الحمد لله، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله.
أما بعد: فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته،
نُواصل الحديث عمَّا أورده المؤلفُ من الأذكار التي تكون عند النوم، وعرفنا أنَّ بعض هذه الأذكار ليست مما يُقال عند النوم، وإنما يُقال في أحوالٍ خاصَّةٍ، كما لو رأى رؤيا يكرهها أفزعته، أو إذا تعارّ من الليل وحصلت له انتباهة، أو نحو ذلك.
هذا الحديث الذي أورده: حديث أبي هريرة ، عن النبي ﷺ قال: إذا اقترب الزمانُ لم تكد رُؤيا المسلم تكذب، وأصدقكم رؤيا أصدقكم حديثًا، ورؤيا المسلم جزءٌ من خمسٍ وأربعين جزءًا من النُّبوة، والرؤيا ثلاثة: فرؤيا صالحة بُشرى من الله، ورؤيا تحزين من الشَّيطان، ورؤيا مما يُحدِّث المرءُ نفسَه، فإن رأى أحدُكم ما يكره فليقم فليُصلِّ، ولا يُحدِّث بها الناس، قال: وأُحبُّ القيد، وأكره الغلّ، والقيد ثباتٌ في الدِّين، فلا أدري: هو في الحديث أم قاله ابن سيرين؟[1]. أخرجه الإمامُ مسلم -رحمه الله- في "صحيحه".
قوله ﷺ: إذا اقترب الزمانُ لم تكد رُؤيا المؤمن تكذب، ما معنى: اقترب الزمانُ؟
اقترب الزمان فسَّره بعضُ أهل العلم باستواء الليل والنَّهار: أن يستوي الليلُ والنَّهار، وهذا يكون في وقتين في العام، في فصلين: في الرَّبيع، والخريف، قالوا: إنَّ ذلك يكون وقت اعتدال الأمزجة، وقت اعتدال الطَّبائع، وأنَّ ذلك يكون أدعى إلى البُعد عن التَّخليط في النوم، فيكون المزاجُ مُعتدلاً، يقولون: هذا كما يُعبِّر بعضُهم، كما يقول بعضُ العابرين الذين يُعبِّرون الرُّؤى، يُعبِّرونها بأنَّ أصدقَ الأزمان لوقوع ذلك –يعني: تكون الرؤيا صادقةً- وقت انفتاق الأنوار، أو الأزهار، وإدراك الثِّمار، وحينئذٍ يستوي الليلُ والنَّهار.
فالأنوار ليس المقصودُ بها هذه الأنوار: الشمس، والقمر، ونحو ذلك، وإنما ما يكون من الأزهار في بدوِّها، وهذا يكون عادةً في فصل الربيع، وهو وقت الأزهار.
وأمَّا إدراك الثِّمار فإنَّه يكون في زمان الخريف، وهما وقتان يحصل بهما الاعتدال، فيستوي الليل والنهار في هذين الوقتين، والعرب عادةً تُعبِّر، وكما جاء في الأحاديث يقول: سبعون خريفًا[2]، ونحو ذلك، يُعبِّرون بالخريف، والسَّبب في هذا هو أنَّ الخريفَ أفضل هذه الأوقات، وأشرف هذه الأوقات من جهة إدراك الثِّمار؛ يكثر فيه الثَّمر، وهو أيضًا وقتٌ لجنيها؛ جني الثِّمار، تكون كثيرةً ناضجةً في وقت الخريف؛ ولهذا العرب تُعبِّر بالخريف: سبعون خريفًا، يعني: سبعون سنةً.
أمَّا ما جرى عليه استعمالُ الناس في الغالب اليوم، يقولون: عمره عشرون ربيعًا، أو نحو ذلك، فهذا استعمله كثيرٌ من الناس، وما كان عليه الأوَّلون أولى؛ لأنَّ الربيعَ ليس فيه سوى الأزهار التي هي صورة، لكن ليس فيه ثمار.
المقصود أنَّ هؤلاء من أهل العلم ينقلون عن الذين يُعبِّرون الرؤى، يقولون: أصدق الأزمان بصدقها هو وقت انفتاق الأنوار، فهذا الذي يكون من الزهر في الشَّجر يُقال له ذلك، وزمان إدراك الثِّمار كما في الخريف، وحينئذٍ يستوي الليلُ والنَّهار.
وأبو داود -رحمه الله- صاحب "السُّنن"[3] فسَّر اقترابَ الزمان باستواء الليل والنَّهار، فتكون الرؤيا عند ذلك صادقةً، هذا قولٌ لطائفةٍ، والحديث يحتمله، ولكن غيره أولى منه -والله تعالى أعلم-؛ ولذلك فإنَّ بعض أهل العلم أنكر هذا المعنى، وفسَّروه بغيره، يتقارب الزمان يعني: أنَّ بعضهم يقول: إنَّ المراد باقتراب الزمان انتهاء مدّة الدنيا، وقُرب الآخرة. وكأنَّ هذا أقرب -والله تعالى أعلم-، وهذا آخر الدنيا، وقُرب قيام السَّاعة، ويدلّ على ذلك بعضُ الأحاديث الثابتة عن النبي ﷺ، وجاء في بعض تلك الأحاديث وبعض تلك الألفاظ: في آخر الزمان لا تكاد رُؤيا المؤمن تكذب[4].
ومن هنا فإنَّ ذلك للبُعد عن زمان الوحي، والغُربة التي يكون عليها الناسُ في ذلك الزمان، فهم بحاجةٍ إلى تثبيتٍ.
بنو إسرائيل كان يُبعث فيهم الأنبياء يسوسونهم، وأمَّا هذه الأُمَّة فليس هناك نبيٌّ بعد النبي ﷺ إلا ما يكون من نزول عيسى في آخر الزمان، وإلا فإنَّ النبي ﷺ هو خاتم النَّبيين، ومن هنا فالناس بحاجةٍ إلى تثبيتٍ؛ ولهذا كما ذكرنا قبل من كلام شيخ الإسلام[5] -رحمه الله- أنَّ الكرامات -كرامات الأولياء- التي تكون في آخر الزمان أكثر مما وقع للصَّحابة، لا لأنَّهم أفضل –يعني: الذين في آخر الزمان-، ولكن لحاجتهم إلى التَّثبيت، فيُؤيِّدهم الله بآياتٍ يرونها من خوارق العادات؛ لاتِّباعهم للنبي ﷺ؛ فيحصل لهم بذلك تأييدٌ، فيثبت إيمانهم وسيرهم واستقامتهم على الصِّراط المستقيم.
وهذا المعنى قال به جمعٌ من أهل العلم في تقارب الزمان، ومنهم بعض شُرَّاح الصَّحيح "صحيح البخاري" كابن بطَّال[6].
وذهب آخرون إلى معنًى قريبٍ من هذا، ولكنَّهم عبَّروا عنه بعبارةٍ أخرى، فعدَّه بعضُ أهل العلم قولاً ثالثًا، والواقع أنَّه يرجع إلى هذا، وإن كان يختلف في التَّعبير عنه، فهؤلاء يقولون بأنَّ تقارب الزمان يعني: أنَّه ما يحصل من القصر، بحيث يكون كما ثبت عن النبي ﷺ: السَّنة كالشَّهر، والشَّهر كالجمعة –يعني: كالأسبوع-، والجمعة كاليوم، واليوم كالسَّاعة، والسَّاعة كاحتراق السَّعفة[7]، سعف النَّخل إذا جفَّ فإنَّه سريعُ الاحتراق.
فمن هنا قال بعضُ أهل العلم: هذا هو المراد، وهذا يرجع إلى القول الذي قبله من أنَّ المراد بذلك آخر الزَّمان.
وبعضهم فسَّره بتفسيرٍ في آخر الزمان، ولكن من وجهٍ آخر، يعني: كأنَّهم نظروا إلى اليوم أنَّه لا يتجاوز أربعٍ وعشرين ساعة، وأنَّ الوقتَ هو الوقت، ولكنَّه يقصر أو يطول بما يقوم في نفس الإنسان؛ أيام الحزن قالوا: طويلة، ثقيلة. وأيام الفرح قصيرة، يذهب الوقتُ والفرح سريعًا، فيوم العيد يمضي سريعًا، وأيام الحزن -عافانا الله وإياكم وإخواننا المسلمين من ذلك- يقولون: طويلة، ثقيلة.
ومن هنا قالوا: هذا التَّقارب الذي يحصل إنما هو في وقت المهدي، أو نزول عيسى ابن مريم؛ فتكثر البركات والخيرات، ويعمّ العدل، ويستلذّ الناس هذه الأوقات واللَّحظات، فتمضي دون شعورٍ منهم، لحظات سعيدة جدًّا، لحظات عامرة، فيمضي الزمانُ، فتتقارب أطرافُه دون أن يشعر الواحدُ من هؤلاء، فالإنسان إذا انغمس في لذَّةٍ فإنَّه لا يشعر بالوقت؛ ولذلك ابن المنكدر -رحمه الله- يقول: "إني لأدخل في الليل فيهولني، فينقضي وما قضيتُ منه أربي"[8]، يعني: لشدّة محبَّته لقيام الليل، فهو يدخل في الصَّلاة وينقضي الليلُ سريعًا دون أن يشعر، وهكذا، فهذا قال به بعضُ أهل العلم.
والذي يظهر -والله أعلم- أنَّ المراد هو أنَّ ذلك المقصود به آخر الزمان؛ لبُعد العهد من النبوة، فيُؤيدهم الله بالرُّؤى الصَّادقة، كما في الحديث في آخر الزمان: لا تكاد رؤيا المؤمن تكذب -والله تعالى أعلم-.
قوله: إذا تقارب الزمانُ لم تكد رُؤيا المؤمن تكذب، هنا النَّفي نفيٌ كاد يدلّ على أنَّ ذلك نفيٌ للشَّيء من أصله، يعني: أنها لا تكذب، لم تكد رُؤيا المؤمن تكذب، بمعنى أنها تكون صادقةً.
ففي هذا الحديث قال: رؤيا المسلم، والمسلم إذا أُطلق دخل فيه المؤمنُ، وهما بمعنًى واحدٍ بهذا الاعتبار، وإذا ذُكر الإسلامُ مع الإيمان فيكون الإسلامُ: إسلام الظَّاهر، والإيمانُ: إيمان الباطن؛ تصديق الباطن: الإقرار والانقياد والإذعان.
فهنا ذكر الإسلام، وفي الحديث الآخر: إذا كان آخر الزمان لم تكد رؤيا المؤمن، ذكر المؤمن، فهما بمعنًى واحدٍ، والله تعالى أعلم.
لم تكد رؤيا المؤمن تُخطئ، تكذب، يعني: باعتبار أنَّ الله يُؤيده بذلك، وتقييده بالمسلم أو المؤمن يُخرج الكافر، فإنَّ رؤياه ليست كذلك، مع أنَّ الكافر قد يرى الرؤيا وتصدق.
وفي قصّة يوسف سأله صاحباه في السِّجن عن الرؤيا: قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ [يوسف:36]، فلمَّا ذكر لهما التَّأويل قال: قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ [يوسف:41].
فهنا هذه: قُضِيَ الْأَمْرُ يعني: انتهى، فُرِغَ منه، هذا تأويل هذه الرُّؤيا، وهي رؤيا مُتحققة، مع أنَّ بعضَ أهل العلم يقولون: بأنَّ قولَه: قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ أنهما أرادا التَّراجع لما سمعا التَّعبير على غير ما يروق لهما، فكأنَّهما أظهرا له أنَّهما لم يريا شيئًا، فقال: قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ، ما ذكرتُم قد وقع. لكن هذا لا دليلَ عليه، والأقرب أنَّ المقصود أنَّ تلك الرؤيا مُتحققة.
وكذلك الملك في الرؤيا المشهورة حينما رأى سبع بقراتٍ سمانٍ يأكلهنَّ سبعٌ عِجافٌ، وهذا الملك كافر.
وكذلك أيضًا أصحاب السِّجن لم يكونوا على الدِّين؛ ولذلك دعاهم إلى التوحيد: أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ [يوسف:39]، وخاطبهم بذلك أنَّهم وهذه المعبودات: مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ [الأنبياء:98]، فهم كانوا يعبدون من دون الله شُركاء لا حقيقةَ لهم.
فهنا لم تكد رؤيا المؤمن أو المسلم تكذب، بمعنى: أنها تكون صادقةً.
وبعض أهل العلم فسَّره بمعنًى آخر؛ قالوا: في آخر الزمان لم تكد رؤيا المؤمن تكذب، أو المسلم تكذب، بمعنى أنها تكون في غاية الوضوح، لا تحتاج إلى تعبيرٍ، قالوا: لأنَّ الكذبَ هنا ليس المقصودُ به بالضَّرورة، يعني: أن يقول الإنسانُ خلاف الحقيقة قصدًا لذلك، يُخالِف ما في باطنه، فيقول بلسانه خلاف ما يعتقد؛ لأنَّ الكذبَ يُطلق بإطلاقٍ آخر في اللُّغة؛ وهو ما خالف الواقع، فمَن عبَّر تعبيرًا لا يُطابق الواقع -يعني: أخطأ في التَّعبير- يُقال: كذب، فلان كذب في هذا التَّعبير، بمعنى أخطأ.
فهنا بعضُ أهل العلم يقولون: لم تكد رُؤيا المؤمن تكذب بمعنى: أنها في غاية الوضوح، لا تحتاج إلى تعبيرٍ؛ لأنَّ الخلفَ أو الخطأ الذي سُمِّيَ بالكذب قد يكون خطًا في التَّعبير، فهذه لا تحتاج إلى تعبيرٍ، لكن هذا خلاف المتبادر، والأقرب أنها صادقةٌ.
ثم ذكر معنًى يتعلَّق بصدق الرؤيا، قال: وأصدقكم رُؤيا أصدقكم حديثًا، ظاهره أنَّه على إطلاقه، مُطلقًا، يُخاطِب هذه الأُمَّة بأنَّ أصدقَهم رؤيا أصدقُهم حديثًا، وذلك أنَّ مَن اعتاد الصِّدق في يقظته كان في حال النوم على الصِّدق، فتكون رؤياه أيضًا صدقًا، ويكون عند الموت على الصِّدق، ويكون أيضًا في القبر له قدم صدقٍ، وفي المحشر له قدم صدقٍ، ويُدخله الله مدخل صدقٍ في آخرته: وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ [الإسراء:80]، وتكلَّمنا على هذا في درسٍ مُستقلٍّ في التَّعليق على هذه الآية[9].
فهذا كلّه يدخل في مدخل الصِّدق، فينام الإنسانُ نومةَ صدقٍ، لا ينام على معصيةٍ، ولا فجورٍ، ويكون مُتوضِّئًا، ينام على جنبه الأيمن، ويقول الأذكار، ويكون في نومه أيضًا يرى الرؤيا الصَّادقة، فصدق الحديث، وصدق الحال، وصدق العمل، كلّ ذلك يُؤثر في حال الإنسان في اليقظة، وعند الاحتضار، وفي النوم، في موتته الصُّغرى، وعند موتته الكبرى، وبعد موتته الكبرى، وبعد بعثه ونشوره، فهذه عاقبة الصِّدق، وجزاء الصِّدق.
والصِّدق هذا يكون بالقول، وهنا ذكر الحديث، ويكون الصدقُ بالحال؛ ألا يُظهر حالاً غير ما يُبطن، كالمنافق يُظهر الصَّلاح والتَّقوى والاستقامة، وهو ليس كذلك، وكذلك العمل؛ قد يُظهر أنَّه يذكر الله ، وهو لا يذكره، أو أنَّه يخشع في صلاته، وهو لا يخشع، ونحو ذلك: أنَّه صائمٌ، وليس بصائمٍ، فقال: أصدقكم رؤيا أصدقكم حديثًا.
إذن ظاهره هكذا: أنَّ الصدقَ في اليقظة يُورث الصدقَ في المنام، صدق الرؤى، مع أنَّ بعض أهل العلم حمله على معنًى آخر غير هذا؛ قالوا: بأنَّ ذلك خطابٌ لهذه الأُمَّة في ذلك الزمان الذي لا تكاد فيه رؤيا المؤمن تُخطئ، وأنَّ رؤيا المؤمنين تتفاوت، قالوا: في آخر الزمان يكون أصدقُهم رؤيا أصدقهم حديثًا. هكذا قالوا، قالوا: في ذلك الحين؛ في انقطاع العلم، والبُعد عن زمان النبوة والوحي، وكذلك أيضًا موت العُلماء، فلا يكون هناك هُداة، فيحصل لهم التَّثبيت والتَّسديد بالرُّؤى، فهي جزءٌ من النبوة كما سيأتي، والله المستعان.
فقال: أصدقكم رؤيا أصدقكم حديثًا، وفي بعض ألفاظه: وأصدقهم رؤيا أصدقهم حديثًا[10]، يعني: الذي في آخر الزمان، ولكن كأنَّ الأقربَ -والله أعلم- أنَّ هذا عامٌّ في هذا الوقت، وفي كل وقتٍ، ويشمل آخر الزمان، بخلاف حال الكاذب الذي اعتاد الكذب؛ فإنَّ رؤياه لا تكاد تصدق.
وهنا قال: ورؤيا المؤمن جزءٌ من خمسٍ وأربعين جزءًا من النبوة[11]، هذا عند مسلمٍ، ولكن ليس كذلك عند أبي داود، وأكثر الأحاديث على أنها جزءٌ من ستةٍ وأربعين جزءًا من النبوة[12].
وقد جاء من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما-: أنها جزءٌ من سبعين جزءًا من النبوة[13].
أمَّا أنها جزءٌ من ستةٍ وأربعين جزءًا من النبوة، فهذا ذكرنا وجهه من قبل عند بعض أهل العلم، قالوا: مدّة البعثة النبوية ثلاثٌ وعشرون سنةً: ثلاث عشرة سنة في مكة، وعشر سنين في المدينة، فالمجموع ثلاثة وعشرون، والسِّتة أشهر تُساوي نسبة واحدٍ من ستة وأربعين، يعني: ستة أشهر في ثلاثٍ وعشرين سنة، ستة وأربعون جزءًا مما يكون ستة أشهر، السَّنة اثنا عشر شهرًا، فنصف السَّنة هذا يُساوي واحدًا على ستة وأربعين من ثلاثٍ وعشرين سنةً.
هكذا قال بعضُ أهل العلم، لكن يُشكل علينا مثل هذه الرِّواية أنها: جزءٌ من خمسةٍ وأربعين جزءًا[14]، والحديث الآخر: من سبعين جزءًا؛ ولهذا ذهب بعضُ أهل العلم إلى أنَّ مثل هذا لا يشتغل به، وأنَّ هذا من أمور الغيب، كما قال بذلك جمعٌ من أهل العلم: كابن العربي المالكي[15]، والخطَّابي[16]، وآخرين، قالوا: لا نشتغل بهذا، هذا أمرٌ غيبيٌّ، والنُّبوة لا يعلم ذلك إلا الله، وكذلك جاء في الحديث أنَّ: السَّمت الحسن والتُّؤدة جزءٌ من خمسةٍ وعشرين أو أربعةٍ وعشرين جزءًا من النبوة[17]، فكيف هذا يُفسّر؟ وكيف يقسم؟ وكيف يحمل؟ هذا أمرٌ غيبيٌّ، فالله أعلم.
وجاء في بعض الرِّوايات غير هذا؛ غير الخمسة والعشرين، أو الأربعة والعشرين جزءًا من النبوة في السَّمت الحسن، ثم ذكر هذه الأشياء.
لا أُطيل عليكم، بقيت بقيةٌ، أترك الحديثَ لمجلسٍ آخر.
- أخرجه مسلم، في أوائل كتاب الرؤيا، برقم (2263).
- منها: ما أخرجه البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب فضل الصوم في سبيل الله، برقم (2840)، ومسلم، كتاب الصيام، باب فضل الصيام في سبيل الله لمن يطيقه، بلا ضرر ولا تفويت حق، برقم (1153).
- انظر كلامه في: "سنن أبي داود" (4/304) بعد حديث رقم (5019).
- أخرجه الترمذي: أبواب الرؤيا عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، باب ما جاء في رؤيا النبي -صلى الله عليه وسلم- الميزان والدَّلو، برقم (2291).
- انظر: "منهاج السنة النبوية" (8/135).
- "شرح صحيح البخاري" لابن بطال (9/539).
- أخرجه أحمد في "المسند"، برقم (10943)، وقال مُحققوه: "إسناده صحيحٌ على شرط مسلمٍ، رجاله ثقات، رجال الشَّيخين، غير سهيل ابن أبي صالح، فمن رجال مسلم".
- "سير أعلام النبلاء" ط. الرسالة (5/358).
- على الرابط: https://cutt.us/djfXK.
- أخرجه أبو داود: كتاب الأدب، باب ما جاء في الرؤيا، برقم (5019)، والترمذي: أبواب الرؤيا عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، باب أنَّ رؤيا المؤمن جزءٌ من ستةٍ وأربعين جزءًا من النبوة، برقم (2270)، وصححه الألباني في "صحيح الجامع"، برقم (365).
- أخرجه مسلم: كتاب الرؤيا، برقم (2263).
- متفق عليه: أخرجه البخاري: كتاب التعبير، باب رؤيا الصَّالحين، برقم (6983)، وكتاب التعبير، باب الرؤيا الصَّالحة جزءٌ من ستةٍ وأربعين جزءًا من النبوة، برقم (6987)، ومسلم: كتاب الرؤيا، برقم (2264).
- أخرجه مسلم: كتاب الرؤيا، برقم (2265).
- أخرجه ابن حبان في "صحيحه"، برقم (6040)، والبزار في "مسنده"، برقم (8884)، وصححه الألباني في "السلسلة الصحيحة"، برقم (3160).
- "فتح الباري" لابن حجر (12/362).
- انظر: "فتح الباري" لابن حجر (12/363).
- أخرجه الترمذي: أبواب البر والصِّلة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، باب ما جاء في التَّأني والعجلة، برقم (2010)، وحسَّنه الألباني في "صحيح الجامع"، برقم (3692).