الحمد لله، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله.
أما بعد: نواصل الحديث -أيها الأحبّة- في الكلام على بعض ما أورده المؤلفُ مما يتَّصل بالرؤيا، وكان آخر ما تكلّمنا في معناه هو قوله: وأصدقكم رؤيا أصدقكم حديثًا[1]، وقلنا: بأنَّ ظاهره الإطلاق، وأنَّ ذلك لا يختصّ بآخر الزمان؛ حيث لا تكاد رؤيا المؤمن تُخطئ في ذلك الحين.
وبعض أهل العلم حمله على ذلك الحين: أنَّه في ذلك الزمان يكون الأصدقُ رؤيا هو الأصدق حديثًا، والمعنى الأول أعمّ، فيشمل آخر الزمان، ويشمل كلَّ حينٍ، ومَن التزم الصدقَ في أحواله كلِّها بيقظته؛ فإنَّ ذلك يُورث صدقًا في منامه، وعند موته، وكذلك أيضًا في آخرته، فهنا أيضًا تكلّمنا على رؤيا المؤمن، وأنها جزءٌ من خمسٍ وأربعين جزءًا من النبوة، وتوجيه ذلك الشَّاهد أنَّه قال: الرؤيا ثلاث[2]، هكذا في الصَّحيح.
وفي روايةٍ لمسلمٍ: الرؤيا ثلاثة: فالرؤيا الصَّالحة بُشرى من الله[3]، وهذا يدلّ على أنَّ غايةَ ما هنالك مما يُؤخذ من الرؤى إنما هو البُشرى، فالرؤى مُبشِّرات، ولا ينبغي أن يتعدَّى بها فوق ذلك، والقاعدة: أنَّ الرؤيا لا يُبنى عليها حكمٌ: لا قدري، ولا شرعي.
فالرؤيا الصَّالحة بُشرى من الله، وهذا يُفسّر ما جاء من أنَّ الرؤيا الصَّالحة من الله، بمعنى: أنها بُشرى منه، فهي جزءٌ من النبوة كما سبق، وليست من تخليط الشَّيطان، ولا من حديث النَّفس؛ لأنَّ النبي ﷺ ذكر ما يُقابلها؛ قال: والرؤيا تحزينٌ من الشَّيطان، تحزينٌ من الشيطان بمعنى: أنَّه يُريه في منامه ما يكره من أجل أن يحزن، وهذا من كيد الشَّيطان لابن آدم، وأنَّه يكيد له في يقظته، ويكيد له في منامه، فهذا من الكيد الذي يكون في المنام، فيُخوّفه، ويُحزنه، فينبغي للمؤمن ألا يلتفت إلى ذلك كما سبق.
وذكر القسم الثالث: وهو حديث النَّفس.
إذن الأولى التي هي بُشرى من الله -تبارك وتعالى-، كما قال النبيُّ ﷺ: لم يبقَ من النبوةِ إلا المبشِّرات، قالوا: وما المبشّرات؟ قال: الرؤيا الصَّالحة[4].
وأمَّا ما يتعلق بحديث النَّفس فهذا شيءٌ لا يُنكر، والإنسان قد يشتغل بشيءٍ يُفكِّر به، يشغل بالَه، فيرى ذلك في المنام، والواقع أنَّ مثل هذا النوع في الرُّؤى تقع لأدنى مُلابسةٍ، يعني: أحيانًا كلمة عابرة قِيلت في حوارٍ بينك وبين صاحبك، ثم تنام فترى رؤيا تتعلَّق بهذه الكلمة التي قُلتها، وهي حديث نفسٍ.
فالرؤى تقع لأدنى مُلابسةٍ، فلا تستغرب، وقد يُحدِّثك آخرُ بحديثٍ تهتمّ له، ثم تنام، ثم بعد ذلك ترى ذلك في نومك، ويكون من قبيل حديث النَّفس، قد تجتمع في العمل اجتماعًا طويلاً مُملاً، ولربما يكون هذا الاجتماعُ فيه جدلٌ كثيرٌ، اجتماعٌ عاصفٌ كما يُقال، فيه مُجاذبات، ونحو ذلك، ثم تنام وتُكمل هذا الاجتماع في النوم، يكون كلّ النوم من أوَّله إلى آخره هو مُواصلة لهذا الاجتماع، هذا شيءٌ مُشاهَدٌ، ومثل هذا لا يُلتفت إليه.
لذلك يوجد في كتب الحكم وما إلى ذلك: أنَّ أهل السُّجون يرون كثيرًا من الرؤى التي تتعلَّق بما يُؤمِّلون، ما يرجون من الخروج والفرج، وما إلى ذلك، فتكثر رُؤاهم في هذا، ولربما يُلقي الشيطانُ أيضًا في قلوبهم أشياء، ويُريهم أمورًا لا حقيقةَ لها، الذين ربما ضاقت بهم الأرضُ بما رحبت، وظنُّوا أنَّ الفسادَ قد طمَّ المعمورة، فهو يُفكِّر في هذا دائمًا، ويشتغل به، وربما يرى أشياء من حديث النَّفس، أو يُريه الشيطان، ويصعب التَّمييز بين هذا وهذا مما يعتقد أنَّه به الفرج؛ فيتلاعب بكثيرٍ من الناس، لربما يرى أنَّه هو المهدي، أو يرى أنَّ أحد هؤلاء الذين يُخالطهم أو يُصاحبهم أو نحو ذلك أنَّه هو المهدي، وتتتابع هذه الرؤى: هذا يراه، وهذا يراه، وهذا يراه، وعشرة، ومئة، ويأتي أقوامٌ ما رأوه، ولا عرفوه، فيرونه، ويقولون: نحن رأيناه في المنام، أنت المهدي. فمثل هذا يكون من تلاعب الشَّيطان في البداية، ولربما يُنكر هذا، ويظنّ أنها مُزحة، ثم ما يلبث بها الشيطانُ حتى يصدق ذلك، نسأل الله العافية.
وهذا يحصل، وللأسف يتكرر، والعاقل مَن وُعِظَ بغيره، والشَّقيُّ مَن وُعِظَ بنفسه، فهذا حديث النَّفس، كما قالوا: العاشق يرى معشوقته كثيرًا في النوم، وكذلك كما يقولون: الهرّة ترى الفأرةَ في النوم؛ لشدّة تعلُّقها ووجدها بها.
فمَن يهتمّ بأمرٍ من الأمور تجد أنَّه يتكرر؛ الذي يشتغل بالبيع والشِّراء والتِّجارة ونحو ذلك تجد رُؤاه تدور حول هذا المعنى، والذي يشتغل بالطبِّ ونحو ذلك تجد أنَّه يرى المرضى، وهذا أتاه، وهذا قال له كذا، وهذا صرف له الدَّواء الفلاني، وهكذا أصحاب الصَّنائع.
فهذه الاهتمامات يراها الإنسانُ في نومه، فهذا حديث النفس، فالنبي ﷺ يقول: فمَن رأى شيئًا يكرهه، ويحتمل أن يكون هذا من بقية كلام ابن سيرين، فأرشد هنا إلى هذه الآداب، وهي تُؤخذ مُجتمعةً من هذه الأحاديث.
قال: فإن رأى أحدُكم ما يكره فليقم فليُصلِّ، ويتحقق ذلك بأن يُصلي ركعتين، فلو أنَّه زاد فهذا أبلغ.
قال: ولا يُحدِّث بها الناس، فهذا أيضًا أدبٌ آخر، حينما يقوم ويُصلِّي فإنَّه يدفع ذلك الشَّيطان، فإن لم يفعل فهذه مراتب: فإنَّه يتفل عن يده الشِّمال، يعني: إلى ناحية الشِّمال ثلاثًا، ويستعيذ بالله من الشَّيطان ثلاثًا، ويتحوّل عن جنبه الذي كان عليه، هذه ثلاثة آداب يفعلها في فراشه، فإن قام وتوضّأ فهذا أبلغ، فإن قام وصلَّى فذلك هو الكمال.
فبعض أهل العلم يقول: هذه الجملة -الأمر بالصَّلاة- أنَّ ذلك من كلام ابن سيرين، وليس من المرفوع في البُخاري، لكن يقولون: هو من قبيل المرفوع عند الترمذي من حديث أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه-، كما قال الإمام النووي[5] -رحمه الله-، فيكون ذلك من جملة هذه الآداب.
قال: ولا يُحدِّث بها الناس، لا مَن يُحبّ، ولا غير ذلك؛ لأنَّه لا حقيقةَ لها، وحينما يُحدِّث بها فإنَّ ذلك إغراق وإمعان فيما يكيد له الشَّيطان؛ ولذلك نحن نقول لأصحاب الوسوسة في الطَّهارة، وفي الصَّلاة، أو في العقيدة، أو غير ذلك: هذه الأسئلة المتكررة المعتادة هي إيغالٌ وإغراقٌ في هذا البلاء، يعني: أنت تزيد المشكلة، وتُجذِّرها، وتُعمِّقها، اقطع ذلك، حتى السُّؤال.
فهنا الرُّؤى كما يقول ابنُ القيم[6] -رحمه الله- في أنواع الوجود، وما يُؤثره ذلك -بإذن الله -، وقد يكون الشيء في ذهن الإنسان أو يراه، فإذا تحدَّث به فذلك كأنَّه يُعمِّقه، أو يُقرره، أو يُجذِّره، فإذا كان ذلك الشَّيء الذي تكلّم به عمل بمُقتضاه، يعني: صدر منه التَّصرف في الخارج، ولربما يراه واقعًا إذا تحدَّث به؛ ولذلك لا ينبغي للإنسان أن يشتغل بذلك؛ لهذا قالوا: لا تقصّ الرؤيا إلا على عالمٍ أو ناصحٍ.
وقوله: "أُحبّ القيد، وأكره الغُلّ"، الغُلّ: هو الرِّباط الذي يكون في العُنق، وأمَّا الغِلّ: فهو الذي يكون في القلب من التَّحامل على الآخرين، وما يجده الإنسانُ من مشاعر سيئةٍ تجاه غيره، هذا غِلٌّ: وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ [الأعراف:43]، أما الغُلّ فهو الرِّباط.
هنا هذا من كلام ابن سيرين؛ لماذا قال: "أُحبّ القيد، وأكره الغُلّ"، القيد يكون في القدمين، والغُلّ في العُنق، القيد: ثباتٌ في الدِّين.
قد ذكر أهلُ العلم أنَّ ذلك لما كان في القدمين، فهو كفٌّ عن المعاصي والشَّر وأنواع الباطل، لا يمشي إليها، مُقيَّدٌ في حركته، ليس بمُنفلتٍ، أمَّا الغُلّ فموضعه العُنق، وهو صفة أهل النار: إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالاً [يس:8]، فهذا شيءٌ مكروهٌ مما يُشاهده الإنسان.
هذا ما يتعلَّق بهذه الأحاديث، وهو هنا بعد الأذكار التي ذكرها؛ أذكار النوم، ما يُقال عند النوم، قال: الدُّعاء إذا تقلَّب ليلاً. فهذا الباب التاسع والعشرون، قال أيضًا في الباب الذي بعده: دعاء الفزع في النوم، ومَن بُلِيَ بالوحشة.
وقال في الباب بعده: ما يفعل مَن رأى الرؤيا أو الحلم. وهذا الباب الذي كنا نتحدَّث عنه، فذكر فيه حديثين: ينفث عن يساره ثلاثًا، ويستعيذ بالله من الشَّيطان ومن شرِّ ما رأى ثلاث مراتٍ، لا يُحدِّث بها أحدًا، يتحوّل عن جنبه الذي كان عليه؛ ليقوم، ويُصلي إذا أراد ذلك، فأتيتُ بسياقاتها في الأحاديث كاملةً، هي التي سبق الحديثُ عنها في مجلسٍ سابقٍ بالسِّياق كاملاً، هو يأتي بالجملة التي فيها موضع الشَّاهد هذا، والله تعالى أعلم.
- أخرجه مسلم: كتاب الرؤيا، برقم (2263).
- أخرجه البخاري: كتاب التعبير، باب القيد في المنام، برقم (7017).
- أخرجه أبو داود: كتاب الأدب، باب ما جاء في الرؤيا، برقم (5019)، والترمذي وصححه: أبواب الرؤيا عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، باب أنَّ رؤيا المؤمن جزءٌ من ستةٍ وأربعين جزءًا من النبوة، برقم (2270).
- أخرجه البخاري: باب التَّعبير، باب المبشّرات، برقم (6990).
- "الأذكار" للنووي (ص98).
- انظر: "إعلام الموقعين عن ربِّ العالمين" (3/121).