونحو ذلك، إنما أريد الجزاء من الله، فإذا رأى منهم جفاء، أو إعراضًا أو تجاهلاً عن إحسانه وإفضاله، سواء كان هؤلاء من قرابته، أو من غيرهم، فهو لا يعتقد أنه من أولي الفضل عليهم، فيجب عليهم أن يقوموا بحقوقه، وأن يؤدوا ما يُقابل هذا الإحسان، وإنما يرى أن الفضل لله، وأنه عمل ذلك لله، فلا يثقل على الآخرين، ولا يتطلع إلى مردودهم، فإن ذلك خلاف الإخلاص إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ إذا كان كذلك لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا [سورة الإنسان:9] ومن ثَم فإن هذا الإنسان لا يمكن أن يمن على الآخرين بأعماله، فهو يعلم أن الله هو المان وحده، فعليه أن يوجه الشكر لله أن وفقه لهذه الأعمال الطيبة، ويسأل ربه أن يتقبل ذلك منه، ويحمد ربه أن يسره لما ينفعه.
ويُؤخذ من هذه الآية إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [سورة الفاتحة:5] أن كل عمل لا يُعين الله -تبارك وتعالى- عليه العبد، لا يمكن أن يكون، وأن كل عمل لا يُتوجه به إلى الله، ولا يُطلب به ما عند الله، فإنه لا ينفع، بل يبطل ويضمحل ويتلاشى، والله قال عن أعمال الكافرين: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا [سورة الفرقان: 23] وقال: مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ [سورة إبراهيم: 18] وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ [سورة النور: 39] وقال عن نفقاتهم الكثيرة التي يصدون بها عن سبيل الله: فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ [سورة الأنفال:36] فهي لا تنفعهم، ولا ترفعهم، فيُذهبها الله ويُبطلها.
ولذلك تجد في القرآن كثيرًا حينما يذكر الله أعمال الكافرين، وجهود الكافرين، وكيد الكافرين، يحكم عليه مُباشرة أنه في ضلال وتباب فهو ذاهب ومُضمحل، فلا تبتأس، ولا تخشى كيدهم ومكرهم، فإن الله يكفي عباده المؤمنين ذلك أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ [سورة الزمر:36] والعبد هنا مُفرد مُضاف إلى المعرفة، يعني: بمعنى الجمع، كما في القراءة الأخرى المتواترة، "أليس الله بكاف عباده" والقراءات يُفسر بعضها بعضًا، فالله يكفيهم كل المخاوف، ومكر الأعداء، والشرور بأنواعها، لكن عليهم أن يعملوا لما خُلقوا له، وهو تحقيق العبودية لله -تبارك وتعالى- فهذا هو الأصل الكبير والأساس.
أما ما لا يُراد به وجهه -تبارك وتعالى- فإنه لا يدوم ولا يبقى، ولا يكون له القبول، ولو كان في لبوس الخير، والعمل الصالح، وقد يكون دعوة أو مشروعًا من المشروعات الخيرية، لكن مبناه على الرياء والسمعة والمقاصد الفاسدة، فيكون ذلك ذاهبًا مُضمحلاً، ولو أنفقت فيه الأموال الطائلة، وقد تكون أعمال قليلة، وبنفقات قليلة، ومع ذلك يُباركها الله -تبارك وتعالى؛ لأنها قد بُنيت على الإخلاص، فالمسجد الذي أُسس على التقوى من أول يوم هذا هو الذي أمر الله نبيه ﷺ أن يقوم فيه أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ [سورة التوبة: 108] ولكن ما لم يُبن على ذلك من المساجد والأعمال والمشروعات، فإنه لا يستحق أن يُقام فيه، فإنه يذهب ويتلاشى.
وهكذا أيضًا فإن قوله -تبارك وتعالى: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [سورة الفاتحة:5] قدّم هنا ما يتعلّق بالعبادة إِيَّاكَ نَعْبُدُ [سورة الفاتحة:5] ثم قال: وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [سورة الفاتحة:5] مع أن الاستعانة هي الوسيلة التي تتحقق بها العبادة، وكيف يُحقق العبادة إلا إذا كان مُستعينًا بالله وعرفنا أن من لم يُعنه ربه -تبارك وتعالى- فإنه لا يستطيع أن يأتي بشيء، ولكن الله هنا قدم العبادة، ولم يُقدم الوسيلة؛ وذلك أن العبادة غاية، فهي أشرف، هذا من جهة.
ومن جهة أخرى فإن العبادة هي حق أو قسم الرب، وعرفنا أن الفاتحة على شطرين: شطر للرب، وشطر للعبد، فأولها للرب إلى قوله: إِيَّاكَ نَعْبُدُ [سورة الفاتحة:5] فالله يقول: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، فنصفها لي، ونصفها لعبدي، فإذا قال: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [سورة الفاتحة:5] قال الله: هذه بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل فقدّم ما يتعلق بحق الرب، وهو العبادة، ثم أخر حق العبد، ثم إنه من الأليق والأكمل أن يُقدم حق الرب، ولو لم يكن الكلام على هذا النسق، يعني ولو لم تكن السورة مقسومة على هذا الاعتبار -وهو أن الشطر الأول للرب- فإن حق الرب مُقدم على ما يتصل بالعبد، فإن العبد يُقدم ما يستوجب رضا المعبود ويستدعي إجابته إذا سأل قبل أن يطلب منه شيئًا؛ وذلك بإظهار التذلل والخضوع بين يديه بالعبادة، فكان إعلان العبودية مظنة لاستجابة السؤال الذي سيأتي بعدها.
وكذلك أيضًا يكون هذا من قبيل تقديم الغاية على الوسيلة؛ وذلك أن العبد لا يستطيع بحال من الأحوال أن يعبد ربه إلا بالله، فالبداية من الله، والنهاية إلى الله، ونحن جميعًا لله، ونحن إليه راجعون، إنا لله وإنا إليه راجعون، فمبدأ الأمر منه، ومنتهاه منه فمبدأ العمل هو الاستعانة، ومنتهاه هو تحقيق العبادة، فذكر المُنتهى والغاية، فيكون ذلك من باب تقديم الغايات على الوسائل، فالعبادة هي غاية العباد التي خلقوا لها، وأما الاستعانة فهي وسيلة، ولا يصح بحال من الأحوال أن تُقدم الوسيلة على الغاية، فتتحول الوسائل إلى أهداف، فهذا من قلب الحقائق.
فالله -تبارك وتعالى- في هذه السورة الكريمة يقول: إِيَّاكَ نَعْبُدُ [سورة الفاتحة:5] وفي الآية قال: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [سورة الذاريات:56] بأقوى صيغة من صيغ الحصر وهي النفي والاستثناء، الذي جاءت به كلمة التوحيد: لا إله إلا الله، تقول: لا كريم إلا زيد، ولا شجاع إلا عمرو، فهذه أقوى صيغة عند الأصوليين، وأهل اللغة، فصارت الغاية التي خلق من أجلها الجن والإنس هي تحقيق العبودية لله، وأول أمر في القرآن هو: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [سورة البقرة:21، 22] فيذكرهم بهذه النِعم: خلق الأرض، وجعل الأرض فراشًا، والسماء بناء، وكل ذلك من أجل أن يوحدوه، وأن يقوموا بتحقيق العبودية له.
ولذلك من الغلط الكبير: أن تتحول الوجهة إلى هذه الدنيا الفانية، فتكون هي الغاية، وتكون مطالب الإنسان متوجهةً إليها، ومن الخطأ أن تتحول اهتمامات الدعاة إلى الله -تبارك وتعالى- إلى إرشاد وتوجيه ودلالة على تحقيق هذه الشهوات، والمطالب الدنيوية المتقضية، فالدعاة هم أتباع الرسل -عليهم الصلاة والسلام- والرسل كانوا يأتون لأقوامهم: اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [سورة الأعراف: 59] يأمرون بعبادته -تبارك وتعالى- ولم يتحول الرسل -عليهم الصلاة والسلام- إلى مقدمي دورات في تثمير الأموال، أو في تأنق الطُرق التي يتأنق الناس بها في المطاعم والمشارب والمناكح، وما إلى ذلك، فهذا غلط، وهو انحراف عن الجادة التي هي مسلك الأنبياء والرسل -عليهم الصلاة والسلام.
ولذلك يقول الشاطبي -رحمه الله- بأن هذه المطالب من النكاح والأكل والشرب، وما إلى ذلك، لما كانت مركوزة في النفوس، وقد جُبلت النفوس عليها، فهي تطلبها طلبًا شديدًا قويًا، لم يرد في القرآن الأمر بها مؤكدًا ومُكررًا إطلاقًا، فأين في القرآن الأمر بوطء النساء؟ لا يوجد، إنما جاء ذلك في سياق معين فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ [سورة البقرة:187] بعد أن كان مُحرمًا في ليلة الصيام، فهو على سبيل الإباحة.
وأين في القرآن الأمر بالأكل والشرب، إلا في مقام الامتنان فقط يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا [سورة المؤمنون:51] فقرن بين الأكل من الطيبات والعمل الصالح؛ لأنه عون عليه، فذكره معه؛ ليدل على أنه هو الغاية كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا [سورة المؤمنون:51] يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلالاً طَيِّبًا [سورة البقرة: 168] لكن ماذا قال بعده؟ وبماذا طالبهم؟ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلالاً طَيِّبًا وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ [سورة البقرة:168] مسالكه التي يصدكم بها عن ذكره وطاعته وعبادته، فيقرن بين هذا وهذا، فعموم الناس ذكر لهم: يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلالاً طَيِّبًا [سورة البقرة:168] ذكر الحِل، وأما الرسل -عليهم الصلاة والسلام- فلا يحتاجوا إلى هذا؛ ولهذا قال: مِنَ الطَّيِّبَاتِ.
إذًا العبادة هي الغاية، وهي أول أمر في القرآن أمر الشارع به، وفي هذه السورة التي نُرددها في كل ركعة، جاء فيها: إِيَّاكَ نَعْبُدُ [سورة الفاتحة:5] فحينما تتحول الاهتمامات إلى إقامة هذه الدنيا الفانية، والتهافت عليها، والتركيز على ذلك، فهذا خلاف المقصود، وليس المقصود أن الإنسان يُعرض عن الدنيا فتُهدم، وإنما المطلوب أن تُعمر، لكن تُعمر بماذا؟ بالإيمان، وطاعة الله ولذلك قال النبي ﷺ: أحب البلاد إلى الله مساجدها، وأبغض البلاد إلى الله أسواقها فهذا أمر لا بد منه، وقال: وَما أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأَسْوَاقِ [سورة الفرقان:20] لكن لا يتحول إلى غاية وهدف، فلما كانت الدواعي مركوزة في الفِطر في طلب هذه الشهوات لم يأمر الشارع بها، وإنما جاء الأمر بالصلاة، والعبادة، والزكاة، وكل ما فيه مشقة على النفوس، كالصبر، جاء الأمر به مُكررًا.
والإمام أحمد -رحمه الله- ذكر أن الله أمر بالصبر في القرآن في تسعين موضعًا، وقد يزيد على هذا، لماذا؟ لأنها عبادة جليلة شاقة، فدلّ ذلك على أن عبادة الله -تبارك وتعالى- هي الغاية الكبرى، التي ينبغي أن تُسخر لها جميع الطاقات والاهتمامات، فالإنسان حينما يطلب الدنيا، ويسعى لها، ويأكل ويشرب... إلى آخره، ما هي الغاية في النهاية التي يريد أن يصل إليها؟!
من الناس من تكون غايته هي هذا الشبر، وهو أن يملأ المعدة بالطعام والشراب، وكذلك أيضًا أن يشبع ما دونها من شهوة الفرج، ولكن المؤمن إنما يزاول ما يزاول من هذه الدنيا، ويُعافس ما يُعافس من أجل تحقيق العبودية، فهو إن أكل، أكل ليتقوى على طاعة الله وإن نكح، نكح ليستعين بذلك على مطالب عالية، كما قال الله -تبارك وتعالى: فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ [سورة البقرة:187] فلاحظ الاقتران؛ لما ذكر المُباشرة ذكر معه الابتغاء من فضل الله، وبعض أهل العلم يقول: المعنى: ابتغوا ما كتب الله لكم: ليلة القدر، ولا يُلهيكم النِكاح والوطء عنها.
وبعضهم يقول: وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ [سورة البقرة:187]: أي: الولد، الذي يُكاثر به، كما قال النبي ﷺ: تزوجوا الودود الولود، فإني مكاثر بكم الأمم فلاحظ الغايات والمقاصد النبيلة، هو لا يطلب الولد من أجل أن يتسلى به، أو يُلاعب هذا الولد؛ ولذلك قال النبي ﷺ: الخيل لثلاثة وهكذا في سائر المطالب، إنما يفعل ذلك من أجل تحقيق الغاية الكبرى، فهذه وسائل، وليست بغايات، ولا أهداف، ومن الخطأ أن تحول إلى غايات وأهداف.
نواصل الحديث -أيها الأحبة- في الكلام على قوله -تبارك وتعالى: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [سورة الفاتحة:5] وكنا نتحدث في الليلة الماضية عن وجه تقديم العبادة على الاستعانة إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [سورة الفاتحة:5] وذكرنا وجوهًا في ذلك، فمن ذلك:
أن العبادة هي نفسها من أسباب حصول الإعانة، وإجابة الحاجة، فإن العبد إذا عبد ربه وأطاعه، فإن الله -تبارك وتعالى- يُعينه ويقويه ويُسدده ويوفقه، فهذه أمور مُتلازمة، لا سيما أن الاستعانة هي نوع من أنواع العبادة -كما هو معلوم- فكما أن الاستعانة وسيلة إلى العبادة كما سبق، فيُعان ليُحقق العبودية فإنه إذا عبد ربه وأطاعه فإن الله يقويه ويُعينه؛ ولذلك نجد في تراجم بعض السلف فيمن أوتي منهم قوة أنه كان يعزو ذلك إلى أن تلك الجوارح حفظوها أيام الشباب فحفظها الله لهم أيام الكِبر، يقفز أحدهم ممن تقادم به العُمر قفزة، ويثب وثبة من السفينة، فيُسأل عن هذا مع كِبر سنه، فيقول: جوارح حفظناها في الصِغر، فحفظها الله لنا في الكِبر، حفظناها يعني من المعصية فيُعان.
وقد ذكرت في بعض المناسبات حال بعض أهل العلم ممن ولي القضاء، وأن أبا يوسف -رحمه الله- وكان لا يُعين، ولا يولى القضاء أحد إلا عن مشورة منه، فلما وضع هؤلاء من غير مشورة، كأنه وجد في نفسه، ثم بعد مدة طلب القضايا التي قضوها، والأحكام التي أجروها، فنظر فيها، فإذا هي على وجه الصواب، فطلب السجلات لينظر في التسبيبات، والأمور الإجرائية، فوجدها على التمام، فقال كلمة فيها عِبرة في هؤلاء الذين قد ولووا القضاء من غير مشورته، فتطلب قضاياهم فلم يجد عيبًا ولا مأخذًا ليحتج به على من ولاهم: إن فلانًا وأصحابه يُعانون بقيامهم الليل، يعني يحصل لهم العون من الله بقيامهم الليل، فتأتي أحكامهم مُسددة، هذا في القضاء وقل مثل ذلك في غير القضاء، فالعبد يُعان؛ ولذلك نجد من أهل العلم من المعاصرين على سبيل المثال من يفوق الشباب في قوته ونشاطه وبذله وتعليمه، واقرأوا إن شئتم في هذا العصر في تراجم ثلاثة: سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز -رحمه الله- فقد كانت أوقاته مُستغرقة في الأعمال الجليلة، والبذل، ونفع الناس إلى الليلة، التي قُبض فيها على كِبر سنة ومرضه.
والثاني: الشيخ محمد الصالح العُثيمين -رحمه الله- فإنك حينما تنظر في أوقاته وأعماله، فهو لا ينام إلا أربع ساعات، ويكون الواحد منهم في سفر، ثم يقوم، ويُصلي الليل.
والثالث: هو الشيخ عبد الله الجبرين -رحمه الله- ورحم علماء المسلمين، فهذا الرجل آية في البذل على كِبر سنه، ولا تكاد أن تأتي ناحية من القرى، أو الهِجر فضلاً عن المُدن الكِبار إلا وقد أتاها، ولربما تكررت زيارته لها مُعلمًا ومُذكرًا، ودروسه عامرة في يومه وليلته، وكثير من طلاب العلم ربما لو أنه قدم درسًا واحدًا في الأسبوع فإن نفسه تكاد تخرج مع هذا الدرس من العناء والتعب والإرهاق، ويشعر أنه عبء ثقيل يُرهق كاهله، وكثير منهم لا يبذلون شيئًا، فالإعانة تحصل مع العبادة.
ولذلك فإن العبد إذا كان يتقرب إلى الله بالطاعات، ويجد ويجتهد يكون له من القوة والإنجاز في الأعمال ما لا يكون لغيره، لا سيما بعض أنواع العبادات، ككثرة الذكر، وقراءة القرآن، فيحصل له إعانة وبركة في الوقت؛ لأن كثرة الذكر يحصل به قوة القلب والنفس، ويحصل به قوة البدن والإعانة على الأشغال، وكذلك الصلاة فهي من ذكر الله والله يقول: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ [سورة البقرة:45] استعينوا بها على مطالب الدنيا والآخرة، فهذه الحياة كبد لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ [سورة البلد:4] فيُستعان بهذه الصلاة على هذه الأكباد، وعلى تحمل الأوصاب والآلام والهموم والمُشكلات، وما يلقاه الإنسان في طريقه، ولا بد فيُعان بسبب ذلك.
أما أولئك الذين لا يعرفون الله -تبارك وتعالى- ولا يذكرونه إلا قليلاً فهؤلاء سرعان ما ينهار الواحد منهم ويسقط حينما يعرض له ما يعرض من المصائب والآلام والمُشكلات، وسرعان ما ينقطع عن عمله ويكل ويضعف؛ لأنه لا يُعان، فتجد من الناس من يتوثب قوة وطاقة ونشاطًا وحيوية، وهو يعمل الكثير والساعات الطوال، والآخر ربما يقوم من نومه ومن فراشه في حال من الرغد والراحة، ومع ذلك يتأوه كأنما قضى أعمالاً شاقة، فيشعر بتعب وإرهاق، وهو لم يعمل شيئًا، هو في حال من الترهل والتنعم، ومع ذلك يشعر دائمًا أنه مُرهق، ولا تسمع منه إلا التوجع والتأوه، وليس به عِلة، فهذه النفوس تضعف إذا كانت صلتها بربها -تبارك وتعالى- ضعيفة.
ثم أيضًا تعقيب العبادة بالاستعانة في قوله: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [سورة الفاتحة:5] توافق في أواخر الآي، بحرف النون، فهذا وجه أيضًا يمكن أن يُذكر في هذا، والله تعالى أعلم.
فالعبد بحاجة دائمًا في جميع العبادات إلى إعانة الله -تبارك وتعالى- من أجل أن يُحقق مطالبه من هذه العبوديات، ويستطيع أن يجتنب مساخط الله ومناهيه، فيفعل الأوامر، ويترك النواهي، ويحتاج إلى إعانة، فذُكرت الاستعانة مُفردة مع أنها داخلة في العبادة؛ لشدة الحاجة إليها.
ومما يُؤخذ من هذه الآية إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [سورة الفاتحة:5] أن العبد ينبغي أن يكون قلبه مُرتبطًا بربه -تبارك وتعالى- فقد أمر النبي ﷺ العبد أن يستعين بالله، ويحرص على ما ينفعه، فقال: واستعن بالله، ولا تعجز وأنفع ما للعبد - كما يقول شيخ الإسلام رحمه الله - طاعة الله ورسوله ﷺ وهذه هي عبادة الله، هذا أنفع ما يكون للعبد، وهذان الأصلان هما حقيقة إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [سورة الفاتحة:5].
كذلك يُؤخذ من قوله: إِيَّاكَ نَعْبُدُ [سورة الفاتحة:5] الإشارة إلى عبادته -تبارك وتعالى- بما اقتضته إلهيته من المحبة والخوف والرجاء والأمر والنهي، هذا كله فيما يتصل بقوله: إِيَّاكَ نَعْبُدُ [سورة الفاتحة:5].
وأما قوله -تبارك وتعالى: وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [سورة الفاتحة:5] فهو إشارة إلى ما اقتضته الربوبية من التوكل والتفويض والتسليم؛ لأن الرب هو المالك، وفي معنى الرب المُصلح الذي يُصلح أمور خلقه، ومن معانيه المالك الذي يتصرف في مُلكه كما يشاء، فالحمد لله يتعلق به إِيَّاكَ نَعْبُدُ [سورة الفاتحة:5] فهنا تأتي محبته -تبارك وتعالى- وخوفه ورجاؤه والعمل بمرضاته بفعل الأوامر، واجتناب النواهي، فيكون ذلك من عبادته وتأليهه، والتأله هو التعبد، فيتعبد لربه وخالقه .
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [سورة الفاتحة:2] الرب هنا وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [سورة الفاتحة:5] فإن الاستعانة تكون بالرب؛ لأن الرب -تبارك وتعالى- هو الذي يتصرف، وهو المالك، وهو الذي يُربي خلقه، بصنوف النِعم، فهنا يستعين به؛ لأن العطاء والمنع والنصر كل ذلك من معاني ربوبيته، فيستعين به، ويستنصر به على عدوه، ويسأل ربه -تبارك وتعالى- أن يمنحه، ويهبه، ويرزقه، ويُعافيه، هذا كله من معاني الربوبية، إذا أراد أن يتقوى على طاعة الله، ويتقوى على عدوه، ويتقوى على أعماله وأشغاله فيستعين بالله -تبارك وتعالى- فهذا من معاني الربوبية، فجاءت مرتبة في أول هذه السورة الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [سورة الفاتحة:2] وجاءت مرتبة في قوله: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [سورة الفاتحة:5].
ومما يُؤخذ من هذه الآية من الفوائد: أنه كثيرًا ما يقرن الناس بين الرياء والعُجب، فالرياء من باب الإشراك بالخلق، فهو يلتفت إلى المخلوق، فيُزين عمله له؛ ليراه، فالرياء من الرؤية، فيطول في صلاته من أجل المخلوق، ويُزين كلامه من أجل المخلوق، ويُبدي شجاعة من أجل أن يُثنى عليه، ويحفظ القرآن ليُقال: حافظ، فهذا كله من قبيل الإشراك بالخلق.
أما العُجب فهذا من باب الإشراك بالنفس، فهو يلتفت إلى نفسه، ويُعجب بها، وبإمكاناته، وقُدره وقواه وطاقاته، عنده مهارات وعلوم ومعارف، وعنده قوة بدنية، فهذا من باب الإشراك بالنفس، وقد لا يكون بذاته، ولكن بالمجموع، فهو مُعجب بهذه القوة التي له ولأصحابه وقومه وطائفته أو عشيرته أو غير ذلك وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ [سورة التوبة:25] فهذا لون من العُجب، فحينما يُعجب الناس بالكثرة، أو بالسلاح، والقوة، أو نحو ذلك، فهذا كله داخل في العُجب، فالمُرائي قد التفت إلى المخلوقين، وصاحب العُجب قد التفت إلى النفس، وما يقوم مقامها، وهذا صاحب العُجب هو الذي يحصل له الكِبر عادة؛ لأنه لا يحصل له الكِبر والترفع إلا إذا حصل له العُجب.
فمن حقّق قوله: إِيَّاكَ نَعْبُدُ [سورة الفاتحة:5] خرج عن الرياء، فيكون مُخلصًا، وقلنا: تقديم المعمول على عامله يُفيد الحصر إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [سورة الفاتحة:5] يعني: نعبدك لا نعبد أحدًا سواك، فلا يلتفت في عبادته إلى أحد من أجل أن يُثني عليه، ولا يُعجب بعبادته، فيُزين العبادة للمخلوقين، فيكون مُرائيًا، فهنا إِيَّاكَ نَعْبُدُ [سورة الفاتحة:5] يُخرجه عن الرياء، ووَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [سورة الفاتحة:5] يخرجه عن الإعجاب والكِبر الذي هو أثر من آثار الإعجاب، فهو يستعين بربه -تبارك وتعالى- ويعلم أنه لا حول له، ولا قوة، ولا طور، ولا إمكان إلا بإعانة الله فيُعجب بماذا؟ فينتفي عنه العُجب، وكذلك ما ينشأ عنه من الكِبر.
وقول العبد: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [سورة الفاتحة:5] ينفي عنه أنواع العِلل التي تُفضي به إلى التلف من المقاصد الفاسدة، والزهو والترفع والكبرياء والسمعة، ونحو ذلك، فعلاج هذه الأدواء بـإِيَّاكَ نَعْبُدُ [سورة الفاتحة:5] وأما الترفع وما إلى ذلك فعلاجه بـوَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [سورة الفاتحة:5] وقد نقل هذا المعنى أيضًا عن شيخه شيخ الإسلام ابن تيمية بأن إِيَّاكَ نَعْبُدُ [سورة الفاتحة:5] تدفع الرياء وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [سورة الفاتحة:5] تدفع الكبرياء.
فصاحب الاستعانة والعبادة يكون مُخلصًا مُتجردًا، ويكون أيضًا في الوقت نفسه يكون مُخبتًا متواضعًا، فيسلم الناس من أذاه ومن شره، ولا يُحسن الناس إليه اتقاء شره، ولا يكون معول هدم وتفريق في الأمة، فيقول: هذا عملي، أو هذا حقي، وهذه مُكتسباتي، فلا يكون صاحب العبودية الحقة، أو صاحب الاستعانة الحقيقية بهذه المثابة، وإنما لسان حاله ومقاله: ما مني شيء، ولا لي شيء، ولا يريد أن يُنسب إليه من ذلك شيء، فيقول: خذوا هذه الأشياء، استفيدوا منها، خذوا هذه الأعمال، وهذه الأفكار، وهذه المشروعات، وهذه الفوائد، ولا تنسبوا إليّ من ذلك شيء، ما ينفع المسلمين وينفع الأمة يُبذل لهم، ولا يقال هذا حقنا، ويُحجر تحجيرًا شديدًا على من يريد أن يستفيد من شيء من هذه الأعمال، أو البرامج، أو غير ذلك، ويقول: لا بد أن ينسب إلي، وشروط صعبة طويلة...، وإنما يقول: خذوه حثوًا بلا كيل ولا ميزان إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا [سورة الإنسان:9] لا نريد شيئًا، ولا يُقال: هذه أخذناها من فلان، أو استفدناها من فلان، والبعض ربما يُقيم دعوى قضائية في المحاكم من أجل أن فلانًا قد اقتبس منه جملة، ولم ينسبها إليه، فلا يكون ذلك أبدًا.
الشافعي -رحمه الله- كان يقول: وددتُ أن الناس تعلموا هذا العلم، ولم يُنسب إليّ منه شيء وجاء عن ابن عباس -رضي الله عنهما- مثل هذا، وهذا لا يكون إلا لمن حقق إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [سورة الفاتحة:5] فإذا عوفي العبد من مرض الرياء، بـإِيَّاكَ نَعْبُدُ ومن مرض الكِبر والعجب بـإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ومن مرض الضلال والجهل بـاهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [سورة الفاتحة:6] عوفي من أمراضه وأسقامه، ورفل في أثواب العافية، وتمت عليه النِعمة، وكان من المُنعم عليهم غير المغضوب عليهم، وهم أهل فساد القلب والقصد، الذين عرفوا الحق، وعدلوا عنه، والضالين وهم أهل فساد العلم الذين جهلوا الحق، ولم يعرفوه.
وحُق لسورة -كما يقول ابن القيم- أن تشتمل على هذين الشفاءين: أن يُستشفى بها من كل مرض لا إشراك بالنفس، ولا إشراك بالخلق، يكون العبد في غاية التجرد من الجهتين، بعض الناس قد لا يلتفت إلى المخلوقين؛ لأنه أصلاً لا يراهم إلا حشرات، لكن عنده هذه النفس يلتفت إليها، فهو يراها شيئًا عظيمًا هائلاً، لا يُقادر قدره، ولا يُدانيه أحد، ويرى أن الناس لا يبلغون وعلومهم قدر بصقة، كما قال بعضهم، هذه ليست مني، هذه العبارة عبَّر بها بعض من أُعجب بعلمه، فعلوم هؤلاء يرى أنها لا تبلغ قدر بصقته حينما بصق -أعزكم الله- فقد لا يُرائي الإنسان، ولكنه يكون شديد العُجب، لا يرى الناس شيئًا، ويتعامل معهم بفوقية وصلف كِبر وازدراء واحتقار، فهذا لم يُحقق ما جاء في هذه الآية.
ونأخذ من هذه الآية: أن كل نقص في صفاء الإخلاص ونقائه إنما هو بسبب نقص تحقيق العبادة والاستعانة، كما أنه أيضًا نقض لهذا الإعلان الذي يُعلنه الإنسان في كل ركعة إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [سورة الفاتحة:5] صباح مساء وما بين ذلك، ثم بعد ذلك ينقض هذا، لربما ينقضه في صلاته نفسها هو يقول: إِيَّاكَ نَعْبُدُ [سورة الفاتحة:5] نحن مُخلصون لك يا رب، وهو في هذه الصلاة يُرائي، فأين إِيَّاكَ نَعْبُدُ [سورة الفاتحة:5]؟!
وربما يكون مُعجبًا بنفسه، فلا يستطيع أحد أن يقترب منه حتى في صلاته؛ لأنه شديد الإعجاب بنفسه، فيتباعد من المُصلين عن يمينه وشماله، ويربأ بنفسه عنهم، مثل هذا لم يُحقق إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [سورة الفاتحة:5] هو يقول هذا بلسانه دائمًا، ولكن فعله وحاله ينقض ذلك، فكل من جانب الإخلاص بالالتفات إلى المخلوقين، أو جانبه بالالتفات إلى النفس، فإنه يكون قد كذب قوله بفعله، فيحتاج الإنسان أن ينظر ونلتفت إلى نفسه حينما نقول هذا الكلام، هل نحن كذلك فعلاً؟ أو أننا ننقض ما نقوله بأفعالنا وأحوالنا ومزاولاتنا.
ومما يُؤخذ منها: أن العبد لا يمكن أن يبلغ مراتب الكمالات، ويحصل له التوفيق والفلاح بمجرد الأماني والرغبة، وإنما لا بد من الاستعانة بالله -تبارك وتعالى- والافتقار إليه، وسؤال الفتح على القلب واللسان بألوان العبودية القلبية والبدنية إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [سورة الفاتحة:5] فكثير من الناس لديه آمال وطموحات، لكن هو أبعد ما يكون من الاستعانة بالله، يريد أن يدخل الاختبار، أو يُجري مُقابلة، أو يُقيم عملاً أو مشروعًا، وربما بذل كل مُستطاع من أجل إنجاح هذا المشروع، ولكنه يغفل عن السبب الأهم والأعظم، وهو الاستعانة بالله -تبارك وتعالى.
فكل هذه الأسباب -أيها الأحبة- تتهافت، ويحصل الفشل للإنسان إن لم يحصل له إعانة من ربه وخالقه وقل مثل ذلك في الأعمال التي يعملها الناس، فالطبيب حينما يُعالج المرضى ويُجري العمليات، ونحو ذلك، فلا يعتمد على شطارته وحذقه وخبرته، وقل مثل ذلك أيضًا في المُربي والمُعلم والوالد في تربيته لأولاده، فلا يكتفي بمعلوماته ومهاراته، وكذا قد تجد الرجل يُقدم للآخرين الكثير والكثير ودورات تدريبية وغير تدريبية فيما يتعلق بتربية الأولاد، وفن التواصل، والتعامل والتنشئة وما إلى ذلك، وإذا نظرت إلى حال أولاده وعمله معهم، فقد ترى بونًا شاسعًا، نعم الهداية من الله، فيحتاج العبد إلى استعانة بأعماله هذه جميعًا، فلا يقول: أنا صاحب خبرات، وأنا مُربي فذ وقدير وخبير، وإنما يستعين بالله في تربيته وتعليمه وتوجيهه، ويسأل ربه -تبارك وتعالى- أن يُسدده، وأن يُلهمه رُشده، وأن يوفقه، وأن يهدي به، فلا يكون مُلتفتًا لحاله وعمله، والله تعالى أعلم.
لم يزل الحديث -أيها الأحبة- متصلاً بقوله -تبارك وتعالى- في هذه السورة الكريمة (سورة الفاتحة) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [سورة الفاتحة:5].
فهذان الأصلان: العبادة والاستعانة يرددهما العبد في كل ركعة، ولكن أحوالنا في ذلك تتفاوت غاية التفاوت من الناحية العملية الواقعية، فهذه الأحوال يمكن أن تُجعل على أربعة أقسام أو أربع مراتب، كما يذكر الحافظ ابن القيم -رحمه الله- أكمل هذه المراتب هم الذين جمعوا بين العبادة والاستعانة، أهل العبادة والاستعانة الذين يُحققون العبادة، وعبادة الله -تبارك وتعالى- هي غاية مرادهم ومطلوبهم، وكذلك أيضًا يطلبون من ربهم -تبارك وتعالى- أن يُعينهم عليها، وأن يوفقهم للقيام بها؛ ولهذا كان من أكمل الدعاء وأحسنه وأجمعه: أن يسأل العبد ربه -تبارك وتعالى- الإعانة على مرضاته، كما علم النبي ﷺ حِبه مُعاذ بن جبل أن يقول حينما قدم له بهذه المقدمة: يا معاذ، والله إني لأحبك، والله إني لأحبك، أوصيك يا معاذ لا تدعن في دبر كل صلاة تقول: اللهم أعني على ذكرك، وشكرك، وحسن عبادتك.
فذكر له هذه الأمور أن يسأل ربه أن يُعينه عليها، ومن هنا كان أنفع الدعاء، كما يقول الحافظ ابن القيم -رحمه الله: هو طلب العون من الله تعالى على مرضاته، وأن أفضل المواهب والعطايا والمِنح: أن يُسعف الرب -تبارك وتعالى- عبده بهذا المطلوب، وجميع الأدعية المأثورة تدور على هذا، أو دفع ما يُضاد هذا المطلوب، أو على تكميله، وتيسير أسبابه.
وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله: "تأملتُ أنفع الدعاء، فإذا هو سؤال العون على مرضاته، ثم رأيته في الفاتحة إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [سورة الفاتحة:5]" فصاحب التعبد المُطلق ليس له غرض في تعبدٍ بعينه، يُؤثره على غيره، بل هو يتتبع مرضاة الرب -تبارك وتعالى- أين كانت، فمدار تعبده عليها، فهو لا يزال متنقلاً في منازل العبودية، كلما رُفعت له منزلة عمل على سيره إليها، واشتغل بها حتى تلوح له منزلة أخرى، فهذا ديدنه في سيره إلى الله -تبارك وتعالى- حتى ينقضي العُمر، فإن رأيت العلماء رأيته معهم، وإن رأيت العُباد رأيته معهم، وإن رأيت المُجاهدين رأيته معهم، وإن رأيت الذاكرين رأيته معهم، وإن رأيت المتصدقين رأيته معهم، وهكذا، فهذا العبد هو صاحب العبودية المُطلقة الذي لم يتقيد بنوع منها، وليس له لذة وراحة إلا في مرضاة الله -تبارك وتعالى- وهذا بخلاف من يأخذ بشيء من الدين، أو من العبادات، فيجعل ذلك رسمًا له، ثم بعد ذلك يجفو من اشتغل بغيره.
والمقصود: أن من كان بتلك المثابة من أصحاب العبودية المُطلقة، فذاك هو المُتحقق بقوله: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [سورة الفاتحة:5] فهذا ليس يعنيه كثيرًا ما يأكل أو ما يلبس أو ما يُعافس من لذات الدنيا، فهو يأكل ويلبس ما تهيأ وتيسر، وإنما اشتغاله وهمه بتحقيق أمر الله -تبارك وتعالى- في كل وقت بوقته، وهكذا يدور العبد مع مرضاة الله -تبارك وتعالى- حيث دارت، ويستوحش من كل ما يُسخطه، فهو كالغيث حيث وقع نفع، وكالنخلة لا يسقط ورقها، وكلها منافع، حتى شوكها، وهو موضع الغِلظة -كما يقول الحافظ ابن القيم- منه على المخالفين، يعني: هذا بمنزلة شوك النخلة، الغِلظة على أعداء الله -تبارك وتعالى- والغضب إذا انتهكت محارم الله، فهو يغضب لله، وبالله، ومع الله، ويكون مثل هذا بأعلى المراتب.
يقول ابن القيم: "فواهًا له ما أغربه بين الناس، وما أشد وحشته منهم، وما أعظم أُنسه بالله، وفرحه به، وطمأنينته به، وإليه حينما يُناجيه، ويتقرب إليه بألوان القُربات" فهذا المُحقق فعلاً.
ويبقى هناك من الناس من يكون دون ذلك - كما هو معلوم - فمنهم من يكون صاحب عبادة، ولكن ليس له استعانة، فمثل هذا ينقطع ويضعف ويتلاشى، وربما يكون في قلبه من الخوف من المخلوقين، ونحو ذلك ما يُخل بعبوديته وتوحيده، ومن الناس من يكون عنده استعانة، ولكن ليس له كبير تعبد، فهو يلجأ إلى الله في حاجاته ومطالبه، ولكنه ضعيف في العبادة.
وأسوء هذه المراتب من ليس له لا عبادة، ولا استعانة، فقلبه معلق بالمخلوقين: يرجوهم ويخافهم ويأملهم، وهو بطال، لا يرفع رأسًا لشيء من الطاعات والقُربات والعبادات.
ثم أيضًا في قوله: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [سورة الفاتحة:5] عرفنا أن العبد بحاجة إلى الاستعانة في فعل المأمورات، وترك المحظورات، كذلك هو بحاجة إلى استعانة في الصبر على المقدورات وما يُصيبه من الأقدار في الدنيا، فإن الله -تبارك وتعالى- يقول: لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ [سورة البلد:4] فلا بد أن يلقى ما يكره، سواء من أذى الناس، أو من غير ذلك، فيحتاج إلى استعانة بالله -تبارك وتعالى- وهكذا هو دائمًا إلى أن يكون في حال النزع والاحتضار، ثم بعد ذلك هو بحاجة إلى عون الله وألطافه، عند سؤال الملكين، وفي البرزخ، وأهوال القيامة، ولا يقدر على إعانته إلا الله فمن حق الاستعانة بالله -تبارك وتعالى- فإن الله يُعينه، فهذه الاستعانة لا تقف عند حد، فيستعين على مطالبه الأخروية، ومطالبه الدنيوية، يستعين على العبادات والطاعات، ويستعين على حاجاته وأموره المعاشية، وما إلى ذلك، ويحتاج إلى استعانة حتى بعد الموافاة، فإنه إن لم يُعنه الله -تبارك وتعالى- فإنه يكون بعد ذلك خاسرًا، وهذا المعنى ذكره الحافظ ابن رجب -رحمه الله تعالى.
وأيضًا فالعبادة - كما هو معلوم: اسم جامع لما يُحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة، وعرفنا أن الاستعانة نوع من ذلك، لكن لأهمية الاستعانة أُفردت، فقال: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [سورة الفاتحة:5] وبذلك نفهم قدر الاستعانة بين أنواع العبادات، ونعرف منزلتها، فإنه لا استقامة على العبادة ابتداء إلا بالاستعانة، وكذلك أيضًا لا ثبات على العبادة إلا بالاستعانة، فأُفردت من بين أفراد العبادة.
ومن هنا فإن السؤال الذي قد يرد عن وجه تقديم العبادة على الاستعانة قد مضى الكلام عليه، وأن ذلك لأمور قد لا تخفى على الناظر المتأمل في هذه الآية، وقد ذكرت جملة منها فيما يتصل بحق الرب، وحق العبد، والصورة منقسمة إلى هذا وهذا، إلى غير ذلك من الأمور التي ذكرناها.
كذلك أيضًا معلوم أنه لا أنفع للقلب من التوحيد، وإخلاص الدين لله -تبارك وتعالى- ولا أضر عليه من الإشراك، فالتوحيد هو أجل الأعمال، والإشراك هو أسوء الأعمال، فإذا وجد حقيقة الإخلاص التي هي مُضمنة في قوله: إِيَّاكَ نَعْبُدُ [سورة الفاتحة:5] لأنه كما عرفنا هذا توحيد الوِجهة، يعني: لا نعبد سواك، مع حقيقة التوكل التي هي مُضمنة بقوله: وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [سورة الفاتحة:5] فإن هذا يكون فوق ما يجده كل من لم يكن مُحققًا لهذه المراتب.
وأيضًا في قوله - تبارك وتعالى: إِيَّاكَ نَعْبُدُ [سورة الفاتحة:5] تبرأ من الإشراك، وفي قوله: وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [سورة الفاتحة:5] تبرأ من الحول والقوة، وتفويض إلى الله -تبارك وتعالى- وهذا كثير في القرآن فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ [سورة هود:123] قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا [سورة الملك:29] رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً [سورة المزمل:9] ولهذا قال بعض السلف: بأن الفاتحة هي سر القرآن، وأن سرها هو هذه الكلمة إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [سورة الفاتحة:5].
كذلك في هذا تربية لأهل الإيمان على اللجوء إلى الله -تبارك وتعالى- بالاستعانة به، وأن يدعوه دائمًا أن يُحقق لهم مطالبهم، وأن يقيهم ما يحذرون، ويتخوفون.
كما نُلاحظ في قوله - تبارك وتعالى: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [سورة الفاتحة:5] التقديم والتأخير، وسياق الكلام في الأصل: نعبدك ونستعينك، أو ونستعين بك، فقدّم المعمول على عامله إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [سورة الفاتحة:5] فقدّم المفعول به في قوله: (إياك) وهو يفيد القصر والاختصاص -كما هو معلوم- يعني: لا نعبد غيرك، ولا نستعين بسواك، وهذا التقديم يدل أيضًا على الاهتمام والتعظيم؛ لأن العرب تُقدم الأهم، فالمُخاطب هو الله -تبارك وتعالى- فقدمه إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [سورة الفاتحة:5].
وكذلك تقديم العبادة على الاستعانة إِيَّاكَ نَعْبُدُ [سورة الفاتحة:5] فقدم الأهم أيضًا كما ذكرنا سابقًا.
وفيه أيضًا: التفات، والالتفات يكون بأنواع كثيرة من ذلك: أن يوجه الكلام من الغائب إلى المُخاطب، أو العكس، أو من ضمير المُفرد إلى الجمع، أو غير ذلك، فهنا التفات من ضمير الغيبة إلى ضمير الخطاب، ولو جرى الكلام على الأصل لقال: إياه نعبد؛ لأنه الكلام كان بضمير الغيبة، الحمد لله، رب، يعني: هو رب العالمين، الرحمن، يعني: هو الرحمن الرحيم، ثم بعد ذلك خاطبه مُباشرة فقال: إِيَّاكَ نَعْبُدُ [سورة الفاتحة:5] فهذا التوجيه للخطاب من باب التفنن في الكلام، كما هو معروف.
ومن فوائد الالتفات: أن ذلك يكون أيضًا لتنشيط السامع، كما هي عادة العرب، فهو من مُحسنات الكلام، وكذلك أيضًا له فوائد أخرى، كأنه حينما أثنى على الله -تبارك وتعالى- بهذا الثناء الكثير، الذي بلغ التمجيد، وذكر الحمد مرتين، اقترب منه، فكأنه صار حاضرًا بين يديه، فخاطبه مُباشرة، فقال: إِيَّاكَ نَعْبُدُ بعد ما كان يقول بضمير الغائب: الحمد لله رب العالمين، هو رب العالمين، الرحمن، قال: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [سورة الفاتحة:5].
وكرر في قوله: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [سورة الفاتحة:5] ولم يقل: إياك نعبد ونستعين، فالاستعانة غير العبادة، فالفعلان مختلفان، فاحتاج كل واحد منهما إلى تأكيد واهتمام، فكل واحد يحتاج إلى إخلاص، وأن توجه العبادة لله وحده، وكذلك في قوله ﷺ: وإذا استعنت فاستعن بالله فأكده بهذه الطريقة، هذا بالإضافة إلى أن ذكر (إياك) ثانيًا هذا في حال مناجاة لربه -تبارك وتعالى- فكأنه يستلذ بذلك، فإعادة الكلمة في حال التذاذه بالمُناجاة لا شك أن هذا هو الأليق والأوفق في هذا المقام، والله أعلم.
وأتى بنون الجمع إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [سورة الفاتحة:5] وقد يقول قائل: هذا موضع افتقار إلى الله -تبارك وتعالى- وإنما تأتي النون بصيغة الجمع للمُعظم نفسه، فهل هذا مقام تعظيم للنفس؟ ليس كذلك، وإنما هو مقام تذلل وخضوع، فكيف قال: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [سورة الفاتحة:5]؟ لماذا لم يقل: إياك أعبد، وإياك أستعين؟ هذا يحتمل الجواب عنه جملة من الأوجه:
فمن ذلك يمكن أن يُقال -والله أعلم: أن هذا المقام لما كان عظيمًا لم يستقل به الواحد استصغارًا لنفسه في تحقيق العبودية، وتحقيق الاستعانة، فالمجيء بالنون لقصد التواضع، لا التعظيم، يعني: هذا مقام كبير عُبر معه بما يُناسبه، مما يدل على التعظيم، كأن الواحد لا ينهض به، فيحتاج إلى جمع للنهوض به.
ومما قيل أيضًا: إنه يمكن أن تكون هذه النون للتعظيم، والمعنى: أن العبد حينما يكون في حال تحقيق العبادة والاستعانة، أو طلب هذا المقام، فإنه يكون بذلك شريفًا عظيمًا؛ لأن هذا هو الشرف الحقيقي للعبد، فعند ذلك قال: إِيَّاكَ نَعْبُدُ [سورة الفاتحة:5] لأنه قد تشرف بهذه الأحوال والمقامات، بخلاف من كان بغير هذا من الأحوال.
ويمكن أن يُقال: بأنه لما كان المقام مقام عبودية وافتقار إلى الله -تبارك وتعالى- وإقرار بالفاقة والفقر والحاجة والضعف، وهو يستعين بالله -تبارك وتعالى- فكأنه يقول: نحن معاشر عبيدك مقرون لك بالعبودية، بمعنى أن ذلك يكون لتعظيم الله -تبارك وتعالى- يعني: بدلا ًمن أن يقول: أنا عبدك وحدي، وأنا الذي أستعين بك وحدي، جمع ذلك ليكون أبلغ، فلو أن أحدًا قال لملك من الملوك: أنا الذي أُطيعك وحدي، وأنا الذي انقاد لك وحدي، فإنه يكون ممقوتًا، لكن لما يقول: نحن جميعًا طوع إشارتك، ونحن جميعًا طوع بنانك، ونحن جميعًا رعيتك، ونحن جميعًا منقادون لك، فإن هذا أدعى للتعظيم من قوله: أنا وحدي الذي أُعظمك، وأنا وحدي الذي أُجلك، ونحو ذلك، فهذا بحق الله -تبارك وتعالى- يكون أعظم وأفخم، فعند ما يقول العبد: نحن جميعًا عبيدك، ونحن مماليكك، ونحن فقراء إليك، وأنا واحد من هؤلاء العبيد الكُثر الذين قد ذلوا لك، وأظهروا الافتقار.
وأيضًا في قوله - تبارك وتعالى: إِيَّاكَ نَعْبُدُ [سورة الفاتحة:5] بصيغة الجمع، فحينما نقولها في كل صلاة، فهذا يُشعر بأن الصلاة قد بُنيت على الاجتماع.
ويمكن أن يُضاف إلى الأوجه السابقة، فيُقال: إن قوله: إِيَّاك أعبدُ وإياك أستعينُ، كأنه قد جعل نفسه هو القائم بذلك، وأضافه إليها، ولكن حينما يقول: أنا من جُملة هؤلاء، فذلك أدعى في هذا المقام إلى المتواضع لربه -تبارك وتعالى- وعدم الالتفات إلى النفس، فهذا وجه جيد.
وهذا أيضًا مُناسب بصلاة الجماعة، فحينما يقرأ الإمام إِيَّاكَ نَعْبُدُ [سورة الفاتحة:5] فهو لا يُمثل نفسه وحده، وإنما يُمثل هؤلاء.
وكذلك يمكن أن يُقال: لما كانت هذه السورة يُقال لها أيضًا: الصلاة، كما ذكر ذلك جمع من أهل العلم في أسمائها أخذًا من قوله ﷺ: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين فهؤلاء الذين يصلون في مشارق الأرض ومغاربها كُثر، وفي كل لحظة يُصلي قوم؛ لأن الأوقات تتداخل -كما هو معلوم- بجري الشمس، ومن ثَم فإنهم يقولون: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [سورة الفاتحة:5].
وكذلك أيضًا أن هذه العبادة هي أعلى مراتب الخضوع، ولا يجوز بحال من الأحوال أن توجه إلى غير الله -تبارك وتعالى؛ لأن المُستحق لذلك هو الله وحده، فهو المُنعم المُتفضل، ومن ثَم فإننا نُفرده بذلك في كل ركعة.
وحينما يقول العبد: إِيَّاكَ نَعْبُدُ ينبغي أن يستشعر أن تكون هذه الكلمة شاملة جامعة لشؤونه وأمور حياته، من أولها إلى آخرها قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [سورة الأنعام:162] فينوي العبد حتى في حاجته الدنيوية، ومطالبه العادية، حينما ينام ويأكل، ونحو ذلك أن يتقرب بذلك إلى الله -تبارك وتعالى- ويكون له فيها نية.
وإذا كان العبد في حال من الترك والقعود عن الأعمال والمزاولات، فإنه ينوي الخير دائمًا، ويُرجيه ويؤمله، فإذا تيسر له وإلا فهو في عبادة بذلك كله، فحينما يستريح الإنسان أو ينام إنما يفعل ذلك ليستجم لعبادة أخرى، والله يقول: فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ [سورة الشرح:7، 8] على أقوال في المراد بذلك، ومن أحسنها وأرجحها: إذا فرغت من عبادة فاشتغل وانصب بعبادة أخرى، فلا يوجد إجازة.
وشيخ الإسلام - كما ذكر الحافظ ابن القيم رحمه الله - كان يجلس من بعد الفجر إلى قريب من الظهر يذكر ربه -تبارك وتعالى- وكان يقول: "هذه غدوتي، ولو لم أتغد لم تحملني قواي" وكان يقول: "لا أستجم إلا لأعاود" يعني إلى الذكر والعبادة، فهو ينوي ذلك باستجمامه وراحته، فالمؤمن لا بد أن يكون له نظر في هذا الباب في شؤونه كلها، فإذا أراد أن يتزوج يكون له نية، وهذه النية ما هي؟ كيف تكون النية صالحة؟ هل النية فقط قضاء الوطر والشهوة؟ فهذا يحصل من البهائم، ولكن ما هي نية المؤمن في مثل هذه الأمور؟ نيته:
أولاً: أن هذا أمر شرعه الله، فهو مُستجيب له.
الأمر الثاني: أن هذا من سنة المُرسلين -عليهم الصلاة والسلام- فهو يقتدي بهم.
الأمر الثالث: أن النبي ﷺ حث عليه: يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فهو يفعل ذلك امتثالاً لأمر رسول الله -عليه الصلاة والسلام.
الأمر الرابع: وهو أنه حينما يتزوج يقصد بذلك أيضًا امتثال أمر النبي ﷺ الآخر حينما قال: تزوجوا الودود الولود، فإني مُكاثر بكم الأُمم فهو يقصد تكثير نسل هذه الأمة.
الأمر الخامس: أنه حينما يتزوج يقصد بذلك أن يُعف نفسه عن الحرام، فيؤجر.
الأمر السادس: حينما يُريد الزواج يقصد بذلك أن يُعف زوجته، هذه المرأة المسلمة التي يتزوجها.
الأمر السابع: أن يُكِّون لبِنة في هذا المجتمع، تقوم على أساس من التقوى والإيمان، ويكون ذلك سببًا لوجود مجتمع مسلم، يعبد الله -تبارك وتعالى- ويُطيعه.
إلى غير ذلك من أنواع المقاصد الصحيحة التي يجمعها النية والقصد الطيب في أمر النِكاح الذي يتعلق بشهوة هي من قبيل الغرائز في الإنسان، وهكذا في حاجاته كلها.
وعند ما يقول العبد: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [سورة الفاتحة:5] يستحضر أنه في جملة هذه المخلوقات الخاضعة لله -تبارك وتعالى- من الأشجار والأحجار والكائنات بجميع أنواعها، فهي تخضع لله وهي تسجد له وتُسبحه، كل ما في السماوات والأرض مُسبح لله وعابد له، ولكن كما قال الله - تبارك وتعالى: لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ [سورة الإسراء:44] فيكون هو من جملة هذه المخلوقات، فلا يكون مُتمردًا على الله، شاذًا عن هذه المخلوقات التي عرفت ربها، وانقادت له.
إلى غير ذلك من الهدايات في هذه الجملة إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [سورة الفاتحة:5] ومن ثَم فانظروا إلى حال السلف "سفيان الثوري صلى المغرب بأصحابه، فقرأ حتى بلغ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [سورة الفاتحة:5] فبكى حتى انقطعت قراءته، ثم عاد، فقرأ: الحمد لله رب العالمين" فهذا لو فعله أحد اليوم لقالوا: ماذا أصابه؟ وبدأوا يُحللون تحليلات، ويوجهون ذلك بتوجيهات بعيدة.
وأحد العلماء المعاصرين يقول بعض من عرفه، وصلى خلفه مِرارًا: ما أذكر أنه استقامت له قراءة الفاتحة بدون بُكاء، خصوصًا عند قوله -تبارك وتعالى: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [سورة الفاتحة:5].