"وقد تقدم الحديث فيما إذا قال العبد: اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ [سورة الفاتحة:6] إلى آخرها أن الله يقول: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل.
وقوله تعالى: صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ [سورة الفاتحة:7] مفسر للصراط المستقيم، وهو بدل منه عند النحاة، ويجوز أن يكون عطف بيان، والله أعلم".
عطف البيان والبدل حقيقتهما واحدة، لكن عطف البيان أوضح، أي إذا كان الثاني أوضح من الأول فهذا هو عطف البيان، وهذا في بدل الكل من الكل، ففي قوله تعالى: الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ وقوله: صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ يتضح أن الثاني أوضح؛ لأنه مقيد مفسر مبين لا يلتبس، وهكذا فمثل هذا يكون عطف بيان، وأما إذا كان دونه في الوضوح، أو مساوياً له فإنه يقال فيه: إنه بدل، فلو قلت مثلاً: جاء عبد الرحمن بن صخر أبو هريرة، يكون أبو هريرة عطف بيان لأنه أوضح، لكن إذا قلت: جاء أبو هريرة عبد الرحمن بن صخر، فإن عبد الرحمن يكون بدلاً لا عطف بيان؛ لأنه ليس أوضح من الأول.
"والذين أنعم الله عليهم المذكرون في سورة النساء حيث قال تعالى: وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللّهِ وَكَفَى بِاللّهِ عَلِيمًا [سورة النساء:69-70].
وقوله تعالى: غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ المعنى اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم ممن تقدم وصفهم ونعتهم، وهم أهل الهداية والاستقامة، والطاعة لله، ورسله، وامتثال أوامره، وترك نواهيه وزواجره، غير صراط المغضوب عليهم وهم الذين فسدت إرادتهم، فعلموا الحق وعدلوا عنه، ولا صراط الضالين وهم الذين فقدوا العلم فهم هائمون في الضلالة لا يهتدون إلى الحق.
وأكد الكلام بـ "لا" ليدل على أن ثم مسلكين فاسدين وهما: طريقتا اليهود والنصارى ليجتنب كل واحدٍ منهما، فإن طريقة أهل الإيمان مشتملة على العلم بالحق، والعمل به، واليهود فقدوا العمل، والنصارى فقدوا العلم، ولهذا كان الغضب لليهود، والضلال للنصارى؛ لأن من علم وترك استحق الغضب، بخلاف من لم يعلم، والنصارى لما كانوا قاصدين شيئاً لكنهم لا يهتدون إلى طريقه؛ لأنهم لم يأتوا الأمر من بابه وهو اتباع الحق ضلوا، وكل من اليهود والنصارى ضال مغضوب عليه".
قوله: "وكل من اليهود والنصارى ضال مغضوب عليه" لمّا عرف النصارى أن الذي جاء به النبي ﷺ هو الحق تركوه، فصاروا من أهل الغضب إضافةً إلى ما عندهم من ألوان الضلال.
"لكن أخص أوصاف اليهود الغضب كما قال تعالى عنهم: مَن لَّعَنَهُ اللّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ [سورة المائدة:60]، وأخص أوصاف النصارى الضلال كما قال تعالى عنهم: قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيرًا وَضَلُّواْ عَن سَوَاء السَّبِيلِ [سورة المائدة:77] وبهذا جاءت الأحاديث والآثار وذلك واضح بيِّن.
روى الإمام أحمد عن عدي بن حاتم قال: "جاءت خيل رسول الله ﷺ فأخذوا عمتي وناساً، فلما أتوا بهم إلى رسول الله ﷺ صُفُّوا له، فقالت: يا رسول الله نأى الوافد، وانقطع الولد، وأنا عجوز كبيرة ما بي من خدمة، فمُنَّ عليَّ منَّ الله عليك، قال: من وافدك؟ قالت: عدي بن حاتم، قال: الذي فر من الله ورسوله، قالت: فمُنَّ عليَّ، فلما رجع ورجلٌ إلى جنبه ترى أنه عليٌّ قال: سليه حملاناً، فسألته، فأمر لها، قال: فأتتني فقالت: لقد فعل فعلة ما كان أبوك يفعلها...".
قوله: "قال: فأتتني" أي عدي يقول: فأتتني يعني أختي.
قوله:"فقالت: لقد فعل" يعني النبي ﷺ.
قولها: "فعلة" يعني من الجود، والكرم، والإحسان.
قولها: "ما كان أبوك يفعلها" يعني حاتماً.
وفي بعض الكتب "لقد فعلت فعلة" فتكون محمولة على أن عديًّا فرَّ؛ لأنه ذهب إلى منتهى بلاد الإسلام كما جاء في بعض الروايات، فأخبرته بما وقع لها، وقالت له: اقدم عليه، وذكرت أنه قدِم عليه فلان فأعطاه، وقدم فلان فأعطاه، وقدم فلان فأعطاه، فأطمعته بالقدوم على النبي ﷺ في حال الرضا أو السخط، فجاء من غير جوار.
"... لقد فعل فعلة ما كان أبوك يفعلها، فإنه قد أتاه فلان فأصاب منه، وأتاه فلان فأصاب منه، فأتيته فإذا عنده امرأة، وصبيَّان، وذكر قربهم من النبي ﷺ قال: فعرفت أنه ليس بملك كسرى، ولا قيصر، فقال: يا عدي ما أفرَّك؟ أن يقال: لا إله إلا الله فهل من إله إلا الله؟ ما أفرَّك؟ أن يقال الله أكبر فهل شيء أكبر من الله ؟ قال: فأسلمت، فرأيت وجهه استبشر، وقال: إن المغضوب عليهم اليهود، وإن الضالين النصارى[1] وذكر الحديث ورواه الترمذي وقال: حسن غريب"
هذا حسنه أيضاً بعض أهل العلم مثل الحافظ ابن حجر - رحمه الله -، والجملة الأخيرة منه: إن المغضوب عليهم اليهود، وإن الضالين النصارى يوجد ما يشهد لها، وهو الحديث الثابت عن بعض أصحاب النبي ﷺ عنه أن المغضوب عليهم هم اليهود، وأن الضالين هم النصارى[2].
"وفي السيرة عن زيد بن عمرو بن نفيل أنه لما خرج هو وجماعة من أصحابه إلى الشام يطلبون الدين الحنيف، قالت له اليهود: إنك لن تستطيع الدخول معنا حتى تأخذ بنصيبك من غضب الله، فقال: أنا من غضب الله أفر، وقالت له النصارى: إنك لن تستطيع الدخول معنا حتى تأخذ بنصيبك من سخط الله، فقال: لا أستطيعه، فاستمر على فطرته، وجانب عبادة الأوثان، ودين المشركين، ولم يدخل مع أحد من اليهود، ولا النصارى، وأما أصحابه فتنصروا، ودخلوا في دين النصرانية؛ لأنهم وجدوه أقرب من دين اليهود إذ ذاك، وكان منهم ورقة بن نوفل حتى هداه الله بنبيه لما بعثه، آمن بما وجد من الوحي ".أصل هذه الرواية في البخاري، وهي أنه لقي حبراً من أحبار اليهود فسأله عن دينه، وأخبره أنه يرغب في الدخول في دينهم، فقال له هذا الكلام.
قال المفسر - رحمه الله تعالى -: "اشتملت هذه السورة الكريمة - وهي سبع آيات - على حمد الله وتمجيده، والثناء عليه بذكر أسمائه الحسنى المستلزمة لصفاته العليا، وعلى ذكر المعاد وهو يوم الدين، وعلى إرشاده عبيده إلى سؤاله، والتضرع إليه، والتبرؤ من حولهم وقوتهم، وإلى إخلاص العبادة له، وتوحيده بالألوهية - تبارك وتعالى -، وتنزيهه أن يكون له شريك، أو نظير، أو مماثل، وإلى سؤالهم إياه الهداية إلى الصراط المستقيم وهو الدين القويم، وتثبيتهم عليه حتى يفضي بهم ذلك إلى جواز الصراط الحسي يوم القيامة المفضي بهم إلى جنات النعيم، في جوار النبيين، والصديقين، والشهداء الصالحين، واشتملت على الترغيب في الأعمال الصالحة؛ ليكونوا مع أهلها يوم القيامة، والتحذير من مسالك الباطل؛ لئلا يحشروا مع سالكيها يوم القيامة وهم: المغضوب عليهم، والضالون".فهذه المعاني التي ذكرها الحافظ ابن كثير - رحمه الله - مما اشتملت عليه سورة الفاتحة هي المعاني الظاهرة المتبادرة، وإلا فإن هذه السورة لو أردنا أن نستخرج منها المعاني التي دلت عليها بطرق الاستنباط المختلفة، وتوظيف ألوان الدلالة؛ فإن هذا أمرٌ سيطول، ومعلومٌ أن من أهل العلم من يستخرج من البسملة بمجردها ما يقرب من ثلاثين وجهاً من القضايا المتعلقة بالتوحيد، وبعضهم يزيد على هذا، وأما الفاتحة فحدّث ولا حرج، وتجد أن الموضوع الواحد يستخرج له من ألوان الدلالات من سورة الفاتحة ما يثبته، إما بطريق اللزوم، وإما بطريق التضمن أو غير ذلك.
فمثلاً يمكن أن يستخرج من سورة الفاتحة موضوع الإيمان باليوم الآخر وذلك من قوله تعالى: الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الفاتحة:3]، ووجه ذلك أن رحمته - تبارك وتعالى - بخلقه تقتضي أن يثيب المحسن بإحسانه، وألا يضيع أجر من أحسن عملاً، وأنه لا يترك الظالم يأخذ حق المظلوم، ويفوت ذلك؛ من غير اقتصاصٍ له، فكثير من الناس - كما نرى - يكون ظالماً في الدنيا بأخذ حقوق الناس، وبقتلهم وما أشبه ذلك، ثم يموت ولم يلق جزاءه بعد.
وإذا بدأت بالحمد فإن "أل" هذه تدل على الاستغراق، فالذي يوصف بالحمد المطلق من كل وجه يقتضي ثبوت ما يحمد عليه، ومن ذلك أنه يقيم داراً للناس يقيم فيها العدل التام، ويعطي كل ذي حقٍ حقه، ويجزي المحسن على إحسانه، والمسيء على إساءته كما قال الله : وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [سورة الزمر:75] أي في الآخرة.
وقل مثل ذلك في قوله: الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [سورة الفاتحة:2] فإن ربوبيته أيضاً تقتضي إثبات اليوم الآخر، وكذلك الأمر صريح في قوله: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [سورة الفاتحة:4] فإنه يدل على ذلك بدلالة المطابقة.
ثم في قوله: إِيَّاكَ نَعْبُدُ [سورة الفاتحة:5] فإنه إنما يعبد من أجل تحصيل رضاه، والظفر بدار النعيم في الآخرة.
وفي قوله: وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [سورة الفاتحة:5] أي نطلب العون على كل مطلوب دنيوي أو أخروي، ثم اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ [سورة الفاتحة:6] يدل على ذلك أيضاً، فإنه صراط الذين أنعم عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين وهكذا.
وإذا أردت أن تثبت قضية الإيمان بالرسل فإن ذلك يظهر من قوله: الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، ومن الحمد؛ فإن حمده يقتضي ألا يترك عباده هملاً لا يأمرهم، وكذلك من الربوبية، فإن ربوبيته تقتضي أن يكون في مملكته أمرٌ ونهي، وهذا هو الذي يأتي به الرسل - عليهم الصلاة والسلام -.
وتثبت قضية الإيمان بالرسل أيضاً من قوله - تبارك وتعالى -: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ فإن ثبوت اليوم الآخر يقتضي أن يكون ثمة ما تقوم به الحجة على الناس، وذلك بإرسال الرسل وإلا فكيف يعذبون ويحاسبون، والله يقول: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً [سورة الإسراء:15]، وكذلك في قوله: إِيَّاكَ نَعْبُدُ، فالله لا يُعبد إلا بما شرع، فكيف يعبد من غير بعث الرسل؟
وكذلك في قوله: اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ فالذين أنعم عليهم هم من ذكرهم بقوله سبحانه: مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ [سورة النساء:69]، وكيف حصل الإنعام والغضب أصلاً بغير بعث الرسل؟، فهم فرقٌ بين الناس.
فهذا مثال على دلالتها على هذه القضايا، فإذا أردت أن تنظر في المعاني التي يمكن أن تستخرج منها في دلالتها على أنواع التوحيد الثلاثة، ودلالتها على كثيرٍ من قضايا الاعتقاد؛ وجدت من ذلك أموراً كثيرة جداً.
ما عليك إلا أن تبدأ من "أل" في قوله: الْحَمْدُ للّهِ تجد أن الحمد بدخول "أل" دل على الاستغراق أي كل المحامد منسوبة إلى الله ، وهذا يقتضي أنه كاملٌ من كل وجه؛ لأنه لا يمكن أن تنسب جميع المحامد إلا لمن كان محققاً للكمال، وإلا فإنه ينقص من حمده بحسب ما نقص من كماله، فالمحمود من كل وجه هو الكامل من كل وجه، بذاته، وأسمائه، وصفاته، وأفعاله، وهكذا لو أردنا أن نسترسل مع هذه المسائل لاحتاج ذلك إلى وقت كبير.
"وما أحسن ما جاء إسناد الإنعام إليه في قوله تعالى: صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وحذف الفاعل في الغضب في قوله تعالى: غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ، وإن كان هو الفاعل لذلك في الحقيقة، كما قال تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِم..الآية [سورة المجادلة:14]".هذه من اللطائف في هذا التفسير بمعنى أنها ليست من المسائل الداخلة في المعنى الإجمالي، أو المعنى الأساسي للآية الذي جاءت لتقريره، لكنها من اللطائف والملح التي يذكرها بعض أهل العلم، وينبهون عليها، وهم بين مكثرٍ ومقل في هذا، فإذا لم يظهر فيها وجه من التكلف فهي حسنة.
لذلك لو تُدوًّن هذه اللطائف والملح التي تذكر في تفسير سورة البقرة، وفي التفسير عموماً مع قضايا التوحيد بجميع أنواعها، وكذلك القواعد التي تمر في التفسير، وما يتعلق بتطبيق أصول التفسير وقواعد التفسير مثل: حمل اللفظ على أعم معانيه، وكذلك قضايا التضمن، وحمل اللفظ على الحقيقة والمجاز عند القائل به، وحمل المشترك على معنييه، وتدون أيضاً الإسرائيليات والموقف منها حيث إن التفسير مليء بالإسرائيليات، كما أن في التفسير كثيراً من القضايا الأصولية يحتاج طالب العلم أن يدونها ليستفيد منها، إذ لو دون كل هذه الفوائد والقواعد فإنه سيخرج بأمثلة بالعشرات بل ربما بالمئات، وعلى قدر تفتُّق ذهن الإنسان، وإلمامه، واهتماماته بهذه الأشياء، والتفطن لها؛ على قدر ما يكون عنده من الفوائد، ويكون عنده ثروة ممتازة.
"وكذلك إسناد الضلال إلى من قام به وإن كان هو الذي أضلهم بقدره كما قال تعالى: مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُّرْشِدًا [سورة الكهف:17]".يريد أن يقول: إن هذا من الأدب في التعبير حيث إنه يرِد في بعض المواضع في القرآن ما قد يكون الكمال في عدم نسبته إلى فاعله مباشرةً فيعبر عنه بالمبني للمجهول مثلاً ونحو ذلك، ففي قوله على سبيل المثال: صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ أضاف الله الإنعام إليه سبحانه بطريق الخطاب، ولما ذكر الغضب وإن كان الغضب صفة كمال في موضعها ولا شك لكنه ليس كالإنعام، لذلك قال: غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ، ولم يقل: غير الذين غضبت عليهم.
وبعض أهل العلم يقول: إن هذا التعبير استعمل لتهميشهم، وإهمالهم، فلأنهم لا يستحقون التنويه قال: غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ والله أعلم.
ومن أمثلة هذا الأسلوب قول الله : وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ [سورة الشعراء:80]، فهو لم يضف المرض إلى الله بحيث يقول: والذي هو يمرضني ويشفين كما في قوله: وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ [سورة الشعراء:79] وإنما قال: وَإِذَا مَرِضْتُ فأضاف المرض إلى نفسه مع أن المرض إنما هو من الله .
ومن أمثلة ذلك قول الله في سورة الكهف عن الخضر: أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا [سورة الكهف:79]، فالخضر نسب العيب إلى نفسه، وأما في الجدار فقال: وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا [سورة الكهف:82] فلم يقل: فأردت أن يبلغا، وإنما نسب ذلك الفضل إلى الله فقال: فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ [سورة الكهف:82].
فهذا يذكره بعض أهل العلم، ويقولون هو من باب التأدب، ومما يذكرون في ذلك خطاب الله لنبيه ﷺ حيث قال: وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى [سورة الضحى:1-3]، قالوا: لم يوجه الخطاب إليه مباشرةً بقول: قلاك مع أن الأصل هكذا وإنما قال: وَمَا قَلَى، وبعضهم يقول: هذا الأسلوب أتي به مراعاةً للفاصلة.
وعلى كل حال فالمقصود هو التنبيه على المعنى الذي ذكره ابن كثير أيًّا كان، ولذلك فإن مثل هذه اللطائف لا يُقطع بها، وإنما هي ملح يرِد على بعضها ما يرِد من الاعتراضات، فما ذكر في قوله تعالى: غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ يرِد عليه أن هناك مواضع أخرى أضاف الله فيها لنفسه أنه أضل أقواماً، وغضب على أقوام كقوله تعالى: مَن لَّعَنَهُ اللّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ [سورة المائدة:60]، وكقوله: وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ [سورة الفتح:6] وكذلك قوله - تبارك وتعالى -: مَن يُضْلِلِ اللّهُ فَلاَ هَادِيَ لَهُ [سورة الأعراف:186] وغير ذلك كثير.
فلا ينبغي للإنسان أن يتمسك بشيء من ذلك، ويعضَّ عليه بالنواجذ، ويصارع عليه، فهي ملح تحتمل الصواب وعدمه، والإمام الشاطبي ما يرى ذكرها أصلاً، ولا الاشتغال بها.
وابن القيم - رحمه الله - حينما تكلم على أدب المرأة المسلمة ذكر في قوله تعالى: وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ [سورة الذاريات:29] أن امرأة إبراهيم لما بشرتها الملائكة قالت كلمتين تكفي كل واحدة للدلالة على تعذر الولد وهما: كبر السن، والعقم، ثم قال: أدب المرأة المسلمة ألا تسترسل في الحديث مع الرجال الأجانب بغير حاجة، وهذا الكلام من ابن القيم معناه صحيح، والاستدلال بهذه الآية استدلال جميل؛ لكن يرِد عليه أنها في الموضع الآخر قالت: يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ [سورة هود:72] فهنا تبين أنها لم تقل كلمتين، فالمقصود أنك إذا قرأت شيئاً وأعجبك فلا تظن أن مثل هذه الأشياء يقطع بها، وأنها الحق الذي لا محيد عنه، وهكذا.
ودع عنك قول: لو قال قائل كذا لكان ذلك له وجه، والذي أظنه أرجح في هذه المسألة كذا، فطالب العلم ما يصلح في مثل هذه المسائل أن يقول هذا، أو يقول: والحق الذي لا مرية فيه، والصواب المقطوع به في هذه المسألة كذا، وما عداه مطَّرح، وفلان أبعد النجعة، واعلم أنك قد تقتنع بشيء ثم تغير رأيك بعد فترة مع أنك قد جادلت وخاصمت على الرأي الأول، وظننت أنه لا تردد، ولا إشكال فيه، لذلك اترك هذه العبارات لأهلها، وانظر إلى ما ينفعك في دينك، ودنياك.
"وقال: مَن يُضْلِلِ اللّهُ فَلاَ هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ [سورة الأعراف:186]، إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أنه سبحانه هو المنفرد بالهداية والإضلال، لا كما تقول الفرقة القدرية ومن حذا حذوهم من أن العباد هم الذين يختارون ذلك ويفعلون، ويحتجون على بدعتهم بمتشابه من القرآن، ويتركون ما يكون فيه صريحاً في الرد عليهم، وهذا حال أهل الضلال والغي، وقد ورد في الحديث الصحيح: إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم[3]"
يعني أن هؤلاء يتبعون ما تشابه من القرآن، والمقصود به هنا في مثل هذا المثال التشابه النسبي وليس التشابه المطلق من كل وجه الذي لا يعلمه إلا الله وهو حقائق الأمور الغيبية، وإنما التشابه النسبي هو الذي يخفى على البعض ويعلمه البعض فطوائف القدرية مثلاً يأخذون ببعض النصوص التي تدل على أن الله قدر الأقدار، وأنه يصرف خلقه كيف يشاء، وأنه يهديهم وأنه يضلهم، فهم يأخذون هذه النصوص ويقولون: الإنسان ليس له حيلة، فالله هو الذي يهديه أو يضله، فهو كالريشة في مهب الريح.
وتأتي طائفة أخرى ويأخذون من النصوص ما يدل على إثبات فعل العبد، وأن العبد له قدرة وإرادة وما أشبه ذلك، ويتركون النصوص الأخرى ويقولون: إن العبد يستقل بفعله، وإن الرب - تبارك وتعالى - ليس له قدرة على أفعال العباد، فهو أراد هدايتهم فضلوا بإرادتهم واختيارهم ومشيئتهم، فهؤلاء يأخذون جزءًا من النصوص، وهؤلاء يأخذون جزءًا من النصوص، فهذه طريقة أهل البدع، وهي طريقة تكون سبباً للانحراف في أي باب سلكت وليس فقط في باب القدر؛ لأن أي قضية تريد أن تسلك فيها هذا الطريق ستخطئ، فمثلاً: إذا أردت أن تتعامل مع أهل البدع بالنظر إلى النصوص المبثوثة في الكتاب، والسنة، وأقوال السلف، وأخذت الطريقة التي ليس فيها إلا المفاصلة، والمصارمة، والهجر وما أشبه ذلك فإنك ستخرج بنتيجة غير صحيحة، وإذا نظرت إلى النصوص الأخرى ستجد أن التعامل الشرعي يختلف عن هذا، وكذلك العكس بالعكس، فمن نظر إلى الجانب الآخر ربما يحصل له مباسطة وانفتاح كامل، ويرى أن هؤلاء منه، وهو منهم، وأنه ينبغي أن تذوب هذه الجبال من الجليد التي بينه وبينهم، وأننا نستطيع أن نندمج وأن ننصهر... الخ، ومن هنا تأتي خطورة البرمجة العصبية حيث تجد هؤلاء المبرمجين ما عندهم مشكلة في أن يندمجوا مع كل أحد ولو كان يهودياً، أو نصرانياً؛ لأنه ينظر إلى الجوانب الإيجابية كما يقال: ينظر إلى نصف الكأس المليان، ولا ينظر إلى الجانب الآخر السلبي، وإنما ينظر من زاوية أن اليهود فيهم جوانب تتفق معهم فيها، والنصراني كذلك تستطيع أن تقترب منه، ويقترب منك، وأن تفهمه ويفهمك، وأن يحل الحوار بدلاً من المصادمة، والمفاصلة، والمفارقة، فينتهي موضوع الولاء والبراء؛ لأنه مبني على الإقصاء، ورفض الآخر، والانكفاء على الذات، والتقوقع، والتمحور... الخ، وأعتذر عن هذه الكلمات التي ابتلينا بها، وفي المقابل تركت الألفاظ الشرعية، فالمقصود أنه صار بعض طلاب العلم يسلك هذا الطريق وبالتالي كم جنت هذه الأمور على دين الله ، وعلى أصحابها قبل كل شيء.
فالمقصود أن من نظر إلى النصوص من جهة واحدة فإنه يسلك طريقاً معوجة، وهذا الأمر له تعلق بثلاثة أشياء: له تعلق بالعلم، وله تعلق بالقصد، وله تعلقٌ ثالث بالعقل، فتجد أن أمثال هؤلاء يكونون من ذوي العلم الناقص بحيث لم يسمعواإلا نصين أو ثلاثة ويظنون أن هذه النصوص هي كل شيء في المسألة، وانتهى الأمر، والعلَامة عند هؤلاء الجهال أنك تجدهم دائماً يعبرون بعبارات قوية جداً، ويفاصلون، ويصرحون بأنهم مستعدون لكذا وكذا.... الخ.
ومن الأمور المؤدية إلى ذلك: القصد، أعني قصد الإنسان هو الذي يجعل من هذا الإنسان يسير في مثل هذه الطريق، فتجد عنده هوىً يجعله يميل مع الشيء الذي يعجبه.
والأمر الثالث العقل أي عقل الإنسان وتركيبه، وأقصد بالعقل القلب، فطريقة تفكير الإنسان تؤثر تأثيراً واضحاً بيناً في مثل هذه الأمور، فتجده إذا نظر لا يستطيع أن ينظر بنظرة واسعة شاملة، وإنما ينظر بنظرة مبتسرة، فهذه الأمور الثلاثة هي أكثر ما يؤثر في سلوك الإنسان واعوجاجه.
وهناك أمور أخرى ثانوية، لكن هذه الأشياء التي ذكرتها هي في ظني أنها أساسية، وتجعل الناس ينحرفون وخاصةً في أوقات الفتن كهذه الأيام التي نعيش فيها الآن.
"وقد ورد في الحديث الصحيح: إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم[4] يعني في قوله تعالى: فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ [سورة آل عمران:7]، فليس - بحمد الله - لمبتدع في القرآن حجة صحيحة؛ لأن القرآن جاء ليفصل الحق من الباطل مفرِّقاً بين الهدى والضلال، وليس فيه تناقض ولا اختلاف؛ لأنه من عند الله تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [سورة فصلت:42]".
يلاحظ أنه يقول: ليس فيه حجة صحيحة، وأما ما يتعلقون به من القرآن فكل طائفة تقريباً تتعلق بأشياء من القرآن، والقرآن كما جاء في الأثر عن علي في وصيته لابن عباس: "حمَّالٌ ذو وجوه" أي أنه يحتمل معانِيَ كثيرة، ولهذا أوصاه أن يجادل الخوارج بالسنة، وكذلك ثبت هذا عن أنس لما مر بابنٍ له يتجادل مع رجلٍ من أهل الأهواء فأمره أن يجادله بالسنة.
وكذلك ورد هذا عن جماعة مثل عمر وغير عمر، وعلى كل حال كان السلف يرون مجادلة أهل الأهواء بالسنة مع مجادلتهم لهم بالقرآن؛ لأن الاقتصار في المجادلة على ما في القرآن من الآيات قد لا يجدي مع المخالف؛ لأن الآية تحتمل أكثر من وجه، فإذا بينتْها السنة انتفى الاحتمال.
لكن المشكلة إذا كان هذا المجادل ممن ينفي السنة، ولا يؤمن بها بحيث إذا جئت له بالأحاديث قال لك: هؤلاء الصحابة أصلاً ارتدوا على أدبارهم، ونحن لا نصدق أحاديثهم، ولا نقبلها، ويأتيك بأشياء مكذوبة عن أئمته، ويرى أن هؤلاء لهم العصمة، ثم بعد ذلك يستخرج هذه العقيدة من رأسه؛ لأنه قد ألغى السنة، والقرآن عنده يحتمل أكثر من وجه فهو يحمله على المعنى الذي يظنه، وهكذا نجد أن الشيطان قد عرف كيف الطريق إلى عقول كثير من الناس، والله المستعان.
أحياناًَ يفكر الإنسان ويقول: كيف يضلون وعندهم الكتاب، والسنة؟! لكن إذا نظر نظرة تأمل وجد أن الشيطان قد وضع متاريس بينهم وبين الكتاب، والسنة، لذلك إذا جئت إلى الرافضي تجد أنك لا يمكن أن تصل معه إلى نتيجة بطريق الكتاب، والسنة؛ لأن السنة هذه كلها مرفوضة عنده، والقرآن عنده فيه آيات زائدة يرى أنها حذفت، ويفسر الآيات بتفسيرات عجيبة، ففي قوله تعالى: إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً [سورة البقرة67] يقول: البقرة هي عائشة، والجبت والطاغوت في قوله تعالى: يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ [سورة النساء:51] يقولون: هما أبو بكر وعمر، فتقول له: ليس الأمر كذلك، فيقول لك: ليس تفسيرك أولى من تفسيري، وهذا في أقل الأحوال أنه يكون ممن درس البرمجة اللغوية، فهو يتنزل معك لمجادلتك على هذا الأساس.
وإذا جئت للصوفي قال لك: يا أخي أنتم تأخذون علومكم من ميت عن ميت فتقولون: حدثنا فلان حدثنا فلان حدثنا فلان، أما نحن فقد حدثنا الحي الذي لا يموت، وأتى لك بتأويلات فاسدة ما أنزل الله بها من سلطان.
إذا جئت لمتكلم من المتكلمين فقلت له: كيف تؤمن بهذه العقائد الكلامية الفاسدة؟ قال لك: يا أخي هذا النص الذي أنت تتكلم عنه من الكتاب، والسنة؛ إن كان غير متواتر فلا يحتج به في العقائد، وإن كان متواتراً فيرد عليه قوادح عشرة في الدلالة بحيث تجعله محتملاً، وهذه قضايا تحتاج إلى قطع لا تقبل الاحتمال، فتقول له: فما الحل؟ يقول لك: الحل هو العقل؛ لأن هذا الأمر ينبغي أن يكون في القواطع من الأمور، فالعقائد لا تحتمل التشكيك، وهكذا يلغي الكتاب، والسنة، ويدخل في متاهات العقول التي يختلف أصحابها غاية الاختلاف.
ولذلك إذا رأيت عقائد أهل الكلام تجدها فلسفة وكأنك تقرأ لأرسطو أو أفلاطون، أو أمثال هؤلاء وما تقرأ كتاباً في العقيدة لأناس أنعم الله عليهم ببعثة خير نبي ﷺ، وأنزل عليهم أشرف كتاب، إذا قرأت أي كتاب من كتب هؤلاء ما تجد قال الله كذا، أو قال رسول الله كذا، فالله المستعان.
"يستحب لمن يقرأ الفاتحة أن يقول بعدها: آمين، مثل: يس، ويقال: أمين بالقصر أيضاً، ومعناه: اللهم استجب، والدليل على استحباب التأمين ما رواه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي عن وائل بن حجر قال: سمعت النبي ﷺ قرأ: غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ فقال: آمين، مد بها صوته، ولأبي داود: رفع بها صوته[5]، وقال الترمذي: هذا حديث حسن، وروي عن علي وابن مسعود - ا - وغيرهم، وعن أبي هريرة قال: "كان رسول الله ﷺ إذا تلا: غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ قال: آمين حتى يسمع من يليه من الصف الأول" رواه أبو داود وابن ماجه، وزاد فيه: "فيرتج بها المسجد"، والدارقطني وقال: هذا إسناد حسن"[6]
هذه الزيادة: "فيرتج بها المسجد" فيها ضعف، والطريقة التي مشى عليها المختصرون هو ألا يذكروا من هذه الأحاديث إلا ما بلغ درجة القبول سواء كان حسناً لغيره أو نحو ذلك، فبعض أهل العلم يحسّن مثل هذه الرواية - يعني من باب الحسن لغيره -، لكن على كل حال هذه الزيادة فيها ضعف لكن الأمر في هذا سهل، والمهم أن ثبوت التأمين لا شك فيه حيث توجد فيه أحاديث صحيحة.
"وعن بلال أنه قال: يا رسول الله لا تسبقني بآمين، رواه أبو داود".
كل هذا وغيره يدل على أن النبي ﷺ كان يؤمِّن في الصلاة، أي: يقول آمين، ويجهر بذلك، ويؤمِّن أهل المسجد، ويرفعون أصواتهم، وهي سنة ليست بواجبة في الصلاة، كما أن التأمين ليس من الفاتحة بالإجماع، أي أنه لم يوجد أحد قال: إنه من الفاتحة، ومعنى آمين أي اللهم استجب.
"ونقل أبو نصر القشيري عن الحسن وجعفر الصادق أنهما شدَّدا الميم من آمين، مثل: آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ [سورة المائدة:2]".
والمعنى قاصدين، لكن هذا معنى بعيد جداً، ولا ينبغي للإنسان أن يقول في صلاته: آمّين، وإنما يقول: آمين بمعنى اللهم استجب.
"قال أصحابنا وغيرهم: ويستحب ذلك لمن هو خارج الصلاة".
قوله: "ويستحب ذلك لمن هو خارج الصلاة" هذا يرجع إلى التأمين، أي أنه يستحب أن يقول: آمين، وليس المقصود أنه يرجع إلى قول الحسن وجعفر من أنه يقول: آمِّين بالتشديد.
قال الشافعية: إن التأمين يكون في الصلاة وفي خارج الصلاة، فأنت إذا قرأت الفاتحة خارج الصلاة تقول: آمين، وقالوا: إن قرأ جهراً جهر، وإن قرأ سراً أسر، فهذا هو المقصود، وليس المقصود أنهم يقولون بتشديد الميم من آمين.
"قال أصحابنا وغيرهم: ويستحب ذلك لمن هو خارج الصلاة، ويتأكد في حق المصلي، وسواء كان منفرداً، أو إماماً، أو مأموماً، وفي جميع الأحوال؛ لما جاء في الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال: إذا أمَّن الإمام فأمنوا فإنه من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه[7] ولمسلم أن رسول الله ﷺ قال: إذا قال أحدكم في الصلاة آمين والملائكة في السماء آمين فوافقت إحداهما الأخرى غفر له ما تقدم من ذنبه[8] قيل بمعنى من وافق تأمينه تأمين الملائكة في الزمان، وقيل في الإجابة، وقيل في صفة الإخلاص".
هذه المحامل الثلاثة الأقرب منها، والموافق للسياق، والذي تدل عليه الروايات الأخرى بشكل أصرح من هذا: هوالزمان، بمعنى أنه يقع تأمين هذا الإنسان المصلي موافقاً لتأمين الملائكة في وقتٍ واحد، أو في لحظةٍ واحدة، فإذا حصل هذا التوافق حصل الجزاء بالمغفرة.
ومن الروايات التي ذكرها ابن كثير - رحمه الله - في هذا قوله ﷺ: من وافق تأمينه تأمين الملائكة[9] لكن قد يقال: هذه محتملة إلى حد كبير، وذكر أوضح من هذه الرواية وهي قوله: فوافقت إحداهما الأخرى[10]، وتوجد عندنا روايات أخرى منها حديث أبي هريرة في رواية له: إذا قال الإمام غير المغضوب عليهم ولا الضالين فقولوا: آمين، فإن الملائكة يقولون: آمين، وإن الإمام يقول: آمين، فمن وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له فهذا يدل على أن الموافقة تكون بالقول؛ ليقع ذلك متوافقاً.
وفي حديث أبي هريرة الطويل: إنما جعل الإمام ليؤتم به[11] وفي آخره زيادة: وإذا قال: غير المغضوب عليهم ولا الضالين فقولوا: آمين، فإذا وافق كلام الملائكة غفر لمن في المسجد[12]، وهذه رواية صحيحة تدل على أن المقصود الموافقة بالقول، والله أعلم.
"وفي صحيح مسلم عن أبي موسى مرفوعاً: "إذا قال - يعني الإمام - ولا الضالين فقولوا: آمين يجبكم الله"[13] وقال الترمذي: معناه لا تخيب رجاءنا".
يلاحظ أن قوله: (يجبكم الله) يدل على أنها دعاء، بمعنى اللهم استجب، لا قاصدين آمّين.
"وقال الأكثرون: معناه اللهم استجب لنا"
مسألة:
فهم ذلك بعض الفقهاء بحيث يكون ابتداء تأمين الإمام سابقاً لتأمين المأموم بقليل بحيث يكون تأمين المأموم مع تأمين الإمام لكن تأمين الإمام يكون قبله بقليل،فيكون تأمين المأموم مضمناً في تأمين الإمام، لا أن ينتظر المأموم حتى يفرغ الإمام من التأمين فهذا لا يقول به أحد فيما أعلم، وليس هذا الذي فهمه من أهل العلم بقاطعٍ.
مسألة أخرى:
بالنسبة لموافقة تأمين الإنسان تأمين الملائكة معناه أنه إذا قال الإمام: آمين بعد الفراغ من الفاتحة، فإنه ومن معه يرجو أن تحصل له موافقة الملائكة في التأمين؛ لأن الملائكة تقول: آمين بعد أن يقول الإمام ولا الضالين، فالإنسان يقولها ويرجو أن يحصل له ذلك، لكنه لا يستطيع أن يعلم أو يقطع أنه وافق أو لم يوافق.
- أخرجه أحمد (19400) (ج 4 / ص 378) وقال شعيب الأرنؤوط: بعضه صحيح وفي هذا الإسناد عباد بن حبيش لم يرو عنه غير سماك بن حرب ولم يوثقه غير ابن حبان.
- أخرجه ابن حبان (7206) (ج 16 / ص 183) والطبراني في الأوسط (3813) (ج 4 / ص 139) وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (3263).
- سيأتي تخريجه
- أخرجه البخاري في كتاب التفسير - باب تفسير سورة آل عمران (4273) (ج 4 / ص 1655) ومسلم في كتاب العلم - باب النهي عن اتباع متشابه القرآن والتحذير من متبعيه والنهي عن الاختلاف في القرآن (2665) (ج 4 / ص 2053).
- أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة - باب التأمين وراء الإمام (933) (ج 1 / ص 351) والترمذي في أبواب الصلاة - باب ما جاء في التأمين (248) (ج 2 / ص 27) وأحمد (18862) (ج 4 / ص 315).
- أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة - باب التأمين وراء الإمام (935) (ج 1 / ص 352) وابن ماجه في كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها - باب الجهر بآمين (853) (ج 1 / ص 278) وضعفه الألباني في ضعيف أبي داود برقم (934).
- أخرجه البخاري في كتاب صفة الصلاة - باب جهر الإمام بالتأمين (747) (ج 1 / ص 270) ومسلم في كتاب الصلاة - باب التسميع والتحميد والتأمين (410) (ج 1 / ص 307).
- أخرجه البخاري في كتاب صفة الصلاة - باب فضل التأمين (748) (ج 1 / ص 271) ومسلم في كتاب الصلاة - باب التسميع والتحميد والتأمين (410) (ج 1 / ص 307).
- أخرجه البخاري في كتاب صفة الصلاة - باب جهر الإمام بالتأمين (747) (ج 1 / ص 270) ومسلم في كتاب الصلاة - باب التسميع والتحميد والتأمين (410) (ج 1 / ص 307).
- أخرجه البخاري في كتاب صفة الصلاة - باب فضل التأمين (748) (ج 1 / ص 271) ومسلم في كتاب الصلاة - باب التسميع والتحميد والتأمين (410) (ج 1 / ص 307).
- أخرجه البخاري في كتاب الجماعة والإمامة - باب إنما جعل الإمام ليؤتم به (656) (ج 1 / ص 244) ومسلم في كتاب الصلاة - باب ائتمام المأموم بالإمام (412) (ج 1 / ص 309).
- أخرجه بهذه الزيادة ابن ماجه في كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها - باب إذا قرأ الإمام فأنصتوا (846) (ج 1 / ص 276) وقال السندي: هذا الحديث صححه مسلم ولا عبرة بتضعيف من ضعفه، وقال عنه الشيخ الألباني: حسن صحيح.
- أخرجه مسلم في كتاب الصلاة - باب التشهد في الصلاة (404) (ج 1 / ص 303).