الحمد لله، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله.
أما بعد: فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته،
هذا باب "إفشاء السلام"، وقد أورد فيه المؤلفُ ثلاثة أحاديث:
الحديث الأول: حديث أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله ﷺ: لا تدخلون الجنةَ حتى تُؤمنوا، ولا تُؤمنوا حتى تحابّوا، ألا أدلّكم على شيءٍ إذا فعلتُموه تحاببتم؟ أفشوا السلامَ بينكم رواه مسلم[1].
قوله ﷺ: لا تدخلون الجنةَ هكذا: لا تدخلون بإثبات النون، بمعنى أنه نفيٌ، وليس بنهيٍ.
حتى تؤمنوا يعني: الإيمان بالله -تبارك وتعالى-، وبما يجب الإيمانُ به، وهذا على ظاهره وإطلاقه، فإنَّه لا يدخل الجنةَ إلا نفسٌ مُؤمنةٌ، سواء كان هذا الإيمانُ كاملًا، أو كان الإيمانُ ناقصًا، لكنَّه غير مُنخرمٍ، يعني: ما لم يرد عليه ما يخرمه من أصله، فيُفسده ويُبطله.
لا تدخلون الجنةَ حتى تؤمنوا يعني: هذا هو الشَّرط، حتى يتحقق الإيمان.
ولا تؤمنوا هكذا بإسقاط النون جاء في هذه الرِّواية، وعليه أكثر الرِّوايات، فقد ذكر القرطبي -رحمه الله- في "المفهم"-وهو من شروح "صحيح مسلم"-: أنَّ الصواب إثباتُ النون:"ولا تؤمنون"، وأنَّ ذلك قد وقع في بعض النُّسخ[2]؛ لأنَّ (لا) هذه كالتي قبلها: نفي، وليست بنهيٍ؛ لأنَّ الناهية هي الجازمة، ومثل هذا يُجزم بحذف النون، فإذا قلنا: بأنَّ الأولى نافية، فهذه كذلك نافية، فالنون تكون مُثبتةً، فأُسقطت هنا.
وبعض أهل العلم يقولون: كأنها حُذفت النون هنا للمُجانسة والازدواج: حتى تُؤمنوا،ولا تُؤمنوا من باب المجانسة، وأنَّه قد تُحذف النون تخفيفًا، وأنَّ هذا يرد في كلام العرب: يحذفون النون، مع أنَّ حقَّها أن تثبت من ناحية الإعراب، يقولون: من باب التَّخفيف.
والنووي -رحمه الله- يقول: هكذا هو في جميع الأصول. يعني: بحذف النون:ولا تُؤمنوا، يقول: في جميع الأصول، وهذه لغة عربية معروفة صحيحة[3]. هذا كلام النَّووي، مع أنَّ هذا لم يسلم له، فقد ذكر الطِّيبي أنَّه استقرأ نسخَ "صحيح مسلم"، والحميدي، و"جامع الأصول"، وبعض نُسخ "المصابيح"، يقول: فوجدناها مُثبتة بالنون على الظَّاهر[4]: ولا تُؤمنوا.
إذًا يوجد في بعض النُّسخ بإثبات النون، والأكثر بغير النون، وأنَّ هذه لغة، وأنَّ العرب قد تحذف ذلك تخفيفًا، ليس من شأننا أن نشتغل بالإعراب، ولكنَّ هذا موضعٌ يُشكل على مَن له أدنى فهمٍ في اللغة العربية، فيتساءل: لماذا أُثبتت النون هنا؟ ولماذا حُذفت هنا؟ يعني: هذا من المواضع التي تُستشكل ويقف عندها القارئ أو السَّامع.
وقوله -صلى الله عليه وآله وسلم- هنا: حتى تحابوا، هذا فيه حثٌّ على التَّحابُب، وإفشاء السَّلام، يعني: حتى يحبّ بعضُكم بعضًا، ودخول الجنة مُتوقفٌ على الإيمان، والإيمان مُتوقفٌ على وجود المحبّة بين المؤمنين.
وقد قال بعضُ أهل العلم، كالنووي -رحمه الله-: "إنَّ المعنى: لا يكمل إيمانُكم، ولا يصلح حالُكم في الإيمان إلا بالتَّحابِّ"[5].
وشيخ الإسلام -رحمه الله- ذكر قاعدةً في مثل هذا: أنَّه ما جاء في نصوص الكتاب والسُّنة مما نُفي الإيمانُ عن فاعله، أو عن تاركه، فإنَّ ذلك الأصل في النَّفي يُحمَل على الوجود، فإن كان الشيء موجودًا، فإنَّه يُحمَل على الصحة، فإن كان الشيء صحيحًا- يعني: بدليلٍ آخر- فإنَّ ذلك يُحْمَل على الكمال، والكمال على نوعين: الكمال الواجب، والكمال المستحبّ.
فحينما يقول النبيُّ ﷺ مثلًا في غير باب الإيمان: لا صلاةَ بغير طهورٍ[6]، هيئة الصَّلاة نراها: يقوم، ويركع، ويسجد، إذًا يُحْمَل هذا على الصحّة، فإن دلَّ دليلٌ على الصحة؛ فإنَّ ذلك يُحمل على الكمال: إمَّا الكمال الواجب، وإمَّا الكمال المستحبّ.
شيخ الإسلام -رحمه الله- يقول في باب الإيمان: إذا جاء النَّفي عن صاحب فعلٍ، أو عن تارك عملٍ، بأنَّه ليس بمؤمنٍ، أو لا يُؤمن مَن فعل كذا؛فإنَّ هذا إن وُجِدَ ما يدلّ على صحّة إيمانه، فإنَّ ذلك يدلّ على نقص إيمانه الواجب الذي يستحقّ عليه العقوبة.
يعني: حينما يقول النبيُّ ﷺ: لا يدخل الجنةَ مَن لا يأمن جارُه بوائقَه[7]، هل هو معناه أنه كافر؟ هل المعنى أنه يكون كافرًا؟
الجواب: لا، نفى عنه الإيمان، فيُحْمَل ذلك على أنَّه قد نقص من إيمانه الواجب الذي يكون معه من أهل الوعيد، يعني: يكون مُستحقًّا للعقاب، ثم يكون بعد ذلك مصيرُه إلى الجنة، وهكذا ما جاء بأسلوب الحصر: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا [الأنفال:2-4]، جاء بأسلوب الحصر، والحصر بـ(إنما) من أقوى صيغ الحصر، هو فيالمرتبة الثانية بعد النَّفي والاستثناء:(لا إله إلا الله)، يعني: النفي والاستثناء، بعده يأتي الحصرُ بـ(إنما) عند الأصوليين.
فهنا حينما يقول الله بصيغة الحصر:إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هذه صفتهم، مفهوم المخالفة أنَّ غيرهم ليسوا كذلك، يعني: كأنَّه نفيٌ للإيمان عنهم، إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ خافت، وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا[الأنفال:2]، فمَن لم يكن كذلك هل يكون كافرًا؟
الجواب: لا، لكنَّه يكون قد نقص من إيمانه الواجب الذي يكون معه من أهل الوعيد[8]. هذه هي القاعدة.
فهنا يقول: لا تؤمنوا حتى تحابّوا، فلمَّا نفى عنهم الإيمان إلا بالمحبّة، مع أنه تُوجد أدلة أخرى على صحة الإيمان في أصله، وإنوُجدت البغضاء بين الناس؛ فالله يقول: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ[الحجرات:10]، لما قال:وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا[الحجرات:9]، فأثبت لهم الإيمان مع الاقتتال، فهل يُفهم من هذا أنَّه إذا أبغض أحدًا من المسلمين، أو أبغض بعض المسلمين أنه لا يكون مؤمنًا؟
الجواب: لا، ولكن مثل هذا حينما ينفي عنه الإيمان يدلّ على أنَّه قد نقص من إيمانه الواجب الذي يكون معه مُستحقًّا للعقوبة، ما لم يتجاوز اللهُ عنه، أو يتوب، أو تكون له حسنات ماحية، أو يكون قد وقعت عليه مصائب مُكفِّرة، أو بشفاعةٍ، أو غير ذلك مما يحصل به إسقاط العقوبة.
ولا تؤمنوا حتى تحابّوا حتى يُحبّ بعضُكم بعضًا، فلا يتحقق الإيمانُ الواجب إلا بوجود المحبّة.
يقول الحافظُابن رجب -رحمه الله- في "فتح الباري"-الذي هو أحد شروح "صحيح البخاري"، إلا أنَّه لم يكمل، وهو أجلّ شروحه وأعظمها وأنفسها لو اكتمل هذا الشرح-: "وإنما يُحبّ الرجلُ لأخيه ما يُحبّ لنفسه إذا سلم من الحسد والغلِّ والغشِّ والحقد؛ وذلك واجبٌ"[9].
ولاحظ أنَّه قال: بأنَّ ذلك واجبٌ، يعني: بأن يُحبّ لأخيه ما يُحبّ لنفسه؛ لأنَّ النبي ﷺ قال: لا يُؤمن أحدُكم حتى يُحبّ لأخيه ما يُحبّ لنفسه[10].
لا يؤمن نفى عنه الإيمان، حتى يُحبّ لأخيه ما يُحبّ لنفسه، ومعناه: لا يؤمن الإيمان الواجب، فالذي لا يكون كذلك يكون من أهل الوعيد، وأنَّه يكون قد نقص من إيمانه الواجب الذي يستحقّ معه العقوبة.
يقول ابنُ رجب: "فالمؤمن أخو المؤمن، يُحبّ له ما يُحبّ لنفسه، ويُحزنه ما يُحزنه"[11]، إذًا متى يتحقق هذا؟
إذا سلم القلبُ من الحسد والغشِّ والغلِّ والحقد، فإنَّ هذه المدنسات تجعل صاحبَها يتحامل على الآخرين، ويودّ لهم المكروه والشَّر، بل قد يصل الحالُ به إلى أكثر من هذا، وهو أن يسعى إلى إيصال الشَّر إليهم؛ بأذيتهم وإيصال المكروه لهم بلسانه، ويده، وقلمه، وما استطاع، فهذا يكون قد نقص من إيمانه الواجب،الذي ليس له شغلٌ إلا الوقيعة في أعراض المسلمين، ونقل النَّميمة بين الناس، وقالة السُّوء، وإيغار الصُّدور؛ هذا يكون أسوأ حالًا من ذاك الذي قال فيه النبيُّ ﷺ: لا تُؤمنوا حتى تحابّوا، لا يُؤمن أحدُكم حتى يُحبّ لأخيه ما يُحبّ لنفسه.
هي مراتب، أعلى هذه المراتب أن يُحبّ لأخيه ما يُحبّ لنفسه، هذا الذي حقق الإيمانَ الواجب، بعدها أن يُحبّ أخاه، لكنَّه لا يبلغ هذه المرتبة، أن يصير بهذا الحال؛ أن يُحبّ له ما يُحبّ لنفسه، فيكون مُقَصِّرًا.
لم يُطالبه الشارعُ أن يُحبّ لأخيه أكثر مما يُحبّ لنفسه، وإنما ذاك في محبّة الله، ومحبّة رسوله ﷺ: لا يُؤمن أحدُكم حتى أكون أحبّ إليه من والده، وولده، والناس أجمعين[12]، أمَّا في محبّة المسلمين فإنَّ من رحمة الله ولُطفه أنَّه لم يُطالبنا بأكثر من أن يُحبّ لأخيه ما يُحبّ لنفسه.
والذي دائمًا أنصح به نفسي، وأنصح به مَن يسمع ويقبل النُّصح: أن تجعل نفسَك دائمًا مقام أخيك، إذا تعاملتَ معه، أو تكلَّمتَ معه، أو عاتبتَه، أو طالبته بحقٍّ، ضع نفسَك مكانه، حتى في النَّصيحة؛ فتخيّر من العبارات ما تُحبّ أن تسمعه في هذا المقام.
فحينما تكون مُقَصِّرًا، أو مُخطئًا، أو غير ذلك، إذا أدَّبْتَ ضع نفسَك مكان هذا الإنسان، وحينما يكون هؤلاء الناس تحت ولايتك، أنت ترأسهم في العمل، وأخطأ، أو قصَّر، وليس من عادته التَّقصير والخطأ، فضع نفسَك مكانه.
وهذا الإنسان قد يكون من تلامذتك، ضع نفسَك مكانه، قبل أن تسخر منه، أو أن تجرح مشاعره ضع نفسَك على هذا المقعد، واستمع لأستاذك حينما يتكلّم.
وبعض الناس لا يتَّقي الله ، يجرح، ويُؤذي، ويسخر، ولا يحسب الكلمات التي يقولها، وقد تكون جارحةً، ويسخر منه، ويسخر من اسمه، ويسخر من أسرته، أو عائلته، أو بلده، أو يسخر من تصرُّفاته، أو من هيئته، أو من تفكيره وفهمه، أو غير ذلك، يجرحه بعينه، يقول: أنت كذا، وكذا، وكذا. أمام الآخرين، حتى لو كان بينه وبينه، ضع نفسَك مكانه.
وهكذا في التَّعامل، وإقالة العثرات، حينما يتعثر ويُخطئ فأنت كالطَّبيب، والطَّبيب لا يتشفَّى، قد يحمل المشرط ويُجري العملية، ويسيل الدَّم، ويشقّ الجلد والعروق، ولكنَّه لا يتشفَّى، هو يطلب عافيتك.
والأب حينما يضرب ولده ويُؤدّبه ويُعاتبه ليس معنى ذلك أنه يبغضه، فهو يضربه، وفي الوقت نفسه يتألم أكثر مما يتألم هذا الولد، لكن يفعل ذلك رأفةً به، وتأديبًا له، وإحسانًا إليه؛ لأنَّ المسلم لأخيه كاليدين: يغسل بعضُهما بعضًا، وقد لا يزول الوسخُ إلا بشيءٍ من الخشونة والفرك، إذا كان هذا الوسخُ عالِقًا وثقيلًا يحتاج إلى نوعٍ من المعالجة.
أمَّا الكلام في التَّشهي، والتَّشفي، والوقيعة في الأعراض، فهذه أحطّ المراتب، فكون الإنسان هذا لا يُحبّ لأخيه ما يُحبّ لنفسه؛ فيهبط مرتبةً، يكون يُحبّه لكن دون ذلك، فدونه مَن لا يُحبّه، لكن لا يُحبّ له الشَّر، ودونه مَن يُحبّ له الشَّر، وأحطّ المراتب أن يسعى في الشَّر بلسانه وقلمه ويده، فهذه أحطّ الدَّركات، وهذا لا يفعله إلا أصحاب النفوس الضَّعيفة، الذين لا يحملون شيئًا من كرم النفس والمروءة، وليس عندهم من الدِّين وازعٌ يمنعهم، فيكفّ الإنسانُ أذاه عن إخوانه المسلمين.
فأحطّ المراتب والدّركات أذى المسلمين، إذا كان لا يؤمن حتى يُحبّ لأخيه ما يُحبّ لنفسه، فكيف إذا كان هو ليس فقط كذلك، بل يسعى لأذيّته، ويسعى للإساءة إليه، ويقع في أعراض المحصنات، ويمشي بين الناس بالنَّميمة، وقالة السُّوء، بأي طريقٍ كان؛ فيكتب هذا في الإنترنت، فيقرأه الناسُ من المشرق إلى المغرب، ويتكلم بالظنون: فلان فيه كذا، وفلان فيه كذا، وفلان فيه كذا! وإذا وجد عيبًا نشره، وفرح به، وأذاعه، ويغمز هذا، ويتكلّم في هذا، ولا يترك أحدًا.
فمثل هذا -نسأل الله العافية- في أحطِّ المراتب، فالمؤمن يحذر من مثل هذا.
والاستقامة والتَّدين -أيّها الأحبّة- لا تكون بالظَّاهر، قد يبدو للناس فيه سيما الصَّلاح، ولكن الباطن فاسدٌ؛ يحمل الضَّغائن والغلّ على الناس، وقطيعة رحمٍ، وإساءة إلى الجيران، والقرابات، والمعارف.
والله يُوصي بالأقرب فالأقرب: وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى[النساء:36]، ثم هكذا بحسب القُرب: وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ[النساء:36]،وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ زميلك في الدِّراسة، والعمل، والسَّفر، فله حقٌّ أكثر من ذاك الذي تراه في الطَّريق، وتُسلّم عليه، الذي يجمع بينكما هو أخوة الإسلام، هذه الرابطة الإيمانية -أيّها الأحبّة- هي التي جعلت أهل السَّماء من الملائكة يستغفرون للذين آمنوا، فالمؤمن يستغفر لإخوانه، ويُحبّهم، يُحبّ لهم ما يُحبّه لنفسه، لا أنَّه يسعى في أذاهم.
وفي هذه المحبّة إذا تحققت من المصالح الشَّرعية ما لا يُقادر قدره، ولا شكَّ أنَّ مَن نظر في النصوص الشرعية أدنى نظرٍ يعرف أنَّ من مقاصد الشَّريعة الاجتماع، ونبذ الافتراق؛ اجتماع القلوب بالمحبّة والتَّآخي والمودّة والتَّناصر الذي يكون بين أهل الإيمان، هذا من مقاصد الشرع: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا[آل عمران:103]، فهذه نعمةٌ من الله -تبارك وتعالى-، فمَن يريد أن يمزقها بين المؤمنين فإنَّه يكون في حالٍ من السُّوء والجُرم؛ ولهذا أخبر النبيُّ ﷺ أنَّه: لا يدخل الجنةَ قتَّاتٌ[13]؛ لأنَّ هذا النَّمام يفعل خلافَ مقصود الشَّارع، فالشَّارع يقصد جمعَ القلوب، وتحبيب الناس، والكذب الذي هو أحد أركان النِّفاق أُبيح لإصلاح ذات البين، وتقريب القلوب والنفوس بين المتخاصمين، فيقول: فلانٌ يُحبّك، وفلانٌ يُثني عليك، وفلانٌ يُطريك، وفلانٌ يذكرك بالخير. يكذب من أجل أن يُقرّب النفوس والقلوب، ويُصلح بين الناس.
وجاءت النصوص الشرعية الكثيرة في فضل الإصلاح بين الناس، وأنه من أفضل الأعمال وأجلّها، وقد تكلّمتُ على هذا طويلًا في الكلام على الاختلاف، فهذا من مقاصد الشَّارع، ومن المطالب العظيمة: اجتماع القلوب، والتَّناصر، والتَّعاضد، ودفع ما يُضادّ ذلك من أسباب الضَّغينة؛ ولهذا نُهي أن يبيع على بيع أخيه، وأن يخطب على خطبته، وأن يسوم على سومه؛ لئلا يُغير قلبه، بل نُهي عن التَّناجي: إذا كانوا ثلاثةً فلا يتناجى اثنان دون الثالث[14]، لماذا؟ لأنَّه يُحزنه.
فالشَّريعة جاءت بهذا الرُّقي، ومُراعاة مشاعر المؤمن، والقيام على كلِّ ما يقرب قلبه؛ ولذلك ليس من العقل ولا الحكمة -أيّها الأحبّة- هذا الذي نفعله بأنفسنا من هذه الرسائل التي نُرسلها في وسائل الاتِّصال في الواتس أب وغيره مما يُثير الضَّغينة، رسائل بلا نفعٍ!
إذا كنتَ تريد أن تذكر شيئًا من العيب ونحو ذلك، وتُريد إصلاحَه، فاذهب وانصح هذا الذي وجدتَ فيه هذا العيب، وإن كنتَ لا تستطيع الوصول إليه؛ فاذهب وتحدّث مع مَن يصل إليه؛ ليُكلّمه، هذا الطَّريق الأصلح.
أما رسائل، وبعدها رسائل، وبعدها رسائل، حتى يجتمع في هذا القلب من هذه الأشياء الكثيرة التي تُغيّره وتُكدّر صفوه، فيمتلئ بالغلِّ والحقد على هؤلاء، أو هؤلاء، أو أولئك! هذا غير صحيحٍ، والعاقل لا يُصغي لهذا، ولا يسمح لأحدٍ أن يعبث بقلبه، فيملأ قلبَه من الغلِّ، فإذا وجد مجموعةً من هذه المجموعات، ويُرسلون هذه الرسائل التي تُحرِّك القلوب، وتُثير الغلَّ فيها، فالطَّريق هو غيِّر عتبةَ بابك، هذا هو الطَّريق -أيّها الأحبّة-، سلِّم وفارق بمعروفٍ وسلامٍ، وابتعد عن هذه المجموعة: عذرًا؛ أنا لا أستطيع المواصلة، أنا لا أجد من الوقت ما أستطيع معه المتابعة. بلُطْفٍ، وابتعد، وأقبل على ما ينفع، وعلى ما يبعث على الانشراح والفرح، والفأل والسُّرور، والعمل الصَّالح، والنَّفع العامّ والخاصّ، الأمور التي تنفعك في دِينك ودُنياك، وجالس مَن ينتفع بك، أو تنتفع به، ولا تُجالس مَن يُضيع عليك الزمان، أو يُغير عليك قلبَك.
من الناس مَن ليس له همٌّ إلا هذا النوع من الرسائل الموحشة، يبعثها ويُرسلها آناء الليل، وأطراف النَّهار، تستيقظ على رسالةٍ، وتنام على رسالةٍ، تُصبح على غمٍّ، وتنام على همٍّ، هذا ليس من العقل، ولا من الحكمة: أن نجعل قلوبَنا أوعيةً لمثل هذا، إطلاقًا.
وهنا كما قال بعضُهم: بأنَّ مثل هذا العمل البسيط، الآن السَّلام أدفع للضَّغينة بغير مؤونةٍ، اكتساب إخوةٍ بأهون عطيَّةٍ، فأنت لا تخسر شيئًا، ما الطَّريق إلى التَّحاب، حتى نصل إلى هذا الإيمان الواجب؟
إفشاء السلام: أفشوا السلامَ بينكم،بذله لمن عرفتَ، ومَن لم تعرف.
إفشاء السَّلام فسَّره النَّووي -رحمه الله- برفع الصَّوت به حتى تُسمع المسلَّم عليه، لا شكَّ أنَّ هذا مطلوبٌ، من أجل أن يتحقق المقصود، لكن ليس هذا معنى إفشاء السَّلام؛ ولهذا خالفه جمعٌ من أهل العلم، وقالوا: إنَّ المقصود بذلك إذاعة السَّلام، نشر السلام، أن يكثر في الناس، أن يكثر في المجتمع، تمرّ بإنسانٍ كبيرٍ، أو صغيرٍ، عاملٍ، فرَّاشٍ، حارسٍ، مسكينٍ، فقيرٍ، يُنظِّف الطُّرقات: السلام عليكم، ولا يكون السلامُ على المعرفة، كما يكون في أشراط السَّاعة فيما ذكره النبيُّ-صلى الله عليه وآله وسلم-.
فالسلام أول أسباب التَّآلف، واستجلاب المودّة، وفي إفشائه تمكن الأُلفة بين المسلمين، وإظهار الشِّعار الذي يتميزون به، وهو السلام، وكذلك فيه رياضة للنَّفس، ومُعالجة لها؛ بإلزامها التَّواضع.
بعض الناس بصعوبةٍ يُخرج السَّلام، وإذا كان يمرّ في سيارته يتثاقل أن يرفع يدَه ليُسلّم، وأحيانًا اليد ما تكاد ترتفع ليُسلّم، هل هذا كبرٌ، أو قِلَّة معروفٍ؟!
اليد يريد أن يرفعها لا ترتفع، يبخل بالسَّلام، وقد يفشو هذا في مجتمعٍ؛ فيكون الجفاءُ سمةً لهذا المجتمع، فيحصل التَّباعد في النفوس، وهذا شيءٌ مُشاهَدٌ، فالناس يمرون ولا يُسلّمون، ويأتي ويجلس في غرفة انتظارٍ في مستشفى أو في أي مكانٍ ولا يُسلّم، وكأنَّ هؤلاء العشرات ليسوا بشيءٍ، ما يضرّ الإنسان إذا دخل وقال: السلام عليكم؟!
والنبي ﷺ يقول: إذا انتهى أحدُكم إلى المجلس فليُسلّم، فإذا أراد أن يقوم فليُسلّم، فليست الأولى بأحقّ من الآخرة[15]، فيكون ذلك فاشيًا في الناس.
تصور مسجدًا، كلّ مَن دخل قال: السلام عليكم، وإذا خرج قال: السلام عليكم، يكون بينهم من الأُلفة الشيء الكثير، لكن إذا وُجدت جفوة: لا يُسلّم الدَّاخل، ولا يُسلّم الخارج؛ تكون النفوسُ مُتباعدةً، ولا أحد يُسلّم على الآخر، وإذا خرجوا تسابقوا على الأبواب؛ لعله لا يُصادف أحدًا فيُسلّم عليه، يُريد أن يلبس نعليه، ولا يلتفت؛ لئلا يُصادف أحدًا من المصلين، من أجل أن يخرج ولا يراه أحدٌ، ولا يرى أحدًا.
فالنفوس أحيانًا تتصحر، فيقلّ المعروف فيها، ويقلّ الخير بأدنى صوره، مما لا كُلفةَ فيه، كالسَّلام، فهذا –للأسف- نقع فيه.
وعلى كل حالٍ، هذا السّلام -أيّها الأحبّة- كما قد سمعتُم جعله النبيُّ ﷺ شرطًا في هذا الإيمان الواجب، والتَّقاطع وما يكون خلاف ذلك من البغضاء ونحو ذلك؛ هي سبب انثلام الدِّين، والوهن في الإسلام، كما نُشاهد في أرجاء المعمورة اليوم التَّفرق والخلاف الكثير، وكل واحدٍ إلا مَن رحم الله بيده معول يهدم ويضرب أواصر الأخوة والرابطة الإيمانية بين المؤمنين، كلٌّ في عالمه، وكلٌّ يتكلم بما يُحسن، وما لا يُحسن، وما له فيه نيّة، وما ليس له فيه نيّة، وما تكون فيه مصلحة، وما لا تكون فيه مصلحة.
فحينما يلتقي المسلمان، فهذا يدعو لصاحبه ومَن يعرفه بالسَّلامة، ويُشعره أنَّه لا يصل إليه منه مكروهٌ، والرحمة التي تكون سببًا لكل خيرٍ، فإنَّ هذا لا شكَّ أنه يكون سببًا لأسر القلوب، وإفشاء المحبّة بين المسلمين، لاسيّما مع الناس، هؤلاء الضُّعفاء المساكين من العمَّال، والذين ربما يمرّ عليهم كثيرٌ من الناس، لا أحدَ يُسلّم عليهم.
والحديث في هذا يطول، وأولئك الذين يأتون للحجِّ والعُمرة -من أعاجم، وغير الأعاجم- من بلادٍ بعيدةٍ، بعضُهم لما سُلّم عليه في الحجِّ بكى، والناس يمرون عليه، ما أحد يُسلّم، وهو كان يتوقّع أن يرى شيئًا آخر؛ ولذلك تقوم بعض الجمعيات الخيرية بحملة سلامٍ فقط على الحجاج، يأتون ويستقبلونهم في المطارات، وفي الأماكن التي يأتون من ناحيتها، وفقط يبتسمون في وجوههم ويُسلّمون، فكان هذا له أبلغ الأثر، وقد كُتِبَ عنه كثيرًا، وذكروا آثاره، وما شاهدوا من إقبال قلوب هؤلاء الناس، ومن بكاء بعضهم، وتأثّرهم بمجرد السَّلام.
فهذه الشَّريعة عظيمة، جاءت بالأسباب التي تجمع القلوب، ودفع كلّما يُؤثر في افتراقها، ولو كانت أمورًا يسيرةً يستخفّ بها الناس.
وانظروا إلى إقامة الصُّفوف في الصَّلاة، النبي ﷺيقول: والله لتُقيمنَّ صفوفَكم، أو ليُخالفنَّ اللهُ بين قلوبكم[16]، يعني: التَّخالف في الصفِّ يُسبب التَّخالف في القلب، والأمة ليست بحاجةٍ إلى مزيدٍ من الإنهاك، وكسر قوّتها، وتفريق شملها، وتبديد هذا الشَّمل.
فأسأل الله أن يُصلح حالنا وأحوال المسلمين، وأن يُعيننا وإياكم على ذكره، وشُكره، وحُسن عبادته.
والله أعلم.
- أخرجه مسلم: كتاب الإيمان، باب بيان أنَّه لا يدخل الجنةَ إلا المؤمنون، وأنَّ محبّة المؤمنين من الإيمان، وأنَّ إفشاء السلام سبب لحصولها، برقم (54).
- "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" (2/8).
- "شرح النووي على مسلم" (2/36).
- "شرح المشكاة" للطيبي ="الكاشف عن حقائق السنن" (10/3038).
- "شرح النووي على مسلم" (2/36).
- أخرجه أبو داود: كتاب الطَّهارة، باب فرض الوضوء، برقم (59)، وصححه الألباني.
- أخرجه مسلم:كتاب الإيمان، باب بيان تحريم إيذاء الجار، برقم (46).
- "مجموع فتاوى ابن تيمية" (7/257-258)، و"مجموعة الرسائل والمسائل" لابن تيمية (3/11).
- "فتح الباري" لابن رجب (1/45).
- متفق عليه: أخرجه البخاري: كتاب الإيمان، باب من الإيمان أن يُحبّ لأخيه ما يُحبّ لنفسه، برقم (13)، ومسلم:كتاب الإيمان، باب الدَّليل على أنَّ من خصال الإيمان أن يُحبّ لأخيه...، برقم (45).
- "فتح الباري" لابن رجب (1/45).
- متفق عليه: أخرجه البخاري: كتاب الإيمان، باب حبّ الرسول -صلى الله عليه وسلم- من الإيمان، برقم (15)، ومسلم: كتاب الإيمان، باب وجوب محبّة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أكثر من الأهل والولد والوالد، برقم (44).
- متفق عليه:أخرجه البخاري: كتاب الأدب، باب ما يُكره من النَّميمة، برقم (6056)، ومسلم:كتاب الإيمان، باب بيان غلظ تحريم النَّميمة، برقم (105).
- متفق عليه: أخرجه البخاري: كتاب الاستئذان، باب لا يتناجى اثنان دون الثالث، برقم (6288)، ومسلم:كتاب السلام، باب تحريم مُناجاة الاثنين دون الثالث بغير رضاه، برقم (2183).
- أخرجه أبو داود: أبواب النوم، بابٌ في السلام إذا قام من المجلس، برقم (5208)، وقال الألباني: "حسنٌ صحيحٌ".
- أخرجه أبو داود: تفريع أبواب الصُّفوف، باب تسوية الصفوف، برقم (662)، وصححه الألباني.