هذه السورة الكريمة تُسمى بهذا الاسم الذي عُرف واشتُهر بسورة آل عمران؛ لأنه جاء ذكر آل عمران في ثنايا هذه السورة: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ [آل عمران:33]، والسورة قد تُسمى بشيء مما ذُكر فيها كسورة البقرة: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً [البقرة:67]، سورة آل عمران، وسورة المائدة، وسورة الإسراء، وسورة النحل، وسورة الكهف، وهكذا في سور كثيرة.
وقد تُسمى السورة بحاصل ما ذُكر فيها، وما قُصد منها وما تضمنته من غير ذكر لذلك اللفظ في ثناياها مثل سورة الإخلاص لم ترد هذه اللفظة في السورة، وقد تُسمى السورة بأولها الحمد: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2]، وهكذا.
والأصل في السور كما أشرنا في الكلام على أول سورة الفاتحة والبقرة أن أسماء السور توقيفية؛ بمعنى أن ذلك مُتلقى عن رسول الله ﷺ، مع أن الواقع أن بعض الأسماء التي تُذكر مما يكون للسورة أسماء متعددة أن بعض هذه الأسماء قد لا يثبت عن النبي ﷺ، وقد يكون ذلك من قبيل الأوصاف كما ذكرنا في الكلام على سورة الفاتحة في بعض أسمائها، حيث ذكر بعضهم لها أكثر من عشرين اسمًا، والواقع أن ما كل هذا من قبيل الأسماء.
فسورة آل عمران تُسمى بهذا الاسم بالاتفاق، وذلك ثابت عن رسول الله ﷺ في قوله: يؤتى بالقرآن يوم القيامة وأهله الذين كانوا يعملون به، تقدّمه سورة البقرة، وآل عمران، فسماها بآل عمران.
وكذلك أيضًا يُقال لها مع سورة البقرة: الزهراوان، وذلك لما ثبت عن النبي ﷺ: اقرءوا الزهراوين: البقرة، وسورة آل عمران...، فهذه أسماء ثابتة.
ويؤخذ من هذه الأحاديث فضل هذه السورة، إضافة إلى ما ورد في أحاديث أخرى، أن النبي ﷺ يقول: اقرءوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعًا لأصحابه...، والمقصود بأصحابه الذين يُلازمونه قراءة، وتدبرًا، وفهمًا، وعملاً، وتحاكمًا إليه، فهذا هو الصاحب، وليس الذي يهجره، وليس الذي يرفضه، يرفض العمل به، أو التحاكم إليه، هذا لا يكون صاحبًا له، ليس بذاك الذي يبحث عن مصحف يقرأ فيه إذا جاء رمضان، هذا لا يُقال إنه من أصحاب القرآن، وهنا في ذكر البقرة وآل عمران: تُحاجان عن صحابهما، فهذا يدل على الملازمة وكثرة القراءة؛ فإنه لا يُقال صاحب إلا لمن كان بهذه المثابة، يعني: يقرأ قراءة مستمرة، ويتفهم، ويتدبر، ويُمكن أن يُضاف إلى ذلك الحفظ، وهذا قد يكون ظاهرًا لمن تأمل في النصوص الواردة في الباب، يعني مما يُذكر فيه مثل هذا، وهكذا في قوله ﷺ: اقرءوا الزهراوين: البقرة، وسورة آل عمران؛ فإنهما تأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان، -يعني: كالسحابتين- أو كأنهما غيايتان -يعني: الشيء الذي يُضلل فوق رأسك يُقال له غياية، أو كأنهما فرقان كالمجموعتين من طير صواف تُحاجان عن أصحابهما، وهذا كما سبق.
وكذلك أيضًا في قوله ﷺ: يؤتى بالقرآن يوم القيامة وأهله الذين كانوا يعملون به، تقدمه سورة البقرة، وآل عمران.
وضرب لهم النبي ﷺ ثلاثة أمثال، قال: كأنهما غمامتانِ، أو ظُلتانِ سوداوانِ بينهما شرق، أو كأنهما حِزق من طير صواف، تُحاجان عن صاحبهما، يعني: الشيء الذي يُظلل من طير أو من غمامة أو غير ذلك.
وهكذا أيضًا كما في حديث أنس : "كان الرجل إذا قرأ البقرة وآل عمران جّد فينا"، يعني: عظُم، هذا يدل على أنه ليس بمجرد القراءة، وإنما الحفظ إضافة إلى الفهم والفقه، إضافة إلى المُلازمة، تُحاجان عن صاحبهما، وهنا "جّد في أعيننا"، إذًا هذا يفقه ما يقرأ، سورة البقرة تتضمن كثيرًا من الأحكام، وفيها تقرير لأركان الإسلام.
وكذلك أيضًا سورة آل عمران فيها مما يتصل بالتوحيد والاعتقاد، والرد على المخالفين من أهل الكتاب، أما إذا اجتمع مع ما في سورة البقرة فيكون ذلك بيانًا لشرائع الدين من الأمور العلمية والأمور العملية، جّد في أعيننا، ولهذا كانوا حينما يقرأ القارئ منهم أو يحفظ، أو يتلقى السورة، كان يتفقه بما فيها، ولهذا كانوا يسمون القُراء يقولون ذلك لأهل العلم، فما كانوا يحفظون من غير فقه ولا فهم، "كانوا يقترئون من رسول الله ﷺ عشر آيات، فلا يأخذون في العشر الأخرى حتى يعلموا ما في هذه من العلم والعمل، قالوا: فعلمنا العلم والعمل"، كما جاء عن أبي عبد الرحمن السُلمي فيما وصف من حال أصحاب النبي ﷺ هكذا كانوا يتلقون القرآن.
وهذه السورة من السور المدنية النازلة في المدينة بالاتفاق، وتتحدث عن قضيتين أساسيتين، جُل آيات السورة تدور حول قضيتين:
القضية الأولى: ذكر أهل الكتاب، والرد على النصارى، وقد وفدوا على النبي ﷺ من نجران، ففي هذه السورة مناقشات وردود طويلة على هؤلاء، وعلى دعواهم وعلى شُبهاتهم، الدعوى التي كانوا يدعونها أن إبراهيم كان ينتسب إلى إحدى الطائفتين اليهود أو النصارى، وهكذا أيضًا كل طائفة تدعي أنها على الحق، فجاء في هذا سياق طويل في هذه السورة يرد ردودًا مفصلة على هؤلاء، ويُبين ما هم فيه من الضلال والكفر لاسيما النصارى، سورة البقرة تضمنت ذكرًا مفصلاً لأحوال بني إسرائيل، وسورة آل عمران تحدثت عن النصارى.
القضية الثانية: كما تحدثت عن الجانب الآخر -أعني سورة آل عمران- وهو وقعة أُحد وما جرى فيها، وذكر ربنا -تبارك وتعالى- فيها من العِبر والعظات لأسباب النصر والهزيمة، وكذلك فيها عزاء بليغ لأهل الإيمان.
هذا الجملة، وإلا على سبيل التفصيل فالقضايا التي تناولتها هذه السورة قضايا كثيرة:
منها: ما يتصل بتقرير التوحيد، وكذلك ما يتعلق بالوحي والكتب التي أنزلها الله -تبارك وتعالى-، وتحدثت عن أحوال الناس بما يتصل بالمُحكم المُتشابه.
وكذلك أيضًا فيها من الردود على النصارى، وبيان ما هم عليه من الباطل، وبيّن ربنا -تبارك وتعالى- فيها أن الدين الحق الذي كان عليه جميع الأنبياء ولا يقبل سواه هو الإسلام، وأنه صِبغة الله.
وكذلك أيضًا تضمنت هذه السورة قضايا تتعلق بالولاء والبراء، وما إلى ذلك من جوانب يأتي ذكرها -إن شاء الله تعالى-.
لكن فيما يتعلق بمقصودها، مقصود السورة قضية التوحيد تُجليها، وتكشف الضلالات المخالفة لها، تُبين حقيّة دين الإسلام، وأنه الدين الصحيح، وهكذا الارتباط بالله ، والتوجه إليه، والثقة به، والتوكل عليه، ولزوم طاعته وطاعة رسوله ﷺ، وأن ذلك هو الطريق إلى النصر، وتجد ذلك في الكلام على وقعة أُحد، الطريق إلى التمكين والعز وأسباب الفشل والهزيمة هذا كله بتفصيل بديع.
نشرع في هذه الليلة في الكلام على ما يُستخرج من الهدايات من سورة آل عمران، وقد افتُتحت هذه السورة بالحروف المقطعة الم [آل عمران:1]، وهذه الحروف كما مضى في الكلام على سورة البقرة أن الأقرب أنه ليس لها معنى في نفسها، ولكنها تُشير إلى قضية الإعجاز كأنه يقول: إن هذا القرآن مركب من هذه الحروف التي تركبون منها الكلام فأتوا بمثله، فهذا لربما يدل عليه أن هذه الحروف لا تكاد تُذكر في موضع من كتاب الله إلا ويُذكر القرآن بعدها، أو الوحي إلا ما ندر، والمواضع النادرة يوجهها العلماء بتوجيهات ترجع إلى هذا، الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ [البقرة:1-2]، الم اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ [آل عمران:1-3]، وهكذا.
في قوله -تبارك وتعالى-: ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ [القلم:1-2]، فهنا لم يذكر الكتاب، ولكنه ذكر النعمة وهي: الوحي والنبوة، فهذا يرجع إلى الكتاب، وهكذا.
فهذا لعله أقرب وأرجح الأقوال -والله أعلم- والعلماء لهم في ذلك أقوال كثيرة جدًا، أوصلها بعضهم إلى أربعين قولاً، وكذلك في كلامهم على هذه الحروف من جهة أنواعها وأوصافها، لكن المقام هنا لا يحتمل إلى ذلك، وقد ذكرته تفصيلاً في الكلام على التفسير، كان ذلك قبل أكثر من عشر سنوات.
فهنا افُتتحت هذه السورة بهذه الحروف المقطعة، إشارة إلى التحدي، وهذه السورة كما ذكرنا تدور على موضوعين ومحورين أساسيين:
الأول: يتعلق بالنصارى والرد عليهم، والموضوع الآخر: هو ما يتعلق بغزوة أُحد، فبعض أهل العلم يقول: إن الافتتاح بالحروف المقطعة مناسب لما يُذكر بعده من الرد على أهل الكتاب من النصارى، وذلك أنها من جهة تُشير إلى التحدي، ومن جهة فإنها تجذب النظر من أجل التعرف على ما يُذكر بعدها، لما تُذكر هذه الحروف المقطعة كأن السامع ينجذب ذهنه لما سيُذكر بعد ذلك، فيكون ذلك أدعى إلى حضور القلب والاستشراف لما يذكره الله -تبارك وتعالى-، وهذا الذي يسمونه بحُسن الإبهام.