الجمعة 13 / جمادى الأولى / 1446 - 15 / نوفمبر 2024
(97) دعاء الاستفتاح (وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين)
تاريخ النشر: ٢٥ / ربيع الأوّل / ١٤٣٥
التحميل: 2544
مرات الإستماع: 4747

إنَّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيِّئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مُضلَّ له، ومَن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، صلَّى الله وسلَّم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد: فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.

في هذه الليلة -أيّها الأحبّة- نتحدَّث عن ذكرٍ جديدٍ من الأذكار والأدعية التي تُقال في استفتاح الصَّلاة، وذلك ما رواه علي بن أبي طالبٍ -رضي الله عنه وأرضاه-، عن النبي ﷺ أنَّه كان إذا قام إلى الصَّلاة قال: وجَّهتُ وجهي للذي فطر السَّماوات والأرض حنيفًا وما أنا من المشركين، إنَّ صلاتي ونُسكي ومحياي ومماتي لله ربِّ العالمين، لا شريكَ له، وبذلك أُمِرْتُ وأنا من المسلمين، اللهم أنت الملك، لا إله إلا أنت، أنت ربي، وأنا عبدُك، ظلمتُ نفسي، واعترفتُ بذنبي، فاغفر لي ذنوبي جميعًا، إنَّه لا يغفر الذُّنوب إلا أنت، واهدني لأحسن الأخلاق، لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عني سيّئها، لا يصرف عني سيّئها إلا أنت، لبيك وسعديك، والخير كلّه في يديك، والشَّر ليس إليك، أنا بك وإليك، تباركتَ وتعاليتَ، أستغفرك وأتوب إليك[1].

هذا الحديث أخرجه الإمامُ مسلم -رحمه الله- في "صحيحه"، وأخرجه أيضًا بعض أصحاب السُّنن[2]، ولفظه في "صحيح مسلم"، وعند مَن خرَّجه من أصحاب السُّنن، وعامَّة مَن خرَّجه من غيرهم، كالإمام أحمد[3] وغيره، كل ذلك بهذا اللَّفظ.

هنا المؤلفُ في قوله: والخير كلّه في يديك، قال: والخير كلّه بيديك، واللَّفظ الأول في مسلم، والثاني ليس في "صحيح مسلم"، وليس في عامَّة روايات هذا الحديث، ولكنَّه قد يوجد في بعض ألفاظه، ولكن الرِّواية التي عليها عامَّة الرواة وخرَّجها عامَّة المصنفين هي بهذا اللَّفظ: والخير كلّه في يديك.

فالكلام على هذا الحديث -أيّها الأحبّة- قبل الشُّروع في الكلام على جمله ومعانيه وما تضمّنه من الهدايات، كلام أهل العلم على هذا الحديث من جهاتٍ مُتعددةٍ، من هذه الجهات: أنَّ العلماء -رحمهم الله- كأنَّهم استطالوا هذا الحديث، فرأوا أنَّه طويلٌ، ومن ثَمَّ فهل كان رسولُ الله ﷺ يقوله في الفريضة؟ مع أنَّ حديثَ أبي هريرة لما سأل النبيَّ ﷺ عمَّا يقوله في سكتته، وأنَّه كان يسكت هنيةً[4]، وقلنا: هي المدّة اليسيرة، لكن النبي ﷺ لما سأله ذكر له دعاءً أو ذِكرًا غير هذا، لكن هذا مما كان يقوله ﷺ، فهل للإمام أن يقول هذا في الفريضة، فيكون ذلك تطويلاً على المأمومين؟

الآن لو أردتَ أن تقول هذا في الفريضة لشرع مَن خلفك يُسبِّحون يظنون أنَّك قد حصل لك سهوٌ في الصلاة، وجرِّب هذا، ستجد أنَّك تُبتدر بالتَّسبيح، يظنون أنَّك سهوتَ عن الجهر فيُذكِّرونك به.

ومن هنا فإنَّ أهلَ العلم تكلَّموا في هذه القضية، واستشكلوا هذا، وتنوّعت أقوالهم وآراؤهم كما سيأتي، والسَّبب هو ما ذكرتُ، هذا من جهةٍ.

ومن جهةٍ أخرى الرِّوايات والألفاظ الواردة في هذا الحديث أو ما يُشبهه في بعض ألفاظه كما سيأتي.

والأمر الثالث: هو ما جاء في "صحيح مسلم" نفسه، حيث إنَّ الإمامَ مسلم خرَّج هذا الحديث ضمن الأحاديث التي في قيام الليل، في صلاة الليل، ثم أيضًا إنَّه قد جاء في بعض الرِّوايات -كما سيأتي- الاقتصار على بعضه.

هذه الأمور مُجتمعة حملت طوائف من أهل العلم على مذاهب وآراء وأقاويل تجاه هذا الحديث، وسأُشير إلى بعضها، وإلا فهي كثيرة، وفي بعض هذه الأقوال من البُعْد ما لا يستحقّ معه أن يُذْكَر، أو أن يطول المجلس بالجواب عنه، ولكني أهدف أحيانًا إلى ذكر الأقوال، مع أنَّ هذا الكلام أعلم أنَّه يسمعه طالبُ العلم، ويسمعه غيره، ونحن في هذه المجالس نستهدف الجميع، كل أحدٍ يستفيد بحسبه، ولكن حينما أذكر مثل هذه الخلافات أعلم أننا في الوقت نفسه قد ابتُلينا بهذه الوسائل الحديثة -وسائل الإعلام الجديد- التي تحوي خيرًا وشرًّا، وربما يكون فيها من الأمور المشوشة على عامَّة الناس: أنهم يرون الآراء والأقوال تختلف، فيحصل لهم بسبب ذلك ضيقٌ وإشكالات وسؤالات: لماذا هؤلاء يختلفون؛ هذا يقول كذا، وهذا يقول كذا، والقرآن واحدٌ، والرسول ﷺ واحدٌ؟

ففي مثل هذه المواضع أحيانًا أجد أنَّ الفرصة مُناسبة للإشارة إلى أشياء توسع المدارك، فنحن مُضطرون لهذا الآن؛ لنُبين بطريقةٍ عمليةٍ: لماذا يختلفون؟ ولنقول لمن كان ناشئًا في طلب العلم أيضًا، ويضيق صدرُه بأقوالٍ يتصور أنَّها بعيدة أحيانًا، ويُعبِّر بعبارات قاسية تجاه أولئك العُلماء الذين قالوها، وهم أئمّة يُقتدى بهم، ويظن أنَّ هذا قالوه بمحض رأيهم، وأنَّهم يُعارضون الحديثَ بآرائهم، وهذا غير صحيحٍ.

هؤلاء العُلماء الظنُّ بهم ليس كما قد يظنّه هذا الظانُّ، فسنرى في ثنايا هذا -أيّها الأحبّة- أشياء تُبين عن جوانب وموضوعات نحتاج إليها ضمنًا، فنحن نتربَّى جميعًا على نصوص الوحي من الكتاب والسُّنة، وليس المقصود بذلك أن يُذكر المعنى صرفًا، أو أن يُذكر الفقه بعيدًا عن ترويض النفوس، وتربيتها، وإصلاحها، وتقويمها، بحيث يخرج لنا السَّامع أو طالب العلم بشخصيةٍ مُتَّزنةٍ، مُعتدلةٍ، مُتكاملةٍ، يُوقِّر أهلَ العلم، ويُقدِّر أقوالهم، ويترحَّم عليهم.

فلاحظوا هذا اللَّفظ عند مسلمٍ من حديث عليٍّ ، قال: عن رسول الله ﷺ أنَّه كان إذا قام إلى الصَّلاة. فهذا اللفظ عامٌّ، فلا يختص بقيام الليل، ولا النافلة، ولا الفريضة، فيشمل ذلك صلاة الفرض والنَّفل، وصلاة الليل، وصلاة النَّهار، هذا مُقتضى هذا اللَّفظ، إذًا يكون ذلك مما يُقال في الفريضة، كما هو ظاهر هذه الرِّواية.

ولاحظ أنَّه جاء في روايةٍ في "صحيح مسلم"، لكنَّها ليست هي الرِّواية الأصل في الباب، فالرِّواية الأصلية هي هذه التي أوردناها، لكن في روايةٍ أخرى عنده ذكرها بعدها: "كان إذا استفتح الصَّلاة كبَّر، ثم قال"[5]، ما هي الزِّيادة هنا؟

في الرِّواية الأصلية: "كان إذا قام إلى الصَّلاة"، وهنا: "إذا استفتح الصَّلاة كبَّر"، فهذا أفادنا فائدة، وهي ضمن هذه القضايا والمسائل التي يُوردها أهلُ العلم ممن قالوا: إنَّ هذا الحديثَ طويلٌ. وظنوا أنَّ النبي ﷺ لم يقله في الفريضة، فبعضهم -كما سيأتي- ذهب إلى أنَّ ذلك يُقال بين يدي الصَّلاة قبل تكبيرة الإحرام: "كان إذا قام إلى الصلاة"، يعني: قبل أن يُكبر، لكن اللَّفظ الآخر عند مسلم: "إذا استفتح الصَّلاة كبَّر وقال: وجَّهتُ وجهي"، فدلَّ على أنَّه يقوله، وسيأتي ما هو أصرح من ذلك؛ فقد جاء من حديث محمد بن مسلمة قال: إنَّ رسولَ الله ﷺ إذا قام يُصلي تطوُّعًا قال: الله أكبر، وجَّهتُ وجهي للذي فطر السَّماوات والأرض حنيفًا مُسلمًا، وما أنا من المشركين[6]، وذكر الحديث، ولكنَّه بشيءٍ من الاختصار والمغايرة في بعض الألفاظ، يعني: حديث محمد بن مسلمة اشتمل على جملٍ مما جاء في حديث عليٍّ -رضي الله تعالى عنه-.

إذًا هو نوعٌ من أنواع الاستفتاح، ولا يُقال: إنَّ ذلك رواية من روايات حديث الاستفتاح الذي يرويه عليّ -رضي الله تعالى عنه-، وإنما يُقال: هذه صيغة، وهذه صيغة أخرى؛ ففي ذكر حديث محمد بن مسلمة قال: وما أنا من المشركين، وكذلك: اللهم أنت الملك، لا إله إلا أنت، سبحانك وبحمدك، لكنَّه أخصر من حديث عليٍّ، مع مُغايرةٍ في بعض الألفاظ.

إذًا نقول: هذا ذكرٌ مُستقلٌّ، وحديث محمد بن مسلمة ثابتٌ صحيحٌ، وهذا ذكرٌ مُستقلٌّ، ولا ينبغي الرَّبط بينهما؛ لأنَّ الذين قالوا: إنَّ حديثَ عليٍّ يُقال في التَّطوع، مما احتجّوا به حديث محمد بن مسلمة: "كان إذا قام يُصلي تطوعًا"، فقالوا: هذا يُبيّن؛ فذاك مُطلق، وهذا مُقيد، والمطلق محمولٌ على المقيد.

نقول: لا، هذا حديثٌ آخر ودعاءٌ آخر من أدعية الاستفتاح، لا يصحّ الرَّبط بينهما فيُقال: هو واحدٌ، اختلفت رواياته، وأيضًا حديث جابر بن عبدالله قال: كان النبيُّ ﷺ إذا استفتح الصَّلاة كبَّر، ثم قال: إنَّ صلاتي ونُسكي ومحياي ومماتي لله ربِّ العالمين، لا شريكَ له، وبذلك أُمرتُ، وأنا من المسلمين، اللهم اهدني لأحسن الأعمال وأحسن الأخلاق، لا يهدي لأحسنها إلا أنت، وقني سيِّئ الأعمال، وسيِّئ الأخلاق، لا يقي سيّئها إلا أنت[7]، هذا عند النَّسائي، والحديث ثابتٌ صحيحٌ، وقال عنه الحافظُ ابن حجر -رحمه الله-: رجاله ثقات[8]. وصححه الشيخ ناصر الدين الألباني -رحم الله الجميع-[9].

ولاحظ: كان النبيُّ ﷺ إذا استفتح الصَّلاةَ كبَّر، ثم قال: إنَّ صلاتي ونُسكي، هذا اشتمل على بعض الجمل الواردة في حديث عليٍّ ، ولكنَّه أخصر منه، ومن ثم لا يُؤخذ من هذا الحديث أنَّ ما جاء في حديث عليٍّ أنَّ الذي يُقال في الفريضة إنما هو بعضه، كما قال ذلك بعضُ أهل العلم، كما سيأتي.

الحافظ ابن حجر -رحمه الله- في "البلوغ" لما أورد حديثَ عليٍّ قال بأنَّه في روايةٍ لمسلم: أنَّ ذلك في صلاة الليل[10].

وهذه الرِّواية التي أشار إليها الحافظُ ابن حجر -رحمه الله- لا وجودَ لها في النُّسخ المطبوعة بين أيدينا في "صحيح مسلم"، بل إنَّ العلماء -رحمهم الله- من بعد الحافظ ابن حجر استدركوا عليه ذلك، وإن كان بعضُهم نقله عنه، وقلَّده فيه، لكن بعضهم قال: هذا وهمٌ. وعلى مقام الحافظ -رحمه الله- وتبحره ومعرفته وبراعته في الحديث، إلا أنَّ الإنسانَ عُرْضَةٌ للوهم، فقالوا: هذا وهمٌ من الحافظ ابن حجر. لكن الإمام مسلم أخرج هذا الحديثَ في ضمن الأحاديث التي في قيام الليل.

وللفائدة: فإنَّ تراجم الأبواب التي في "صحيح مسلم" ليست من وضع الإمام مسلم، ومن هنا فإنَّه لا حاجةَ للوقوف عندها، واستنباط الفقه منها، فإنَّ هذا التَّبويب قد تنوّع، وليس بمتَّحدٍ أيضًا، يعني: عندنا أكثر من تبويبٍ في "صحيح مسلم"، وكل ذلك من وضع بعض الشُّراح بعد الإمام مسلم، إنما الكتب هذه من وضع الإمام مسلم، أما الأبواب فلا، لكنَّه يجمع الأحاديث في الموضوع الواحد، ويُوردها إيرادًا في غاية الدِّقة.

فإيراد الإمام مسلم لهذا الحديث ضمن الأحاديث المتعلقة بصلاة الليل قد يُفهم منه أنَّ الإمام مسلمًا -رحمه الله- يرى أنَّ ذلك يُقال في صلاة الليل، ولكن هذا لا يُوجد ما يدلّ عليه من الرِّوايات.

والترمذي -رحمه الله- يقول: "قال بعضُ أهل العلم من أهل الكوفة وغيرهم: يقول هذا في صلاة التَّطوع، ولا يقوله في المكتوبة"[11]، أي: أنَّ حديث عليٍّ يُعمل به في التَّطوع دون الفريضة، وهذا قال به بعضُ الحنفية؛ لماذا؟

قالوا: أولاً: لأنَّ الإمام مسلمًا أخرجه في أبواب صلاة الليل، وكذلك أيضًا ما سمعتُم من حديث محمد بن مسلمة: "كان إذا قام يُصلي تطوعًا"، فربطوا بين هذا وهذا، وقلنا: إنَّ هذا حديثٌ آخر مُستقلٌّ.

فعلى كل حالٍ، هكذا قال بعضُهم، والإمام أحمد -رحمه الله- كما قد عرفنا يُوسّع في ذلك، وإن كان له اختيارٌ فيما هو أفضل وأكمل[12] مما يُقال في استفتاح صلاة الفريضة، لكن يرى أنَّه لا بأسَ أن يتخير، وإن كان عامَّةُ ما ورد من ذلك إنما هو في قيام الليل.

وقد نقل الوليدُ بن مسلم عن سعيد بن عبدالعزيز: أنَّه أخبره عن المشيخة: أنَّهم كانوا يقولون هؤلاء الكلمات حين يُقبلون بوجههم إلى القبلة[13]. يعني: قبل تكبيرة الإحرام، ومَن هؤلاء المشيخة الذين ينقل عنهم؟

هذا قاله بعضُ أهل العلم والفُقهاء وأهل الكوفة أيضًا، ولكن أين الدَّليل على هذا؟

هم يحتجُّون بأشياء، منها: وجَّهتُ وجهي، يقولون: التَّوجه هنا بمعنى: أنَّه تهيأ للصَّلاة، وأقبل عليها، ولما يدخل بها. وقالوا: إنَّ قوله -تبارك وتعالى-: وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا [الإسراء:111]، هذا كلّه مما يكون قبل تكبيرة الإحرام.

فعلى كل حالٍ، هؤلاء يقولون بأنَّ ذلك قبل تكبيرة الإحرام، فيكون خارجًا عن أدعية الاستفتاح، ثم بعد ذلك يُكبر تكبيرةَ الإحرام، ويقول: سبحانك اللهم وبحمدك.. إلى آخره، وهذا فيه نظر.

وانظروا إلى العُلماء والفُقهاء من أهل الحديث -وهذه فائدةٌ أخرى-: كيف يُبوِّبون؟

بعض طلاب الدِّراسات العليا، لا سيّما الجيل الجديد الذي اعتاد على الموسوعات الإلكترونية، فهو يقف على المعلومة مباشرةً، دون أن يتصفَّح الكتب، وينظر ويجرد المطوّلات، ويقرأ في المختصرات، فهؤلاء ليس عندهم موضوعات في أذهانهم، يعني: لم يُجرد الكتب، ولم يدرس العلم كما كان الناسُ عليه، فتنبعث في نفسه الموضوعات التي تحتاج إلى دراسةٍ، يعني: مثلاً الآن فقه الأئمّة في تراجم الأبواب، في العادة لا يُذكر إلا الإمام البخاري، لكن الإمام النَّسائي له فقه في هذا الباب معروفٌ في تراجم الأبواب، وابن خُزيمة "إمام الأئمّة" هكذا يُلقَّب، وتجد من فقهه في تراجم الأبواب الشَّيء الكثير، وابن حبان -رحمه الله- أحيانًا الترجمة تصل إلى سطرين، يذكر فيها فقهَه.

فانظروا هذا المثال الآن في هذه المسألة: ابن خزيمة -رحمه الله- ذكر حديث عليٍّ -رضي الله عنه- تحت باب: "ذكر الدُّعاء بين تكبيرة الافتتاح وبين القراءة"، ولاحظ بدقّة: "بين تكبيرة الافتتاح وبين القراءة"، ولاحظ العبارة.

ونحن قلنا: (بين) المشهور أنَّها لا تُذْكَر بين ظاهرين، وهنا قال: "بين تكبيرة الافتتاح وبين القراءة"، لم يقل: والقراءة. فلم يحذف كلمة (بين) كما هو المشهور، مما يدلّ على صحّة هذا الاستعمال في اللُّغة.

فلاحظ هذا التَّبويب من ابن خزيمة، وذكر الحديث، ولفظه -ولاحظ اللَّفظ-: "كان إذا قام إلى الصَّلاة المكتوبة كبَّر، ويقول حين يفتتح الصَّلاة بعد التَّكبير: وجَّهتُ وجهي إلى: من المسلمين".

هذا فيه ثلاث فوائد رئيسة:

الفائدة الأولى: أنَّه في هذا اللَّفظ صرَّح: "كان إذا قام إلى الصَّلاة المكتوبة"، فهنا لا مجالَ لأن يُقال: قيام ليلٍ، ولا تطوع، فهي روايةٌ ثابتةٌ صحيحةٌ، وهو نفس حديث عليٍّ .

"ويقول حين يفتتح الصَّلاة بعد التَّكبير: وجَّهتُ وجهي"، هذا يدل صراحةً على أنَّ ذلك لا يُقال قبل تكبيرة الإحرام، بل بعدها وقبل القراءة، فهذا يردّ ذلك القول الذي يقول بأنَّه قبيل تكبيرة الإحرام، ويردّ أيضًا على مَن قال: إنَّ ذلك في النَّافلة، أو في قيام الليل.

ثم في هذه الرِّواية: وجَّهتُ وجهي إلى قوله: من المسلمين هذا يستدلّ به مَن يقول: إنَّه لا يُقال كاملاً، وإنما يُقال إلى هذا الموضع.

والعلماء قد لا يُصرِّح الواحدُ منهم بالدليل، ولكن الواقع لو أنَّك نظرتَ لوجدتَ ما يُستدلّ به، وهذا تجده في التَّفسير كثيرًا، فتجد أقوالاً أحيانًا تظنّ أنها في غاية البُعْد، وإذا تتبعتَ المرويات والآثار تجد أحيانًا ما يشهد لذلك، بصرف النَّظر عن صحّته من عدمها، لكنَّه استند إلى شيءٍ، بمعنى: أنَّه ما جاء برأيٍ محضٍ.

وهنا ابن حبان ذكره تحت باب: "ذكر ما يدعو المرءُ به بعد افتتاح الصَّلاة وقبل القراءة"، يعني: هو مُصرّح بأنَّ ذلك بعد تكبيرة الإحرام، وقبل القراءة، ولفظ الحديث عند ابن حبان: "كان إذا ابتدأ الصَّلاة المكتوبة"، وعند ابن خزيمة: "كان إذا قام إلى الصَّلاة المكتوبة".

وذكره ابنُ حبان أيضًا تحت باب: "ذكر ما يدعو به المرء عند افتتاح الصَّلاة الفريضة"، ولاحظ التَّبويب: "ويقول بعد التَّكبيرة"، حتى لا يقع عند أحدٍ أدنى لبسٍ، ثم ذكره أيضًا تحت باب: "ذكر البيان بأنَّ المصطفى ﷺ كان يدعو بما وصفنا بعد التَّكبير لا قبله"، يعني: هنا قطع بهذا التَّبويب على كل احتمال كون ذلك يُقال قبل تكبيرة الإحرام، أو أنَّه يُقال في غير الفريضة.

ولاحظوا التَّبويب، ولو أنَّ أحدًا تتبع فقه هؤلاء الأئمّة في تراجم الأبواب لوجد من ذلك علمًا كثيرًا.

وهكذا جاء في إحدى روايات الحديث عند الإمام الترمذي: "كان إذا قام إلى الصَّلاة المكتوبة"[14]، "ويقول حين يفتتح الصَّلاة بعد التَّكبير"[15].

وكل ذلك مع ما تدلّ عليه الرِّواية التي عند مسلم: "كان إذا استفتح الصَّلاة كبَّر، ثم قال: وجَّهتُ وجهي"، إذًا هذه الرِّوايات بمجموعها تدلّ على أنَّ ذلك يُقال في الفريضة، وأنَّ ذلك يُقال بعد التَّكبير، وقبل القراءة، حتى لو ورد في روايةٍ من روايات الإطلاق، كما هي رواية مسلم، بل حتى لو جاء في أحاديث أخرى أنَّه قاله ﷺ في التَّطوع، أو في قيام الليل، فهذا مثلما قلنا في قول: سبحانك اللهم وبحمدك إلى آخره: أنَّه جاء أنَّ ذلك في الفريضة، وجاء أنَّه في قيام الليل، ولا إشكالَ في ذلك.

وبعض العلماء كابن الجوزي -رحمه الله- يقول: "كان ذلك في أول الأمر، أو النَّافلة"[16]؛ لماذا؟ استطالوه في أول الأمر.

ولهذا قال ابنُ قُدامة -رحمه الله-: "ولأن العملَ به متروكٌ؛ فإنَّا لا نعلم أحدًا يستفتح به كلّه، وإنما يستفتحون بأوَّله"[17]، إلى: وأنا من المسلمين.

وهذا الكلام فيه نظر؛ فإنَّ الحديثَ واضحٌ وصريحٌ، وإذا جاء نهرُ الله بطل نهرُ معقل، ولا داعي لمثل هذا الاستشكال، ويُقال: يراعي الإمامُ حالَ مَن وراءه، ثم إنَّ الإنسان قد يُصلي في السرية فيقوله، ولا يذكر ذلك في الجهرية إذا كان هذا يُشكل على الناس، لكنَّه يقوله في السّرية، والناس لا يدرون ماذا يقرأ؟ أدعاء الاستفتاح أم السّورة؟

ثم أيضًا يمكن أن يقوله الإنسانُ لنفسه في الفريضة، يعني: ماذا نقول في قيام الليل، أو قبل التَّكبير؟ يقوله لنفسه إذا صلَّى مُنفردًا، والمرأة تقوله حينما تُصلي لنفسها، فليس وراءها أحدٌ يمكن أن يستطيل ذلك.

على كل حالٍ، ممن ذهب إلى الاستفتاح بهذا الحديث -وهو حديث عليٍّ - الإمامُ الشَّافعي وأصحابه[18]، وإسحاق بن راهويه في روايةٍ[19].

وظاهر كلام الإمام الشَّافعي -رحمه الله- وبعض أصحابه: أنَّه يُستفتح به كلّه، الإمام وغير الإمام، وذهب بعضُ أصحابه إلى أنَّه يقتصر على قوله: وأنا من المسلمين، يقف إلى هذا الحدِّ، وهذا يمكن أن يُحتّج له بإحدى روايات الحديث، فمَن اقتصر على هذا القدر فله دليله، ولا بأسَ أن يقتصر على هذا الموضع، وإذا أتمَّه فيكون ذلك أكمل، ويمكن أن يُراعي أحوال الناس، فإن صلَّى بالناس اقتصر على قوله: وأنا من المسلمين، وإن صلَّى وحده أو في الصَّلاة السرية قاله كاملاً.

وذهبت طائفةٌ من أهل العلم -كما ذكرنا من اختيار شيخ الإسلام رحمه الله-[20] إلى أنَّه يجمع بين قوله: سبحانك اللهم وبحمدك مع وجَّهتُ وجهي؛ ليكون قد حوى الأنواع الثلاثة: الذي هو الثَّناء المحض على الله في قوله: سبحانك اللهم، وهذا الدُّعاء الذي بين أيدينا الآن -حديث عليٍّ- يشتمل على الإخبار: وجَّهتُ وجهي، يُخبر عن نفسه في صدره، ثم فيه أيضًا دُعاء، فيكون قد جاء بالثلاثة.

لكن الجمع بين هذه وإن قال به شيخُ الإسلام، وهو أيضًا قول طائفةٍ من أهل العلم كأبي يوسف[21]، وهو رواية عن إسحاق بن راهويه، وقالت به طائفةٌ من الشَّافعية[22]، وبعض الحنابلة، لكن الوارد في الجمع بينهما لا يخلو من ضعفٍ، وشيخ الإسلام أشار إلى أنَّ هذا قد ورد في بعض الأحاديث، لكن لا يصحّ -والله أعلم-.

هذا بين يدي الكلام على ألفاظ الحديث، وأرى أنَّ ذلك يحتاج إليه، ويفتق الذهن، ويفتح آفاقًا للسَّامع، وكلَّما اتَّسعت المدارك في العلم صار عند الإنسان من الاحتياط والتَّحرز ووزن الحرف ما لا يكون عند غيره، فالذي لا يعرف من العلم إلا قدر رأس هذا القلم، إذا طُرح سؤالٌ في مجلسٍ على عالـمٍ، أو غير ذلك، بادر بالجواب؛ لأنَّ القضيةَ عنده لا تحتمل شيئًا آخر، لكن العالم يرى أشياء، ويرى الرِّوايات في ذهنه، وأقوال العلماء، وأنَّ هذه المسألة تتجاذبها قواعد، وأنَّ الألفاظَ تحتمل، ويبقى في عمليةٍ ذهنيةٍ طويلةٍ، وهو يستجمع ذهنه، وإذا بغيره يُبادرون ويقولون: هذا جائزٌ، وهذا لا إشكالَ فيه، وهذا ما يحتاج سؤالاً، والله المستعان.

  1. أخرجه مسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الدُّعاء في صلاة الليل وقيامه، برقم (771).
  2. أخرجه الترمذي في "سننه": أبواب الدَّعوات، برقم (3422)، وأبو داود في "سننه": أبواب تفريع استفتاح الصَّلاة، باب ما يستفتح به الصَّلاة من الدُّعاء، برقم (760)، وصححه الألباني.
  3. أخرجه أحمد في "مسنده" ط. الرسالة، برقم (803)، وقال مُحققو "المسند": "إسناده صحيحٌ على شرط مسلمٍ".
  4. متفق عليه: أخرجه البخاري: كتاب الأذان، باب ما يقول بعد التَّكبير، برقم (702)، ومسلم: كتاب المساجد ومواضع الصَّلاة، باب ما يُقال بين تكبيرة الإحرام والقراءة، برقم (940).
  5. أخرجه مسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الدُّعاء في صلاة الليل وقيامه، برقم (771).
  6. أخرجه النَّسائي في "السنن الكبرى": كتاب السَّهو، ذكر ما ينقض الصَّلاة وما لا ينقضها، برقم (717)، وصححه الألباني.
  7. أخرجه النَّسائي في "السنن الكبرى": كتاب الافتتاح نوع آخر من الدّعاء بين التكبير والقراءة، برقم (896)، وصححه الألباني.
  8. "نتائج الأفكار" لابن حجر (1/411).
  9. في "صحيح سنن النسائي" (3/40) (896).
  10. "بلوغ المرام من أدلة الأحكام" ط. السلفية (ص74).
  11. "سنن الترمذي" (11/302).
  12. "مسائل الإمام أحمد رواية أبي داود السّجستاني" (ص46).
  13. "فتح الباري" لابن رجب (6/387-388).
  14. أخرجه الترمذي في "سننه": كتاب الدَّعوات، برقم (3345)، وقال الألباني: "حسنٌ صحيحٌ".
  15. أخرجه الترمذي في "سننه": كتاب الدَّعوات، برقم (3345)، وقال الألباني: "حسنٌ صحيحٌ".
  16. "التحقيق في أحاديث الخلاف" (1/342) (443).
  17. "المغني" (1/550).
  18. "المجموع شرح المهذب" (3/321).
  19. "مسائل الإمام أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه" (2/514).
  20. "الاختيارات الفقهية" (ص416).
  21. "المجموع شرح المهذب" (3/321)، و"الاختيارات الفقهية" (ص416).
  22. "المعاني البديعة في معرفة اختلاف أهل الشريعة" (1/136).

مواد ذات صلة