الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
أما بعد: فهذا باب "ما يفعل مَن أتاه أمرٌ يسرّه"، مضى أنَّ المؤمن إذا رأى شيئًا يُعجبه فإنَّه يُكبر، يقول: "الله أكبر"، وهنا ما يكون منه من الأفعال، ما الذي يفعله مَن حصلت له نعمة استجدّت؟
فقد جاء في حديث أبي بكرة : "أنَّ النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- كان إذا أتاه أمرٌ يسرّه أو بُشِّر به خرَّ ساجدًا شكرًا لله -تبارك وتعالى-". رواه أصحابُ السنن إلا النسائي [1]، وقد تكلّم فيه جمعٌ من أهل العلم: كابن عدي [2]، وابن القيسراني[3]، وكذلك الذهبي [4]، وابن كثير[5]، والشَّوكاني[6]، والخطيب البغدادي[7]، هؤلاء تكلَّموا في إسناده؛ بأنَّ في إسناده بكار بن عبدالعزيز، وهو ممن تُكلِّم فيه، وضُعِّف، وقال الخطيبُ البغدادي:"غريب"، وقد حسَّنه الشيخ ناصر الدين الألباني[8]-رحم الله الجميع-.
قوله: "كان النبيُّ ﷺ إذا أتاه أمرٌ يسرّه أو يُسرّ به خرَّ ساجدًا"، هذه الصيغة عرفنا من قبل أنها تدلّ على التَّكرار والمداومة: "كان إذا أتاه أمرٌ يسرّه"، يعني: أنَّ ذلك من عادته وسُنّته -عليه الصلاة والسلام- إذا وقع له محبوبٌ أو بُشِّر بذلك، كما جاء في بعض رواياته: "إذا أتاه أمرٌ يسرّه أو بُشِّر به"، وفي بعض الألفاظ: "أو يُسرّ به".
والمقصود بهذا الأمر الذي يسرّه أو يُسرّ به هي نِعَمٌ مُستجدّة لها خطبٌ وشأنٌ، لها قدرٌ، لها منزلةٌ؛ من وقوع نعمةٍ مُنتظرةٍ، شيء يُؤمّله؛ كأن يكون هذا الإنسانُ بُشِّر بالولد، أو بحمل امرأته بعد أن كانت لا تحمل، أو بُشِّر بنصر المسلمين، أو بُشِّر بإزاحة شرٍّ عنهم قد أرهق كواهلهم وتأذّوا به، فإذا أُزيل فإنَّ ذلك يكون من النِّعَم الكبار التي تستحقّ الشُّكر، فيكون ذلك على النِّعم المختصّة به، ويكون أيضًا على النِّعَم العامَّة التي تتّصل بالأُمّة؛ فإنَّ المؤمنين يعنيهم ما يقع لأُمَّتهم، ويفرحون لفرحهم، ويحزنون لحزنهم، فيكون ذلك من الأمور العظيمة التي تستوجب شكرًا لله -تبارك وتعالى- مُتجددًا.
كذلك أيضًا اندفاع الشّرور والنِّقَم مما كان يتوقعه الإنسان، ولربما لا يتوقّعه، هذا الإنسانُ نجا من حادثٍ؛ تحوّلت به مركبته، انقلبت، أو نحو ذلك، واجه حالًا ربما لا يكاد ينجو منها أحدٌ، فسلّمه الله من صدامٍ محققٍ، لولا الألطاف الربانية، في هذه الحال ينزل ويسجد شكرًا لله -تبارك وتعالى- أن دفع اللهُ عنه هذه النِّقمة، ما بينه وبين السيارة الأخرى ربما إلا سنتيمتر واحد، كذلك لو أنَّ هذه السيارة وهذه المركبة انقلبت به ونحو هذا، ولم يُصبه هذا، فإنَّه ينزل ويسجد شكرًا لله -تبارك وتعالى-، وقع عليه شيءٌ من هذه الأخطار: انهدم به هذا المكان، أو وقع حريقٌ أحاط بهذا الموضع، وكان يظنّ أنه لا خلاصَ، ولا نجاةَ، وقد خنق المبنى بالأدخنة، ونحو ذلك، فكان يظن أنَّ موته في هذه، فنجَّاه الله وسلَّمه، ففي هذه الحالة يسجد شكرًا لله -تبارك وتعالى-.
ارتاب الأطباء في بعض عِلله، أو في بعض أولاده، في أهله، ونحو ذلك، ثم أجرى الفحوصات أو الأشعة أو نحو ذلك، وكان يتخوّف من مرضٍ عضالٍ خطيرٍ يُنبأ به، فلمَّا جاء وهو يترقب، لم ينم تلك الليلة، ينتظر هذه النتيجة: ماذا سيُقال؟ فيتقرر فيها بعد ذلك ربما مشوار طويل من العلاج، لا يدري هل يُجدي معه، أو لا يُجدي؟ ثم بعد ذلك يُبَشَّر ويُقال له: كل شيءٍ سليمٌ، لا بأسَ بك ولا عِلّة، أو يُقال لهذا الإنسان: لم نجد هذا الورم أصلًا في هذه الأشعة مما كنا نجده، أين ذهب؟!
فيكون هذا الإنسانُ قد رقى نفسَه، أو رُقي بالقرآن؛ فزالت عِلَّته قبل أن يصل إليهم، وإلى هذه المزاولات والمعالجات التي يتعرفون بها على موضع العِلّة ونوعها، فيسجد شكرًا لله -تبارك وتعالى-.
وهكذا حينما يُجرى لغيره عملية، من أهله، أو نحو ذلك، قد تكون خطيرةً، وبعض الناس قد يقول له: إنَّ هذه العملية قد تُسبب الوفاة، أو الشلل، أو ربما الإعاقة بلونٍ من ألوان الإعاقة: ذهاب السمع، ذهاب البصر، ذهاب شيءٍ من الحواس. ثم يُجري العملية، ويُقال له: لم يحصل شيءٌ من هذا المكروه، فيسجد شكرًا لله -تبارك وتعالى-، وهكذا.
فهذه مما يُستجدّ من النِّعَم، ويندفع من النِّقَم، فهذا يكون مُقابلًا بهذا السُّجود، وهو أمرٌ مُستحبٌّ، وليس من الواجبات، لكنه من قبيل المندوب، ولا يكون ذلك على الأمور المعتادة؛ لأنَّ العبد لا يخلو من نِعَمٍ، هو يتقلب في نِعَمٍ في صباحه ومسائه، فهذا الهواء الذي نتنفسه نعمة مُتجددة، وهذه الأعضاء التي تعمل: هذا البصر الذي نرى به الأشياء نعمة مُتجددة، وإذا أصبح الإنسانُ فهذه نعمةجديدة، وإذا أُمهل إلى المساء فهذه نعمة جديدة، اشترى ثوبًا، اشترى طعامًا، كلّ هذه نِعَمٌ، وسيبقى الإنسانُ ساجدًا طول العمر، ولن يفي حقّ الله -تبارك وتعالى-، إنما يكون سجود الشُّكر في نِعَمٍ مُستجدة مما يكون له وقعٌ في النفس، أو اندفاع الضّر والشَّر عنه، أو عن الأُمّة بعمومها.
فهذا يكون كلّه فيما يُسرّ به؛ لأنَّ الإنسان يُسرّ بحصول النِّعمة، واندفاع النِّقمة، لا أن يفعل ما لا يليق كما يفعل بعضُ الناس؛ إذا تزوج وقع من المنكرات بالمعازف غير الدّف، ووقع أيضًا بهذا الزواج من الاختلاط، والخروج أمام النساء، هذا الرجل يخرج ويبدو أمام الجالسات الحاضرات، هذه الجموع من النِّساء، وقد عرّين الأجساد بصورةٍ مُقززةٍ مُنكرةٍ، لا يمنعهن من التَّهافت على ذلك برد الشتاء، ولا الحياء.
كذلك أيضًا الإسراف في هذه الولائم، وما يُضاف إلى ذلك من توابع هذا النكاح لدى بعضهم؛ يكون قد حجز في تلك الليلة ليُسافر إلى بلادٍ تظهر فيها أنواع المنكرات التي لا يستطيع أن يُنكرها، ولا يرفع رأسَه بالإنكار، ويذهب إليها قصدًا، يقطع آلاف الكيلومترات، ويبذل فيها الأموال الكثيرة باختياره من غير ضرورةٍ، ولا حاجةٍ شرعيَّةٍ مُعتبرةٍ، يذهب، وأين يذهب؟!
يذهب إلى أماكن الصَّلاة والإصلاح؟ لا، يذهب إلى أماكن السُّوَّاح، التي يختلط فيها الأشرار، ويكثر فيها الفُجَّار والعُراة وشبه العُراة، وأنواع الفتن ما ظهر منها وما بطن، مما لا يستطيع أن يُغيره، ولا أن يُنكره، ولا أن يتكلّم ببنت شفةٍ، فهذا السَّفر حرامٌ، لا يجوز، هذه البنت التي تربّت في أماكن الطُّهر والعفاف، وما رأت هذه المشاهد قطّ، يذهب بها هكذا في ليلةٍ، وترى ما لا قِبَل لها به! هذا ليس من شكر النِّعمة، بل هو مُؤذنٌ بزوالها، فقد يكون ذلك سببًا لتعثر الحياة فيما بعد، والتَّنغيص، ووجود المشكلات.
وكم من رجلٍ زهد في امرأته بتلك السَّفرة! وكم من امرأةٍ زهدت في زوجها في تلك السَّفرة! فهذه بعض آثار المعاصي والذُّنوب.
كذلك ما يحصل من أنواع الغفلة واللَّهو، وما إلى ذلك من رقصٍ وغناءٍ ونحو هذا، هذا ليس من الشُّكر، هذه نعمة جديدة؛ رزقه الله بزوجةٍ، يسجد شكرًا لله -تبارك وتعالى-، ويخضع له، ويزداد عبوديةً، لا أن يُجابهه ويبدأ الحياة بالمعصية والمنكر، ثم يرجو ربَّه بعد ذلك التوفيق، تعصيه وترجو أن يُوفقك، كيف يكون مثل هذا؟!
وهكذا أيضًا فيما يفعله بعضُ الناس إذا بُشِّر بأمرٍ يسرّه ربما أفضى به ذلك إلى معصية الله -تبارك وتعالى-، جاءه مالٌ ما كان يتوقعه، فبعض الناس يذهب به مُباشرةً إلى البلاد التي يعصي الله فيها، ويفجر، ويفعل أنواع الموبقات بهذا المال؛ تعبيرًا عن فرحه، وبئس الفرح: قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ[يونس:58]، فنسأل الله ألا يُؤاخذنا بما فعل السُّفهاء منَّا.
فهذا هو هدي النبي ﷺ يخرّ ساجدًا شاكرًا لله -تبارك وتعالى-، وقد قال الترمذي -رحمه الله-: "إنَّ هذا السجود للشُّكر هو الذي عليه العمل عند أكثر أهل العلم"[9]،يعني:أنه مشروعٌ، وإلى هذا ذهب الإمامُ أحمد [10]، والشَّافعي[11]، وجمهورُ العلماء لمن تجددت له نعمةٌ، أو صُرفت عنه نقمةٌ، خلافًا للإمام مالك [12]-رحمه الله-، وما نُقِلَ عن أبي حنيفة[13]: أنَّ ذلك لا يُشرع.
والحديث إذا صحَّ يكون حُجَّةً بنفسه، لكن العالم قد لا يصحّ عنده الحديث، وقد يكون هذا الحديثُ ما بلغه أصلًا؛ فيكون معذورًا بذلك، لكن العلماء تكلّموا في مسائل تتعلق بسجود الشُّكر، من ذلك: هل يُشترط لذلك الطَّهارة؟
إنسانٌ في مكانٍ عامٍّ بُشِّر، جاءه اتِّصالٌ وقيل: رُزقتَ بولدٍ، زوجتُك حامل، نجت تجارتك، فيسجد في مكانه، هل يحتاج إلى طهارةٍ، أو لا يحتاج إلى طهارةٍ؟
من أهل العلم مَن قال: تُشترط له الطَّهارة؛ قياسًا على الصلاة.
وبعضهم يقول: لا تُشترط؛ لأنَّ هذه ليست صلاةً، وأنَّ الطَّهارة لا تُشترط لشيءٍ إلا بدليلٍ خاصٍّ، وهنا لا دليلَ، وليست هذه بصلاةٍ، وإنما الطَّهارة وردت في الصَّلاة، وسجدة مُفردة لا تكون صلاةً: لا في اللغة، ولا في العُرف، ولا في الشرع، فلا دليلَ على ذلك، ومن ثم فإنَّ مثل هذا لا يحتاج إلى طهارةٍ، لكن إن كان مُتطهرًا فهو أولى وأفضل وأكمل، باعتبار أنَّ هذا ذكرٌ لله ، والنبي ﷺ يقول: إني كرهتُ أن أذكر الله إلا على طهرٍ، أو قال: على طهارةٍ[14]، في غير موضوع سجود الشُّكر.
وهذا الذي ذهب إليه شيخُ الإسلام ابن تيمية[15]-رحمه الله-: أنَّ سجود الشكر وسجود التلاوة لا تُشترط له الطَّهارة، وعنده -رحمه الله- أنَّه لا يُطلب له ما يُطلب للصلاة، يعني: بحيث إنَّ المرأة لا تحتاج أن تُغطي رأسها مثلًا وجسدها، بينما تسجد على حالها التي هي فيها في بيتها؛ لأنَّ هذه ليست بصلاةٍ.
ومن ثم أيضًا هؤلاء بعضُهم لا يشترط حتى استقبال القبلة، باعتبار أنَّ ذلك ليس بصلاةٍ، وإنما يُطلب استقبال القبلة للصلاة فحسب، فيسجد في مكانه.
والمسألة ليست محلَّ اتِّفاقٍ بين أهل العلم.
كذلك هل يُطلب لها أن يُكبر؟ إذا أراد أن يسجد يقول: "الله أكبر" ويسجد، أو يسجد مُباشرةً؟
بعض أهل العلم قال: لا يحتاج إلى تكبيرٍ، إنما المقصود السجود، وكذلك أيضًا لا يُشرع لها السلام، وإذا سجد سجدة الشُّكر وقام لا يحتاج إذا قام أن يقول: "الله أكبر"، كذلك لا يحتاج إلى أن يُسلّم: لا تسليمة واحدة، ولا أكثر، إنما يقع، يخرّ ساجدًا.
وهكذا يُقال فيما يتعلّق بسجدة التلاوة، إنما كان يُكبر النبي ﷺ لكل رفعٍ وخفضٍ بالنسبة للصلاة، وهذه ليست بصلاةٍ.
وبعض الناس ربما يكون جالسًا بين الناس،أو في المسجد يقرأ قرآنًا أو نحو ذلك، ثم يسجد، أو لم يقرأ قرآنًا، فيسجد، فيُقال: ما هذا السجود؟ يقول: سجدتُ شكرًا، ما الجديد؟ هو تذكّر شيئًا، أو تأمّل في نعمةٍ فسجد، لا، إنما هي في نعمةٍ مُستجدةٍ، يعني: هو تأمّل في نعمةٍ قبل أسبوعٍ، قبل شهرٍ، فسجد، لا، ليس هذا هو المشروع، إنما يكون في حينه وأوانه.
هذا، وأسأل الله -تبارك وتعالى- أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، وأن يجعلنا وإياكم هُداةً مهتدين.
والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمدٍ وآله وصحبه.
- أخرجه أبو داود: كتاب الجهاد، بابٌ في سجود الشُّكر، برقم (2774)، والترمذي: أبواب السير عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، باب ما جاء في سجدة الشُّكر، برقم (1578)، وابن ماجه: أبواب إقامة الصَّلوات والسُّنة فيها، باب ما جاء في أنَّ الصلاة كفَّارة، برقم (1394).
- "الكامل في ضُعفاء الرجال" (2/218-219).
- "ذخيرة الحفاظ" (2/800)، برقم (1542).
- "المهذب في اختصار السنن الكبير" (2/796).
- انظر: "إرشاد الفقيه" لابن كثير (151/1)، تحقيق: بهجة يوسف أبو الطيب.
- "نيل الأوطار" (3/126).
- "تاريخ بغداد وذيوله" ط. العلمية (3/348).
- "صحيح الجامع"، برقم (4701)، و"إرواء الغليل" (2/226)، برقم (474).
- "سنن الترمذي" ت: شاكر (4/141)، برقم (1578).
- انظر: "مسائل الإمام أحمد وإسحاق بن راهويه" (9/4686)، و"المغني" لابن قدامة (1/449).
- انظر: "روضة الطالبين وعمدة المفتين" (1/324)، و"المجموع شرح المهذب" (4/69)، و"نهاية المطلب في دراية المذهب" (2/282)، و"المغني" لابن قدامة (1/449).
- انظر: "الذخيرة" للقرافي (2/416)، و"البيان والتحصيل" (1/393)، و"التبصرة" للخمي (2/435)،و"المغني" لابن قدامة (1/449).
- انظر: "بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع" (1/193)، و"العناية شرح الهداية" (2/17)،و"المغني" لابن قدامة (1/449).
- أخرجه أبو داود: كتاب الطَّهارة، باب أيردّ السلام وهو يبول؟ برقم (17)، وأحمد في "المسند"، برقم (19034)، وقال مُحققوه: "حديثٌ صحيحٌ"، وصححه الألباني في "صحيح أبي داود"، برقم (13).
- انظر: "الفتاوى الكبرى" لابن تيمية (1/343)، و(5/340)، و"سجود التلاوة: معانيه وأحكامه" (ص73).