الحمد لله، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله.
أما بعد: فمن أدعية الاستسقاء ما جاء عن عبدالله بن عمرو -رضي الله عنهما- قال: "كان رسولُ الله ﷺ إذا استسقى قال: اللهم اسقِ عبادك وبهائمك، وانشر رحمتك، وأحي بلدك الميت".
أخرجه أبو داود[1]، وسكت عنه، وصحح إسناده جمعٌ من أهل العلم؛ كالإمام النَّووي[2]، وحسَّنه الشيخ ناصر الدين الألباني[3].
وقال ابنُ الملقّن: "رُوي مرسلاً، ومُتَّصلاً"[4]، وقال أبو حاتم: "المرسل أصحّ، وفي إسناده علي بن قادم صُويلح"[5].
قوله: "كان إذا استسقى" أي: طلب الغيثَ عند الحاجة إليه، طلب السُّقيا، ومثل هذا التركيب يدلّ على المداومة والتَّكرار، "كان إذا استسقى"، فهو يُكرر مثل هذا الدُّعاء ﷺ في استسقائه.
فيقول -عليه الصَّلاة والسَّلام-: اللهم اسقِ عبادك وبهائمك، اسقِ عبادك من الرجال والنِّساء، العبيد والإماء، الصِّغار والكبار، وهذه الإضافة مناسبة في هذا المقام، وليست إضافةَ تشريفٍ، وإنما هي إضافة خلقٍ.
ويكون فيها أيضًا من المعنى الزائد: أنَّ هذا مقام استرحامٍ، طلب الرَّحمة، فهؤلاء عبادك، إلى مَن يلجؤون؟ إلى مَن تكلهم؟ فهم خاضعون لعظمتك وجلالك، وهذه العبودية السيد يقوم على عباده، يقوم على شؤونهم؛ يُعطيهم، يُطعمهم، يسقيهم، يُصلح أحوالهم، فيقولون: نحن عبادك يا ربّ، قد افتقرنا إلى رحمتك، وقد توجّهنا إليك لتسقينا.
اسقِ عبادك وبهائمك، والبهائم هنا يدخل فيها جميع دوابِّ الأرض من ذوات الأربع وغيرها، وإن كان هذا اللَّفظ قد يُطلق في الاصطلاح العُرفي -يعني: في بعض العُرف- على نوعٍ منها، فقد يُطلق ذلك على خصوص ما له أربع قوائم، ولو كان مما يعيش في الأنهار، أو البحار.
وقد يُطلق على كلِّ حيٍّ لا يُميز: البهيم، يعني: الذي لا عقلَ له، الذي لا يعقل من جميع أنواع الحيوانات: من بهيمة الأنعام، والسِّباع، والدَّواب بمختلف أنواعها.
وهذا -والله أعلم- كأنَّه أليق بالمقام؛ لأنَّ جميع هذه البهائم مُحتاجة إلى السُّقيا، وجعل ذلك مُقابلاً لما ذُكر من العباد: عبادك وبهائمك، يعني: اسقِ البشرَ وغير البشر من الحيوانات والدَّواب ونحوها.
وانشر رحمتك والرَّحمة هنا يدخل فيها دخولاً أوَّليًّا الغيث: وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ [الشورى:28]، فهو مظهرٌ من مظاهر الرَّحمة، يرحم الله بها مَن شاء من عباده، يعني: ابسط بركات الغيث ومنافع هذا المطر على العباد: انشر رحمتك، بعدما سأل السُّقيا، فإنَّ الناس قد يُسقون، وقد ينزل المطر، ولكن لا يكون رحمةً لهم؛ إمَّا لما يحصل بسببه من الضَّرر العام، أو لكونه لا يحصل بسببه نفعٌ؛ تنزل الأمطار، وكأنَّ الأرضَ لم تُمطر، كما نُشاهد في هذه السَّنوات في أغلبها -والله المستعان-.
انشر رحمتك فإذا سأل الإنسانُ ربَّه الغيثَ فإنَّه لا يقول: اللهم أنزل علينا المطر، وإنما يقول: اللهم أغثنا، اللهم أغث عبادك وبهائمك، ويقول: وانشر رحمتك؛ لأنَّ ذلك إذا انفكَّ عن الرحمة فإنَّه يكون لغرقٍ وهدمٍ، أو لا يكون فيه نفعٌ.
وأحي بلدك الميت لاحظ عموم هذا الدُّعاء: فاشتمل على ما يحصل به الإغاثة من حاجة العباد، ومن حاجة الدَّواب والبهائم، وكذلك حاجة الأرض: أحي بلدك الميت، فهذه الأرض تكون ممحلةً، هامدةً، لا نباتَ فيها: فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ يعني: بالنَّبات، وَرَبَتْ [فصلت:39] وانتفخت وارتفعت بحركة النَّبات في أسفلها، أو تحتها، ثم بعد ذلك تنشقّ الأرض عن مسمار النَّبات، وتُخرج الأرضُ بركتها، وتُنبت من كلِّ زوجٍ بهيجٍ.
وأحي بلدك الميت بإنبات الزرع بعد موت هذه الأرض وجدبها: فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا [الروم:50]، وانشر رحمتك هذه آثار رحمته -تبارك وتعالى-: وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا [فاطر:9]، وهكذا كما في قوله -تبارك وتعالى-: وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ [ق:11]، هذه الأرض الميتة ينزل عليها المطرُ فتتحول إلى شيءٍ آخر: نباتات جميلة خضراء مُونقة، ولم يكن بها شيءٌ، فهذا يدلّ على قُدرة الله على إحياء الموتى وبعثهم من قبورهم، كما يخرج هذا النَّباتُ من هذه الأرض الممحلة.
وهذا الحديث يدلّ على استحباب هذا الدُّعاء في الاستسقاء.
بعد ذلك يأتي البابُ الذي بعده، وهو "الدُّعاء إذا رأى المطر"، تلك الأحاديث الثلاثة هي حينما يطلب المطرَ، يستسقي، فإذا نزل المطرُ ماذا يقول؟
جاء في حديث عائشةَ -رضي الله عنها-: أنَّ رسول الله ﷺ كان إذا رأى المطرَ قال: اللهم صيِّبًا نافِعًا، "اللهم" يعني: يا الله، "صيبًا نافعًا". هذا أخرجه البخاري في "صحيحه"[6].
"كان إذا رأى المطر" كما قلنا يدلّ على المداومة والتَّكرار؛ أنَّ ذلك من هديه وعادته ﷺ إذا رأى المطر، فلا يُقال ذلك بعد الاستسقاء إذا نزل المطرُ فحسب، وإنما إذا رأى المطر قال ذلك، كلَّما نزل مطرٌ ورآه قال ذلك، ولا يكون ذلك في أول نزولٍ له، وإنما يتكرر مع تكرره، والقاعدة: أنَّ ما علّق على الشَّرط مثل هذا "إذا رأى المطر" فإنَّه يتكرر بتكرره.
إذا رأى المطر المقصود به الماء النَّازل كما هو معروفٌ، وفسَّره بعضُهم بتفسيرات، هذا لا يخفى.
يقول: اللهم صيِّبًا أصله: صيوب، والصّيب المقصود به المطر: اللهم صيِّبًا، لكن فيه زيادة على معنى المطر، وكما هو معلومٌ من أنَّ اللغة لا يكاد يوجد فيها شيءٌ من الألفاظ المترادفة، يعني: لفظة تُطابق الأخرى بمعناها مُطابقةً كاملةً من كل وجهٍ، لكنَّها تفي بمعناها الأصلي، ولكن تبقى هناك معانٍ خادمة، معانٍ تكميلية ثانوية تختصّ بها كلُّ لفظةٍ.
فالصّيب هو المطر، لكن الصّيب فيه زيادة على المطر؛ ولذلك قيَّده بعضُهم بالكثير، قالوا: لأنَّ هذه اللَّفظة تُشعر بذلك، فهو صيوب، هو كثير الهطول، هذه اللَّفظة تُشعر بذلك، فهو صيوب، هو كثير الهطول والنُّزول؛ لأنَّه يصوب، يعني: ينزل ويقع، فاللَّفظة في بنائها ما يدلّ على الكثرة والشّدة.
إذن هو المطر الكثير: اللهم صيِّبًا نافِعًا، يعني: مطرًا وفيرًا كثيرًا نافِعًا، ولا يكون هذا المطرُ مطرًا يسيرًا خفيفًا.
ومَن يعرف المطرَ، ويعرف الأرض، ويعرف حاجةَ الأرض وحاجة الناس، وعايش هذه الأمور وعاينها؛ فإنَّه يعرف أنَّ الأمطار التي تنزل قليلة، وما تلبث أن تنقطع وتنقضي، فمثل هذا لا تنتفع به الأرض انتفاعًا كبيرًا؛ لا فيما يتَّصل بما تحويه في جوفها من المياه التي يسلكها الله فيها، ولا فيما يتعلّق بانتفاع الشَّجر والأرض بهذا المطر.
المطر إذا كان كثيرًا ظهرت آثاره فيما يختزن في باطن الأرض، وظهرت آثاره فيما تراه العيون، يعني: الآبار التي تجفّ عشرات السنين، إذا نزل المطرُ الكثير رأى الناسُ الماءَ فيها، وما رأوه قبل أربعين سنة يظهر الماء في هذه الآبار ظهر؛ لأنَّ الأرض صار الماءُ في بطنها.
النَّباتات أو الأشجار أو التي تحتاج إلى ماءٍ كثيرٍ، هذه قد لا يُجدي معها الماء اليسير، هذا المطر القليل يُنبت الربيع ربما، وقد لا يُنبت شيئًا إذا نُزعت منه البركة، فهذا يُنبت الربيع؛ يخرج به الأزهار ونحو ذلك، لكنَّه يضمحلّ إذا تحوّل الهواء وبدأ الحرّ، فيتحول إلى هشيمٍ تذروه الريح، لكن المطر الكثير الذي تنتفع به الأشجارُ ويبقى سائر العام هذا لا بدَّ أن يكون مطرًا وفيرًا، كثيرًا، غزيرًا، وهذا يعرفه مَن له اشتغالٌ بالزراعة، أو اشتغالٌ بالرعي، أو غير ذلك مما له تعلّق بالمطر.
فهنا يدعو أن يكون صيِّبًا، يعني: كثيرًا، وكذلك أن يكون نافعًا، فقد يكون صيِّبًا، ولكنَّه لا ينفع، فسؤال النَّفع في هذا المطر لأنَّه قد يكون ضارًّا، وقد لا يكون ضارًّا، ولكنَّه يكون عديم النَّفع، لا ينتفع الناسُ به، نزل مطرٌ وكثر وتتابع، ولكن لم يظهر أثره، كأنَّه لم ينزل؛ لنزع البركة، والبركة لو وُجدت في القليل لبان وظهر أثره.
من التواريخ التي عُرفت في بلاد نجدٍ في هذا العصر في القرن الماضي، يُؤرخ بها الناسُ إلى اليوم: سنة هم يُعبرون ...، كانوا يُؤرخون بسنوات حصلت فيها أحداث غير عادية، فهناك سنوات حصلت فيها أمراض وموت كثير، فكانوا يُؤرخون بها، وهناك سنوات حصلت فيها حروب، وسنوات حصل فيها جوعٌ شديدٌ، وقحطٌ شديدٌ، فيُؤرخون بها، هذه تواريخ معروفة عندهم.
من هذه السَّنوات التي يُؤرخون بها سنة يُقال لها: سنة الدّمنة، هذه سُميت بهذا لأنَّه نزل مطرٌ خفيفٌ جدًّا، بحيث إنَّه -أعزَّكم الله- إذا رُفع دمن الغنم لا يُرى تحته شيء، يعني: جافًّا؛ لخفّة المطر الذي نزل، ولكنَّه شُوهد من الربيع والنَّبات والكمأ في تلك السَّنة ما لا يُقادر قدره، حتى إنَّ الناس كانوا يأخذون الكمأ ويجدونه في الليل -هذا الكلام كان قبل أكثر من سبعين سنة-، والراكب على الدَّابة -على الراحلة- يجد رائحةَ الكمأ وهو يسير في السَّفر أو نحو ذلك، فكانت سنةَ خصبٍ وخيرٍ كثيرٍ حصل للناس، وما نزل إلا مطرٌ يسيرٌ، لو قُلِبَتْ هذه التي هي فضلات الغنم لما شُوهد تحتها شيء، يعني: تحتها جافّ؛ لأنَّ المطرَ الذي نزل أشبه ما يكون بالطلِّ، ومع ذلك حصل به هذا الخصب والنَّفع.
إذن نافعًا، لا يكون مُغرقًا، وهذا من التَّتميم لقوله: صيِّبًا؛ لأنَّ الصّيب مظنّة للضَّرر، فقال: صيبًا نافعًا يعني: لا يحصل به هدمٌ، ولا غرقٌ، ولا تعطل السُّبل، وإنما يكون به الانتفاعُ، اجعله -التَّقدير هكذا- صيِّبًا نافعًا، يعني: اجعله اللهم صيِّبًا نافعًا، كما تدلّ على ذلك بعضُ الرِّوايات؛ كما في "السنن" عند النَّسائي[7]، وابن ماجه[8]، وكذلك عند البيهقي[9]: اجعله صيِّبًا نافعًا.
هذا المعنى: اللهم صيِّبًا نافِعًا، يعني: اجعله صيِّبًا نافعًا، أو اسقنا صيِّبًا نافعًا، أو نسألك صيِّبًا نافعًا.
ويحتمل أن يكون ذلك على تقدير أنَّه حال: اللهم أنزل المطر حال كونه صيِّبًا نافعًا، أنزل علينا المطرَ حال كونه صيبًا نافعًا.
ومثل هذا الدُّعاء فيه من المعاني والفوائد والآداب ما لا يخفى، فإذا سأل المؤمنُ المطر، أو يسأل كثرةَ المطر، ويسأل أيضًا مع ذلك النَّفع، ويسأل البركة.
فنسأل الله أن يغيث قلوبنا، وبلادنا، وبلاد المسلمين، وأن يُعيننا وإياكم على ذكره، وشُكره، وحُسن عبادته.
- أخرجه أبو داود: جماع أبواب صلاة الاستسقاء وتفريعها، باب رفع اليدين في الاستسقاء، برقم (1176).
- "الأذكار" للنووي، ت: الأرناؤوط (ص177)، برقم (509).
- "صحيح أبي داود" (4/340)، برقم (1067).
- "البدر المنير" (5/165).
- انظر: "علل الحديث" لابن أبي حاتم (2/55).
- أخرجه البخاري: أبواب الاستسقاء، باب: ما يقال إذا مطرت، برقم (1032).
- أخرجه النسائي: كتاب الاستسقاء، باب القول عند المطر، برقم (1523).
- أخرجه ابن ماجه: أبواب الدُّعاء، باب ما يدعو به الرجلُ إذا رأى السَّحاب والمطر، برقم (3890)، ولفظه: ((اللهم اجعله صيِّبًا هنيئًا)).
- أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى"، برقم (6466)، بلفظ ابن ماجه.