الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فمما ورد عن السلف فيما يتعلق ببر الوالدين وصلة الأرحام ما جاء عن محمد بن المنكدر -ومحمد بن المنكدر -رحمه الله- من أئمة التابعين، وهو ابن خال عائشة -ا، أم المؤمنين- أنه كان يضع خده على الأرض، ثم يقول لأمه: قومي ضعي قدمك على خدي[1]. إمام وعابد وعالم يقول مثل هذا الكلام.
يقول محمد بن المنكدر: بات أخي يصلي، وإخوان محمد: واحد يقال له: أبو بكر، وواحد آخر اسمه عمر، يقول: بات أخي يصلي وبت أغمز قدم أمي، يقول: وما أحب أن ليلتي بليلته، يعني: صنيعه بأمه هذا يفضل عنده قيام الليل.
وجاء عن أبي بكر بن عياش -وهو أحد أئمة السنة- أنه قال: كنت مع منصور بن المعتمر جالساً في بيته، -ومنصور بن المعتمر إمام- فتصيح به أمه وكانت فظة عليه، شديدة غليظة، تصيح عليه، فتقول: يا منصور يريدك ابن هبيرة على القضاء فتأبى؟[2] تقول: لماذا ترفض القضاء؟ والسلف كانوا يتحرجون من هذا؛ لأن النبي ﷺ قال: قاضيان في النار وقاضٍ في الجنة[3]، وهو واضع لحيته على صدره ما يرفع طرْفه إليها.
ما رد عليها ولا غضب، ولا قال: أحرجتيني بالرجل، وما قال لها: أنت ما تعرفين هذه الأشياء أصلاً، وما شأنك بها.
وكان كَهْمس بن الحسن التميمي برًّا بأمه، فلما ماتت حج وأقام بمكة حتى مات، قيل: إنه أراد قتل عقرب -هذا من بره بأمه- أراد قتل عقرب فدخلت في جحر، فأدخل أصبعه خلفها ليخرجها فضربته العقرب، فقيل له: لماذا فعلت هذا؟ قال: خفت أن تخرج فتجيء إلى أمي تلدغها[4].
وجاء عن إبراهيم بن هاشم أنه قال: لما نزل جرير بن عبد الحميد الكوفي ببغداد على ابن المسيب، فلما عبر إلى الجانب الشرقي جاء المد -يعني: النهر- فقلت لأحمد بن حنبل: تعبر؟ فقال: أمي لا تدعني، أمي ما تسمح لي أني أعبر النهر في حالة المد، الإمام أحمد أمه ما تسمح، فجلس، يقول: فعبرت أنا، مع أنه كان في غاية الحرص من أجل أن يصاحب هذا الإمام، ويكتب عنه الحديث ونحو ذلك، لكن وقف عند رغبة أمه[5].
وهذا جعفر الخَلَدي يقول: كان الأبّار من أزهد الناس، استأذن أمه في الرحلة إلى قتيبة، يعني: الرحلة لكتابة الحديث، لطلب العلم، فلم تأذن له فجلس، ثم ماتت فخرج إلى خراسان، ثم وصل بلخ وقد مات قتيبة الذي كان يريد أن يذهب إليه ليكتب عنه الحديث، فكانوا يعزونه على هذا، فقال: هذه ثمرة العلم، إني اخترت رضا الوالدة، يعني العلم يدعو للعمل، أتعلم لماذا؟، وأكتب الحديث لماذا؟ من أجل أن أطبق[6].
وجاء من كلام محمد وهو الحكيم الترمذي: ليس في الدنيا حمل أثقل من البِّر، فمَن برّك فقد أوثقك، ومن جفاك فقد أطلقك[7].
يعني: من برّك يكون قد أسرك ببره، ومن جفاك فقد أطلقك، لا يكون له إحسان وفضل عليك.
ويقول الحسن بن سفيان: إنما فاتني يحيى بن يحيى، هذا أيضاً من أئمة السنة، يقول: إنما فاتني يحيى بن يحيى بالوالدة لم تدعني أخرج إليه، قال: فعوضني الله بأبي خالد الفراء[8].
وأخبارهم في هذا كثيرة، أبو حنيفة -رحمه الله- يعني كما قيل: أزهد الناس في العالِم أهلُه، أبو حنيفة أمه كانت تأمره أن يذهب بها إلى فقيه من أجل أن تستفتيه، فكان يأخذ بيدها ويذهب بها إليه، بل إلى واعظ وليس إلى فقيه من أجل أن تسأله، فيأخذ بيدها برًّا بها ويذهب إلى هذا الواعظ من أجل أن تسأله[9].
وآخر كان إذا جلس مع تلامذته وكذا خرجت إليه أمه وقالت: أطعم الدجاج، فيقوم ويترك تلامذته ويذهب ويطعم الدجاج، هكذا كانت أخلاقهم، وهكذا كانت تربيتهم، وهكذا كان العلم دليلاً لهم على العمل، ومرضاة الله .
وجاء من شعر الإمام الطرطوشي المالكي:
لو كان يدري الابنُ أيّة غصَّةٍ | يتجرع الأبوانِ عند فراقه |
أمٌّ تهيم بوَجدِه حيرانة | وأبٌ يَسحُّ الدمع من آماقه |
يتجرعان لبيْنه غُصص الرَّدى | ويبوحُ ما كتماه من أشواقه |
لرثا لأم سُلَّ من أحشائها | وبكى لشيخٍ هام في آفاقه |
ولبدَّل الخُلقَ الأبيَّ بعطفه | وجزاهما بالعَذبِ من أخلاقه |
وهذا الإمام ابن عساكر صاحب التاريخ الكبير المعروف سئل: لماذا تأخر عن الرحلة إلى أصبهان من أجل كتابة العلم؟ قال: استأذنت أمي في الرحلة فما أذنت لي، ما غضب عليها، ونفض يده في وجهها، وتركها، واليوم الواحد يسافر مع أصدقائه حتى لربما ما يستأذن ولا يخبر والديه، ولربما زجرهما غاية الزجر، أمه تتوسل، أمه كذا.
وأحد الأشخاص -ذكر لي بعدما تاب، يقول: إنه كان قد سافر سفراً محرماً للفجور وأبوه في حال الاحتضار، ومات أبوه، ولم يشهده، وهو يعلم أنها اللحظات الأخيرة وسافر.
ويحكي عن أخيه لما مات، عن أخيه الأكبر يقول: كان يعني مثل هذا الشخص الذي كان يحدثني ومنّ الله عليه بالهداية، كان في غاية السوء، يقول: لما كان عند الموت في الاحتضار كان يؤشِّر لهم يريد سيجارة.
فأقول: الإنسان ينبغي أن يرجع إلى نفسه وينظر ويفكر هل هو بار فعلاً، ماذا قدم لأبويه، كيف تعامله معهم، هل يحقق رغبة الوالدين، هل نفوسهم طيبة تجاهه، إذا منعاه من شيء ما هو موقفه؟، إذا عاتباه، إذا ذكر الوالد أو الوالدة رأياً يخالف رأيه أو سمع منهما شيئاً لا يعجبه، أحياناً يتكلم الأب عن شيء، أو الأم مسكينة، قد يتكلمان عن أمور قد لا يكون لهم بها معرفة، لكن دائماً: لو أنك ذهبت إلى البلد الفلاني، ما ذهبت إلى البلد الفلاني، لو أنك بنيت الأرض الفلانية، ما بنيت الأرض الفلانية، لو أنك وسعت المكان الفلاني وكذا، ودائماً يعاد هذا الكلام أحياناً فيضجر، ولربما يرد برد فيه تذمر أو نحو هذا، إلى غير ذلك من الأمور الكثيرة المتكررة التي تحصل للناس، ويحصل بسببها شيء من التعنيف أو الرد الغليظ، بل ما زلت أذكر أحد الأشخاص رجل كبير في السن وكان مؤذن مسجد، كان يبكي ويقول: إن ولده يضع المسدس على رأسه ويطالبه بالمال، وهو رجل فقير ليس عنده إلا مال يسير من الأذان، وهذا الولد مبتلى ببلايا ومخدرات وأشياء.
وأم أخرى كانت تدعو على ولدها قائمة وقاعدة أن يموت، وحصل له أكثر من مرة أنه سقط، وأغمي عليه، ومرة صُدم وما مات، فكانت تقول: كل الناس يحصل لهم أشياء ويموتون إلا هذا الولد ما يموت، تتغيظ عليه، ولما مرضت واشتد بها المرض وأصابتها أمراض موجعة مدة طويلة جدًّا، وكانت تتألم غاية التألم، ما تستطيع أن يلمسها أحد من الآلام التي في جسمها كانت تعزو هذا إلى ما أورثه هذا الولد لها من الهم والغم والعنت، وكانت تقول وهي في حال الموت: لا يدخل عليّ، لا أراه، تقول: إذا رأيته رأيت الموت، حتى فارقت الدنيا.
فأقول: الإنسان ينبغي دائماً أن يفكر، وقد لا نعرف هذه المشاعر إلا إذا جاءنا أولاد، فإذا رأينا منهم الرد القاسي عرفنا مشاعر الأب، وإذا رأينا منهم جفوة عرفنا مشاعر الأبوين، وإذا مرض أحد هؤلاء الأولاد كيف يحصل للإنسان الألم والضيق، ويتمنى أن المرض فيه هو وليس في الولد، هكذا مشاعر الأبوين، فينبغي أن يصدر منا الإحسان والبر والكلام الطيب والمعروف، ولا يبخل الإنسان على أبويه بشيء.
نسأل الله أن يلطف بنا ويرزقنا جميعاً البر والصلة، وأن يتولانا برحمته، ويغفر لوالدينا ولإخواننا المسلمين، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.
- الطبقات الكبرى ص: (191).
- تاريخ الإسلام للذهبي، (8/ 548).
- أخرجه الترمذي، أبواب الأحكام عن رسول الله -ﷺ، باب ما جاء عن رسول الله ﷺ في القاضي، (3/ 605)، برقم: (1322)، وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى، كتاب آداب القاضي، باب ما على القاضي في الخصوم والشهود، (10/ 199)، برقم: (20355)، وصححه الألباني، في صحيح الجامع الصغير وزيادته (2/ 819)، برقم: (4447).
- سير أعلام النبلاء (6/ 317).
- تاريخ بغداد وذيوله (7/ 266).
- تذكرة الحفاظ، للذهبي (2/ 157).
- سير أعلام النبلاء (10/ 466).
- تاريخ دمشق لابن عساكر (13/ 102).
- تاريخ بغداد وذيوله (13/ 363).