الحمد لله، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله.
أما بعد: فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته،
مما جاء من أذكار المساء والصباح: ما رواه الإمامُ مسلم -رحمه الله- في "صحيحه" من حديث عبدالله بن مسعودٍ قال: "كان نبيُّ الله ﷺ إذا أمسى قال: أمسينا وأمسى الملكُ لله، والحمد لله، لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيءٍ قدير، ربِّ أسألك خيرَ ما في هذه الليلة، وخيرَ ما بعدها، وأعوذ بك من شرِّ ما في هذه الليلة، وشرِّ ما بعدها، ربِّ أعوذ بك من الكسل، وسُوء الكِبَر، ربِّ أعوذ بك من عذابٍ في النار، وعذابٍ في القبر، وإذا أصبح قال أيضًا: أصبحنا وأصبح الملك لله ...[1]، إلى آخره.
هذا الحديث أخرجه الإمامُ مسلم -رحمه الله- في "صحيحه"، وجاء بشيءٍ من المغايرة، في بعض الألفاظ مُغايرات يسيرة عند مسلم في بعض رواياته، وعند غيره: كأبي داود -رحم الله الجميع-.
فقوله: "كان نبيُّ الله ﷺ إذا أمسى قال"، هذه الصِّيغة: كان يفعل، كان يقول، كان إذا أمسى؛ أنَّ ذلك يدلّ على المداومة.
وكذلك أيضًا ما علّق على "كان" شرط: كان إذا أمسى، (إذا) أداة شرطٍ، فإذا علّق بها فإنَّ ذلك يتكرر مع تكرر حصول مُقتضى هذا الشَّرط: كان إذا أمسى، يعني معناها: كلَّما دخل في المساء قال ذلك.
وقوله: أمسينا وأمسى الملكُ لله، (أمسينا) يعني: دخلنا في المساء، ودخل فيه (الملك) كائنًا لله -تبارك وتعالى-، ومختصًّا به، أو أمسينا وقد صار الملكُ لله -تبارك وتعالى-.
والحمد لله هذا يحتمل أن يكون عائدًا معطوفًا على قوله: أمسينا وأمسى الملكُ لله يعني: صرنا نحن وجميع الملك وجميع الحمد لله: أمسينا وأمسى الملك لله، والحمد لله يعني: كلّ ذلك لله ، يعني: الملك لله، وأنَّ الحمدَ لله، لا لغيره، أو أن تكون جملة: الحمد لله جملة جديدة مُستقلّة، والتَّقدير: والحمد لله على ذلك، أمسينا وأمسى الملك لله والحمد لله على ذلك.
ولا إله إلا الله وهذه كلمة التوحيد، وأنها تتضمن النَّفي والإثبات كما سبق، لا إله إلا الله لا معبودَ بحقٍّ إلا الله وحده، فـ(وحده) هنا هذا توكيدٌ لجانب الإثبات فيها: لا إله إلا الله وحده أي: مُنفردًا بالألوهية، لا شريكَ له، هذا تأكيدٌ لجانب النَّفي في هذه الكلمة: (لا إله)، (لا شريكَ له) أي: في صفات الربوبية، فجاء هذا التوكيد.
إذن يكون المعنى على أحد الأوجه التي ذكرنا: أمسينا يعني: دخلنا في المساء، وأمسى الملك لله أي: علمنا وأقررنا وعرفنا بأنَّ الملكَ لله، والحمد له، لا لغيره، فالتجأنا إليه وحده، واستعنَّا به، وخصَّصناه بالعبادة والثَّناء عليه، والشُّكر له؛ ولهذا أعلن بعدها كلمةَ التوحيد لما عرف أنَّ الملكَ لله، وأنَّ الحمد لله، إذن هو المستحقّ أن يُعبد وحده لا شريكَ له، فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، الملك كلّه له، والحمد كلّه له، إذن ينبغي أن تكون العبادةُ له دون ما سواه؛ لأنَّه لا يستحقّ أحدٌ ذلك إلا الله -تبارك وتعالى-، فهذه كلمة التوحيد جاءت بعد هذه الجُمَل، وذلك في غاية المناسبة.
ولا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيءٍ قدير له الملك، كل الملك، جنس الملك فهو لله -تبارك وتعالى-، وما بأيدي المخلوقين من ذلك فإنما هو بإعطاء الله ، وهو عاريةٌ، وسينتقل ذلك جميعًا لله ؛ ولهذا في سورة الفاتحة: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة:4]، فأضاف ذلك إلى يوم الدِّين؛ لأنَّه لا يدَّعي الملك في ذلك اليوم أحدٌ سوى الله -تبارك وتعالى-.
فهنا: له الملك، وله الحمد والحمد: جنس الحمد، يعني: بجميع صوره، وأفراده، وأشكاله، وأنواعه.
له الحمد، وهو على كل شيءٍ قدير، على كل شيءٍ قديرٌ، لا يُعجزه شيءٌ، ولا يمتنع عليه شيءٌ، فما أراد كان، فهو كامل القُدرة، تام الإرادة، فلمَّا أقرَّ له بالوحدانية أتبع ذلك بالإقرار له بالملك والحمد والقُدرة: على كل شيءٍ قديرٌ، كل هذا له -تبارك وتعالى-، وبيده ملكوت كل شيءٍ، وله الحمد كلّه ملكًا واستحقاقًا، وهو على كل شيءٍ قديرٌ: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا [فاطر:44].
وفي الإتيان بهذه الجُمل التي تشتمل على هذه المعاني العظيمة: الثَّناء على الله -تبارك وتعالى-، والإقرار له بالوحدانية، والملك، والقُدرة، والحمد، كلّ هذا إنما هو مُقدمة بين يدي هذا السؤال، وهذا الدُّعاء، وهذا أرجا في الإجابة؛ ولهذا يقول بعده: اللهم إني أسألك، أو ربِّ أسألك على اختلافٍ في الألفاظ والرِّوايات: خير هذه الليلة، وفي بعضها: من خير هذه الليلة.
ربِّ أسألك خيرَ ما في هذه الليلة، يعني: أسألك نصيبًا وحظًّا وافرًا من خير هذه الليلة: وخير ما فيها خير ما ينشأ فيها، كما يقول بعضُ أهل العلم، خير ما يسكن فيها: وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ [الأنعام:13]، والمراد بـخير ما فيها أي: مما أردتَ وقوعه فيها لخواصِّ خلقك من الكمالات الظَّاهرة والباطنة، وخير ما يقع فيها من العبادات التي أُمرنا بها فيها، أو أنَّ المراد خير الموجودات التي قرن وجودها هذه الليلة، وخير كل موجودٍ الآن.
فالحاصل أنَّه يسأل ربَّه -تبارك وتعالى- خيرَ ما في هذه الليلة، خيرَ ما فيها من كل خيرٍ من العبادات والأعمال وما إلى ذلك مما يعلمه، وما لا يعلمه مما يقضيه الله ويُقدّره، فإنَّ الليلَ والنَّهارَ إنما هما ظرفٌ لهذه المقادير، تقع فيهما، ومن ثم فجاءت الاستعاذةُ هنا، والسُّؤال كذلك.
فهنا ذكر العبدُ حاجته بعد هذا الثَّناء على الله -تبارك وتعالى-: أسألك خيرَ ما أردتَ وقوعه في هذه الليلة للصَّالحين من عبادك من أنواع الفضائل والخيرات، والبرّ والكمالات، من المنافع الدِّينية والدُّنيوية، فإنَّ الخيرَ يشمل ذلك كلّه.
وخيرَ ما بعدها، ما بعدها من الليالي، فهو لا يقتصر على هذه الليلة فحسب، انظروا ما الذي اشتمل عليه مثل هذا الدُّعاء، وأعوذ بك من شرِّ ما في هذه الليلة، وشرِّ ما بعدها أي: أعتصم بك، وألتجئ إليك من شرِّ ما أردت وقوعه فيها من شرورٍ ظاهرةٍ وباطنةٍ، وهذا يشمل جميع أنواع الشُّرور من المعاصي، والأدواء، والآفات، والمصائب، والأمراض، وكذلك ما يصل من أذى الناس وغيرهم من المخلوقات التي يعوذ بالله من شرورها.
ربِّ أعوذ بك من الكسل وسُوء الكِبر الكسل هو التَّثاقل في الطَّاعة مع الاستطاعة، يعني: ليس بعاجزٍ، فهو مُستطيعٌ، قادرٌ، ولكنَّه يتثاقل عنها، يتثاقل عمَّا لا ينبغي التَّثاقل عنه، فلا تنبعث نفسُه للقيام به، لا ينشط لعمل الخير والطَّاعة والبرّ والمعروف مع وجود القُدرة والاستطاعة، فهذا الكسل هو الذي يُقعده عن المطالب العالية، والخيرات الدُّنيوية والأُخروية، فالنبي ﷺ استعاذ منه، وعلَّمنا هذه الاستعاذة.
تصور هذا نُردده في كل صباحٍ، وفي كل مساءٍ؛ نستعيذ بالله من الكسل، فدلَّ على أنَّ الكسلَ داءٌ عُضال، وأنَّه هو الذي يُقعدنا عن فعل ما ينبغي كما ينبغي، في الوقت الذي ينبغي، فيُسوِّف الإنسانُ، ويُرجِّي، ويتثاقل، ويتباطأ حتى يفوته من الخير ما يفوته.
فالنبي ﷺ استعاذ من ذلك، ومَن كان بهذه المثابة: يقعد عن البرِّ والخير، والمعروف، والطَّاعة من غير عذرٍ؛ فذلك يكون مذمومًا.
وقوله: وسُوء الكِبر سُوء الكِبر يعني: ما يُورثه الكِبر من الأمور التي لا تخفى، فالكِبر يُورث وهن البدن، وهن العظام، الضَّعف، والعجز، يُورثه العلل المتنوعة، ويُورثه أيضًا ضعفَ العقل، وتموت خلايا الدِّماغ، ثم بعد ذلك يبدأ الإنسانُ لا يعقل، ولا يعيي، ولا يعرف أقرب الناس إليه.
فهذا كما سبق في الكلام على استعاذة النبي ﷺ من الهرم، وذلك أرذل العُمر، وقد مضى الكلامُ على شيءٍ من ذلك أيضًا في التَّفسير، فيصير الإنسانُ إلى حالٍ بعد القُدرة والقوة والعلم والعقل؛ إلى حالٍ لا يعلم بعد علمٍ شيئًا، فالنبي ﷺ استعاذ من هذه الحالة.
وتكلمنا في بعض المناسبات في الجمع بين هذا وما جاء من قوله ﷺ: خيركم مَن طال عمره وحسُن عمله[2]، وقلنا: هذا لا مُنافاةَ بينهما؛ فإنَّ المقصودَ هنا مما استعاذ منه النبي ﷺ هو الهرم الذي لا يستطيع معه أن يتزود بالأعمال الصَّالحة، وإنما يكون عالةً على غيره، قد صارت قُواه العقليَّة والبدنيَّة واهنة، فهذا بقاؤه بهذه الحال لا يتزود معها من الأعمال الصَّالحة؛ فيحصل عنده اختلاطٌ في عقله، وضعفٌ في بدنه.
وبعضهم ضبطه بسكون الباء: وسوء الكِبْر قالوا: ما يُورثه الكِبر من البطر والأَشَر والتَّعاظم والتَّعالي على الناس، ولكن المشهور هو الأول.
ثم يقول: ربِّ إني أعوذ بك من عذابٍ في النار، وعذابٍ في القبر، أعوذ بك من عذابٍ في النَّار هنا نكَّر العذابَ في الموضعين: عذاب في النار، وعذاب في القبر، فهذا الذي قد جاء مُنكَّرًا، التَّنكير تارةً يكون للتَّهويل والتَّعظيم، وهذا الذي فهمه بعضُ أهل العلم من هذا التَّنكير هنا؛ قالوا: لهول عذاب القبر، وهول عذاب النار جاء بهذه الصِّيغة مُنكَّرًا: أعوذ بك من عذابٍ في النار؛ لعظمه نكَّره، والتَّنكير أحيانًا يأتي للتَّقليل، وأحيانًا للتَّحقير والتَّصغير، ونحو ذلك.
فبعض أهل العلم قالوا: هذا للتَّقليل، وليس للتَّفخيم: أعوذ بك من عذابٍ في النار، كيف يكون المعنى؟
يعني: أعوذ بك من عذابٍ في النار ولو كان يسيرًا، وأعوذ بك من عذابٍ في القبر ولو كان قليلًا، فإنَّ ذلك في الواقع شديدٌ، صعبٌ، لا يُطيقه الإنسان، هكذا مَن فسَّره بأنَّه للتَّقليل، والمعنى: ربِّ أعوذ بك من عذابٍ في النار يعني: (أعوذ) بمعنى: أستجير بك من أن ينالني، وأن يحلّ بي عذابُ النار وعذابُ القبر.
وهنا قد يرد سؤالٌ: لماذا خصَّ هذين العذابين: عذاب في النار، وعذاب في القبر، مع أنَّ هناك أهوال القيامة؟
يمكن أن يُقال: بأنَّ القبرَ هو أول منازل الآخرة، وإذا كان حالُ الإنسان فيه مرضيًّا، على حالٍ من النَّعيم؛ فإنَّ ذلك مُؤذنٌ بالنَّعيم بعده، وإذا كان في عذابٍ وجحيمٍ في هذا القبر؛ فإنَّ ذلك يدلّ على حالٍ بائسةٍ بعده؛ ولهذا فإنَّ المؤمن حينما يرى مقعدَه من الجنة، ويرى نعيمَ الجنة وهو في القبر؛ يقول: ربِّ، أقم السَّاعة، ربِّ، أقم السَّاعة. وأمَّا الكافر فإنَّه يقول: ربِّ، لا تُقم السَّاعة[3]؛ لأنَّه يعلم أنَّه يصير إلى حالٍ أشد.
وذكر عذاب النار باعتبار أنَّ هولها شديدٌ، وعذابها عظيمٌ، والله أعلم.
فالحديث فيه هذا الثَّناء على الله -تبارك وتعالى-، وإظهار العبودية والافتقار إليه -تبارك وتعالى-، فبيده أزمَّة الأمور، بيده الملك كلّه، وله الحمد كلّه، وهو على كل شيءٍ قديرٌ، فيُتوجّه إليه بالتوحيد، ويُفرد بالعبادة، ويُستعاذ به مما يتخوّفه الإنسانُ في العاجل والآجل، فاشتمل ذلك على الاستعاذة من الشُّرور والآفات، وما نتخوّفه في الدنيا من شرِّ هذه الليلة، وشرِّ ما بعدها، وسؤال الخيرات العاجلة، وكذلك الاستعاذة مما يتخوّفه من أمور الآخرة، وأوّل ذلك ما يقع في القبر، ثم بعد ذلك عذاب النار، أعاذنا الله وإياكم وإخواننا المسلمين منها، والله أعلم.
وصلَّى الله على نبينا محمدٍ، وآله وصحبه.
- أخرجه مسلم: كتاب الذكر والدُّعاء والتوبة والاستغفار، باب التَّعوذ من شرِّ ما عَمِلَ ومن شرِّ ما لم يعمل، برقم (2723).
- أخرجه الترمذي: أبواب الزهد عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، باب ما جاء في طول العمر للمؤمن، برقم (2329)، وأحمد في "المسند"، برقم (17680)، وقال مُحققوه: "إسناده صحيحٌ"، وصححه الألباني في "صحيح الجامع"، برقم (3296).
- خرجه أحمد في "المسند"، برقم (18534)، وقال مُحققوه: "إسناده صحيحٌ، رجاله رجال الصَّحيح"، وصححه الألباني في "صحيح الجامع"، برقم (1676).