الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
ففي "باب تلقين المحتضر" أورد المصنف -رحمه الله- حديث معاذ قال: قال رسول الله ﷺ: من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة[1]، رواه أبو داود، والحاكم، وقال: صحيح الإسناد.
قوله: من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة، هل المراد بذلك أنه يدخل الجنة من غير أن يدخل النار من غير أن يلج النار؟ أما أن المقصود أن مصيره إلى الجنة ولو عذب؟ ولو دخل النار مدة؟
هذا الحديث يمكن أن يفسره حديث آخر ذكر فيه النبي ﷺ أن: من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة، وإن ناله ما ناله قبل ذلك[2]، يعني وأن حصل له شيء من العذاب قبل ذلك، أو كما قال -عليه الصلاة والسلام-، وبهذا فسره بعض أهل العلم، قالوا: المراد هو هذا أنه يدخل الجنة، يعني أن مآله إلى الجنة لكن لا يعني أنه قد لا يعذب، إذًا ما مزية هذا؟!
معلوم أن المؤمن يدخل الجنة، وأنه لا يخلد في النار، ولو لم يكن آخر كلامه لا إله إلا الله، فصار هذا مساويا مع غيره فلم يكن له مزية، ويوجد في حديث آخر أنه قال -عليه الصلاة والسلام-: لم يدخل النار[3]، ومن ثم ذهب بعض أهل العلم إلى أن المراد بقوله: دخل الجنة، يعني: أنه يدخل الجنة بذلك ولا يدخل النار، وهذا يحتمل على كل حال، والمسألة تحتاج إلى مزيد من التحرير والتأمل، ففيها هذا، وهذا، يعني القول بأنه لا يدخل النار يدل عليه الرواية الأخيرة التي ذكرت، والقول بأنه قد يدخل النار لكن مآله إلى الجنة يفسره الحديث الآخر وإن ناله ما ناله.
ثم ذكر حديث أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله ﷺ: لقنوا موتاكم لا إله إلا الله[4]، رواه مسلم.
لقنوا موتاكم أولاً: ما المراد بالموتى؟ هل المقصود أن ذلك يقال لمن فارق الحياة خرجت روحه، فيقال له: يا فلان قل لا إله إلا الله يعني من أجل سؤال الملكين إذا وضع في قبره مثلاً، وقال له بعد موته، هكذا فهم بعض أهل العلم باعتبار أنه ميت لقنوا موتاكم، فسماه ميتًا قالوا هذا هو الحقيقة من فارقت روحه الجسد فهذا الذي يقال له: ميت، وأما من كان في النزع فإنه لا يقال له: ميت إلا مجازًا؛ هكذا عند القائلين بالمجاز قالوا والحقيقة مقدمة على المجاز، ولكنه يرد على هذا يقال حتى لو كان هذا على قولكم من قبيل المجاز فإنه لا بأس من الحمل على المجاز إذا وجدت قرينة تدل على ذلك.
فهنا: لقنوا موتاكم لا إله إلا الله، جاء ما يدل على أن المقصود أن يقال ذلك لمن حضره الموت لمان كان في النزع هذا دل عليه أدلة مما يدل على ذلك أن النبي ﷺ قال لأبي طالب: قل لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله[5]، قالها له وهو في مرض الموت.
وكذلك أيضا قالها النبي ﷺ دعا إليها اليهودي الغلام الذي مضى الحديث الوارد فيه[6]، وهذا التلقين، وهذا هو الراجح هذا الذي عليه الجمهور أن المقصود أن ذلك يقال للمحتضر لمن كان في حال الاحتضار يلقن لا إله إلا الله، وليس المقصود الذي خرجت روحه، وإن قال بعض أهل العلم: إن المقصود من مات قد خرجت روحه هذا الذي ذهب إليه كثير من الشافعية، واختاره العلائي منهم، وكذلك جمع من أهل العلم، لكن الأقرب أن ذلك يقال لمن حضره الموت.
وهذا التلقين هل المقصود أن يقال بحضرته: لا إله إلا الله يذكر بها حتى يقولها، وأنه كما يقول بعض أهل العلم: لا يقال له: يا فلان قل لا إله إلا الله، قالوا: من أجل ألا يحصل له أو يصدر منه نفور فيقول كلامًا آخر يضره، ولربما قال: لا أقولها أو نحو ذلك؛ لأنه يكون في حال من الشدة والصعوبة، فبعض أهل العلم يقولون: يقال بحضرته: لا إله إلا الله، لا إله إلا الله حتى يسمع فإذا قالها سكتوا عنه من أجل أن يموت عليها، ولكن يدل على أنه يقال له: قل لا إله إلا الله ما ورد أيضًا في السنة حيث جاء ذلك صريحًا أن التلقين يقصد به أن يقال له: قل لا إله إلا الله، لكن يقال له: ذلك بلطف ورفق فإذا قالها سكتوا عنه، فإذا تكلم بكلام آخر فإنه يعاد ذلك عليه من أجل أن يموت على هذه الكلمة، وظاهر الحديث الأول: من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة، لا يدل على أنه لا يعذب، ولكن كثير من أهل العلم فهموا منه أنه يدخل الجنة ولا يدخل النار، والأمر كما سبق يحتمل وإلا فما مزية هذا على غيره من أهل الإيمان وإن لم يكن آخر كلامه لا إله إلا الله.
ثم ذكر "باب ما يقوله بعد تغميض الميت إذا مات"، إذا فارقت الروح الجسد فإن من السنة أن تغمض عين الميت؛ لأن بصره يشخص فيكون في هيئة غير مستساغة، هيئة لربما تنفر منها النفوس؛ لكون هذا البصر قد شخص، ولأن العين تجمد وتتغير هيأتها ولونها فلا يكون بصورة مرغوبة فتغمض العين، ثم إن ذلك أيضًا لانتفاء الحاجة منها البصر انتهى فلا حاجة لبقائها هكذا مفتوحًا فتغمض عينه هذه هي السنة.
وذكر حديثا واحدا وهو حديث أم سلمة -ضي الله عنها- قالت: "دخل رسول الله ﷺ على أبي سلمة وقد شق بصره"، يعني بعدما خرجت روحه، شق بصره: يعني شخص بصره، بقيت عيناه مفتوحتان "فأغمضه"، ثم قال: إن الروح إذا قبض تبعه البصر[7]، هذا إخبار عن أمر غيبي، البصر يتبع الروح إذا قبض هل البصر يبقى يرى بعد خروج الروح تبعه البصر الأصل أنه إذا مات تعطلت حواسه، وإدراكاته فلا يرى ولا يحس، فهنا يقول النبي ﷺ تبعه البصر الحافظ ابن حجر -رحمه الله- يذكر[8] أنه بقي ثلاثين سنة وهو يقلب النظر ويتأمل في هذه الجملة ما المراد بها تبعه البصر؟، والروح خرجت فكيف يراها البصر فخرج بمعنى وهو أن الروح يبدأ بالخروج من الجسد شيئًا فشيئًا فتبرد رجلاه تموت أطرافه السفلى، ثم ترتفع الروح شيئًا فشيئًا من الجسد حتى تصل إلى الحلقوم، ثم بعد ذلك تخرج من الفم فيبقى بقية يعني يخرج بعضها فيبقى بقية البصر لا زال يعني الرأس لا زال يبصر فتخرج فيتبعها هذا البصر حتى يخرج آخرها فيبقى البصر على حاله ينظر إلى هذه الروح، هذا الذي ذكره الحافظ ابن حجر يقول: بقيت ثلاثين سنة وأنا أنظر وأتأمل كيف البصر يرى بعدما خرجت الروح ففسره بهذا المعنى، وهذا يحتمل، ونحن نشاهد الآن البهائم يقطع الرأس أحيانًا وتجد العين لا زالت واضح أنها الجفن يتحرك ولربما خاصة بعض البهائم والدواب التي تبطئ ما تموت، ولذلك يقولون: الحية إذا قطع رأسها قطع تمامًا خلاص انتهى مع ذلك تجد العين لربما تتحرك، ويقولون: من الخطأ إذا قطعت رأسها أن تقترب من الفم؛ لأنها ممكن أن تلدغ ورأسها مقطوع، يعني ما ماتت تمامًا لا زالت.
وكذلك أيضا الضب يقطع الرأس تمامًا والعين لازالت بل يعض ورأسه مقطوع تمامًا، فـالله تعالى أعلم، فقد يكون بقيت بقية من الروح، وأن الروح تخرج شيئًا فشيئًا من أجزاء الجسد، ومن أهل العلم من يقول: إن مثل هذا يعتبر في حال كالميت فإن الروح في حال الخروج يعتبر موت، ولكن مثل حياة يعني الحياة الباقية لا شيء فهي مثل حياة المذبوح حتى ذكره بعضهم في قوله: لقنوا موتاكم، أنه سماه ميت باعتبار أنه خلاص انتهى فحاله حال الأموات وإن كانت الروح لم تخرج بالكلية، فهنا هذا احتمال.
وبعضهم يقول: قد يكون لها نوع ارتباط بالجسد فتبصر الروح، وقد يكون هذا مستثنى، المهم أن الحديث قول النبي ﷺ الذي لا ينطق عن الهوى يدل على أن البصر يرى الروح ويتبعها، فضج ناس من أهله، يعني رفعوا الأصوات بالبكاء لماذا رفعوا أصواتهم بالبكاء؟
رفعوا أصواتهم بالبكاء إما لأنهم تحققوا أنه مات لما سمعوا هذا الكلام إن الروح إذا قبض تبعه البصر عرفوا أنه مات، يعني ليست إغماءة فضجوا في البكاء، الناس لربما يرجون أنه لازال أنه مغمى عليه فلما سمعوا هذا عرفوا أنه فارقًا الحياة، أو يكون هؤلاء قد عرفوا أنه مات، ولكن لما سمعوا مثل هذه الجملة حرك ذلك دواعي النفوس والموت لا شك أنه أمر عظيم، وهو مصيبة كما قال الله : فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ [المائدة:106]، وهذا أمر لا يدركه إلا من عاش تلك اللحظات مات له قريب، مات له أحد ولو كان مريضًا مدة طويلة.
فالموت له شأن فهي لحظات لا يمكن للإنسان أن يصفها تختلط فيها المشاعر، فقال: لا تدعوا على أنفسكم إلا بخير؛ لأن بعض الناس يدعو أن الله يأخذه، لا تدعوا على أنفسكم إلا بخير فإن الملائكة يؤمنون على ما تقولون[9]، يعني في تلك اللحظة فيدل على أن هذا وقت من أوقات الإجابة، وهو هذا الوقت الذي فارقت فيه الروح الجسد، وهو وقت الملائكة يؤمنون، وهذا من دواعي الإجابة، ثم قال النبي ﷺ دعا له قال: اللهم اغفر لأبي سلمة.
إذًا هذا من الأوقات التي يدعا فيها للميت إذا خرجت روحه: اللهم اغفر لأبي سلمة وارفع درجته، أبو سلمة معروف أنه من المهاجرين عبد الله بن عبد الأسد من بني مخزوم، وارفع درجته في المهديين، في المهديين يعني ارفع درجته في الذين هداهم الله ، واجتباهم واصطفاهم من أهل الهداية، قال: واخلفه في عقبه في الغابري[10]، يعني اخلفه في عقبه يعني فيمن يعقبه في الغابرين، يعني في الباقين.
واغفر لنا وله، فدعا له -عليه الصلاة والسلام- لنفسه ومن حضر واغفر لنا وله يا رب العالمين، وافسح له في قبره، ونور له فيه، رواه مسلم.
هذا مما يقال بعد خروج الروح، يقال: "اللهم اغفر لفلان وارفع درجته في المهديين، واخلفه في عقبه في الغابرين، واغفر لنا وله يا رب العالمين، وافسح له في قبره، ونور له فيه"، بعض الناس يقولون: عندنا الآن محتضر ماذا نفعل ماذا نقول: أما ما ورد من قراءة سورة يس الأحاديث الواردة في أنها تقرأ على الموتى اقرأوها على موتاكم فإنه لا يصح في ذلك حديث، جميع الأحاديث ضعيفة لا يصح في سورة يس حديث، -والله أعلم-.
- أخرجه أبو داود، كتاب الجنائز، باب في التلقين، برقم (3116)، والحاكم في المستدرك، برقم (1299)، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (6479).
- أخرجه ابن حبان في صحيحه، برقم (3004)، والهيثمي في موارد الظمآن إلى زوائد ابن حبان ت حسين أسد (2/463)، برقم (719)، ولفظه: ((مَنْ كَانَ آخِرَ كَلامِهِ لا إله الاَّ اللهُ عِنْدَ الْمَوْتِ، دَخَلَ الْجَنَّةَ يَوْمًا مِنَ الدَّهْرِ، وَإِنْ أصَابَهُ قَبْلَ ذلِكَ مَا أصَابَهُ))، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (5150).
- أخرجه أحمد في المسند، برقم (22060)، وقال محققوه: "حديث صحيح".
- أخرجه مسلم، كتاب الجنائز، باب تلقين الموتى لا إله إلا الله، برقم (916).
- أخرجه البخاري، كتاب مناقب الأنصار، باب قصة أبي طالب، برقم (3884)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب أول الإيمان قول لا إله إلا الله، برقم (24).
- أخرجه البخاري، كتاب الجنائز، باب إذا أسلم الصبي فمات، هل يصلى عليه، وهل يعرض على الصبي الإسلام، برقم (1356).
- أخرجه مسلم، كتاب الجنائز، باب في إغماض الميت والدعاء له إذا حضر، برقم (920).
- انظر: تحفة المحتاج في شرح المنهاج وحواشي الشرواني والعبادي (3/95)، ودليل الفالحين لطرق رياض الصالحين (6/394).
- أخرجه مسلم، كتاب الجنائز، باب في إغماض الميت والدعاء له إذا حضر، برقم (920).
- أخرجه مسلم، كتاب الجنائز، باب في إغماض الميت والدعاء له إذا حضر، برقم (920).