الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
أما بعد: فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته،
هذا باب "دعاء العاطس"، أو قال: هذا باب "دعاء العطاس"، وذكر فيه حديثَ أبي هريرة ،عن النبي ﷺ قال: إذا عطس أحدُكم فليقل: الحمد لله، وليقل له أخوه أو صاحبه: يرحمك الله، فإذا قال له: يرحمك الله، فليقل: يهديكم الله، ويُصلح بالكم[1].
هذا الحديث أخرجه البخاري في "صحيحه".
قوله ﷺ: إذا عطس أحدُكم فليقل: الحمد لله العطاس معروفٌ، ويُؤمر العاطس بالحمد؛ لأنَّ العُطاس نعمةٌ، والنِّعَم تُقابل بالحمد، وذلك أنَّ العطاس لو أنه امتنع لحصل الضَّرر على بدن الإنسان ودماغه، فإنَّ أهل العلم يُفسرون هذه الحالة أو الظَّاهرة بأنها أبخرة تتصاعد إلى الدِّماغ، فإذا عطس فإنَّ ذلك يستفرغ منه، وهذا لا يكون إلا للصَّحيح، يعني: أصحاب العِلل الظَّاهرة المتمكنة قد لا يصدر منهم العطاس، اللهم إلا الزّكام، فإنَّ ذلك لا يدل على ما ذُكر من عافيةٍ، أو نحو ذلك، وإنما هو لأمرٍ عارضٍ، وإلا فالعطاس هو استفراغٌ لتلك المواد التي لو انحبست في الجسد لحصل الضَّرر.
ومن هنا فإنه يُؤمر بحمد الله -تبارك وتعالى-، هكذا ذكر أهلُ العلم -كالقاضي عياض وغيره- في تعليل الحمد أنَّه مقابل نعمةٍ.
والعلماء لهم كلامٌ في هذا كثيرٌ، والعرب لهم كلامٌ، وفي كتب الأدب أيضًا أشياء من هذا، ومن العبارات المعروفة عندهم التي تدلّ على شيءٍ مما ذكرت، من الأمثال الدَّارجة عندهم: "أنَّ مَن عطس ما فطس"، هذه عبارة سارت مسير الشمس كالمثل، صاروا يقولونها، تُعبر عن هذا المعنى، أنَّ ذلك يكون عافيةً للبطن، وهو دليلٌ على صحّة هذا البدن، حيث يستفرغ الأخلاط والأبخرة الفاسدة، أمَّا إذا ضعف البدن واعتلَّ فإنَّه لا يكون قادرًا على استخراج ذلك؛ ولذلك إذا عطس الإنسانُ فإنه يضطرب جسدُه بجميع أجزائه، فهذا يدل على عافيته، وتمكن العافية فيه، فيحمد ربَّه -تبارك وتعالى- على هذا وهذا: على العافية، ويحمده أيضًا على هذا العطاس.
فليقل: الحمد لله، وليقل له أخوهيعني: في الإسلام، يقول له صاحبه، أومَن سمعه: يرحمك الله،"يقول له أخوه أو صاحبه"، هذا شكٌّ من الراوي: يرحمك الله.
هنا العاطس حينما يقول: الحمد لله، فإنَّه بذلك يستحقّ أن يُشمّت، والتَّشميت هو ما يُقال للعاطس، يُقال له: يرحمك الله، فكأنَّ هذا كان قريبًا من الرحمة بشُكره لنعمة الله -تبارك وتعالى- وحمده على ذلك، ومن ثم شرع أن يُجاب بقولهم، أو قول المشمّت: يرحمك الله، ولما كان بهذه المثابة يُدعى له بالرحمة؛ فإنَّه يُجيبه بالدُّعاء أيضًا لهذا المشمّت بالهداية وصلاح البال.
وعلى كل حالٍ، لاحظوا هنا أنَّه يُقال للعاطس: يرحمك الله، ويُقال للمشمّت: يهديكم الله ويُصلح بالكم.
بعض أهل العلم قال: الحكمة في اختيار الدُّعاء بالرحمة للعاطس أنَّ هذا العاطسَ أصابه ما تنحلّ به أعصابه، ويضرّ سمتها، يعني: لشدّة أثر العطاس يحصل به اضطراب كما ذكرتُ في جميع البدن.
قالوا: فلولا رحمة الله به لحصل له ضررٌ؛ بأن ينقطع به عرقٌ، أو عصبٌ، أو نحو ذلك؛ فيلحقه الأذى، فيُقال: يرحمك الله، يُدعى له بالرحمة، أنَّه لولا هذه الرحمة من الله حاصلة لحصل له المكروه.
هكذا قال بعضُ أهل العلم، وبعضهم قال غير ذلك.
وأمَّا الهداية فقالوا: هذه يحتاج إليها الجميع، جميع أهل الإيمان يحتاجون إلى الهداية، فيُدعى لهذا المشمّت، يقال: يهديكم الله، ويُصلح بالكم.
وقد ذكر بعضُ أهل العلم -كابن دقيق العيد رحمه الله- أنَّ ظاهر الحديث يدل على أنَّ السنة أنَّ ذلك لا يتأتى إلابالمخاطبة[2]، يعني: لا يأتي به بصيغة الغائب مثلاً، وإنما يقول: يرحمك الله،ويقول له: يهديكم الله، ويُصلح بالكم، هكذا بأسلوب الخطاب، لا أن يُقال مثلاً: "يرحم الله مَنعطس"، كما يقول بعضُهم، من عادتهم أن يقولوا للكبير من القوم: "يرحم الله سيدنا"، أو نحو ذلك من العبارات، وإنما يقول: يرحمكم الله،بكاف الخطاب، يُخاطبه بذلك.
وحكم التَّشميت: أن يُقال للعاطس: يرحمك الله، هل هو واجب، أو مُستحبّ؟ هل هو فرض كفايةٍ إذا قيل: إنَّه واجب، أو يُقال: إنَّه سنة كفاية، أو مستحبّ على الكفاية؟ يعني: يُستحبّ من البعض دون الجميع، فإذا صدر من بعضهم كفى عن الباقين؟
صحَّ عن النبي ﷺ أنَّه قال: أربعٌ للمسلم على المسلم،وذكر منها: ويُشمّته إذا عطس[3].
أربعٌ للمسلم على المسلميعني: حقوق، وفي الحديث الآخر: أمرنا رسولُ الله ﷺ بسبعٍ، ونهانا عن سبعٍ. وذكر منها: تشميت العاطس[4]. والأمر يدل على الوجوب، والحقّ شيءٌ ثابتٌ واجبٌ.
ومن هنا اختلف أهلُ العلم في حكم التَّشميت؛ فبعض أهل العلم قال: إنه سنة على الكفاية، يكفي أن يصدر من البعض، ولا يجب، ولو لم يصدر من أحدٍ فإنَّ ذلك لا تلحقهم به المؤاخذة والوزر.
قالوا: لكن الأفضل أن يقول كلُّ أحدٍ: "يرحمك الله" ممن سمعه، يقول:"الحمدلله"؛ لظاهر قول النبي ﷺ: كان حقًّا على كل مسلمٍ سمعه أن يقول له: يرحمك الله[5].
ولاحظوا هنا، يعني: مثل هذا ينبغي أن يُحمل على الوجوب: كان حقًّا على كل مسلمٍ، والحقّ هو الثابت، والثابت هو الواجب.
وقد اختلف أصحابُ مالك -رحمه الله- في وجوبه، فذهب بعضُهم كما سبق إلى أنَّه سنة[6]،وهذا الذي ذهب إليه عامَّة الشَّافعية[7]، وأنه يُجزئ تشميت واحدٍ من الجماعة، يعني: سنة كفاية.
وذهب بعضُ المالكية إلى أنَّه واجبٌ على كل واحدٍ منهم[8]، وهذا الذي اختاره أبو بكر ابن العربي صاحب "أحكام القرآن"[9].
وعلى كل حالٍ، من أهل العلم مَن قال: بأنَّ التَّشميت واجبٌ، الظَّاهرية[10]كما هي العادة في مأخذهم ومذهبهم، أخذوا بظواهر هذه النصوص: إذا عطس أحدكم فحمد الله؛ كان حقًّا على كل مسلمٍ يسمعه أن يقول: يرحمك الله[11]،وقيّد هنا بالسَّماع، والمشهور من مذهب المالكية أنَّه فرضٌ على الكفاية[12]، هذا المشهور من مذهبهم فيما ذكره بعضُ أهل العلم.
وعلى كل حالٍ، ذهب ابنُ دقيق العيد إلى أنَّ ظاهر الأمر الوجوب[13]، هذه هي السنة.
فليقل يعني: العاطس يهديكم الله، ويُصلح بالكميعني: يُصلح شأنكم وحالكم، ويكون ذلك جوابًا لقوله: يرحمك الله.
ولاحظوا هنا أنَّ الصيغة جاءت في الردِّ بصيغة الجمع: يهديكم الله، ويُصلح بالكم،لكن في التَّشميت: فليقل: يرحمك الله بصيغة المفرد؛ لأنَّالذي عطس واحدٌ، فهنا جاء الردّ بصيغة الجمع باعتبار أنَّه في الغالب يكون قد حضره جمعٌ من الناس، أو شمَّته جمعٌ، فهنا يُجيبهم بذلك، أو أنَّه يقصد بذلك التَّعظيم إذا كان واحدًا، يقول له: يهديكم الله، ويُصلح بالكم،أو يكون المقصودُ بذلك عموم الأُمَّة، كما قاله بعضُ أهل العلم.
يعني: لو كان المشمّت واحدًا هل يقول له: يهديك الله، ويُصلح بالكبصيغة الإفراد؟ هذا يحتمل.
النبي ﷺ علم كيف يُقال للعاطس، فيقول له: يرحمك اللهبالإفراد، فإذا قال له: يرحمك الله، فليقل: يهديكم الله، ويُصلح بالكم، ولو كان واحدًا فإنَّه يقول له: يهديكم الله، ويُصلح بالكم.
والمقصود بالدُّعاء بالهداية هنا يعني: يدخل فيها الإرشاد إلى محابِّ الله -تبارك وتعالى-، والتوفيق للعمل بمرضاته، يشمل هذا وهذا.
وليس لقائلٍ أن يقول: بأنَّ الله قد هدانا للإسلام، فكيف يُدعا بالهداية كما نقول: الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ[الفاتحة:6]في كل ركعةٍ؟
قد أجبتُ عن هذا في عددٍ من المناسبات، وحاصله: أنَّ الهدايةَ هنا يدخل فيها هداية الإرشاد، وهداية التوفيق، فهذه الشَّريعة بتفاصيلها يحتاج العبدُ إلى معرفة هذه الأحكام والتفاصيل، وقد وقع في ذلك اختلافُ أهل العلم، فيحتاج إلى هدايةٍ لمعرفة الحقِّ والصَّواب: أن يعرف مراد الله، وأن يعرف الحكم الصَّحيح، فهذه هداية، وإذا هُدي إلى هذا فإنه يحتاج إلى هدايةٍ أخرى، وهي أن يعرف أفضل هذه الأعمال في غير الواجبات؛ لأنَّ العمر قصيرٌ، وشرائع الإسلام كثيرة، فيحتاج إلى هدايةٍ إلى أفضل الأعمال؛ فيعمل بها.
ثم أيضًا هو بحاجةٍ إلى هدايةٍ أخرى، وهو أن يُهدى إلى العمل بما علم، فإنَّ الكثيرين يعلمون، ولكنَّهم لا يعملون، كثيرٌ يعلمون أنَّ الصلاة واجبة، وأنَّ الصيام واجب، وأنَّ برَّ الوالدين واجب، ونحو ذلك، ولكن يتركون العملَ بذلك، فيحتاج إلى هدايةٍ بالعمل، ثم يحتاج إلى هدايةٍ أخرى؛ وهي بالثَّبات على هذا الذي عمله، فلا يكون ذلك مدّةً من الزمان، ثم ينقطع؛ ولهذا كثيرٌ من العلماء يُفسّرون الهدايةَ في قوله: الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ بهذا، يقول: ثبّتنا على الصراط، والواقع أنَّه واحدٌ من هذه الهدايات، ووراء ذلك هدايات أخرى، هذه بعضُها.
فعلى كل حالٍ، هنا يقول: يهديكم اللههداية إرشادٍ، وهداية توفيقٍ للعمل والامتثال، وهداية تثبيتٍ إلى الممات.
ونُقل عن الإمام مالك -رحمه الله- أنَّه قال: لا تُشمّته حتى تسمع حمدَه[14]. هذا إذا لم يتكلم، لم يتفوه بالحمد، لم يسمع منه أنَّه قال: الحمد لله، فهل يُشمّت، أو لا يُشمّت؟
فمن أهل العلم مَن قال: إنَّه لا يُقال له ذلك إلا إذا سمع. وهذا هو الراجح، ويدلّ على ذلك ما صحَّ عن النبي ﷺ من حديث أبي هريرة قال: كنا جلوسًا عند رسول الله ﷺ فعطس رجلٌ، فحمد الله، فقالله رسولُ الله ﷺ: يرحمك الله،ثم عطس آخرُ، فلم يقل له شيئًا، فقال: يا رسول الله، رددتَ على الآخر، ولم تقل لي شيئًا! قال: إنَّه حمد الله، وسكتَّ[15].وصحَّ أيضًا من حديث أنسٍ نحو هذا الحديث[16].
وفي روايةٍ: أنَّ النبي ﷺ قال: إنَّ هذا ذكر الله؛ فذكرتُه، وأنت نسيتَ الله؛ فنسيتُك[17].
على كل حالٍ، إذا لم يقل: الحمد لله؛ فإنَّه لا يُشمّت، وإذا لم يسمع؛ فإنَّه لا يُشمّت، ولو عرف أنَّ من عادته أنه يحمد الله، هذا الذي تدل عليه ظواهر هذه النصوص؛ الذي لم يحمد الله -تبارك وتعالى- لو أنَّ أحدًا شمَّته، قلنا: لا يُشمّت، لو أنَّ أحدًا شمّته، هل في ذلك بأسٌ؟
ذهب بعضُ أهل العلم إلى الكراهة، أنَّه يُكره تشميته، وهذا قولٌ معروفٌ للشافعية[18]وغيرهم، وكذا أيضًا عند الإمام مالك[19].
وبعض أهل العلم قال: إنَّه إن سمع أحدًا يشمّته فإنَّه يُشمّت؛ لأنَّه قد يكون قال ذلك فسمعه مَن يليه، ولكن هذا لم يسمع، ولكن الحديث مقيّدٌ بالسماع؛ لقوله: فحقٌّ على كل مسلمٍ سمعه أن يقول: يرحمك الله.
واختلفوا أيضًا فيما يقول العاطس، إذا عطس ماذا يقول؟ واختلفوا فيما يُقال له، ما يقوله المشمّت، واختلفوا فيما يكون الردّ أيضًا، هذا الحديث واضحٌ أنه يقول: الحمد لله، وأنَّ المشمّت يقول: يرحمك الله، وأنَّه يرد على المشمّت يقول: يهديكم الله، ويُصلح بالكم.
فذهب بعضُ أهل العلم إلى أنَّ العاطسَ يقول: "الحمد لله"، كما دلَّ عليه هذا الحديث، وقد جاء ذلك عن جماعةٍ من الصحابة كأنسٍ[20]، وهو مرويٌّ أيضًا عن ابن مسعودٍ-رضي الله عن الجميع[21].
واختارت طائفةٌ أنَّه يقول: الحمد لله ربِّ العالمين، يعنييزيد: ربّ العالمين، وجاء هذا عن ابن عباسٍ -رضي الله عنهما-وابن مسعودٍ[22]،يعني: من فعل ابن عباسٍ ، وكذلك ابن مسعودٍ من قوله؛ أنَّه قال: "فليقل: الحمد لله ربِّ العالمين"[23]، وقال بذلك من التَّابعين إبراهيم النَّخعي.
وذهبت طائفةٌ إلى أنه يقول: "الحمد لله على كل حالٍ" إذا عطس، وهذا جاء عن أبي هريرة [24]-،وابن عمر[25]، وقد قال ابنُ عمر -رضي الله عنهما-: هكذا علَّمنا رسولُ الله ﷺ[26].
وقد صحَّ ذلك عند أبي داود وغيره من حديث أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه-: الحمد لله على كل حالٍ[27]؛ ولهذا ذهب ابنُ جرير الطَّبري -رحمه الله- إلى أنَّ الصواب في ذلك أنَّ العاطس مُخير بأيّ هذه المحامد شاء[28]،ما ثبت عن النبي ﷺ؛ قل: "الحمد لله"، وكذلك أيضًا يقول: "الحمد لله على كل حالٍ"، أمَّا "الحمد لله ربِّ العالمين" فهذا ثبت عن بعض الصحابة .
فهل يُقال هذا مثل التَّلبية؟
نُقل عن النبي ﷺ صيغ في التلبية، نُقل عنه أنَّه كان يقول: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريكَ لك لبيك[29]إلى آخره، وعن بعض الصَّحابة صيغٌ أخرى، وأنَّه ما كان يُنكر أحدٌ على أحدٍ.
الجواب: أنه تُوجد فروقات بين هذا وهذا، من هذه الفروقات: أنَّ النبي ﷺ كان يسمعهم في التَّلبية، فيقرّهم، فهي من قبيل السُّنة التَّقريرية.
الأمر الثاني: أنَّ النبي ﷺ في التَّلبية لم يقل لهم: قولوا: "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريكَ لك لبيك"، وهنا في التَّشميت قال: فليقل: الحمد لله، في الحمد العاطس يقول كذا، وفي التَّشميت يقول: يرحمك الله، فعلم الصيغة، ما قال: فليحمد الله، لو قال: فليحمد الله؛ كان بأيّ صيغةٍ، كما قال الله : فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ[النحل:98].
لو نظرتم إلى أقوال السَّلففي صيغ الاستعاذة، مع أنَّه ثبت عن النبي ﷺ عددٌ من الصيغ، لكن جاءت عن بعض السَّلف صيغٌ أخرى، هذه الصِّيغ مبناها على أنَّ الله أمر بالاستعاذة، ولم يُحدد صيغةً، والنبي ﷺ استعاذ بصيغٍ مُعينةٍ، ولم يأمر بصيغةٍ محددةٍ منها.
أمَّا هنافقال: فليقل: الحمد للهذكر الصِّيغة، ففرقٌ بين هذا وبين الاستعاذة، وفرقٌ بين هذا وبين التَّلبية، فلو أنَّه اقتصر على ما جاء عن الرسول ﷺ لكان هذا هو الأحقّ والأولى -والله تعالى أعلم.
بعد ذلك في قول المشمّت للعاطس،في هذا الحديث يقول له: يرحمك الله، بعض أهل العلم اقتصر على هذا؛ بناءً على هذا الحديث.
وذهب بعضُهم كما جاء عن إبراهيم النَّخعي: أنَّهم كانوا يُعمّمون بالتَّشميت والسلام[30]،يعني: يقول: "يرحمكم الله"، يأتي بها بصيغة الجمع.
وهذا على كل حالٍ سهلٌ، فالصيغة هي هي، إلا أن ذلك يكون بالإفراد، أو بالجمع، لكن نُقل عن الحسن أنَّه قال:"الحمد لله، يرحمكم الله"[31]، لكن النبي ﷺ علَّمنا هنا أن يقول المشمّت: يرحمك الله، يقتصر على هذا، وقد ذهب إلى ذلك جمعٌ من أهل العلم، منهم الحافظ ابن عبدالبرّ في كتابه المعروف "الاستذكار"، اختار هذه الصِّيغة الواردة في هذا الحديث: أن يقول المشمّت:"يرحمك الله"[32].
ردّ العاطس على المشمّت: ما هي الصِّيغة؟
بعض أهل العلم اقتصر على ما جاء هنا: يهديكم الله، ويُصلح بالكم،وجاء هذا عن أبي هريرة [33]-وجماعة، وبعضهم اختار صيغةً أخرى، قال: يقول: "يغفر اللهُ لنا ولكم"، وقد جاء ذلك عن ابن مسعودٍ ، هذا رُوِيَ مرفوعًا عن النبي ﷺ، لكنَّه لا يصحّ[34]، لكن صحَّ عن ابن مسعودٍ أنَّه قال: وليقل هو: "يغفر الله لنا ولكم"يعني: يردّ على مَن شمّته يقول: "يغفر الله ..."من قول ابن مسعودٍ، وليس من قول النبي ﷺ، أمَّا المرفوع فلا يصحّ عن النبي ﷺ[35].
وجاء ذلك أيضًا عن ابن عمر[36]،وأبي وائل النَّخعيمن التَّابعين[37]، وهو قول الكوفيين، أصحاب ابن مسعودٍ [38].
وكان ابنُ عباسٍ يقول إذا شمَّت: "عافانا الله وإيَّاكم من النار، يرحمكم الله"، وهذا ثابتٌعن ابن عباسٍ -رضي الله عنهما[39]-، لكنَّه من قوله هو، يقول: "عافانا الله وإياكم من النار، يرحمكم الله".
وكان ابنُ عمر يقول: "يرحمنا الله وإياكم، ويغفر لنا ولكم"[40].
كل هذا بأسانيد صحيحة ، والاقتصار على ما صحَّ عن رسول الله ﷺ هو الأجدر، والأحقّ، والأولى.
ابن جرير الطَّبري -رحمه الله- يردّ على مَن أنكر الصِّيغة الواردة في هذا الحديث[41]،يعني: بعض أهل العلم يقول: إنَّه لا يقول: "يهديكم الله، ويُصلح بالكم"، ولعلَّ ذلك لم يبلغه مثل هذا الحديث، وقد صحَّ ذلك عن رسول الله ﷺ، ولا يمكن ردّه، وذلك أثبت من غيره -والله تعالى أعلم.
إذا عطس غير المسلم فما الحكم؟
كان اليهودُ يتعاطسون عند النبي ﷺ، يعني: رجاء أن يدعو لهم بالرحمة، أن يقول: "يرحمكم الله"، فكان يقول: يهديكم الله، ويُصلح بالكم، وهذا ثابتٌ عن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم.
ومن الأدب في العطاس: ما صحَّ من حديث أبي هريرة، عن النبي ﷺ: أنَّه كان إذا عطس وضع يدَهأو ثوبَه على فيه، وخفض أو غضَّ بها صوته[42].
فوضع اليد، أو وضع منديلٍ، أو نحو ذلك، أو وضع الثوب، هذا لا شكَّ أنَّه من الأدب؛ لئلا يخرج من فمه شيءٌ يتطاير من الرذاذ ونحوه.
ويزعم بعضُ مَن يتكلم في الصحّة والطّب في مثل هذا العصر: أنَّ العطسة هذه تخرج بسرعةٍ،ويذكرون أشياء عجيبةلا تُتصور، وأنَّ ذلك يعمّ المكان، وأرجاء المكان، ويُصورونه بتصوير يُبين عن سرعته، فالله أعلم بذلك، لكن عندنا من الأدب المدرك الذي يعرفه كلُّ أحدٍ، والنبي ﷺ أرشد إليه، أو كان من هديه -عليه الصلاة والسلام- وضع اليد، أو الثوب، وخفض أو غضّ الصوت بذلك؛ لأنَّهذا يدلّ على الأدب، ونحو ذلك.
أمَّا أن يرفع صوتَه بأعلاه حينما يعطس؛ فيسمعه البعيد، أو يملأ المكان بهذا الصَّوت، فإنَّ هذا لا يليق، ولا يجمل، والله تعالى أعلم.
كذلك أيضًا حينما يتكرر العطاسُ منه، فقد صحَّ أنه إن عطس بعد الثانية أنَّه لا يُشمّت، وصحَّ أيضًا أنَّه إن عطس بعد الثالثة أنَّه لا يُشمّت[43]؛لأنَّه مزكومٌ، أنَّ ذلك يكون عارضًا، وليس ذلك بالعطاس الذي يُشمّت له، لاسيّما ما يلحق بسبب ذلك من المشقّة؛ لأنَّ هذا الإنسان المريض أو المزكوم يعطس كلَّ لحظةٍ، أو بين وقتٍ وآخر ليس بينهما إلا اليسير، فيشتغل الناسُ بتشميته-والله أعلم.
سأل أحدُ الإخوان قال: إذاكان الإنسانُ مزكومًا في العطاس، فماذا؟
الحديث عن النبي ﷺ كما جاء عن إياس بن سلمة، عن أبيه قال: عطس رجلٌ عند رسول الله ﷺ وأنا شاهدٌ، فقال رسولُ الله ﷺ: يرحمك الله،ثم عطس الثانية، فقال رسولُ الله ﷺ: هذا رجلٌ مزكومٌ[44]،كما ذكرت أنَّ بعض الأحاديث تدلّ على أنَّه بعد الأولى يُقال له: مزكوم، وفي بعضها بعد الثالثة.
ليس المقصودُ أنه يُخاطب يُقال: هذا مزكوم، أو:أنت مزكوم، لا، وإنما النبي ﷺ أخبرهم أنَّ مثل هذا لا يُشمّت، يعني: بعد الأولى؛ لأنَّه مزكومٌ، فهو يذكر لهم العِلّة، لا أن يُقال له:"مزكوم" إذا عطس بعد الثانية، وفي بعض ألفاظه قال في الثالثة: أنت مزكوم[45]، هذا على سبيل الإخبار، وليس ذلك من التَّشميت.
وعلى كل حالٍ، جاء عن سلمة بن الأكوع: أنَّه سمع النبي ﷺ وعطس رجلٌ عنده، فقال له: يرحمك الله، ثم عطس أخرى، فقال: الرجل مزكوم[46].رواه مسلم.
هذا يُبين العبارة الأولى: أنت مزكوم، أو نحو ذلك، النبي ﷺ يُبين لهم أنَّ العلّة من هذا العطاس إنما هي الزكام، إذًا لا يُشمّت.
وفي روايةٍ أيضًا عند الترمذي: أنَّه قال في الثالثة: إنَّه مزكوم[47]، وصحَّ عنه ﷺ: إذا عطس أحدُكم فليُشمّته جليسُه، فإن زاد على ثلاثٍ فهو مزكومٌ، ولا يُشمّت بعد ذلك، هذا يُبين ما يكون بعد الثالثة: "إن زاد على ثلاثٍ"، يعني: إذًا في بعضها أنَّه بعد الأولى، يعني: في الثانية، وفي بعضها أنَّه يقول ذلك في الثالثة، وفي بعضها: "فإن زاد على ثلاثٍ"، وكأنَّ ذلك يدلّ -والله أعلم- على أنَّه إن تكرر ثانيةً فله ألا يُشمّت، فإن شمَّته في الثانية والثالثة؛ فإنَّه لا يشمّت بعد ذلك، يعني: له أن يشمّت في الثانية والثالثة، ثم يتوقّف بعد هذا، وله أن يتوقف بعد الأولى، وله مُستند مما ذُكر، والله تعالى أعلم.
هذا ما يتعلق بهذا الحديث، أمَّا ما يتعلق بالعطاس في الصَّلاة، سأل أحدُ الإخوان عنه قبل ليالٍ: إذا عطس في الصَّلاة، وذكرتُ كلامَ أهل العلم في هذا، وأنه يوسّع في النافلة ما لا يكون في الفريضة، ولكن لو أنَّه حمد الله في الفريضة؛ فإنَّ صلاته صحيحة، جاء في هذا حديثُ معاذبن رفاعة، عن أبيه قال: صليتُ خلف رسول الله ﷺ فعطستُ، فقلتُ: الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مُباركًا فيه، مُباركًا عليه، كما يُحبّ ربنا ويرضى. فلمَّا صلَّى رسولُ الله ﷺ انصرف، فقال: مَن المتكلم في الصَّلاة؟فلم يتكلم أحدٌ، ثم قالها الثانية: مَن المتكلم في الصَّلاة؟فلم يتكلم أحدٌ، ثم قالها الثالثة: مَن المتكلم في الصَّلاة؟فقال رفاعةُ بن رافع بن عفراء: أنا يا رسول الله، قال: كيف قلتَ؟قال: قلتُ: الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مُباركًا فيه، مباركًا عليه، كما يُحبّ ربنا ويرضى. فقال النبي ﷺ: والذي نفسي بيده، لقد ابتدرها بضعةٌ وثلاثون ملكًا أيّهم يصعد بها[48].
قال: وفي الباب عن أنسٍ، ووائل بن حجر، وعامر بن ربيعة. قال الترمذي: حديث رفاعة حديثٌ حسنٌ.
لاحظوا تعليق الترمذي، كأنَّ هذا الحديثَ عند بعض أهل العلم أنَّه في التطوع؛ لأنَّ غير واحدٍ من التابعين قالوا: إذا عطس الرجلُ في الصَّلاة المكتوبة إنما يحمد اللهَ في نفسه، يعني: من غير أن يُحرِّك لسانَه، ولم يوسّعوا في أكثر من ذلك[49].
على كل حالٍ، لو حمد الله في الفريضة فلا إشكالَ، وحمل هذا الحديث على أنَّه في النافلة يحتاج إلى دليلٍ، فالغالب أنهم يُصلون خلف النبي ﷺ الفريضة، وليس النَّافلة،والله أعلم.
- أخرجه البخاري: كتابالأدب، باب إذا عطس كيف يُشمت؟، برقم (6224).
- انظر: "فتح الباري" لابن حجر (10/609).
- أخرجه البخاري في "صحيح الأدب المفرد": باب تشميت العاطس (ص343)، وصححه الألباني.
- متفق عليه: أخرجه البخاري: كتاب النكاح، باب حقّ إجابة الوليمة والدَّعوة، ومَن أولم سبعة أيام ونحوه، برقم (5175)، ومسلم: كتاب اللباس والزينة، باب تحريم استعمال إناء الذهب والفضّة على الرجال والنِّساء، وخاتم الذهب والحرير على الرجل، وإباحته للنِّساء، وإباحة العلم ونحوه للرجل ما لم يزد على أربع أصابع، برقم (2066).
- أخرجه البخاري: كتاب الأدب، باب إذا تثاءب فليضع يده على فيه، برقم (6226).
- انظر: "الفواكه الدواني على رسالة ابن أبي زيد القيرواني" للأزهري (2/349)، و"حاشية العدوي على شرح كفاية الطالب الرباني" للعدوي (2/499)، و"كفاية الطالب الرباني لرسالة ابن أبي زيد القيرواني" للمالكي (2/653).
- انظر: "المجموع شرح المهذب" للنووي (4/628).
- انظر: "الذخيرة" للقرافي (13/301)، و"التاج والإكليل لمختصر خليل" للعبدري (1/526).
- انظر: "الأذكار" للنووي(ص271).
- انظر: "المحلى بالآثار" لابن حزم (3/422).
- أخرجه البخاري: كتاب الأدب، باب إذا تثاءب فليضع يده على فيه، برقم (6226).
- انظر: "المقدمات الممهدات" لابن رشد (3/445).
- انظر: "فتح الباري" لابن حجر (10/603).
- انظر: "دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين" للبكري (6/357).
- أخرجه البخاري في "صحيح الأدب المفرد": باب إذا لم يحمد الله لا يشمّت (ص344)،وصححه الألباني.
- أخرجه أحمد في "مسنده"، برقم (13537)، وقال الألباني: إسنادٌ رجاله ثقات، رجال مسلم غير مؤمل، وفيه ضعفٌ، ولاسيما إذا خالف الثِّقات. انظر: "السلسلة الصحيحة"، برقم (6/1101).
- أخرجه البخاري في "صحيح الأدب المفرد": باب كيف يبدأ العاطس (ص345)،وصححه الألباني.
- انظر:"روضة الطالبين وعمدة المفتين" للنووي (10/237).
- انظر: البيان والتحصيل(17/140).
- أخرجه ابن حبان في "صحيحه": كتاب التاريخ، ذكر البيان بأنَّ قوله -صلى الله عليه وسلم-: "لما خلق اللهُ آدمَ عطس"، أراد به بعد نفخ الروح فيه، برقم (6165)، وصححه الألباني في "التعليقات الحسان"، برقم (6132).
- أخرجه البخاريفي "صحيح الأدب المفرد": باب كيف يبدأ العاطس، (ص346)، وصححه الألباني.
- انظر: "فتح الباري" لابن حجر (10/600).
- أخرجه الترمذي في "سننه": كتاب أبواب الأدب، باب ما جاء كيف يُشمّت العاطس؟، برقم (2740)، وصححه الألباني في "مشكاة المصابيح"، برقم (4741).
- أخرجه أبو داودفي "سننه": كتاب الأدب، باب ما جاء في تشميت العاطس، برقم (5033)، وقال مُحققه: صححه الألباني.
- أخرجه أبو داودفي "سننه": كتاب الأدب، باب ما يُقال عند النوم، برقم (5058)، وقال مُحققه: صحيح الإسناد.
- أخرجه الترمذي في "سننه": أبواب الأدب، باب ما يقول العاطسُ إذا عطس، برقم (2738)، وقال الألباني: الإسناد صحيحٌ. انظر: "إرواء الغليل" (3/245).
- أخرجه أبو داود في "سننه": كتاب الأدب، باب ما جاء في تشميت العاطس، برقم (5033)، وقال مُحققه: صححه الألباني.
- انظر:"شرح صحيح البخاري"لابن بطال(9/367).
- متفق عليه: أخرجه البخاري: كتاب الحج، باب التلبية، برقم (1549)، ومسلم: كتاب الحج، باب التلبية وصفتها ووقتها، برقم (1184).
- انظر: "كنز العمال في سنن الأقوال والأفعال" للهندي (9/232).
- انظر: "شرح صحيح البخاري"لابن بطال(9/368).
- انظر: "الاستذكار" لابن عبدالبر(8/480-481).
- أخرجه البخاري: كتاب الأدب، باب إذا عطس كيف يشمّت؟، برقم (6224).
- أخرجه أبو داود في "سننه": كتاب الأدب، باب ما جاء في تشميت العاطس، برقم (5031)، وصححه الألباني في "صحيح الجامع"، برقم (684).
- أخرجه أبو داود في "سننه": كتاب الأدب، باب ما جاء في تشميت العاطس، برقم (5031)، وصححه الألباني في "صحيح الجامع"، برقم (684).
- أخرجه ابنُ أبي شيبة في "مصنفه": كتاب الأدب، باب ما يقول إذا عطس، وما يُقال له، برقم (25999)، قال الهيثمي: فيه أسباط بن عزرة، ولم أعرفه، وبقية رجاله ثقات. انظر: "مجمع الزوائد ومنبع الفوائد" للهيثمي (8/57).
- انظر: "الاستذكار" لابن عبدالبر(8/481).
- انظر:"الفتوحات الربانية على الأذكار النواوية" لابن علان (6/14).
- أخرجه البخاري في "صحيح الأدب المفرد": باب كيف تشميت مَن سمع العطسة(ص343-344)، وقال الألباني: صحيح الإسناد.
- أخرجه البخاري في "صحيح الأدب المفرد": باب كيف يبدأ العاطس(ص345).
- انظر: "شرح صحيح البخاري"لابن بطال(19/167).
- أخرجه أبو داودفي "سننه": كتاب الأدب، باب في العطاس، برقم (5029)، وصححه الألباني في "صحيح الجامع"، برقم (4753).
- أخرجه الترمذيفي "سننه": أبواب الأدب، باب ما جاء كم يُشمّت العاطس، برقم (2743)، وقال مُحققه: هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
- أخرجه الترمذي في "سننه": أبواب الأدب، باب ما جاء كم يُشمّت العاطس، برقم (2743)، وقال مُحققه: هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
- أخرجه الترمذيفي "سننه": أبواب الأدب، باب ما جاء كم يُشمّت العاطس؟، برقم (2743)، وقال مُحققه: صححه الألباني.
- أخرجه مسلم: كتاب الزهد والرقائق، باب تشميت العاطس، وكراهة التَّثاؤب، برقم (2993).
- أخرجه أحمد في "مسنده"، برقم (16529)، وصححه الألباني في "مشكاة المصابيح"، برقم (4736).
- أخرجه الترمذي في "سننه": أبواب الصَّلاة، باب ما جاء في الرجل يعطس في الصَّلاة، برقم (404)، وصححه الألباني في "مشكاة المصابيح"، برقم (992).
- انظر: "سنن الترمذي"(1/522)