الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
أما بعد:فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته،
هذا باب"الدعاء لمن سببته"، وذكر فيه حديث أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه-: أنَّه سمع النبيَّ ﷺ يقول: اللهم فأيما مؤمنٍ سببته، فاجعل ذلك له قُربةً إليك يوم القيامة. أخرجه البخاري ومسلم[1].
قوله ﷺ: اللهم أي: يا الله، فأيّما مؤمنٍ سببته هذا مُقيد بالمؤمنين، فإذا وقع السَّب -والسّب معروفٌ؛ يُقال للشتم واللَّعن، وما إلى ذلك، كلّه داخلٌ في السَّب-، فإذا قال ذلك في حقِّ أحدٍ من غير أهل الإيمان، فإنَّ ذلك يكون كما قال -عليه الصَّلاة والسَّلام-، فهذا القيد مُعتبر، أي: فأيما مؤمنٍ سببتُه، فاجعل ذلك له قُربةً إليك يوم القيامة، اجعل ذلك قُربةً، أي: يكون ذلك مما يُقربه إليك؛ إلى مرضاتك والدَّرجات العالية، فيكون هذا السَّب الواقع من النبي ﷺ لأحدٍ من أمته سببًا لعكس ما يظهر من لفظه؛ فيكون قربةً.
قد يقول قائلٌ: كيف يدعو النبي ﷺ على أحدٍ، أو يسبّ أحدًا، وليس بأهلٍ لذلك؟
وقد أجاب عن هذا بعضُ أهل العلم: بأنَّ ذلك إنما يقع منه ﷺ بحسب الظَّاهر، يعني: أنَّه في ظاهر الأمر قد أتى بما يستحقّ عليه العيب، أو السَّب، أو الشَّتم، أو اللَّعن، ولكن قد لا يكون كذلك عند الله -تبارك وتعالى-، فهذا قد جاء في حديثٍ آخر، وهو حديث أنسٍ عند مسلمٍ: أنَّ النبي ﷺ لما رأى اليتيمة عند أم سُليم-رضي الله تعالى عنها- قال: لقد كبرت، لا كبر سنك، فذهبت تبكي عند أم سليم، باعتبار أنَّ النبي ﷺ دعا عليها، فجاءت أمُّ سليم إلى النبي ﷺ، فقال: يا أم سليم، أما تعلمين أنَّ شرطي على ربي، أني اشترطتُ على ربي فقلتُ: إنما أنا بشر، أرضى كما يرضى البشر، وأغضب كما يغضب البشر، فأيّما أحدٍ دعوتُ عليه من أمتي بدعوةٍ ليس لها بأهلٍ، أن يجعلها له طهورًا وزكاةً وقُربةً يُقربه بها منه يوم القيامة[2]، يقول: أنا بشر.
وهذا أفضل ما يُفسّر به حديث أبي هريرة، وهو حديث هذا الباب، فما ذكره بعضُ أهل العلم مما أوردته آنفًا: كالمازري -رحمه الله- من أنَّ ذلك إنما يكون وقع منه ﷺ بحسب الظَّاهر، وقد لا يكون مُستحقًّا في باطن الأمر، يعني: عند الله، فحديث أنسٍ يُفسّره: ليس لها بأهلٍ، إلا أنَّ حديثَأبي هريرة فيه العموم لكل مؤمنٍ؛ لأنَّ قوله ﷺ: فأيما مؤمنٍ سببتُه، فاجعل ذلك له قُربةً إليك يوم القيامة، فـمؤمن هنا نكرة في سياق الشَّرط؛ وذلك من صيغ العموم، فظاهره أنَّه لو كان أهلًا، أو ليس بأهلٍ، هذا ظاهر اللَّفظ، ولكنه قد يكون مُقيدًا، يُقيده الحديثُ الآخر، وهو حديث أنسٍ -رضي الله تعالى عنه-؛ لأنَّ هذا السَّب -كما قلنا- يدخل فيه اللَّعن، فاللَّعن يُقال له: سبٌّ، واللَّعن: دعاء بالطَّرد والإبعاد من رحمة الله -تبارك وتعالى-.
وهكذا لو أنَّه دعا على البعيد، فقال: أبعدك الله، أو نحو ذلك، فهذا يُعتبر دعاءً وسبًّا، فمثل هذا قال النبي ﷺ في حديث أنسٍ: ليس لها بأهلٍ.
وبعضُ أهل العلم يقولون في حديث أبي هريرة هذا الذي لم يُقيد بقوله: ليس لها بأهلٍ: يحتمل أنَّ اللَّعن والسَّب يقع منه ﷺ من غير قصدٍ إليه، فلا يكون في ذلك كاللَّعنة الواقعة رغبةً إلى الله -تبارك وتعالى-، وطلبًا للاستجابة؛ لأنَّه لو كان يقصد ذلك لما سأل ربَّه أن يجعلها قُربةً لهذا الذي وقع عليه الدُّعاء أو السَّب، وطهورًا يوم القيامة، فيكون قد جرى ذلك على لسانه ﷺ من غير قصدٍ، كأن يقع ذلك منه ﷺ على سبيل الزجر، أو يكون ذلك في حال الغضب.
لكن هنا أورد أهلُ العلم سؤالًا، وهو ما يتَّصل باجتهاد النبي ﷺ: هل يجتهد أو لا؟
واجتهاده ﷺ يتفرَّع؛ وذلك أن يُقال: هل يقع منه الاجتهادُ ﷺ في مسائل الأحكام –التَّشريع-، أو يكون ذلك في غيرها مما يتّصل بالتَّعامل مع الناس وأمور دُنياهم؟
أما ما يتَّصل بالأحكام: فالعُلماء في ذلك على قولين، لكن في مُنتهى الأمر يقولون: لو وقع منه الخطأ، فإنَّ الوحي يُسدده، فإن لم يأتِ الوحيُ مُصوِّبًا، فيُعلم أنَّ هذا الحكم قد وقع على وجه الصَّواب.
وبعض أهل العلم يقول: لا يقع منه الاجتهاد، فهو وحيٌ يُوحى، وعبدُالله بن عمرو بن العاص-رضي الله عنهما- لما قالوا له: إنَّك تكتب عن رسول الله ﷺ كلَّ شيءٍ، ورسول الله ﷺ بشرٌ، يغضب كما يغضب البشر! فقال النبي ﷺ له: اكتب، وأخذ ﷺ أو أشار إلى لسانه: فوالذي نفسي بيده، ما يخرج منه إلا حقٌّ[3]-عليه الصَّلاة والسَّلام-، هذا يمكن أن يُحمل على ما يتعلّق بأمور التَّشريع.
وفي تأبير النَّخل ذكر لهم ﷺ أنَّهم لو لم يفعلوا- يعني: لم يُؤَبّر- فإنَّ ذلك قد لا يضرّه، فلمَّا تركوه خرج شيصًا، فأخبرهم ﷺ أنهم أعلم بأمور دُنياهم، وأنَّه إذا حدَّثهم عن الله -تبارك وتعالى-، فذلك هو الذي ينبغي أن يُتبع، ويكون وحيًا كما هو معلومٌ[4].
وكذلك أيضًا اجتهد ﷺ فيما يتعلّق بأسارى بدرٍ، فنزلت الآية: لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ[الأنفال:68]، فهذا اجتهادٌ في إطلاق أسارى بدر.
كذلك في اجتهاده ﷺ في أمورٍ أخرى، كما في قوله -تبارك وتعالى-: عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى[عبس:1-6]، فكان يتصدى ﷺ، ويُقبل على هؤلاء الكُبراء؛ رجاء إسلامهم، فعاتبه ربُّه -تبارك وتعالى- في ذلك، فهذه اجتهادات.
ومن أهل العلم مَن يقول: إنَّ الاجتهاد لا يقع في أمور التَّشريع، ولكنَّه يقع في مثل هذه الأمور التي تتعلق بأمور الناس، وتعاملاتهم، ونحو ذلك، ومنهم مَن يمنع من ذلك مطلقًا، والله أعلم.
وكذلك في غزوة الخندق لما أراد النبيُّ ﷺ أن يُعطي بعض مَن حضر مع المشركين؛ ليُفرقهم عنه ﷺ: كإعطاء غطفان شطر ثمر المدينة، ثم استشار ﷺ السَّعدين: سعد بن معاذ، وسعد بن عُبادة، فذكروا له أنَّ هذا إن كان بوحيٍ فهم يُسلِّمون ويُذعنون لذلك، فذكر لهم النبيُّ ﷺ أنَّه اجتهادٌ يقصد به دفع الناس عنهم؛ لما تألبت العرب، وتحزَّبوا، وحاصروا المدينة[5].
وهكذا ما يُروى أيضًا في منزله ﷺ في بدرٍ، مع أنَّ الرواية لا تخلو من ضعفٍ؛ لما سُئل: هل هذا وحيٌ، أو أنَّها الحرب والمكيدة؟ فأخبر أنها الحرب والمكيدة، فكان الرأي الذي أشاروا به عليه: أن ينزل في آخر الآبار[6]، وهذا لا يخلو من جهة الإسناد من ضعفٍ.
فأحسن ما يُفسّر به -والله أعلم- حديثُ أبي هريرة بحديث أنسٍ: اللهم إنما محمدٌ بشرٌ، يغضب كما يغضب البشر[7].
إذًا قد يصدر منه هذا السَّب أو الدُّعاء على أحدٍ من المسلمين بلونٍ من الاجتهاد، فيكون طهرةً له، ورفعةً عند الله -تبارك وتعالى-، وأن تجعلها له طهورًا وزكاةً وقُربةً منك يوم القيامة.
وقد ذكر النَّووي-رحمه الله- أنَّ هذه الرواية تُبيّن المراد في بقية الرِّوايات المطلقة[8]، يعني: أنَّ قوله: ليس لها بأهلٍ[9]، الرِّواية المطلقة، كما في حديث أبي هريرة ، فهذا يكون لمن لا يكون أهلًا لهذا الدُّعاء، وذلك إذا كان من المسلمين، وإلا فقد دعا النبيُّ ﷺ على الكفَّار، وهم أهلٌ لذلك.
فهذا الحديث يكون في حقِّ المعين، لكن في دُعائه ﷺ على ما يتَّصل بالوصف، أو نحو ذلك مما يكون في زمانه، أو يكون بعد زمانه، فالذي يظهر أنَّ ذلك على إطلاقه، وهذا الذي ذهب إليه بعضُ أهل العلم: كالحافظ ابن حجر -رحمه الله-، يعني: كقوله ﷺ: ولعن اللهُ مَن لعن والديه[10]، ولعن الواشمات والمستوشمات، والمتنمّصات، والمتفلجات[11]، ونحو ذلك، فيكون ذلك واقعًا على الوصف، يعني: مَن اتَّصف بهذه الصِّفة، لكننا نعلم أنَّ اللعنَ العامّ، أو ما يتَّصل بالصِّفة، لا يعني أنَّ ذلك يقع على كل فردٍ؛ فإنه قد تُوجد نامصة، ولا يقع عليها هذا اللَّعن بحقِّها، بخصوصها؛ وذلك أنَّه لا بدّ من تحقق الشروط، وانتفاء الموانع، كما يُقال في الكفر: مَن فعل كذا فقد كفر، وقد يقع ذلك من بعض الناس ولا يكفر؛ لأنَّه في الحكم عليه بالوصف المعين لا بدَّ من وجود الشُّروط، وانتفاء الموانع.
فهذه المرأة النَّامصة مثالٌ في اللَّعن للوصف: لعن الله النَّامصات، لكن فلانة قد لا يقع عليها اللَّعنُ، فلا يجوز لمن رآها وقد وقع لها ذلك أن يلعنها بعينها، على قول الجمهور: أنَّه لا يجوز لعن المعين، والسَّبب في ذلك: أنَّه قد يتخلّف شرطٌ، أو يُوجد مانعٌ؛ قد تكون هذه المرأةُ جاهلةً بالحكم، وما بلغها النَّهي، فتكون معذورةً، وقد تكون عندها حسنات عظيمة ماحية، أو عندها مصائب عظيمة مُكفّرة، أو قد تحصل لها شفاعة، أو نحو ذلك من موانع الوعيد، فيكون في حقِّها اللعنُ غير واقعٍ، لكن هذا لعن عامّ، هذا مثالٌ في النَّامصات، ويمكن أن يجعل ذلك في غيره، والله أعلم.
وقد تحصل لها توبة، والتوبة تجُبّ ما قبلها، ولو كان صاحبُ هذا العمل ممن يلحقه اللعنُ ويصدق عليه.
وكذلك لعن مَن عمل عمل قوم لوطٍ، فقد يتوب، وقد يبتليه الله بمصائب مُكفّرة، وقد تحصل له شفاعة، ونحو ذلك.
ففرقٌ بين اللعن العامّ والسّب العامّ المعلّق بالوصف، وبين لعن المعين، فالحديث في المعين، لعن فلانًا من الناس.
والنبي ﷺ أخبر عن رجلٍ عمل عملًا، أو قال قولًا: أنَّه قد همَّ ﷺ أن يلعنه لعنًا يدخل معه في قبره[12].
فالمقصود أنَّ هذا حينما يقع على المعين من أهل الإيمان يكون فيه ما ذكر، والله أعلم.
وهذا الحديث يدلّ على رأفته ﷺ وشفقته بأُمَّته، كما قال الله : لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَاعَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ[التوبة:128]، فهذا مصداقٌ لذلك، وما كان ﷺ ينتقم لنفسه، بل كان يعفو ويصفح -عليه الصَّلاة والسَّلام-.
وفي هذا الحديث تأنيسٌ لمن وقع عليه السَّبُّ، فلا يبتئس، ولا يقنط من رحمة الله -تبارك وتعالى-، مع أنَّ دعاء النبي ﷺ مُجابٌ، لكن سأل ربَّه أن يجعل ذلك رحمةً لهذا الذي وقع عليه السَّبُّ، أو اللَّعن، أو الدُّعاء عليه.
والله تعالى أعلم، وصلَّى الله وسلَّم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه.
- متفق عليه: أخرجه البخاري: كتاب الدَّعوات، باب قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((مَن آذيتُه فاجعله له زكاةً ورحمةً))، برقم (6361)، ومسلم:كتاب البر والصّلة والآداب، باب مَن لعنه النبي -صلى الله عليه وسلم- أو سبَّه...، برقم (2601).
- أخرجه مسلم: كتاب البر والصّلة والآداب، باب مَن لعنه النبي -صلى الله عليه وسلم-، أو سبَّه، أو دعا عليه، وليس هو أهلًا لذلك، كان له زكاة وأجرًا ورحمة، برقم (2603).
- أخرجه أبو داود: كتاب العلم، بابٌ في كتاب العلم، برقم (3646)، وصححه الألباني.
- أخرجه مسلم: كتاب الفضائل، باب وجوب امتثال ما قاله شرعًا، دون ما ذكره -صلى الله عليه وسلم- من معايش الدنيا على سبيل الرأي، برقم (2362).
- أخرجه عبدالرزاق في "مصنفه" (5/367)، برقم (9737)، وابن أبي شيبة في "مصنفه" (7/378)، برقم (36816).
- أخرجه البيهقي في "الدلائل" (3/35).
- أخرجه مسلم: كتاب الآداب، باب مَن لعنه النبي -صلى الله عليه وسلم- أو سبَّه من المسلمين، برقم (6714).
- "شرح النووي على مسلم" (16/151).
- أخرجه مسلم: كتاب الآداب، باب مَن لعنه النبي -صلى الله عليه وسلم- أو سبَّه من المسلمين، برقم (6719).
- أخرجه مسلم: كتاب الأضاحي، باب تحريم الذَّبح لغير الله تعالى ولعن فاعله، برقم (1978).
- أخرجه مسلم: كتاب اللباس والزينة، باب تحريم فعل الواصلة والمستوصلة، والواشمة والمستوشمة، والنامصة والمتنمصة، والمتفلجات، والمغيرات خلق الله، برقم (2125).
- أخرجه مسلم: كتاب النكاح، باب تحريم وطء الحامل المسبية، برقم (1441).