الحمد لله، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله.
أما بعد: فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته،
هذا هو الحديث الأخير في باب "فضل الصلاة على النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-"، وهو حديث أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسولُ الله ﷺ: ما من أحدٍ يُسلِّم عليَّ إلا ردَّ اللهُ عليَّ روحي حتى أردَّ عليه السلام.
هذا الحديث أخرجه أبو داود[1]، وسكت عنه، وقلنا: إنَّ ما سكت عنه فهو صالحٌ للاحتجاج عنده.
وقد قال شيخُ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في بعض كتبه: إنَّ هذا الحديثَ هو الذي اعتمد عليه العلماءُ في السلام عليه عند قبره[2]، وبقية الأحاديث التي رُويت في زيارة قبره ضعيفة، بل موضوعة.
وقال في موضعٍ آخر: وعلى هذا الحديث اعتمد الأئمةُ في السلام عليه عند قبره -صلوات الله وسلامه عليه-[3].
وقال في موضعٍ آخر: وهو على شرط مسلم[4].
وقال ابنُ الملقن: إنَّ إسناده جيد[5]. وقال في موضعٍ آخر:إنَّ إسناده على شرط الصحيح[6].
كما صحح إسنادَه الإمامُ النووي[7].
وقال الحافظُ ابن حجر: رواته ثقات[8]. وقال في موضعٍ آخر: غريب، ورجاله رجال الصحيح، إلا أبا صخر؛ فأخرج له مسلمٌ وحده[9].
وقال العيني: إنَّ إسناده صحيح[10]. وصححه السَّخاوي[11].
ومن المعاصرين: حسَّن إسنادَه الشيخُ ناصر الدين الألباني[12]، وسماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز[13]، وفي موضعٍ آخر قال بأنَّ إسناده جيد[14]، وفي موضعٍ ثالثٍ قال بأنَّ إسناده صحيحٌ[15]، وقد صحح أيضًا إسناده الشيخ محمد الأمين الشَّنقيطي[16]-رحم الله الجميع-.
مع أنَّ من أهل العلم مَن تكلّم في الحديث: كابن عبد الهادي قال: لا يسلم من مقالٍ في إسناده[17].
وقال الهيثمي: فيه عبدالله بن يزيد الإسكندراني، ولم أعرفه، ومهدي بن جعفر ثقة، وفيه خلاف، وبقية رجاله ثقات[18].
وذكر ابن عساكر أنه سقط من إسناده رجل[19]، وضعف إسناده السيوطي أيضًا[20].
فقوله في هذا الحديث: ما من أحدٍ يُسلِّم عليَّ أحد هذه نكرة، وجاءت في سياق الشَّرط، وسُبقت بـمن، فهي للعموم، ودخول من عليها ينقلها من الظُّهور في العموم إلى التَّنصيص الصَّريح في العموم، يعني: يزيد العموم قوةً، فتكون أقوى في العموم.
ما من أحدٍ لا أحد، سواء كان من الرجال، أم من النِّساء، بل قال أهلُ العلم: سواء كان من الجنِّ، أو الإنس، وسواء كان قريبًا من قبره -عليه الصَّلاة والسَّلام-، أم كان بعيدًا، قد تناءت ديارُه.
يُسلم عليَّ قلنا: كذلك أيضًا الصَّلاة عليه -عليه الصَّلاة والسَّلام-؛ لأنَّ ذلك جاء مُقترنًا في قوله: يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا[الأحزاب:56]، ولكن لما كان السلامُ هو الذي يقتضي الردّ ذُكِرَ لهذا المعنى -والله تعالى أعلم-، وإلا فإنَّه لا يُذكر مفردًا، فيُقال:"السلام على النبي"، ثم يقف عنده، بل يقول: "الصلاة والسلام على النبي -عليه الصلاة والسلام-"، هكذا يقرن بينهما.
قال: إلَّا ردَّ اللهُ عليَّ روحي أهل العلم تكلَّموا في هذا وفي توجيهه بأقوال كثيرةٍ جدًّا، وقد ذكر الحافظُابن حجر -رحمه الله- في "الفتح" جملةً منها، وكأنَّه رجَّح بعضَها،وكأنَّه يميل إلى حمله على النُّطق: ردَّ اللهُ عليَّ روحي؛ للمُلازمة بين الروح والنُّطق؛ لأنَّ مَن به روح فإنَّه يردّ وينطق ويتكلّم، بخلاف مَن فارقت روحُه جسدَه[21].
وبعضهم فسَّر ذلك بأنَّه كناية عن إعلام الله إياه بأنَّ فلانًا قد صلَّى عليه، وهذا فيه بُعْدٌ، وهناك أقوالٌ أخرى أبعد من هذا، لكن من أهل العلم مَن قال: إنَّ روحَه ﷺ في الملأ الأعلى مُشتغلة بالنَّعيم والألطاف الربانية، فإذا سلَّم عليه أحدٌ من أُمَّته رجع إليه فهمُه ليُجيب على مَن سلَّم عليه.
يعني: يقول: بأنَّه مُستغرقٌ-عليه الصَّلاة والسَّلام- ومُشتغلٌ بأمورٍ مما يختصّ بالنَّعيم، وما إلى ذلك من الألطاف الربانية.
هكذا قال بعضُ أهل العلم، ولكن هذا أيضًا قد لا يخلو من إشكالٍ، وأصل هذه المسألة هو الكلام على حياة الأنبياء -عليهم السلام- في قبورهم: ما نوع هذه الحياة؟ هل يُقال: هم أحياء في قبورهم؟
نحن نعلم أنَّ الأرضَ لا تأكل أجسادَ الأنبياء -عليهم السلام-، كما قال النبي ﷺ[22]-.
والنبي ﷺ في ليلة المعراج رأى الأنبياء -عليهم السَّلام- في السَّماوات، وأيضًا رآهم في بيت المقدس، وصلَّى بهم، وكذلك أيضًا موسى –عليه السلام- يُصلِّي في قبره، فهذه أمور غيبية.
خلاصة ذلك، وغاية ما هنالك مما يمكن أن يُقال: أنَّ الحياة البرزخية تختلف تمامًا عن الحياة هذه التي نعيشها، أين تكون الأرواح؟
خلافٌ كثيرٌ بين أهل العلم؛ بعضهم يقول: أرواح المؤمنين في الجنة، وأرواح الكافرين في النار. وبعضهم يقول: تُردّ إلى الأجساد. وبعضهم يقول: أرواح الكفَّار في الأرض السُّفلى. وبعضهم يقول غير ذلك، أقوال كثيرة جدًّا، أوصلها بعضُهم إلى أكثر من أربعين قولًا، وهذا خوضٌ في أمرٍ غيبيٍّ لا يمكن الوصول إليه إلا بالوحي، فهذه قضايا لا يتطرق إليها الاجتهاد؛ لأنَّ ذلك مما لا تصل إليه المدارك والعقول، فيُقال: الحياة البرزخية حياة غيبيَّة، وإذا كانت كذلك فإذًا لا مجالَ للحديث عنها إلا من خلال النَّقل -الوحي فقط-،وليس عندنا هناك ما يُحدد طبيعة هذه الحياة، وتعلق الأرواح بالأجساد بدقّةٍ، ولكن قد يُفهم من بعض النصوص أنَّ الأرواح في نعيمٍ، أو في عذابٍ، فهذا القدر لا إشكالَ فيه، أين تنعم؟
هناك مَن رآهم النبيُّ ﷺ في النار: كعمرو بن لحي الذي غيَّر دينَ إبراهيم ، وهو أول مَن جاء بالأصنام إلى جزيرة العرب، وهو أول مَن سيَّب السَّائبة، رآه يجرّ قصبَه في النَّار[23].
ورأى النبي ﷺ أيضًا في النار صاحبَ المحجن، وهي عصا لها طرفٌ معقوفٌ، كان يسرق الحاجَّ بها، فيضعها على عاتقه، فإذا اجتاز بأحدٍ أخذ متاعه، فإن تفطَّنوا له عزى ذلك إلى أنَّه قد تعلّق بعصاه دون أن يشعر، فإن لم يتفطّن له أحدٌ أخذ متاعَه وذهب[24].
وكذلك رأى النبيُّ ﷺ في النار أشياء أخرى.
إذًا النار يُعذَّب بها أُناس، والله قال عن قوم نوحٍ لما أغرقهم: أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا[نوح:25]، والفاء تدلّ على التَّعقيب المباشر، فدلَّ على أنهم دخلوا النارَ بعد الغرق مُباشرةً، وهذا عذاب البرزخ.
وقال عن فرعون وقومه: النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ[غافر:46]، متى يُعرضون غدوًّا وعشيًّا؟ في البرزخ، في القبر.
وكذلك حديث البراء الطَّويل، وفيه ذكر نعيم القبر، وعذاب القبر[25]، وكذلك صاحبي القبرين، قال: إنهما ليُعذَّبان، وما يُعذَّبان في كبيرٍ، وذكر أنَّ أحدهما يمشي بين الناس بالنَّميمة، والآخر لا يتنزَّه من بوله، أو لا يستبرئ من بوله[26]، إذًا هؤلاء يُعذَّبون في القبر، فالعذاب في القبور.
وكذلك أيضًا الرجل الذي كان يخدم النبيَّ ﷺ فأصابه سهمٌ فقتله، فتكلّم بعضُ مَن تكلّم في غبطته بالشَّهادة، فالنبي ﷺ أخبر أنَّ الشَّملة التي غلَّها، يعني: أخذها من الغنيمة قبل أن تُقسّم، قال: والذي نفسي بيده، إنَّ الشَّملة التي أصابها يوم خيبر من المغانم، لم تُصبها المقاسم، لتشتعل عليه نارًا[27]، معناه: أنَّه مُباشرةً إذا مات الإنسانُ فإنه يكون في حالٍ من النَّعيم، أو في حالٍ من العذاب، فهو يرى ملائكةَ الرحمة، أو ملائكةَ العذاب.
إذًا هناك عذابٌ في القبر، والأرواح والأجساد تُعذَّب في القبور، كيف تُعذَّب؟
هذا أمرٌ غيبيٌّ.
وما الذي يحصل لهذه الأجساد حينما تتحلل؟
نقول: الله على كل شيءٍ قدير، لو فتت في البحر، لو لم يُدفن، فإنَّه يناله العذاب أو النَّعيم الذي كتبه الله له، فلا تُقاس على هذه الحياة الدُّنيا.
والحافظ ابن القيم -رحمه الله- تكلّم على الدُّور الثلاث: هذه الدار التي نحن فيها، والبرزخ، والقيامة بعد البعث والنُّشور، فذكر أنَّ الألم واللَّذة في هذه الدار أكثر ما يقع على الجسد[28]: الهواء البارد، والأكل الطّيب، واللَّذات، ونحو ذلك، وأمَّا الأرواح فهي تبعٌ، فالإنسان قد يسمع خبرًا سيئًا فيحزن، وقد يسمع خبرًا سارًّا فيفرح، هذا نعيم الروح، وعذاب الروح في هذه الدنيا، فنحن نحزن ونُسرّ ونفرح، هذا يتعلّق بأرواحنا، لكن أكثر اللَّذات التي نُعافسها صباح مساء في فرشنا،وفي أكلنا،وفي شربنا، وفي ذهابنا، وفي نزهنا؛ هي للأجساد، ويحصل للأرواح من النَّعيم ما يكون على سبيل التَّبع.
فالحافظ ابن القيم -رحمه الله- يقول: في البرزخ العكس؛ أكثر العذاب والنَّعيم يقع على الروح، والجسد يقع عليه عذابٌ ونعيمٌ، لكن على سبيل التَّبع[29]-والله أعلم-.
ويقول: بعد البعث والنُّشور يستوي الحال[30]، فمن كمال النَّعيم أن يقع على حدٍّ سواء على الروح والجسد؛ الروح تُنعّم، والجسد يُنعّم، على حدٍّ مُستوٍ، الجسد قد يكون في الدنيا مُنعَّمًا، ولكن الروح تعبانة، فهذا الإنسان يعيش في بؤسٍ وحزنٍ واكتئابٍ، مع أنَّه لا ينقصه شيءٌ من اللَّذات، وقد يعيش في بؤسٍ وأمراضٍ، ولكنَّه يُحلِّق عاليًا بروحه، وهو في نعيمٍ وسعادةٍ وحبورٍ.
أمَّا في الآخرة فإنَّ النَّعيم والعذاب يكون على حدٍّ سواء، يقع على الروح والجسد، فهذا كمال اللَّذات، وكمال البؤس والعذاب؛ ولذلك تجدون في نصوص العذاب يقول الله عن أهل النار: لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ[آل عمران:91]، يعني: مُؤلم، ويقول: مُهِينٌ[الحج:57]، والمهين هو الذي يقع على الأرواح: يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ[القمر:48]، السَّحب على الوجه فيه إيلامٌ، وفيه أيضًا إهانةٌ، فيقع الألمُ على الروح، ويقع على الجسد: ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ[الدخان:49]، إهانة لهذا الكافر، فهذا فيما يتعلّق بالعذاب في هذه القبور.
وهناك نعيمٌ وعذابٌ يكون أيضًا في الجنة والنار، كما أخبر النبيُّ ﷺ عن الأنبياء الذين رآهم في الملإ الأعلى، تلك أرواحهم قد صُوِّرت، فرأى إبراهيم-عليه السَّلام-، ومعه الأطفال الذين ماتوا قبل التَّكليف، هؤلاء صُورت أرواحهم بصور أجسادهم هناك، وإلا فإنَّ أجسادهم في القبور، وأجساد الأنبياء -عليهم السلام- في القبور.
والنبي ﷺ أخبر أنَّ الله قد حرَّم على الأرض أن تأكل أجسادَ الأنبياء -عليهم السلام-، وغير الأنبياء تأكلهم الأرض، والأصل أنهم يذهبون ويتحللون فيها، إلا مَن أكرمه الله فلم يتحلل، كما وقع لبعض أصحاب النبي ﷺ، ووقع لبعض أهل الإيمان على قرونٍ مُتتابعةٍ؛ كرامةً من الله، وإلا فالأصل أنَّه يتحلل، وحينما يتحلل لا يعني ذلك بحالٍ من الأحوال أنَّ هذا الإنسان ليس له منزلةٌ عند الله، إطلاقًا؛ لأنَّ هذه هي سنته -تبارك وتعالى- في هذا الخلق، سوى الأنبياء؛ أنهم يتحللون، هذا الأصل، فالصَّالحون يتحللون، ويتحوّلون إلى ترابٍ، وكذلك غير الصَّالحين، لكن العذابَ ثابتٌ في القبر، والمحشر، وفي النار، وكذلك النَّعيم يكون في البرزخ، والمحشر، وفي الجنة.
والنبي ﷺ جسده في قبره، لكن هل حياته ﷺ كحياته قبل موته؟
الجواب: لا، هي حياة غيبية، برزخية، وإلا فإنَّ الصحابة دفنوه، وقال النبي ﷺ: لا نُورث، ما تركنا صدقة[31]، فلم يحفظ ماله ﷺ من أجل أنَّه على قيد الحياة، الحياة الدُّنيوية، ولم يكن الصحابةُ -رضي الله عنهم وأرضاهم- يأتون إلى قبره، فيُخاطبونه، ويُكلِّمونه، إطلاقًا.
وأبو بكر قال: "طبتَ حيًّا وميتًا يا رسول الله"، لما قبَّله وهو مُسْجًى -عليه الصَّلاة والسَّلام- على سريره بعد أن قُبض[32].
وكذلك قال الله -تبارك وتعالى-: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ[آل عمران:144]، والموت هو خروج الروح من غير مُباشرة مُتسبّبٍ خارجيٍّ يُفضي به إلى الموت، يعني: القتل، وأمَّا القتل فهو خروج الروحبتسبّبٍ، بالقتل، فهذا الفرق بين الموت والقتل، وكلاهما موتٌ، ولكن هذا بتسبّب طرفٍ خارجيٍّ، وهذا من غير تسبّبٍ من أحدٍ، وإنما قبض اللهُ روحَه، وكلّ هؤلاء مات بأجله: المقتول والميت حتف أنفه.
فهنا الأنبياء -عليهم السلام- لا شكَّ أنَّ أرواحهم تُنعّم، وأرواح المؤمنين تُنعّم، وأرواح الشُّهداء تُنعّم، ولها نوع تعلّق بالأجساد، فالأرواح تكون في الملإ الأعلى، ويكون لها نوع اتِّصالٍ، لكن لا يُفضي ذلك إلى حياةٍ مُطابقةٍ للحياة الدنيوية؛ ولذلك فهم لا يأكلون ولا يشربون شيئًا من طعام أهل الدنيا، وقال الله عن الشُّهداء: وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا[آل عمران:169]، لكن ليس معنى ذلك أنهم أحياء كحياتهم قبل القتل.
وأخبر النبيُّ ﷺ عن أرواح الشُّهداء بأنها تأوي إلى قناديل مُعلّقة في العرش[33].
وكذلك أيضًا أخبر عن أرواح المؤمنين بأنها أيضًا تسرح في أنهار الجنَّة، وما إلى ذلك مما صحَّ عنه -عليه الصَّلاة والسلام-.
فالأرواح لها نعيمٌ في الملإ الأعلى، ولها أيضًا نعيمٌ في القبور، فهو تُفتح له نافذةٌ إلى منزله في الجنة، فيأتيه من نعيمها وروحها، وإن كان من أهل العذاب من أهل النار تُفتح له نافذةٌ إلى النار، فيأتيه من سمومها وحرِّها، فالمؤمن يقول: ربِّ أقم السَّاعة، والكافر يقول: ربِّ لا تُقم السَّاعة[34]؛ لما يرى مما ينتظره هناك.
فالشَّاهد هنا أنَّ روحه وحياته -عليه الصَّلاة والسَّلام- ليست كحياته قبل موته، ولكنَّها حياة برزخية، وأخبر النبيُّ ﷺ أنَّ هذه الروح تُردّ إليه، فيردّ السلام، ما معنى تُردّ إليه؟
الله أعلم، فقد تكون في الملإ الأعلى، فتُردّ إلى جسده، فيردّ السلام -الله أعلم-، ونحن نُؤمن بالخبر كما جاء: بأنها تُردّ إليه روحه؛ ولذلك لا يرد استشكالٌ بأنَّ ذلك يستلزم استغراق الزمان جميعًا، فالذين يُصلون على النبي ﷺ في أرجاء المعمورة كُثُر، لا تخلو لحظة منها في كل وقتٍ، وفي كل لحظةٍ يُسلّم على النبي ﷺ.
نقول: هذه حياة أخرى لا تقلّ عن هذه الحياة؛ ولهذا فإنَّ نزول الربّ -تبارك وتعالى- في ثلث الليل الآخر إلى السَّماء الدنيا لا يُقاس على نزول الخلق، مع أنَّ النزول في أوقات مختلفة بحسب الأقطار، وقل مثل ذلك في مُوافقة الملائكة للإمام، ومُوافقة المأموم لتأمين الملائكة: إذا أمَّن الإمامُ فأمّنوا، فإنَّه مَن وافق تأمينُه تأمينَ الملائكة غُفِرَ له ما تقدّم من ذنبه[35]، كم عدد الذين يُصلون من الأئمّة؟ فهل يُقال: الملائكة دائمًا يُؤمّنون؟
نقول: هذا عالم آخر، لا يُقاس بهذه الحياة المادية البسيطة التي نُشاهدها، وقل مثل ذلك أيضًا فيما يتعلّق بما أخبر اللهُ به من الغيب وقبض الأرواح، فكم عدد الذين يُقبضون في اللَّحظة الواحدة في أرجاء المعمورة؟ وملك الموت واحدٌ، وإن كان له أعوانٌ، لكن هذا لا يُقاس بهذه الحياة.
إذًا هناك عالم آخر من الغيب لا نُشاهده الآن، له أحواله، وله عالمه الذي يختصّ به، لا يمكن أن نقيسه على ما نُشاهد، هذا من الخطأ الفادح، والله ذكر أول صفةٍ للمتقين في سورة البقرة: هُدًى لِلْمُتَّقِينَ[البقرة:2]، قال: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ[البقرة:3]، ومما يدخل في الغيب ما يتّصل بنعيم الأرواح وعذابها، وأحوالها، وتنقلاتها، وتحوّلاتها، كلّ هذا من الغيب.
فنؤمن أنها تُنعّم، ونؤمن أنَّ النبي ﷺ يردّ على مَن سلَّم عليه، فتُردّ إليه روحه، فيردّ عليه السلام، هذا كلّه نُسلّم به؛ لأنَّه جاء بالخبر عن الصَّادق المصدوق -عليه الصَّلاة والسَّلام-، وفي هذا مدحٌ للمُسلِّم؛ حيث يردّ عليه النبيُّ ﷺ السلام، والإخبار بأنَّ النبي ﷺ يسمع هذا السَّلام، وأنه يردّ على المسلِّم.
لكن ذكر شيخُ الإسلام -رحمه الله- أنَّ ردَّه ﷺ يكون مُكافئًا فيه لهذا المسلِّم، فلا يكون لهذا المسلِّم فضلٌ على النبي ﷺ، فسلامه يُردّ عليه، وليس لأحدٍ فضلٌ من المسلمين عليه -عليه الصلاة والسلام-، ليس لنا فضلٌ، نحن الفُقراء المساكين، يعود أثرُ ذلك علينا بردِّ رسوله ﷺ، والأجر والثَّواب من الله -جلَّ جلاله، وتقدَّست أسماؤه-.
هذا ما يتعلّق بهذا الحديث.
اللهم صلِّ على محمدٍ، وعلى آل محمدٍ، كما صلَّيتَ على إبراهيم، وعلى آل إبراهيم، إنَّك حميدٌ مجيدٌ.
وأسأل الله أن يحشرنا وإياكم تحت لوائه، وأن يسقينا شربةً من حوضه، وأن يُلحقنا به -عليه الصَّلاة والسلام- غير مُبدلين، ولا مُغيرين، ولا مفتونين.
والله أعلم.
- أخرجه أبو داود: كتاب المناسك، باب زيارة القبور، برقم (2041)، وحسَّنه الألباني.
- "الإخنائية" أو "الرد على الإخنائي" ت: زهوي (ص56).
- "قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة" (1/143).
- "الإخنائية" أو "الرد على الإخنائي" ت: زهوي (ص56).
- "البدر المنير" (6/299).
- "تحفة المحتاج إلى أدلة المنهاج" (2/190)، برقم (1151).
- "الأذكار" للنووي، ت: الأرناؤوط (ص115).
- "فتح الباري" لابن حجر (6/488).
- "نتائج الأفكار" لابن حجر (4/23).
- لم أقف عليه.
- "المقاصد الحسنة" (ص587).
- "صحيح أبي داود" (6/281).
- "مجموع فتاوى ابن باز" (2/386).
- "مجموع فتاوى ابن باز" (2/394).
- "فتاوى نور على الدرب" بعناية الشويعر (14/158).
- "أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن" (8/338).
- "الصارم المنكي في الرد على السبكي" (ص189).
- "مجمع الزوائد ومنبع الفوائد" (10/162).
- "معجم الشيوخ" (2/896)، برقم (1132).
- لم أقف عليه.
- "فتح الباري" لابن حجر (6/488).
- أخرجه ابن ماجه: كتاب إقامة الصَّلاة والسّنة فيها، بابٌ في فضل الجمعة، برقم (1085)، وصححه الألباني.
- متفق عليه: أخرجه البخاري: كتاب تفسير القرآن، باب:{مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ} [المائدة:103]، برقم (4623)، ومسلم:كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب النار يدخلها الجبَّارون، برقم (2856).
- أخرجه مسلم: كتاب الكسوف، باب ما عُرِضَ على النبي -صلى الله عليه وسلم- في صلاة الكسوف من أمر الجنة والنار، برقم (904).
- أخرجه أبو داود: كتاب السنة، بابٌ في المسألة في القبر وعذاب القبر، برقم (4753)، وصححه الألباني.
- متفق عليه: أخرجه البخاري: كتاب الأدب، باب الغيبة، برقم (6052)، ومسلم: كتاب الطَّهارة، باب الدليل على نجاسة البول ووجوب الاستبراء منه، برقم (292).
- متفق عليه: أخرجه البخاري:كتاب المغازي، باب غزوة خيبر، برقم (4234)، ومسلم:كتاب الإيمان، باب غلظ تحريم الغلول، وأنَّه لا يدخل الجنّة إلا المؤمنون،برقم (115).
- "الروح" (ص114).
- "الروح" (ص114).
- "الروح" (ص114).
- متفق عليه: أخرجه البخاري: كتاب فرض الخمس، برقم (3092)، ومسلم:كتاب الجهاد والسير، باب قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((لا نورث...))، برقم (1759).
- متفق عليه: أخرجه البخاري: كتاب أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-، باب قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((لو كنتُ مُتَّخذًا خليلًا))، برقم (3667).
- أخرجه مسلم: كتاب الإمارة، باب بيان أنَّ أرواح الشُّهداء في الجنة، وأنهم أحياء عند ربهم يُرزقون، برقم (1887).
- أخرجه أحمد في "المسند" ط. الرسالة، برقم (18534)، وقال مُحققو "المسند": "إسناده صحيحٌ، رجاله رجال الصَّحيح".
- متفق عليه: أخرجه البخاري: كتاب الأذان، باب جهر الإمام بالتأمين، برقم (780)، ومسلم:كتاب الصلاة، باب التَّسميع والتَّحميد والتَّأمين، برقم (410).