"الفائدة الثاني عشر: اهْدِنَا [الفاتحة:6] دعاء بالهُدى، فإن قيل: كيف يطلب المؤمنون الهُدى وهو حاصل لهم؟ فالجواب: أن ذلك طلب للثبات عليه إلى الموت، أو الزيادة منه، فإن الارتقاء في المقامات لا نهاية له".
هذا الجواب عن هذا السؤال يذكره كثير من المفسرين اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة: 6] يقولون: أي: ثبتنا، والواقع أن هذا أحد المعاني الداخلة تحته، وإلا فإن سؤال الهداية يتضمن ذلك، ويتضمن غيره من أنواع الهدايات الكثيرة، فالهداية - كما نعلم - نوعان: هداية إرشاد، وهداية توفيق، فقوله: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ هذا طلب للهدايتين اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ بمعنى دُلنا وأرشدنا، فهداية الإرشاد كقوله - تبارك وتعالى -: أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ [طه: 128] يهدي لهم، يعني: يتبين لهم وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا [الأنعام: 97] يعني: تسترشدوا بها، وتستدلوا بها، فهذه هداية إرشاد، فهداية الإرشاد: الله - تبارك وتعالى - هدى عباده، بمعنى أرشدهم إلى محابه، ومراضيه، وعبادته، فهذه هداية عامة.
فالله - تبارك وتعالى - هادٍ بهذا الاعتبار، قد بين لعباده كل ما يحتاجون إليه، ومن ذلك قوله - تبارك وتعالى - في هذا المعنى هداية الإرشاد: وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى [فصلت: 17] هذه ليست هداية توفيق لو كانت هداية توفيق لآمنوا، ولكنها هداية إرشاد إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا [الإنسان: 3] يعني: دللناه، وأرشدناه وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ [البلد: 10] إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى [الليل: 12] فهذا كله في الهداية العامة بهذا المعنى، والرُسل هداة بهذا الاعتبار وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [الشورى: 52] فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا [مريم: 43] وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى [النازعات: 19] قول موسى ﷺ لفرعون: أهديك، يعني: الإرشاد، والبيان، وهكذا في أتباع الرسل - عليهم الصلاة والسلام - وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ [غافر: 38].
أما النوع الثاني: التي هي هداية التوفيق، فهذه التي لا يملكها إلا الله فالرُسل عليهم الصلاة والسلام يُرشدون، ويُبينون الحق، ولكن الموفق، والهادي هو الله وقد جاءت هذه الهداية في مثل قوله - تبارك وتعالى -: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ [القصص: 56] هنا نفى عنه الهداية، وهناك أثبتها، فتلك التي أثبتها هي هداية الإرشاد، وهذه التي نفها هي هداية التوفيق وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [القصص: 56] يعني: يوفق لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ [البقرة: 272] التوفيق للهدى وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [البقرة: 272] ولاحظ اجتماع هاتين الهدايتين في قوله - تبارك وتعالى -: وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى [الضحى: 7] الهُدى هنا يشمل الإرشاد، ويشمل التوفيق.
وهكذا في قولنا: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة: 6] يشمل الهدايتين، وفعل الهداية إذا عُدي بحرف؛ فإنه يُفهم يتعين معناه، ويتخصص بحسب هذه التعدية، وهذا أمر معلوم في لغة العرب بأن الأفعال تُفهم معانيها على ضوء ما تتعدى به، وهذه قاعدة من قواعد التفسير: "تُفهم معاني الأفعال على ضوء ما تتعدى به"، كما ذكرنا في نظر فإذا عُدي بنفسه فهو بمعنى الانتظار، وإذا عُدي بإلى فهو النظر بالأبصار، وإذا عُدي بفي نظر في كذا نظرت في أمرك، فهو بمعنى التفكر، والاعتبار.
فالهداية إذا عُدي هذا الفعل هدى إلى كذا، فهذا يتضمن الإيصال إلى الغاية المطلوبة، وإذا عُدي باللام، هداه لكذا، اهتديت لكذا، فهذا يتضمن الاختصاص، والتعيين، فإذا عُدي بنفسه مثل هذا الموضع: اهْدِنَا الصِّرَاطَ [الفاتحة: 6] ما قال إلى الصراط، وما قال في الصراط، فهذا يشمل جميع ما سبق الهداية إلى الغاية المطلوبة.
وكذلك ما يكون مُعداً باللام مما يتضمن الاختصاص، والتعيين، يعني: بين لنا اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة: 6] ودلنا وأرشدنا إلى الصراط المستقيم، وألهمنا، ووفقنا، وثبتنا عليه، فيدخل بهذه الهداية المذكورة بهذا الاعتبار هداية الإرشاد، وهداية التوفيق، اهدنا إليه، واهدنا له يدخل أنواع الهدايات، فهداية الإرشاد يدخل فيها هداية العلم، والبيان للحق، فقد لا يصل إلى الإنسان الدليل، أو العلم، أو الحق، فيكون جاهلاً به.
وكذلك أيضاً قد يختلف الناس فيحتاج العبد إلى هداية لمعرفة الحق الذي اختلفوا فيه اللهم رب جبرائيل، وميكائيل، وإسرافيل، فاطر السموات، والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا يختلفون، اهدني لما اخُتلف فيه من الحق بإذنك .
فالعبد بحاجة إلى هذه الهداية، فكيف يقال: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة: 6] بمعنى ثبتنا فقط؟ ثم أيضاً العبد في كل حين، وفي كل لحظة بحاجة إلى هداية لمعرفة مُراد الله منه، ما هو واجب الوقت، فيحتاج إلى هذه الهداية أن يهديه الله - تبارك وتعالى -.
ثم أيضاً هذه الأعمال على كثرتها وسعة شرائع الإسلام، بحيث إن العبد لو بقي العُمر وهو يعمل في باب من الأبواب لاستغرق ذلك عمره كله، فهو بحاجة إلى هداية للأفضل من الأعمال، يعني: غير الواجبات؛ لأنه ما تقرب العبد إلى الله - تبارك وتعالى - بشيء أحب إليه مما افترضه عليه، لكن في غير الواجبات هذا ميدان واسع، وهذه تجارة مع الله والأعمار قصيرة، فيحتاج العبد إلى معرفة الأفضل، وهذا يحتاج إلى هداية، ما هو الأفضل إن اشتغل بهذا، أو اشتغل بهذا؟
فهناك أعمال قد تكون هي الأفضل من حيث هي، ولكن الأفضل لهذا المعين قد يكون هو المفضول، وهذا يحتاج إلى فقه، وقد يقضي الإنسان دهراً في عمل مفضول، ويغفل عن الفاضل، فيفوته خير كثير، فهو بحاجة إلى هداية اهْدِنَا الصِّرَاطَ [الفاتحة: 6] فهذا كله داخل في هداية الإرشاد، كثير من الناس قد يُحرم هذا النوع من الهداية من أصله، فلا يُهدى إلى الإسلام، وهذا السؤال الذي يرد الله هدانا للإسلام، فلماذا نسأل الهداية؟
هو ليست فقط هذه، هذه واحدة الهداية إلى الإسلام، وكم من مليارات من البشر لا يعرفون الله، ولا يعرفون صراطه المستقيم، ولا يعبدونه، ولا يوحدونه، حرموا هذه الهداية من أصلها، لكن من وفق إليها، وأُرشد إليها اجتمع له الهدايتان يبقى في تفاصيلها يحتاج إلى هداية، فالإنسان قد لا يوفق، ولا تنهض همته إلى طلب العلم، ولا يرفع بذلك رأساً، فيحتاج إلى هداية للعلم، وقد تنهض همته، ولكنه قد لا يوفق للصواب، وقد يوفق للصواب، ولكنه لا يوفق للهداية الأخرى التي هي هداية التوفيق بالعمل بما علم، فهذه هداية أخرى أن يقُدره الله عليه، وأن يجعله مُريداً له، وأن يجعله فاعلاً له، بعض الناس لا تسمو همته للعمل أصلاً، يعلم أن لديه معلومات، يعلم أن الصلاة واجبة، وأن الحج واجب على الفور، ولكن لا تنهض همته، فلا يريد هذا العمل، فهذا حُرم هذه الهداية، يعني: حصلت له هداية الإرشاد، ولكنه لم تحصل له هداية التوفيق، فيحتاج العبد إلى هذه الهداية أن يجعله الله مُريداً لهذا، وفاعلاً له.
وكذلك أيضاً أن يُثبته عليه، فقد يستقيم مدة، ثم بعد ذلك يتراجع، وكذلك أيضاً أن يصرف عنه الصوارف، والعوائق، والموانع التي تحول بينه وبين لزوم الحق.
وكذلك أيضاً أن يهديه في الصراط إلى أمور كثيرة مما يتصل بالقلب، واللسان والجوارح، من الناس من يعمل، ويُطيع، ونحو ذلك، لكن يبقى له التفات إلى نفسه، وإلى عمله، وإلى عبادته، وطاعته، أو علمه، أو ما أشبه ذلك، وهذه أمور قد تُبطل هذا العمل، وقد يكون علمه وبالاً عليه بهذا الاعتبار، هذه كله من الهدايات الداخلة تحته إلى الممات، أن يُثبت عند الموت.
وهناك هدايات لا تدخل هنا في قولنا: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة: 6]؛ لأنه قال: صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ [الفاتحة: 7] فهو الصراط الذي رسمه الله لعباده من أجل سلوكه، لكن هناك هدايات أخرى، وإن لم تكن داخلة في هذا من سورة الفاتحة، هناك هدايات بعد الموت، عند سؤال الملكين أن يُهدى للجواب.
وكذلك أيضاً أن يُهدى عند الحساب، بينه، وبينه تُرجمان، وكذلك هو بحاجة إلى هداية إلى الصراط الذي يُنصب على جسر جهنم، وبحاجة إلى أن يُهدى على الصراط فلا تزل قدمه، وبحاجة إلى أن يُهدى إلى باب الجنة، وبحاجة إلى أن يُهدى إلى منزله في الجنة، لاحظ إلى أن يصل منزله، وهو بحاجة إلى هداية الله فالعبد لا غنى له بحال من الأحوال؛ ولذلك نقرأ الفاتحة في كل ركعة: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة: 6] فإذا قام ذلك في قلب العبد؛ فإنه يستشعر حاجته الماسة إلى الهداية، فلا يُعرض عن الموعظة، والذكر ومجالس الذكر، وما يكون فيه نفعه، ولا يؤخر العمل، والطاعة، وإنما يكون مُبادراً فيجتمع للعبد بهذا هداية العلم، وهداية العمل، فيكون قد عرف الحق، وعمل به، وبقدر ما يتحقق له من ذلك يكون كماله، وبهذا يتفاضل الناس في الدنيا، والآخرة، وأكمل الناس في ذلك هم الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - ويتفاوت من دونهم، فمنهم من يكون كماله في الجانب الأول هداية العلم، ولكنه في الجانب الآخر ضعيف.
والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى [الكهف: 13] وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى [مريم: 76] وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى [محمد: 17] فكل هذا العبد بحاجة إليه، وحاجته إلى هذا أعظم من حاجته إلى الطعام، والشراب.
وابن جرير الطبري - رحمه الله - ذكر في معنى هذه الآية: "أن في مسألته الهداية هنا، فهذا يشمل التوفيق للثبات على العمل بطاعته، وإصابة الحق، والصواب فيما أمره به، ونهاه، فيما يستقبل من عمره".
هذه العبارة القصيرة التي قالها ابن جرير جمع فيها بين النوعين: هداية الإرشاد، وهداية التوفيق، وقد ذكر شيخ الإسلام - رحمه الله - أن من فسر الهداية هنا اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة: 6] بدوام الهداية، يعني: الثبات، فإن هذا كلام من لا يعرف حقيقة الأسباب، وما أمر الله به، وذكر شيئاً مما ذكرته آنفاً بأن الهداية في حقيقتها أن يفعل العبد في وقت ما أُمر به في ذلك الوقت من علم، وعمل، ولا يفعل ما نُهي عنه يقول، وهذا يحتاج في كل وقت إلى أن يعلم، ويعمل ما أُمر به في ذلك الوقت، وما نُهي عنه، وإلى أن يحصل له إرادة جازمة لفعل المأمور، وكراهة جازمة لترك المحظور.
فهذا العلم المُفصل، والإرادة المُفصلة لا يتصور أن تحصل للعبد في وقت واحد، بل كل وقت يحتاج إلى أن يجعل الله في قلبه من العلوم، والإرادات ما يهتدي به في ذلك إلى الصراط المستقيم، يقول: نعم حصل له هدى مُجمل بأن القرآن حق، والرسول حق، ودين الإسلام حق، فهذا حق، لكن هذا المُجمل لا يغنيه إن لم يحصل له الهدى المُفصل في كل ما يأتيه، ويذره من الجُزئيات التي يحار فيها أكثر عقول الخلق، ويغلب الهوى، والشهوات، أكثر العقول لغلبة ذلك عليهم.
والحافظ ابن القيم - رحمه الله - في عدد من كتبه ذكر أشياء من هذا كثير حاصلها ما ذكرته، وأن الفلاح لا يتحقق إلا بهاتين الهدايتين، هداية التوفيق، وهداية الإرشاد، هداية التوفيق بأن يُلهمه الله ذلك، ويكون فاعلاً له، وما إلى ذلك، مما ذكرناه.
وهكذا الحافظ ابن كثير - رحمه الله - ذكر نحواً من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية - رحم الله الجميع - وكذلك الشيخ عبد الرحمن السعدي - رحمه الله -.
"الفائدة الثالثة عشر: قُدم الحمد والثناء على الدعاء؛ لأن تلك السنة في الدعاء، وشأن الطلب أن يأتي بعد المدح وذلك أقرب للإجابة، وكذلك قُدم الرحمن على ملك يوم الدين؛ لأن رحمة الله سبقت غضبه، وكذلك قُدم إياك نعبد على إياك نستعين؛ لأن تقديم الوسيلة قبل طلب الحاجة".
لاحظ هذه الأمور التي ذكرها مُنبهاً على وجه تقديمها على غيرها، فهنا قدم الحمد والثناء على الدعاء هذا من آداب الدعاء الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة: 2 - 6] فالمشروع أن يُقدم الثناء على الله - تبارك وتعالى - أولاً قبل السؤال، والدعاء؛ فإن ذلك أدعى للإجابة.
"وشأن الطلب: أن يأتي بعد المدح، وذلك أقرب للإجابة، وكذلك قدم الرحمن على مالك يوم الدين؛ لأن رحمة الله سبقت غضبه".
ولهذا قالوا: بأن ذكر الرحمة هنا بين الربوبية، والمُلك، يعني: يقولون: كان المُتبادر أن يقال: الحمد لله هنا ذكر الإلهية، رب العالمين ذكر الربوبية بعدها رب العالمين، مالك يوم الدين فيذكر الملك؛ لأن الرب هو السيد المتصرف في خلقه، المُدبر لهم، وهذا معنى المُلك، فهو التصرف المُطلق والتدبير، لكنه جاء بالرحمن الرحيم بينهما، فهذا يدل على أن ربوبيته، وملكه مبنيان على الرحمة، فرحمة الله سبقت غضبه، انظروا إلى كثرة جنايات الخلق مع كثرة عطائه، وإنعامه، وحِلمه - تبارك وتعالى - يُرسل إليهم الرسل ويُنزل عليهم الكتب، ويُغدق عليهم ألوان النِعم، فملكه وربوبيته مبناهما على الرحمة.
يقول: "وكذلك قدم إِيَّاكَ نَعْبُدُ على وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ؛ لأن تقديم الوسيلة قبل طلب الحاجة"، الحاجة هي الاستعانة فما الطريق إلى تحقيق المطالب التي أعلاها دخول الجنة، ورضا المعبود والنظر إلى وجهه الكريم؟ هو تحقيق العبودية، تحقيق العبودية يحصل به سعادة الدارين وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ [الأعراف: 96] وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ [المائدة: 66] فلا يُنال ما عند الله - تبارك وتعالى - إلا بعبادته.
فهنا أيضًا في ذكر الاستعانة بعد العبادة مع أن الاستعانة من العبادة فإن العبادة كما ذكرنا تشمل الأعمال القلبية، وأعمال الجوارح، وأقوال اللسان، فمن الأعمال القلبية: الاستعانة بالله فهي عبادة له فأفردت بالذكر فهذا من باب ذكر الخاص بعد العام وهو يدل على أهميته، وآكديته.
وتقديم العبادة تقديم للغاية على الوسيلة؛ لأن العبادة هي الغاية، وما هو الطريق إلى تحقيق العبادة؟ إنما يكون بالاستعانة؛ لأن قلنا: معنى إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ نستعين بك على المطالب الدينية، والمطالب الدنيوية، فهذه الاستعانة هي وسيلة، فقُدمت الغاية.
ولو نظرنا أيضًا إلى الأشرف منهما فإن العبادة التي هي الغاية أشرف من الوسيلة فقُدم الأهم، ثم إن العبادة، والاستعانة بينهما ملازمة فلا تتحقق العبادة إلا بعون الله - تبارك وتعالى - ولا يحصل العون من الله - تبارك وتعالى - للعبد إلا بعبادته، وطلب العون منه، وبهذا يتحقق الإيمان الصحيح، والتوكل على الله - تبارك وتعالى - ويخرج العبد من حوله، وقوته، ويكون قلبه متوجهًا إلى ربه، ويعمل بجوارحه، بطاعته وبهذا تحصل سعادته، ونجاته، ثم أيضًا لاحظ أن العبادة تتعلق بحق الرب، وقلنا: إن الشق الأول هو المتعلق بحق الرب، وأن هذه الآية جاءت بالوسط. فهي كما قال الله في الحديث القدسي: هذه بيني وبين عبدي فـ إِيَّاكَ نَعْبُدُ : هذا متعلق بالشق الذي قبله فكان المناسب أن يُقدم؛ لتكون المتعلقات بحق الرب متتابعة دون أن يفصل بينها شيء من حق العبد، فلو قال: إياك نستعين، وإياك نعبد. لدخل حق، أو ما يتعلق بالعبد بما يتصل بالرب - تبارك وتعالى -.
ثم أيضًا لاحظ الترتيب في الأسماء الحسنى المذكورة في أول هذه السورة الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ فالعبادة متعلقة بإلهيته، وإلهيته هي الصفة المضمنة بهذا الاسم الكريم (الله) فإنه مضمن معنى صفة الإلهية؛ لأن التأله هو التعبد، تألهه القلوب محبة، وتعظيمًا، وخوفًا، ورجاء، فأول ما ذُكر هو هذا الاسم الكريم الذي تذكر سائر الأسماء الحسنى بعده، فذكر هنا العبادة قبل الاستعانة فـ إِيَّاكَ نَعْبُدُ متعلق بهذا الاسم الكريم (الله) وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ متعلق بالربوبية؛ لأن الإعانة من معاني الربوبية، فالرب ذُكر بعد لفظ الجلالة (الله) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ فجاءت الاستعانة بعد ذلك، كذلك أيضًا مما يمكن أن يقال بأن العبادة المطلقة تتضمن الاستعانة من غير عكس، فقُدم الأشمل، والأعم، فلو قُدمت الاستعانة لم يكن ذلك المعنى متحققًا، ومناسبًا في الترتيب، فكل من حقق العبودية لله لا بد أن يكون محققًا للاستعانة دون عكس، العبودية الحقة، وإلا فالعبد قد يستعين، لكن قد يستعين على المعاصي، والشهوات ونحو هذا كما هو معلوم، بل قد ذكر شيخ الإسلام - رحمه الله -: أن بعض المجرمين من قطاع الطرق، ونحو ذلك أن عندهم من التوكل ما لا يوجد عند بعض العُباد. فتجد أنه يركب الأخطار متوكلًا على الله لكن فيما يسخطه الله وأيضًا الاستعانة: طلب من الله كما يقول الحافظ ابن القيم - رحمه الله - والعبادة: طلب له، تقرب إليه.
فما كان له يكون أشرف، وأكمل، ولا تكون إلا من المخلص، وأما الاستعانة فتكون من المخلص، ومن غيره فقُدمت العبادة، وكذلك أيضًا العبادة حق لله على عبادة، وهذا شكر منهم على نعمه وإفضاله، فإن شكر المنعم يقتضي أن يعبد وحده، ولذلك كان الشرك أعظم الظلم إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان: 13] باعتبار أنه صرف للعبادة في غير من خلق، ومن يستحق ومن أنعم، ومن أعطى، وتفضل، إلى غير ذلك من الوجوه، والمعاني التي يذكرها أهل العلم، والمقصود أن العبد بقدر تحقيقه للعبودية يحصل له من عون الله فهذه العبادة محفوفة بإعانتين: إعانة قبلها، وإعانة أيضًا بعدها على عبودية أخرى.
وكذلك إعانة على النفس؛ لئلا يحصل أدنى التفات، وعُجب، أو مَن وأذى في الصدقات، والإحسان إلى الناس، وما أشبه ذلك، الإنسان نفسه تنازعه تطلب حظوظها العاجلة المتقضية، تحتاج إلى إعانة، إعانة إلى هذه النفس تخلد إلى الراحة، يحتاج إلى إعانة للقيام بمحاب الله، وطاعته، فإذا قام بها بدأ هنا يتسلل إليها طلب الحظوظ الدنيوية من الجاه، وثناء الناس، والمدح، وما إلى ذلك، أو ما يقايضهم به مما يطلب عائدة منهم على هذا الإحسان، ونحو ذلك، فيحتاج إلى أن يُعان على نفسه حتى يلقى الله - تبارك وتعالى -.
"الفائدة الرابعة عشر: ذُكر الله تعالى في أول هذه السورة على طريق الغيبة، ثم على الخطاب في إياك نعبد وما بعده، وذلك يُسمى الالتفات، وفيه إشارة إلى أن العبد إذا ذكر الله تقرب منه، فصار من أهل الحضور، فناداه".
الالتفات في كلام أهل التفسير، وكذلك في البلاغة، يعني: تحويل الكلام، وهذا يشمل صوراً متعددة كالتحويل من تحويل وجه الكلام من الغيبة إلى الخطاب، والعكس.
وكذلك أيضاً يدخل فيه صور أخرى من تلوين الخطاب، قد يُخاطب الواحد، ثم يكون الخطاب للجماعة، والعكس فهذا فيه تنشيط للسامع في الجُملة، يعني: عموماً أياً كان الموضع، أو السياق، وفي كل موضع يتلمس العلماء له وجهاً جاء هذا الالتفات من أجل التنبيه عليه.
فهنا يقول: أنه في أول السورة جاء بطريق الغيبة: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ يعني: هو رب بضمير الغائب، هو رب العالمين، الرحمن هو الرحمن الرحيم، مالك هو مالكِ يوم الدين، كل هذا بالغيبة، ثم قال: إِيَّاكَ ، فهذا بمضير المُخاطب يُسمى التفات التفت من الغيبة إلى الخطاب إِيَّاكَ نَعْبُدُ وقد مضى الكلام على الالتفات في القضايا البلاغية.
يقول: "وفيه إشارة إلى أن العبد إذا ذكر الله تقرب منه فصار من أهل الحضور" يعني: يقول كأنه لما ذكره بصفاته، وكمالاته، وأثنى عليه بعد أن حمده، ومجده بعد ذلك كأنه قد حضر بين يديه فوجه الخطاب إليه مباشرة، وقال: إِيَّاكَ نَعْبُدُ.
عبارة المؤلف هنا يقول: "وفيه إشارة إلى أن العبد إذا ذكر الله تقرب منه فصار من أهل الحضور فناداه" هذه العبارة قد يستعملها الصوفية، ولكن العبارة التي قد تكون أدق هي من باب التقريب يقال: كأنه لما ذكره بصفاته، وكمالاته كأنه حضر بين يديه، فوجه الخطاب إليه: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ كما قال الله : وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا [الإنسان: 21] ربهم هذا في بالغيبة، قال: إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً [الإنسان: 22] فخاطبهم بذلك، لما ذكر إنعامه، وإكرامه وجه إليهم الخطاب بأن هذا جزاء لهم على أعمالهم الصالحة، وعبادتهم، وإيمانهم، فهذا من الغيبة إلى الخطاب، عكسه من الخطاب إلى الغيبة حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ [يونس: 22] ما قال وجرينا بكم وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ [يونس: 22].
لاحظ كل هذا بالغيبة، فهذا يكون على كل حال في كل موضع بحسبه مما يُلتمس في ذلك الموضع، وهذه قضايا ليست قطعية، وإنما هي من الأمور البلاغية التي تحتمل هذا غاية ما هُنالك، فهنا في قوله: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ كما قلنا كأنه قد اقترب من ربه بعد أثنى عليه فوجه الخطاب إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ وبعضهم يقول: بأنه لما ذكر الحقيق بالمدح، والثناء، وذكر أوصافه العِظام؛ تعلق المعلوم بموصوف عظيم هو الإله، والرب، والرحمن، والرحيم، والملك، والمالك، فوجه الخطاب إليه بعد أن تميزت أوصافه، فقال: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ يعني: يا من هذه صفاته نتوجه إليك بالعبادة وحدك، وبالاستعانة دون ما سواك.
"الفائدة الخامسة عشرة: (الصِّرَاطَ) في اللغة الطريق المحسوس الذي يمشى، ثم استعير للطريق الذي يكون الإنسان عليها من الخير، والشر - وفي نسخة خطية: من الخير، أو الشر - ومعنى (الْمُسْتَقِيمَ): القويم الذي لا عوج فيه، فـ الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ : الإسلام، وقيل: القرآن، والمعنيان متقاربان؛ لأن القرآن تضمن شرائع الإسلام، وكلاهما مروي عن النبي ﷺ وقرئ (الصراط) بالصاد والسين، وبين الصاد، والزاي، وقد قيل: إنه قرئ بزاي خالصة، والأصل فيه السين، وإنما أبدلوا منها صادًا لموافقة الطاء في الاستعلاء، والإطباق، وأما الزاي فلموافقة الطاء في الجهر."
قوله بأن: "الصراط في اللغة الطريق المحسوس الذي يُمشى عليه، ثم اُستعير للطريق الذي يكون عليه الإنسان من الخير، أو الشر"، هذا كما ذكرنا في الكلام على الغريب بأن كثيراً من تلك الألفاظ هي تكون في أمور حسية، وأمور معنوية، فالصراط يقال للطريق المحسوس، ويقال أيضاً للطريق المعنوي.
يقول: "ومعنى المستقيم القويم الذي لا اعوجاج فيه فالصراط المستقيم الإسلام، وقيل: القرآن والمعنيان متقاربان" هذا من قبيل اختلاف التنوع.
يقول: "لأن القرآن تضمن شرائع الإسلام، وكلاهما مروي عن النبي ﷺ".
تفسير الصراط المستقيم بالإسلام عن النبي ﷺ هو الحديث المشهور، حديث النواس : ضرب الله مثلا صراطًا مستقيمًا، وعلى جنبتي الصراط سوران، فيهما أبواب مفتحة، وعلى الأبواب ستور مرخاة، وعلى باب الصراط داع يقول: أيها الناس، ادخلوا الصراط جميعًا، ولا تتعرجوا، وداع يدعو من فوق الصراط، فإذا أراد يفتح شيئًا من تلك الأبواب، قال: ويحك لا تفتحه، فإنك إن تفتحه تلجه، والصراط الإسلام، والسوران: حدود الله، والأبواب المفتحة: محارم الله، وذلك الداعي على رأس الصراط: كتاب الله، والداعي من فوق الصراط: واعظ الله في قلب كل مسلم والحديث صحيح، ومشهور.
أما تفسيره بالقرآن، فهذا جاء من حديث علي أنه سمع النبي ﷺ يقول: ألا إنها ستكون فتنة. فقلت: ما المخرج منها يا رسول الله؟ قال: كتاب الله، فيه نبأ ما قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم، وهو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله، وهو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم ... ففسره بالصراط المستقيم، لكن الحديث لا يصح.
أما من جهة المعنى فلا شك أن الصراط المستقيم، يعني: اتباع القرآن، فالقرآن يشرح الصراط المستقيم فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى [طه: 123] فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة: 38] فهداه هو القرآن، وما يشرحه من سنة رسول الله ﷺ، فهذا من اختلاف التنوع، لا يُحتاج معه إلى الترجيح بين الأقوال، فإذا عُبر عنه كما مضى في شرح مقدمة شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - فذكر ذلك مثالاً على اختلاف التنوع.
يقول: "وقُرئ بالصاد والسين، وبين الصاد، والزاي"، إلى آخر ما ذكر في القراءة، و"أل" هذه التي دخلت على الصراط للعهد، العلمي الذهني، الصراط المعهود الذي وصفه الله - تبارك وتعالى - وبين معالمه، وحددها بياناً لا يلتبس بغيره اهْدِنَا الصِّرَاطَ [الفاتحة: 6] المعلوم المعهود، وذلك أن "أل" إذا دخلت على موصوف اقتضت أنه أحق بتلك الصفة من غيره، فهذا مقام طلب ،ودعاء، فيحتاج إلى تحديد، تحديد المطلوب، فجيء به مُعرفاً، الصراط، وأما مجيئهم مُنكراً فهذا في مقام الإخبار وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا [الفتح: 2] وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [الأنعام: 87] إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [الأنعام: 161] فهذا في مقام الإخبار يأتي مُنكراً، مقام الطلب، والسؤال يأتي مُعرفاً، فكأن الله - تبارك وتعالى - حينما عرف بهذا الصراط أنه مستقيم في مقام الإخبار، فسأل العبد أن يهديه ربه - تبارك وتعالى - إليه، فجاء به مُعرفاً اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة: 6] وهذه القراءة التي أشار إليها المؤلف بالسين هي قراءة ابن كثير قراءة متواترة في جميع القرآن، والتي تكون بين السين والزاي بالإشمام، فهذه قراءة حمزة، والجمهور من القراء بالصاد اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة: 6] الصراط هو الطريق المسلوك، والسبيل الواضح، يقولون: بأنه مأخوذ من الاصتراط، والاصتراط ما المقصود به؟
ابتلاع الشيء، فكأنه يبتلع المارة الطريق كأنه يبتلع المارة من يمشي عليه، ولاحظ بأن الصراط إنما يقال للطريق المستقيم، ولا يقال للمعوج، وبهذا الاعتبار، فإن ذكر هذا الوصف بعده القيد بالاستقامة الصراط المستقيم تكون المستقيم من قبيل الصفة الكاشفة، يعني: التي لا تُقيد الموصوف، فإذا قلت رجل ذكر هو الرجل لا يكون إلا ذكراً وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ [الأنعام: 38] هو الطائر لا يطير إلا بجناحين، فهذه صفة كاشفة تفيد التأكيد، وقال بفيه، كتب بيده، مشى برجله، هذه صفة كاشفة تفيد التوكيد، بخلاف الصفة المُقيدة، تقول: رجل مؤمن، رجل طويل، امرأة صالحة، لكن حينما تقول امرأة أُنثى هي المرأة لا تكون إلا أُنثى، فهذه يسمونها صفة كاشفة، فإذا قيل بأن أصلاً لفظة الصراط لا تقال إلا على ما كان موصوفاً بالاستقامة؛ فإن المستقيم هي زيادة توكيد، يقولون: المستقيم هو أقرب خط يصل بين نقطتين، يعني: المُعتدل المستوي لا اعوجاج فيه، ولا الالتواء، الطريق الواضح وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ [الأنعام: 153].
وكما قال الله : قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ [الحجر: 41] وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ [النحل: 9] قصد السبيل قصد هنا صفة أُضيفت إلى الموصوف قصد السبيل، قصد يعني: الطريق المُعتدل الذي لا اعوجاج فيه، السبيل القاصد، يعني: المستقيم المُعتدل قصد السبيل، فالله هو الذي يهدي إليه وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ [النحل: 9].
يقول الحافظ ابن القيم - رحمه الله -: "ولا تكون الطريق صراطا حتى تتضمن خمسة أمور: الاستقامة، والإيصال إلى المقصود، والقرب، وسعته للمارين عليه، وتعينه طريقا للمقصود، ولا يخفى تضمن الصراط المستقيم لهذه الأمور الخمسة.
فوصفه بالاستقامة يتضمن قربه، لأن الخط المستقيم هو أقرب خط فاصل بين نقطتين، وكلما تعوج طال وبعد، واستقامته تتضمن إيصاله إلى المقصود، ونصبه لجميع من يمر عليه يستلزم سعته، وإضافته إلى المنعم عليهم، ووصفه بمخالفة صراط أهل الغضب، والضلال يستلزم تعينه طريقا".
ولا يقال: بأن الطرق إلى الله بعدد أنفاس الخلائق كما يقول بعض الصوفية، فهو على كل حال الطريق التي رسمها الله لعباده من أجل سلوكها الإيمان، والعمل الصالح، والدين الصحيح، فيكون ذلك بما جاء مُفصلاً في كتاب الله وسنة رسوله ﷺ، وهو يتضمن العلم، والعمل مع الإخلاص، والمتابعة فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا [الكهف: 110].
"الفائدة السادسة عشر: الذين أنعمت عليهم، قال ابن عباس: هم النبيئون، والصديقون، والشهداء، والصالحون، وقيل المؤمنون، وقيل الصحابة، وقيل قوم موسى، وعيسى قبل أن يُغيروا، والأول أرجح؛ لعمومه، ولقوله: مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ [النساء:69]".
هذه الرواية عن ابن عباس - ا - هم النبيون، والصديقون، والشهداء، والصالحون، وإن لم تصح من جهة الإسناد، إلا أن المعنى صحيح دل عليه القرآن، فالصراط المستقيم، قال: صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ فهذا أيضاً وصف آخر له يُميزه، وهؤلاء الذين أنعم الله عليهم هم من ذكر الله وخير ما يُفسر به القرآن القرآن فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا [النساء: 69] فهذا تفسير للمُنعم عليهم.
فقوله هنا: صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ الصراط هنا بدل كل من صراط المستقيم صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ؛ لأنه لا يوجد غير هذا أصلاً، فهو بدل كل من كل، أو أنه عطف بيان، والفرق بين البدل، وعطف البيان هما متقاربان غاية المقاربة، لكن يقولون: إذا كان الثاني أوضح من الأول، فهذا عطف بيان، عطف عليه ما هو أبين، وأوضح، يمثلون لهذا يقولون: قال أبو حفص عمر، فعمر عطف بيان؛ لأنه أشهر من الكُنية من أبي حفص اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ [الفاتحة: 6 - 7] فإذا قلت أن هذا أوضح في صفته فيكون عطف بيان، وإذا قلت بأنه يُكافئه فهذا بدل منه، يعني: كأنه يقول: اهدنا صراط الذين أنعمت عليهم اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ وهذا يدل على التوكيد، والإيضاح، والبيان، ففسره بذلك كله، وحينما يقول بأنه صراط الذين أنعم عليهم هذا آكد، وأبين، وأوضح في استقامته، فهؤلاء المُنعم عليهم من النبيين، ونحو ذلك كانوا على الاستقامة الكاملة.
ولاحظ أنه هنا جاء به مُنكراً، وفي الموضع الأول مُعرفاً اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ لكنه تعرف هنا بالإضافة صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ وهذا على كل حال يدل إفراده على أنه الصراط واحد، وأن الطريق إلى الله واحد، وأن الحق واحد، فالحق لا يتعدد، وغاية ما هُنالك أنه في باب العلم، قد يُعبر عن الشيء بعبارات، أو يُفسر بما يقاربه، أو بجزئه، أو بالمثال، ويرجع ذلك إلى شيء واحد، هذا الذي نُسميه باختلاف التنوع.
ولكن الاختلاف الحقيقي اختلاف التضاد، هذا يقول: هذا حلال وهذا حرام، الحق عند الله واحد، لكن اختلاف التنوع سواء كان ذلك في عبارة أهل العلم، أو كان ذلك في عبارات الشارع، مثل صيغ التشهد، وصيغ الأذان الثابتة، ونحو ذلك، فإذا جاء بهذا، أو هذا، أو هذا، فلا إشكال في ذلك.
وكذلك في الأعمال، الأمور العملية، مثلاً: صفات صلاة الخوف ونحو هذا، على الوجه الذي جاء عن النبي ﷺ بصفات متعددة، فكل هذا مشروع، وكذلك في صلاة الجنازة، وعدد التكبيرات، فيكون ذلك من قبيل اختلاف التنوع، ولا يحتاج إلى ترجيح، ليس من قبيل اختلاف التضاد.
لكن الاختلاف الحقيقي: اختلاف التضاد هنا لا مجال الحق عند الله واحد، فإذا اجتهد العالم فأصاب فله أجران، وإذا أخطأ فله أجر واحد، والمُقلد العامي إذا سأل من يثق بدينه، وعلمه من غير أن يكون طالباً لما يوافق هواه، فيسأل من يعتقد أن جوابه يتفق مع رغباته؛ فإن الذمة لا تبرأ بهذا، لكن إذا سأل وتحرى من يثق بدينه، وعلمه، فأجابه ولو أخطأ المُجيب، فإن هذا الإنسان معذور؛ لأنه فعل ما وجب عليه فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النحل:43] والحمد لله.
لكن الإشكال هو أن ينظر إلى القولين - أعني العامي - فيأخذ ما يوافق هواه، ويقول أفتى به عالم، أو يقول هذه المسألة خلافية، فيحتج بالخلاف، ويأخذ ما يُريد، فهنا يقال الحق عند الله واحد، فيجب التحري، ولذلك قال الشاطبي - رحمه الله -: بأنه إذا اتفق له قولان، يعني: العامي وقف على قولين، ولم يترجح عنده أحد القائلين، يعني: بعلم، أو ورع، كلاهما سواء، فإنه ينظر إلى هواه، فيُخالف الهوى؛ لأن الشريعة إنما جاءت لإخراج المُكلف من داعية هواه.
بخلاف ما يقوله كثير من الناس الآن، ويظنونه، ويبحثون عن ما يوافق أهواءهم، ويقولون المسألة خلافية، ويُقدمون أحياناً لهذا في سؤالهم، هل يوجد خلاف في هذه المسألة؟
ووجود الخلاف لا يسوغ للمُكلف أن يفعل ما يُريد، ولا يصح الاحتجاج بالخلاف، والله يقول: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ [الأنعام: 153] فيأتي دائماً مُفرداً والسُبل مجموعة اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ [البقرة: 257] الظلمات كثير إِلَى النُّورِ [البقرة: 257] فالنور واحد، وهو الصراط المستقيم، وحديث النواس الذي أشرت إليه قال: ضرب الله مثلاً صراطاً مستقيماً، وعلى جنبتي الصراط سوران فيهما أبواب مُفتحة، وعلى الأبواب ستور مُرخاة، وعلى باب الصراط داع يقول: يا أيها الناس ادخلوا الصراط جميعاً، ولا تعوجوا، وداعٍ يدعوا فوق الصراط، فإذا أراد الإنسان أن يفتح شيئاً من تلك الأبواب قال: ويحك لا تفتحه فإنك إن تفتحه تلجه هذه الضلالات، قال: فالصراط الإسلام، والسوران حدود الله، والأبواب المُفتحة محارم الله، وذلك الداعي على الصراط كتاب الله، والداعي من فوق الصراط واعظ الله في قلب كل مسلم.
فإذا دعت النفس إلى شيء، وخلا الإنسان؛ فإنه يتذكر نظر الله إليه ويحك لا تفتحه إنك إن تفتحه تلجه صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ [الفاتحة: 7] والإنعام هو إيصال النعمة، وهي الحالة التي يستلذها الإنسان، لين العِيش، والخفض، والدعة، والمال، ونحو هذا، هذا في الأصل إطلاق النعمة على ذلك، وهي جنس يصدق على القليل، والكثير، وإذا أُضيفت إلى معرفة دلت على الإنعام المُطلق، ولاحظ هنا أُضيفت صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ [الفاتحة: 7] أي على عموم النعم الدينية، والأخروية، أنعمت أُضيفت إلى تاء الخطاب.
والله يقول: وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي [المائدة: 3] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ [المائدة: 11] هنا أضافه إلى الاسم الظاهر، أي: نِعم الله عليكم وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا [إبراهيم: 34] يعني: نِعم الله.
وعلى كل حال الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ [الفاتحة: 7] هم الذين وفقوا لسلوك الصراط المستقيم، وفقوا للدين الحق، والهدى الكامل هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ [التوبة: 33] وهو العلم النافع والعمل الصالح، الإيمان، وطاعة الله، وطاعة رسوله ﷺ وهذه أجل الِنعمن وأعظمها، وإن كانت النعم تتنوع وتتفاوت، فالأرزاق الدارة نِعم، الصحة نعمة، الولد نعمة، الأمن نعمة، وغير ذلك، هذا الهواء، والماء البارد، كل هذه نِعم من الله - تبارك وتعالى -.
لكن أعظم هذه النِعم هو الهداية إلى الصراط المستقيم، والله يقول: وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا [النساء: 66 - 68].
هنا قوله: "هم النبيون، والصديقون، وقيل المؤمنون، وقيل الصحابة". المعنى: أعم من هذا، وقيل قوم موسى، وعيسى قبل أن يغيروا، وهذا لا يصح أن يُفسر به اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة: 6] يعني: صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ [الفاتحة: 7] وهم قوم موسى، وعيسى، يعني: كأنه يقول اسلك بنا سبيل المُهتدين قبلنا، لكن المعنى أعم من ذلك، وهم الأنبياء، والصديقون، والصالحون، والشُهداء، ويدخل في ذلك جميع الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - ومن وصف من أتباعهم عموماً.
"الفائدة السابعة عشرة: إعراب غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ بدل، ويبعد النعت؛ لأن إضافته غير محضة، وهو قد جرى عن معرفة، وقرئ بالنصب على الاستثناء، أو الحال"
إعراب غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ ؛ لأن قوله: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ قال: بدل، ويبعد النعت؛ لأن إضافته غير محضة، وهو قد جرى على معرفة، وقرئ بالنصب على الاستثناء، أو الحال.
(غير): هنا صفة للاسم الموصول الذين اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ فـ (غير) صفة له صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ إما مبينة، أو مقيدة، بأي اعتبار؟ باعتبار أنهم جمعوا أنهم حصلوا النعمة المطلقة بلزوم الحق، وأيضًا مجانبة ما يخالفه من الضلال.
غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ : سلموا من الغضب والضلال، ويحتمل أن يكون بدلًا من الاسم الموصول اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ باعتبار أن المُنعم عليهم هم الذين سَلِموا من الغضب، والضلال، ولاحظوا أن الأول أوضح في المعنى، وأحسن، وأكمل من هذا يعني غير صراط المغضوب عليهم، والضالين، فكونه صفة أوضح، فيكون بهذا الاعتبار صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ اهْدِنَا الصِّرَاطَ فوصفه بالاستقامة، وأنه طريق المنعم عليهم، وأنه مجانب لطريق أهل الضلال، فهذه أوصاف له تحدده، وتميزه - والله أعلم -.
و(غير) هنا من جهة الإعراب كما أشار المؤلف مضاف، والمغضوب مضاف إليه، وعليهم متعلق بالمغضوب. لاحظ فهذا الوصف لصراط المنعم عليهم بغير المغضوب عليهم، ولا الضالين هذا فيه تأكيد كمال صراط المنعم عليهم، وكما ذكرنا في النفي، واقتضائه لكمال ضده، فهنا حينما يقول: الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ فهذا يعني أنه طريق أهل الرضا، والإنعام، والهداية الكاملة، الذين سَلِموا من الغضب، ومن الضلال.
لاحظ أنه جيء بالفعل مبنيًا للمجهول، وفي الإنعام جاء مبنيًا للمعلوم، العلماء يقولون: هذا من باب الأدب في الألفاظ.
فالشر لا يُنسب إلى الله - تبارك وتعالى - تأدبًا: والشر ليس إليك مع أن الله خالق الخير، والشر، فهنا في الإنعام أضافه إلى الله صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ وفي الغضب غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ مثل: وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ [الشعراء: 80] فأضاف المرض إلى نفسه، وأضاف الشفاء إلى الله.
ومثل قوله تعالى: فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا [الكهف: 79] فنسب العيب إليه، وفي الجدار قال: فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا [الكهف: 82].
وكذلك قوله: مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى [الضحى: 3] قالوا: كلمة قلى فلم يُضفها إليه، ما قال وما قلاك، وعلى كل حال هذا فيه إثبات صفة الغضب لله - تبارك وتعالى - على ما يليق بجلاله، وعظمته، وهؤلاء الذين غضب عليهم المغضوب عليهم هم من حصل لهم العدول عن الحق بعد معرفته، وأولى من يصدق عليه هذا الوصف هم اليهود، كما فسره به النبي ﷺ كما في حديث عدي بن حاتم : سألت رسول الله ﷺ عن قوله تعالى: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ قال: هم اليهود وَلا الضَّالِّينَ قال: هم النصارى.
وكذلك جاء في حديث أبي ذر بنحوه، أنه سأل رسول الله ﷺ عن ذلك، فهو يصدق عن اليهود قطعاً، وهذا تفسير نبوي، وإن كان ذلك يشمل كل من عرف الحق ولم يتبعه، فيكون استحقاقه من هذا الحكم، يعني: الغضب بقدر ما تحقق فيه من الوصف؛ لأن الحكم المعلق على وصف يزيد بزيادته، وينقص بنقصانه، فبقدر ما يكون عند العبد من الإعراض عن الحق بعد ما عرفه يكون نصيبه من الغضب، واليهود الله - تبارك وتعالى - وصفهم بهذا: وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ [البقرة:61] وقال أيضاً: فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ [البقرة:90] ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ [آل عمران:112] قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ [المائدة:60] أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ [المجادلة:14].
فهؤلاء عرفوا الحق، وتركوه وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ [البقرة:109] الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ [البقرة:146]
وفي خبر عمرو بن زيد بن نُفيل الذي أخرجه البخاري عن ابن عمر " أن زيد بن عمرو بن نفيل خرج إلى الشأم يسأل عن الدين، ويتبعه، فلقي عالما من اليهود فسأله عن دينهم، فقال: إني لعلي أن أدين دينكم، فأخبرني، فقال: لا تكون على ديننا حتى تأخذ بنصيبك من غضب الله، قال زيد ما أفر إلا من غضب الله، ولا أحمل من غضب الله شيئا أبدا، وأنى أستطيعه فهل تدلني على غيره، قال: ما أعلمه إلا أن يكون حنيفا، قال زيد: وما الحنيف؟ قال: دين إبراهيم لم يكن يهوديا، ولا نصرانيا، ولا يعبد إلا الله، فخرج زيد فلقي عالما من النصارى فذكر مثله، فقال: لن تكون على ديننا حتى تأخذ بنصيبك من لعنة الله، قال: ما أفر إلا من لعنة الله، ولا أحمل من لعنة الله، ولا من غضبه شيئا أبدا، وأنى أستطيع فهل تدلني على غيره، قال: ما أعلمه إلا أن يكون حنيفا، قال: وما الحنيف؟ قال: دين إبراهيم لم يكن يهوديا ولا نصرانيا، ولا يعبد إلا الله، فلما رأى زيد قولهم في إبراهيم خرج، فلما برز رفع يديه فقال: اللهم إني أشهد أني على دين إبراهيم". هذا الحديث مُخرج في الصحيح في البخاري.
على كل حال، قوله: وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة: 7] يعني: ولا صراط الضالين، فالواو عاطفة بعضهم يقول: إن لا هذه زائدة إعراباً كما يقوله البصريون تفيد التوكيد لمعنى النفي المفهوم من غير، وليدل على أن هذا مسلك، وهذا مسلك، فلا يتوهم أحد أن الضالين وصف للمغضوب عليهم.
يعني: لو قال غير المغضوب عليهم، ما قال ولا الضالين، لو قال غير المغضوب عليهم والضالين فيكون يحتمل أنه وصف لطائفة واحدة جمعوا بين الغضب، والضلال، لكن لما قال: وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة: 7].
فدل على أن هؤلاء طائفة، وهؤلاء طائفة أخرى، هذا لا يحتمل أن يكون ذلك يرجع إلى طائفة واحدة، والكوفيون مذهبهم أسهل في النحو كما هو معروف، يقولون: بأن لا هذه بمعنى غير وهي تفيد التوكيد، وقد جاء في قراءة غير متواترة قراءة عمر : غير المغضوب عليهم، وغير الضالين.
والضالون هؤلاء أهل الجهل، والعمى، الذين تركوا الحق لجهلهم حصل لهم الانحراف بسبب جهلهم، فعدلوا عن الصراط المستقيم، وهم النصارى، هذا أولى من يصدق عليه هذا الوصف كما فسره به النبي ﷺ وهو يصدق على كل من لم يلزم الحق بسبب جهله، وعماه.
لكن النصارى في الواقع بعد مبعث النبي ﷺ عرفوا صدقه، فجمعوا بهذا بين الضلال، والغضب، فهم مغضوب عليهم، وكذلك هم أهل ضلال.
يقول الله - تبارك وتعالى -: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ [المائدة: 77] وتفسير المغضوب عليهم باليهود، والضالين بالنصارى نقل عليه بعض أهل العلم الاتفاق، لكن كما سبق أن المعنى أيضاً يشمل هذا، وغيره ممن يُشاكله، والحافظ ابن كثير - رحمه الله - ذكر أن الضاد، والظاء هنا غير المغضوب، يعني: لو قال غير المغظوب عليهم ولا الظالين يقول: بأنه يُتسامح في هذا لقُرب المخرج، فقال: "والصحيح من مذاهب العلماء : أنه يغتفر الإخلال بتحرير ما بين الضاد، والظاء لقرب مخرجيهما ؛ وذلك أن الضاد مخرجها من أول حافة اللسان وما يليها من الأضراس، ومخرج الظاء من طرف اللسان وأطراف الثنايا العليا، ولأن كلا من الحرفين من الحروف المجهورة ومن الحروف الرخوة ومن الحروف المطبقة، فلهذا كله اغتفر استعمال أحدهما مكان الآخر لمن لا يميز ذلك - والله أعلم -".
لاحظ هنا: أنه قدم المغضوب عليهم على الضالين، وذكر الحافظ ابن القيم - رحمه الله - وجوهاً في هذا التقديم، ومنها: أن اليهود متقدمون تاريخياً على النصارى، فقدموا ما يتعلق بهم، ومنها: أن اليهود كانوا يجاورون المسلمين، والنصارى كانوا أبعد كانوا في الشام، وفي نجران فقُدم، ومنها: أن الغضب أغلظ، يعني: حال اليهود عرفوا الحق، ولم يتبعوه، فهم أشد في جُرمهم، فقُدم ذلك، كذلك أيضاً أنه لما ذكر المُنعم عليهم، فالذي يُقابل الإنعام الغضب، فناسب أن يُذكر الغضب بعد الإنعام صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ [الفاتحة: 7] فذكر الشيء، وما يُقابله.
"الفائدة الثامنة عشر: أُسند أنعمت عليهم إلى الله، والغضب لما لم يُسمى فاعله، وفي نُسخة خطية إلى ما لم يُسمى فاعله، على وجه التأدب كقوله: وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ [الشعراء: 80] وعليهم الأول في موضع نصب، والثاني في موضع رفع".
هذا سبق التنبيه عليه، وهو ما يتعلق بالتأدب في مثل هذا التعبير، وذكرت نظائره.
قال: "وعليهم الأول في موضع نصب" صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ [الفاتحة: 7] فالإنعام واقع عليهم غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ المغضوب هنا مبني للمجهول، فيكون الرفع؛ لأنه حُذف الفاعل، نعم الفائدة التاسعة عشر.
"الفائدة التاسعة عشر: المغضوب عليهم اليهود، والضالين النصارى، قاله ابن عباس وابن مسعود وغيرهما، وقد روي ذلك عن النبي ﷺ وقيل: ذلك عام في كل مغضوب عليه وكل ضال، والأول أرجح لأربعة أوجه: روايته عن النبي ﷺ وجلالة قائله، وذكر ولا في قوله: وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة: 7] دليل على تغاير الطائفتين، وأن الغضب صفة اليهود في مواضع من القرآن كقوله: فَبَاءُوا بِغَضَبٍ [البقرة:90] والضلالة صفة النصارى؛ لاختلاف أقوالهم الفاسدة في عيسى ابن مريم ولقول الله فيه - وفي نُسخة - ولقول الله فيهم: قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ [المائدة: 77]".
قوله هنا: الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ اليهود، و (الضَّالِّينَ): النصارى، قاله ابن عباس. هذا ثابت عن ابن عباس - ا -. قال: وابن مسعود. وفي الهامش قال المعلق: أخرجه الطبري بإسناد جيد. هنا يتحدث عن أثر ابن مسعود وليس عن أثر ابن عباس.
قال: وقد روي ذلك عن النبي ﷺ هذا من حديث عدي بن حاتم السابق أن النبي ﷺ قال: إن المغضوب عليهم اليهود، وإن الضالين النصارى.
وحديث أيضًا أبي ذر لما سأل النبي ﷺ وكلاهما ثابت صحيح. يقول: وقيل: ذلك عام. وبينا وجه هذا.
قال: والأول أرجح لأربعة أوجه؛ روايته عن النبي ﷺ وجلالة قائله، وذكر (ولا) في قوله: وَلَا الضَّالِّينَ دليل على تغاير الطائفتين، وأن الغضب صفة اليهود في مواضع من القرآن: يعني هذه أوجه في ترجيح أن المغضوب عليهم هم اليهود، وأن الضالين هم النصارى.
قال: والضلال صفة النصارى؛ لاختلاف أقوالهم الفاسدة في عيسى ابن مريم : وعمومًا هم أهل جهل.
قال: ولقول الله فيهم: قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ [المائدة: 77].
هذه الأوجه ذكرها في ترجيح هذه المعنى المغضوب عليهم هم اليهود، والضالين هم النصارى، وكما سبق أن ذلك لا ينفي هذا الوصف عمن عرف الحق، وتركه من أي طائفة كان لكن هؤلاء أحق بذلك غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ: وتفسيره باليهود يكون من قبيل العام المراد به الخصوص، وكذلك: الضَّالِّينَ لكن حينما يقال: إن هذا هو الأولى بهذا الوصف، فهم أحق من يدخل فيه فهو يصدق عليهم، وهم مقصودون بذلك، ولا ينفي عما عداهم. هذا أفضل - والله تعالى أعلم - ولهذا قالوا: بأن من فسد من علمائنا ففيه شبه من اليهود، ومن فسد من عُبّادنا ففيه شبه من النصارى.
"الفائدة الموفية عشرين: هذه السورة جمعت معاني القرآن العظيم كله، فكأنها نسخة مختصرة منه، فتأملها بعد تحصيل الباب الثالث من المقدمة الأولى تعلم ذلك، فالإلهيات حاصلة في قوله: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ والدار الآخرة في قوله: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ والعبادات كلها من الاعتقادات، والأحكام التي تقتضيها الأوامر، والنواهي في قوله: إِيَّاكَ نَعْبُدُ والشريعة كلها في قوله: الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ والأنبياء، وغيرهم في قوله: الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ وذكر طوائف الكفار في قوله: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ.
هنا قال: فتأملها بعد تحصيل الباب الثالث من المقدمة الأولى: الباب الثالث من المقدمة الأولى في المعاني، والعلوم التي تضمنها القرآن، هذه من المهم أن تكون حاضرة في الأذهان، فإذا قرأت في هذا التفسير فإنه سيراعي ذلك فيما يقرره، ويذكره، وهذا هنا في سورة الفاتحة يشير إليه، استحضار هذه المقدمات، ومراجعتها أمر في غاية الأهمية، وهنا ذكر جملًا تدل على هذا أن الفاتحة مشتملة على معاني القرآن، فمعاني القرآن ترجع إليها، وهذا ذكره جمع من أهل العلم، وذلك أنها تتضمن حمد الله، والثناء عليه، وتمجيده، وفيها توحيده بأقسام التوحيد الثلاثة: توحيد الإلهية، والربوبية، والأسماء، والصفات.
وفيها أيضًا الترغيب، والترهيب، ووعد، ووعيد، إثبات البعث، والجزاء، والعمل يعني: العمل وجزاءه، والعامل وعمله، وإرشاد الخلق إلى حمد الله، والثناء عليه كما قلنا: إن هذا تعليم من الله الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وإرشاد لهم إلى عبادته، والاستعانة به إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ في جميع أمورهم الدينية، والدنيوية، وإخلاص العمل لله (إياك)، وإعلان البراءة من حولهم وقوتهم وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ وطلب الهداية إلى الصراط المستقيم؛ الذي يؤدي بسالكه إلى سعادة الدارين، وفيها أقسام الناس الثلاثة: المنعم عليهم، وهم الذين هداهم الله هداية العلم، وهداية العمل، وأهل الغضب حصل لهم العلم من غير العمل، وأهل الضلال الذين - نسأل الله العافية - لا علم، ولا عمل صحيح.
وفيها إثبات الرسل، والرسالات، والوحي، فكيف يُحمد الله - تبارك وتعالى - الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ؟ وكيف يُعبد إِيَّاكَ نَعْبُدُ ؟ إلا بما شرع، وكيف نعرف ما شرع، ونعرف صراطه المستقيم، صراط الذين أنعم عليهم، ونحذر من طريق المغضوب عليهم، وطريق الضالين، ونبتعد عن هذا كله إلا من طريق الوحي، والرسل - عليهم الصلاة والسلام - فهذا في إثبات الرسل، والرسالات، والكتب المنزلة، ثم كيف يجازون عن هذا؟ ويحاسبون على الأعمال إلا بعد البيان، وإقامة الحجة بإرسال الرسل، وإنزال الكتب رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [النساء: 165] وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء: 15] كما تضمنت هذه السورة كما يقول الحافظ ابن القيم - رحمه الله -: الرد على جميع المبطلين، وطوائف البدع، والضلال، والإلحاد؛ لأنهم لا يخرجون عن هذين الوصفين: أهل غضب، أو ضلال، فاشتملت على أهم المطالب، وتضمنتها فعرفت بالمعبود بهذه الأسماء الثلاثة التي إليها ترجع الأسماء، والصفات، وتدور عليها (الله) و (الرب) و (الرحمن).
يقول في موضع آخر: بأنها بُنيت على الإلهية، والربوبية، والرحمة فـ إِيَّاكَ نَعْبُدُ مبني على الإلهية وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ على الربوبية، وطلب الهداية إلى الصراط المستقيم صفة الرحمة، فمن - رحمه الله - هداه ووفقه، والحمد يتضمن هذه الأمور الثلاثة: فهو محمود بإلهيته، وربوبيته ورحمته. والثناء والمجد كمالان لجده، وتضمنت إثبات المعاد، وجزاء العباد بالأعمال: الحسن، والسيء، وتفرد الرب بالحكم بين الخلائق، وأن هذا الحكم بالعدل مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ يوم الجزاء، والحساب.
وذكر في مواضع أخرى أيضًا القوة النظرية العلمية، والقوة العملية الإرادية للإنسان، وإن السعادة موقوفة على استكمال هاتين القوتين، فاستكمال القوة العلمية إنما يكون بمعرفة الخالق - - معرفة صحيحة بأسمائه وصفاته، ومعرفة الطريق الموصل إليه، ومعرفة آفات هذه الطريق، ومعرفة النفس وعيوبها، وبهذه المعارف تحصل كمال القوة العلمية، وأن أعلم الناس هو أعرفهم بها، وأن أفقههم هو الذي يدرك ذلك إدراكًا صحيحًا، وأن استكمال القوة العلمية الإرادية لا يحصل إلا بالقيام بوظائف العبودية، ومراعاة حق المعبود - - والإخلاص، والمتابعة، واستحضار المنة، وشهود التقصير في حقه فهو على كل حال يستحي من ربه - تبارك وتعالى - وهذا لا يتحقق للعبد يعني هذه المعرفة القوة العلمية، والقوة العملية إلا بمعونة الله فالعبد مضطرٌ إلى ذلك، وإلى هدايته إلى الصراط المستقيم الذي هدى إليه أولياءه وأن يجنبه الخروج عنه، فيقع في حال من الغضب، أو الضلال، فلا تتم السعادة إلا بمجموع هذه الأمور التي تضمنتها سورة الفاتحة، فـ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ : هذا كله يتضمن الأصل الأول الذي يتعلق بالقوة العلمية، معرفة الرب ومعرفة أسمائه، وصفاته، وأفعاله، وكذلك أيضًا: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ هذا يتضمن معرفة الطريق الموصل إليه، وهي عبادته وحده، والاستعانة به على عبادته اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ يتبين أنه لا سبيل إلى الوصول إليه، والسعادة، ونيل ما عنده إلا بالاستقامة على صراطه المستقيم، وهذا لا يتحقق إلا بهداية الرب - تبارك وتعالى - كما أنه لا سبيل إلى عبادته إلا بمعونته، فلا سبيل إلى الاستقامة على صراطه إلا بهدايته.
غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ: هذا يتضمن طرفي الانحراف عن الصراط المستقيم فساد العلم، والاعتقاد، وكذلك أيضًا فساد القصد، والعمل.
يقول: فأول السورة رحمة، وأوسطها هداية، وآخرها نعمة، وحظ العبد من النعمة على قدر حظه من الهداية، وحظه منها على قدر حظه من الرحمة، فعاد الأمر كله إلى نعمته، ورحمته، والنعمة والرحمة من لوازم ربوبيته فلا يكون إلا رحيمًا منعمًا، وذلك من موجبات إلهيته، فهو الإله الحق وإن جحده الجاحدون، فمتى تحقق بمعاني الفاتحة علمًا، ومعرفة، وعملًا، وحالًا؛ فقد فاز من كماله بأوفر الحظ، والنصيبـ وصارت عبوديته عبودية خاصة وكذلك ذكر شيئًا من هذه المعاني الحافظ ابن كثير - رحمه الله -.
"خاتمة: أمر بالتأمين عند خاتمة الفاتحة للدعاء الذي فيها، وقولك: (آمين) اسم فعل معناه: اللهم استجب، وقيل: هو من أسماء الله، ويجوز فيه مد الهمزة وقصرها، ولا يجوز تشديد الميم، وليؤمن في الصلاة المأموم، والفذ، والإمام إذا أسرّ، واختلفوا إذا جهر."
يقول: أُمر بالتأمين عند خاتمة الفاتحة للدعاء الذي فيها: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ آمين يعني استجب، فهو اسم فعل بهذا الاعتبار، وأما القول بأنه من أسماء الله فهذا لا يثبت، فليس من أسمائه آمين.
يقول: ويجوز فيه مد الهمزة: آمين. ويجوز القصر: أمين. ولا يجوز تشديد الميم: آمّين يعني قاصدين، وهذا قال بعه بعضهم لكنه غير صحيح، آمّين يعني قاصدين الله بالعبادة، والاستعانة.
قال: وليؤمن في الصلاة المأموم، والفذ، والإمام إذا أسرّ، واختلفوا إذا جهر: يعني المأموم هل يجهر، أو لا؟ تعرفون مذهب أبي حنيفة أنه لا يجهر ومذهب الجمهور أنه يجهر وهذا هو الصحيح، وقد دل على هذا أدلة، وأن المأموم يجهر كما جاء في حديث أبي هريرة حتى يرتج بها المسجد.
فهذه هي السنة الجهر بالتأمين خلف الإمام، ويدل عليه الحديث أيضًا: إذا أمن القارئ فأمنوا، فإن الملائكة تؤمن، فمن وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه.
أما القول بأنه لا يجهر باعتبار أن ذلك دعاء بمعنى استجب، وأن الدعاء لا يُشرع فيه الجهر؟ فهذا ليس على إطلاقه، فالجهر في الذكر، والدعاء يطلب حيث شُرع، وإنما يكون ذلك باتباع الدليل، فيستحب للقارئ أن يسكت سكتة لطيفة بعد قراءة: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ ثم يقول: آمين. سواء كان في الصلاة، أو خارج الصلاة، يعني لو قرأ الفاتحة خارج الصلاة فيستحب له أن يقول: آمين. فضلًا عن حال الصلاة، وهي ليست من الفاتحة بالإجماع، ولهذا لم تثبت في المصاحف، وفيها اللغتان على كل حال بالمد آمين على وزن فاعيل، وأمين على وزن فعيل، والقصر هو الأصل، فإذا قال الناس آمين مدوا الألف فهذا صحيح، وإذا قصروا فهذا أيضًا صحيح، كله صحيح، على كل حال هذه عشرون مسألة في الفاتحة.