الحمد لله، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله.
أما بعد: فهذا باب "ما يفعل ويقول مَن أحسّ وجعًا في جسده"، وذكر حديثَ عثمان بن أبي العاص الثَّقفي -رضي الله تعالى عنه-: أنه شكى إلى رسول الله ﷺ وجعًا يجده في جسده منذ أسلم، فقال له رسولُ الله ﷺ: ضع يدَك على الذي تألم من جسدك، وقل: "بسم الله" ثلاثًا، وقل سبع مرات: أعوذ بالله وقُدرته من شرِّ ما أجد وأُحاذر[1].
وفي روايةٍ في "الموطأ": "فقلتُ ذلك، فأذهب اللهُ ما كان بي، فلم أزل آمر بها أهلي وغيرهم"[2].
وفي روايةٍ عند أبي داود والترمذي وابن ماجه: أعوذ بعزّة الله وقُدرته[3]، وهذا الحديث مُخرَّجٌ في "صحيح مسلم"[4].
فقوله: بأنَّه شكى إلى رسول الله ﷺ وجعًا يجده في جسده منذ أسلم، يدلّ على أنَّ هذه العِلّة هي مما يتّصل بالجسد، يعني: أنها من العِلل العضوية، وليست من العلل النَّفسية، فإنَّ الأجساد تعتلّ باختلال أمزجتها، مزاج الجسم كما هو معروفٌ عند الأطباء المتقدمين، وبأي عبارةٍ عبَّر عن ذلك في عصرنا هذا، لكن المؤدّى واحدٌ.
فقد يعتلّ عضوٌ من أعضاء الإنسان: كيده، أو رأسه، أو كبده، أو كلاه، أو تعتلّ عينه، أو أذنه، أو نحو ذلك، فهذه عِلل عضوية تُعالج بأنواع العلاجات الحسيّة والماديّة من هذه الأدوية الكيميائية، أو غيرها، أو تُعالج بلونٍ من المعالجات -كما هو معلومٌ- مما يتّصل بالأعشاب والمركبات المعروفة مما يتّخذ من هذه المواد، أو كان ذلك باستخراج المادة الفاسدة من الجسد، وذلك كالحجامة، أو الفصد بشرط العِرق، ويُستخرج منه الدّم، أو كان ذلك بالكيّ، أو نحو هذا، فكلّ ذلك من العلاجات الماديّة الحسيّة.
وهناك علاجات أخرى ربانية وروحانية: كالرُّقى بالقرآن والأذكار، ونحو ذلك مما يُرقى به، كما علم النبيُّ ﷺ عثمان بن أبي العاص.
وإذا كان ذلك يُقال في العِلل الحسيّة الجسديّة، فإنَّ ذلك يُقال من باب أولى في العِلل النَّفسية التي تتّصل بالروح، والأرواح تعتلّ كما تعتلّ الأجساد، فالجسد كما تُصيبه الحمى والمرض، كذلك الروح يُصيبها ما يُصيبها، فيظهر أثرُ ذلك في الجسد، كما يظهر أثرُ ما يُصيب الجسد إذا اشتدّ وقوي يظهر أثرُه على الروح؛ لأنَّ ذلك يكون تبعًا للأجساد، بينما ما يُصيب الإنسان من الألم من المرض ونحو ذلك، قد يُؤثر في روحه في الغالب؛ فيحصل له نوع ضعفٍ وانكسارٍ، ونحو ذلك مما لا يخفى، مما يقع للمرضى؛ ولذلك في بعض الأمراض الشَّديدة -عافى الله الجميع- ربما يُجلب لهؤلاء المرضى من الأطباء النَّفسانيين، مع أنَّ عِلته جسدية؛ كبعض الحالات المتقدّمة من السرطان، ونحو ذلك، يطوف عليهم من الأطباء النَّفسيين، إلا مَن كان مُعتصمًا بالله -تبارك وتعالى-، واثقًا به، شديد اليقين؛ فإنَّ مثل هذا لا يحتاج إلى مثل ذلك، فإنَّ نفسَه تُحلّق دائمًا إلى أعلى، لكن الكثيرين لا يصلون إلى هذه المراتب.
فهذا في العِلل الجسدية التي تطال الروح، أمَّا العِلل التي تقع للأرواح والنّفوس فإنَّ هذه أيضًا يصل أثرها إلى الأجساد، فقد يتعطّل البصر فلا يرى الإنسانُ، وعِلته نفسية، وليست بجسديةٍ عضويةٍ، وقد يتعطل عضوٌ من أعضائه بسبب علّةٍ روحانية -كما يقال-، فإذا عُولجت هذه العِلّة أبصر هذا الإنسان، وقد يكون لا يستطيع المشي -أشلّ-، وتكون عِلته روحانية، فإذا عُولج زال ما به.
هذا يكون في جوانب مما يتّصل بالسحر والعين، ويكون كذلك مما يقع بسبب المسّ، وما يقع أيضًا بسبب أمورٍ أخرى تعرض للروح مما يُسميه الأطباء اليوم: بالأمراض النفسية، فقد لا يستطيع القيام، وقد تنثني يده، أو رجله، فلا يستطيع بسطها، وعِلّته ليست عضويةً، يعني: كل التَّقارير تقول: هذا الإنسان ليس به بأسٌ: الأشعة، الفحوص الطبية، ليس به عِلّة، ولما نهض من عِلّته بنوعٍ من المعالجات لهذه النفس أو الروح كما هو معلومٌ، وهذا شيءٌ مُشاهَدٌ.
لربما قيل للإنسان: في وجهك صُفرة، نرى بك أثرَ الاعتلال، ولربما أُوهم أنَّه يُعاني من مرضٍ عُضالٍ، أو نحو هذا، أو شكَّ الطبيبُ في عِلته، أو نحو ذلك، فبقي على الفراش، وقبل ذلك كان يذهب ويجيء ليس به بأسٌ، لكن حينما أُلقي ذلك في روعه أصبح لا يستطيع النهوض والحركة والمشي، وليس في جسده شيءٌ، فإذا قيل له: قد تبين من خلال الأشعة، ومن خلال الفحوص ونحو ذلك، والتَّحاليل أنَّه ليس بك بأسٌ؛ قام كأنما نشط من عقالٍ.
إذن الجسد لم تكن به عِلّة، فهذا شيء معروفٌ، فإذا كانت عِلل الأجساد تُعالج بمثل هذه المعالجات، فمن باب أولى ما يُصيب النفوس والأرواح، خلافًا لما يظنّه بعضُ الأطباء في هذا الطبِّ المادي الذي يمكن أن يُسميه البعض: بالطبّ العلماني، يعني: الذي يفصل بين الروح والجسد، ويتعامل مع الجسد فقط، مع أنَّه لا يمكن الفصل بين هذا وهذا، فالروح مُرتبطة بالجسد، كما أشرتُ بالتَّفصيل في هذه المسألة أكبر وأكثر مما يتّسع له هذا المقام.
فالطبّ المادي الحديث يفصل تمامًا بين الأرواح والأجساد، وهذا خطأٌ، يُعتبر من الأخطاء الأساسية؛ حيث لا انفصالَ بين هذا وهذا، ولكن هذا مبلغهم من العلم، وعلى الأطباء المسلمين أن ينظروا بنظرٍ آخر لا يُتابعون فيه أولئك الذين لا يدرون عن هذه الجوانب شيئًا.
فهذا شكى إلى رسول الله ﷺ وجعًا يجده في جسده منذ أسلم، هذا الوجع يتعلّق بالجسد، هذه الشَّكوى إلى رسول الله ﷺ رجاء أن يجد عند رسول الله ﷺ ما يُرشده إلى العلاج والشِّفاء، وقد ذكر له النبيُّ ﷺ هذا، فدلّ ذلك على أنَّه يجوز للإنسان أن يشكو عِلّته، وأن يذكرها لمن يرجو عنده النَّفع، أو الإرشاد، أو التَّطبيب، أو الدَّواء، أو الوصفة، أو نحو ذلك، فيذكر ذلك للطَّبيب، ويذكر ذلك لمن يرجو أن يُرشده ممن يظنّ أنَّ عنده ما يمكن أن ينتفع به، سواء كان ذلك في عِلل الأجساد، أو كان مما يتّصل بعِلل النفوس والأرواح؛ كالذي يشكو من ضيقٍ في صدره، أو يشكو من وحشةٍ يجدها، أو غير ذلك من الأمور، فله أن يذكر ذلك.
وهذا لا يُنافي كمال التَّوكل، بل مجرد الإخبار الذي لا يكون فيه التَّشكي للمخلوقين عند مَن لا يُرجى عنده النَّفع، ولا يكون ذكر ذلك في هذا السياق، فمثل هذا أيضًا لا إشكالَ فيه، فقد قال النبيُّ ﷺ لعائشةَ-رضي الله عنها- لما قالت: وارأساه! قال: بل أنا وارأساه[5].
فمجرد ذكر ذلك لا على سبيل التَّشكي للمخلوقين لا شيءَ فيه، ولا يُنافي الرِّضا والصَّبر على أقدار الله -تبارك وتعالى-.
هنا الشَّاهد أنَّ النبي ﷺ قال له: ضع يدَك على الذي تألم من جسدك، هنا يأمره النبيُّ ﷺ أمر إرشادٍ وتعليمٍ إلى ما يمكن أن ينتفع به من أجل تحصيل البُرء بإذن الله -تبارك وتعالى-.
ومن هذا يُؤخذ أنَّ الراقي، سواء كان الإنسانُ يرقي نفسَه، أو رقاه غيره: أنَّ الراقي يضع يدَه على موضع العِلة، فذلك هو المشروع، فالنبي ﷺ أرشد عثمان بن أبي العاص.
وكذلك النبي ﷺ كان يمسح على الموضع الذي اشتكى من جسده -عليه الصَّلاة والسَّلام-، وفي مرض موته كانت عائشة -رضي الله عنها- ترقيه، وكانت تمسح بيده على موضع العِلّة؛ رجاء بركة يد النبي ﷺ[6]-.
فهنا يضع الراقي، لكن ينبغي التَّفطن إلى جانبٍ، وهو أنَّ الراقي إذا كان يرقي امرأةً، فإنَّه لا يضع يدَه عليها إن لم يكن من محارمها، فبعض الرُّقاة يتساهلون في مثل هذه الأمور، والناس يتشبثون بأدنى ما يمكن أن يكون به متعلّق في أنظارهم، ويسلمون له تسليمًا، فيظنون أنَّ هذا الراقي مُنَزَّهٌ عن كل آفةٍ وعيبٍ وعِلَّةٍ، وعن المقاصد والإيرادات الفاسدة، فإذا وضع يدَه ربما على هذه المرأة، على جسدها، وضع يدَه ربما على صدرها،وربما عبَّرت عن هذا وقالت: بأنها وجدت استرواحًا، ووجدت انشراحًا، ووجدت شيئًا من الطُّمأنينة والراحة، هل يجوز له أن يضع يدَه على صدرها ومحرمها: زوجها، أو أبوها، أو أخوها جالسٌ بجواره لا يُحرِّك ساكنًا؟! باعتبار أنَّ هذا راقٍ.
وهذا أيضًا ربما يصدر عن كثيرٍ من الأطباء من غير حاجةٍ، وإذا نُوزع في هذا غضب، وربما أخرج المريضة، وقال: أنا طبيبٌ، يعني: فوق التُّهمة، وهذا الكلام غير صحيحٍ، إلا أن يكون من غير ذوي الإربة، فإنَّ الفحلَ من الرجال لا يمكن إلا أن تتحرك نفسُه، سواء كان طبيبًا، أو راقِيًا، أو غير ذلك.
والنبي ﷺ يقول: ما تركتُ فتنةً بعدي هي أضرّ على الرجال من النِّساء[7]، فهذا الطَّبيب يُريد منها أن تكشف وجهها جميعًا، وإنما اشتكت موضعًا يسيرًا يمكن أن تُخرجه من غير كشفٍ للوجه، وهكذا ربما طلب منها أن تكشف أجزاء من جسدها من غير حاجةٍ، باعتبار أنَّه طبيبٌ، وإذا نُوقِش في هذا غضب وزجرها، وكأنَّه يقول: أنا مُنَزَّهٌ عن هذا، أنا دكتور، أنا طبيب.
فمثل هذا يُردّ عليه بكل بساطةٍ، فيُقال له: لا بأس إن كنتَمن غير ذوي الإربة، إذا ثبت هذا فلا إشكالَ، هذه ثقافةٌ–للأسف- سائدة، وربما وجدت النساء في المستشفى من المنوَّمات في المستشفى، ربما الجناح الواحد أو الغرفة الواحدة بها أربع من النسوة، وقد أُزيحت الستائر، ويدخل الطبيبُ ولا يُحركن ساكنًا، مُتبذلات على سررهنَّ، كأنهنَّ في بيوتهن، هذا الطَّبيب! لكن إذا دخل رجلٌ آخر من الزوار يزور إحداهنَّ، من قرابتها، فإنَّ الجميع يُغلق الستور، ويتحرز، ويتحفظ.
طيب، هذا رجلٌ، وهذا رجلٌ! وقد يكون هذا الزائر أتقى لله مئة مرةمن ذاك الطَّبيب الذي ربما لا يُصلِّي، ولا يعرف ربَّه -تبارك وتعالى-، فهذا يُحترز منه، وهذا لا يُحترز منه، هذه الثَّقافة غير صحيحةٍ.
فالشَّاهد أنه يضع يدَه على موضع العِلة، ويمسح بها في الرقية على الذي يُؤلمه.
فهنا يقول: ضع يدَك على الذي تألم من جسدك، وقل:"بسم الله" ثلاثًا، يعني: ثلاث مرات، يضع يدَه على مكان الألم، ويقول: بسم الله، بسم الله، بسم الله، أعوذ بالله وقُدرته. وله أن يقول: أعوذ بعزّة الله وقُدرته من شرِّ ما أجد وأُحاذر، يقوله سبع مرات.
فهنا قال: وقل:"بسم الله" ثلاثًا، وقل سبع مرات: أعوذ بالله وقُدرته من شرِّ ما أجد وأُحاذر، فذكر الثلاث في التَّسمية، ولا يزيد، ولا يقول أيضًا في التَّسمية: "بسم الله الرحمن الرحيم"، كما قال بعضُ أهل العلم، فإنَّ ذلك لم يرد، وإنما علَّمه النبيُّ ﷺ أن يقول:"بسم الله"، ثم يقول سبع مرات.
والسّبع لها خاصية في أمورٍ كثيرةٍ نحن لا نُدركها، ولا نعلمها، الفاتحة التي قال النبي ﷺ: وما أدراك أنها رُقية[8]، سبع آيات: وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي[الحجر:87]، فهي الفاتحة، وقد قال النبي ﷺ عنها بأنها: السَّبع المثاني والقرآن العظيم الذي أُوتيتُه[9].
كذلك الله خلق سبع سماوات، وخلق من الأرض مثلهنَّ، وخلق السَّماوات والأرض في ستة أيامٍ، واليوم السابع هو المكمل لأيام الأسبوع، فأيام الأسبوع سبعٌ.
وقد ذكر الحافظُ ابن القيم -رحمه الله- في كتابه المشهور: "تحفة المودود في أحكام المولود"[10] خاصيةً للسّبع عند كلامه على التَّسمية في سابعه، والعقيقة، والختان، ذكر أنَّ المولود إذا بلغ السَّبع يكون قد جاوز مرحلةً من المراحل العمرية، كأنَّه جاوز مرحلةَ الخطر، فعند ذلك يُسمّى ويُعقّعنه.
وكذلك أيضًا يكون ختانه، وذكر غيرُه من أهل العلم في السَّبع أشياء أيضًا، ذكروا السبعة أيام في ولادة الإنسان حديث الولادة، ثم ذكروا مُضاعفات هذه السبعة، والأطوار التي يمرّ بها الإنسان، فكذلك إذا بلغ سبع سنوات يكون قد بلغ سنَّ التَّمييز، فإذا بلغ ضعفها يكون قد بلغ سنّ الحلم، ثم بعد ذلك إذا بلغ ضعفها -يعني: بلغ الحادية والعشرين- يكون قد استتمَّ نماؤه من جهة العظام، يعني: البنت يقول الأطباء: بأنَّ نماء العظام عندها في إحدى وعشرين، والولد يكون تمامه إذا بلغ السابعة عشرة من عمره، يعني: العظام تكون قد نمت في طولها، لا تطول أكثر من هذا.
وما كان من عِللٍ أو نحو ذلك من عوجٍ يُخشى منه، أو نحو هذا في بعض أجزاء الجسد، ربما تزيد مع الأيام، فإنهم يرقبونه إلى أن يصل إلى هذا العمر، فإن استقرَّ على حالٍ فإنه يكون قد أمن بإذن الله من الزيادة، وهذا معروفٌ عند الأطباء، يعني: لا يحتاج إلى عمليةٍ إن لم يكن ذلك مُشاهدًا ظاهرًا يمكن أن يُؤثر عليه في حركته، ومشيته، وقيامه، وقعوده، ومُزاولاته، وأعماله، ونحو ذلك.
كذلك أيضًا حينما يزيد على ذلك سبعًا، وسبعًا، وسبعًا، هذه المراحل العمرية: حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً[الأحقاف:15]، وقد ذكر بعضُ أهل العلم عند الكلام على هذه الآية: أنَّ النبي ﷺ حينما كان في مرض الموت قال: صبُّوا عليَّ من سبع قِرَبٍ، من سبعة آبارٍ من آبار المدينة[11]، وهوحديثٌ ثابتٌ صحيحٌ لا مطعنَ فيه، وقد حدد فيه النبيُّ ﷺ العددَ: سبعة من الآبار، وكذلك في القِرَب، فهذا لا شكَّ أنه يدلّ على خاصيةٍ في هذا العدد، الله أعلم بها.
فإذا وُجِدَ اليقين فإنَّ العِلّة لا تكاد تبقى معه.
فيقول: أعوذ بعزّة الله، أو: أعوذ بالله، الاستعاذة معناها: الالتجاء والاعتصام، ويكون ذلك العوذ مما يخاف الإنسانُ ويُحاذر، واللّوذ فيما يكون مطلوبًا ومحبوبًا.
أعوذ بعزّة الله العزّة هي مجموع أوصافٍ من القوّة والغلبة والقهر، ونحو ذلك، والقُدرة هي صفةٌ من أوصافه -تبارك وتعالى-، فلا يتعاصى عليه شيءٌ، ولا يمتنع عليه شيءٌ، يفعل ما يشاء، ويحكم بما يُريد، لا مُعقّب لحكمه، ولا رادّ لقضائه، ونواصي الخلق في يده.
أعوذ بعزّة الله وقُدرته من شرِّ ما أجد الآن من العِلّة، وأُحاذر مما يُحاذره، مما يتخوفه في المستقبل، كما ذكر بعضُ أهل العلم، سواء كان ذلك مما يتعلق بالعِلّة نفسها: من تفاقم المرض، أو مُضاعفاته، أو نحو ذلك مما قد يكون عليه هذا المرض.
وبعض الناس قد يُصاب بمرضٍ يبدو لأول وهلةٍ أنَّه يسير، ثم بعد ذلك يتبين أنَّه خطيرٌ، فإذا تفكّر فيه فإنَّه ربما يقلق، أو يكتئب، أو يحزن، أو نحو ذلك، فيتعوّذ بالله مما وقع به وألم به من المرض والعِلّة، وكذلك مما يتوقعه في المستقبل، وما ينتابه بسببه من المخاوف والأحزان، فهذا من العلاجات التي تشمل ما وقع، وما يمكن أن يكون.
يمكن للإنسان أن يفعله في مرضٍ تخوَّف منه، في ورمٍ، أو نحو ذلك، لا يدري ما هو؟ فيقول ذلك: أعوذ بعزّة الله وقُدرته من شرِّ ما أجد وأُحاذر، فإنَّه قد يخاف أن يكون ذلك من المكروه، من العِلل التي قد تكون مُستعصيةً، فإذا قال ذلك زال بإذن الله -تبارك وتعالى-.
وقد ذكر بعضُ أهل العلم أنَّ ذلك أيضًا مما يكون في المستقبل، مما قد يقع له، "أُحاذر" يعني: أخاف وأحترز، ونحو ذلك، هذا يقوله، هذا يكفيه بإذن الله -تبارك وتعالى-.
الخطأ الذي يقع كثيرًا أنَّ الإنسان ربما يتأمّل جزءًا من جسده، ربما ليس به عِلَّة، أو عِلّة يسيرة لا تُذكر، ثم بعد ذلك يذهب ويقرأ في الشَّبكة في مواقع، ويبحث، ويضع، يقول مثلًا: الشَّيء الفلاني، بثور في الموضع الفلاني، نتوء في الموقع الفلاني، حُمرة في الموضع الفلاني، ثم يقرأ عن أشياء ليست به، وربما الذي كان فيه هو من الأمور العادية التي توجد فيه من سنوات، لم يتفطّن لها، لكنه جلس يتأمّل خلق الله فيه، ولم يتفطّن لهذا العضو، وهذا الجانب، فظنَّ أنه طارئٌ، فيأخذه ما قرب، وما بَعُد، فيذهب ويقرأ في هذه المواقع، فيقرأ عن أشياء ليست به، ثم بعد ذلك يبقى هذا الإنسان في حالٍ من الكرب والشّدة والهمّ، فيتوقع هذه الأمراض الخطيرة، وهذه الوصفات التي قِيلت له، وأنَّ هذا قد يعني كذا وكذا وكذا، وعليه أن يُسرع إلى أقرب مُستشفى، ونحو ذلك، وهو ليس به بأسٌ.
فهذا مجلبةٌ للهمِّ، يُشبه أولئك الذين يستمعون إلى قنوات وبرامج تُعبّر، أو يُوجد فيها مَن يُعبّر الرؤى، فيذكر أشياء، فيتذكرون ما رأوه في يومٍ من الدهر، لربما من أضغاث الأحلام، ولا يعرف حال هؤلاء، وما يتعلّق بهم من مُلابسات؛ فيُركبون ما رأوه على ما سمعوه في التَّعبير من تعبيرٍ لرُؤًى رآها أناسٌ، فيقولون: هذا الذي رأيناه، ومعنى ذلك أنَّ هذا المكروه واقعٌ لا محالةَ، أو أنَّه قد وقع، فيتحوّل حال هذا الإنسان إلى كدرٍ ونكدٍ وضيقٍ وضنكٍ، والشيطان بالمرصد، جالسٌ له، يتلاعب به تلاعب الصبيان بالكرة، فاقطع دابرَ هذا الشَّر.
فهنا يتعوّذ المسلمُ من ذلك كلِّه، ويقطع مثل هذه الخواطر والوساوس، يقول عثمان بن أبي العاص -رضي الله تعالى عنه-:"ففعلتُ ما قال لي -يعني: ما قال لي النبيُّ ﷺ، فأذهب اللهُ ما كان بي"، يعني: من الوجع وتوابعه.
هذا لا شكَّ أنه من العلاجات الربانية التي نقطع بها، وكثيرٌ من هذه العلاجات يكفي: الأذكار، والرُّقى، ونحو ذلك، لمن كان عنده يقينٌ أنها تقطع دابر العِلّة بإذن الله ، يعني: مثلما ذكرنا سابقًا في الكلام على ما يُداوى به القروح، والجروح، ونحو ذلك.
حينما يضع على أصبعه من ريقه، ويضعها على الأرض، ويقول: بسم الله، تُربة أرضنا، بريقة بعضنا، يُشفى سقيمُنا، بإذن ربّنا[12]، ويضعها عليه؛ بإذن الله ينتهي كل شيءٍ، يأتي في اليوم الثاني ويبحث ويقلب يده هذه وهذه، أين كانت العِلّة؟! بإذن الله لا يبقى معه شيءٌ.
فهذا قاله النبي ﷺ، وهو مُشاهَدٌ ومُجرَّبٌ مرارًا كثيرةً، والأطباء يُعطون المراهم وأنواع العلاجات، والكرتيزون، وأشياء تُغير ألوان الجلد، ويُجربون عليه أنواع العلاجات، وعِلّته لا تزداد إلا تفاقُمًا، إلا ما شاء الله -تبارك وتعالى-، لو أنهم استعملوا هذا، وأرشدوا إليه هذا المريض؛ لتحوّلت حالتُه إلى شيءٍ آخر في ليلةٍ بإذن الله .
فإذا كانت العِلّةُ في موضعٍ واحدٍ من جسده يضع يدَه عليها، ويقول: "بسم الله" ثلاثًا، "أعوذ بعزّة الله ..." إلى آخره،وإذا كانت في أكثر من موضعٍ؛ بعض أهل العلم قال: إنَّه يضع يدَه في كل مرةٍ على موضعٍ، يعني يقول:"بسم الله"، ثم يضع يدَه في الموضع الآخر ويقول: "بسم الله"، ويضع يدَه في الموضع الآخر ويقول: "بسم الله"، ثم يضع على الثالث والرابع: أعوذ بعزّة الله وقُدرته من شرِّ ما أجد وأُحاذر سبع مرات، ينقلها في كل موضعٍ. هكذا قال بعضُ أهل العلم.
ويمكن أن يضع يدَه على موضعٍ منها، ويقول ذلك: البسملة ثلاثًا، ثم: أعوذ بعزّة الله وقُدرته من شرِّ ما أجد وأُحاذر، بنفس الموضع، ثم يضع يدَه على موضعٍ آخر، ويقول ثلاثًا، وسبعًا كما سبق، والثالث، والرابع، وهكذا يقولها كاملةً، فهذا لعله أبلغ، والله تعالى أعلم.
وإن كانت هذه العِلّة في جميع الجسد؛ ينظر إلى منشئها ومصدرها، فقد يضع يدَه على رأسه حينما يقول ذلك، وقد يضع يدَه على قلبه، وهكذا إن كانت هذه العِلّة عِلّةً مُشاهدة وظاهرة من موضعٍ معينٍ انتشر بسببه الاعتلالُ في سائر الجسد؛ فإنَّه يضع يدَه على المكان الأصلي الذي انتشرت منه العِلّةُ، فإنَّه إذا برئ بإذن الله تبعه ما تفرَّق منها في الجسد، كما يُقال في علاج الأشياء الحسيّة المشاهدة من الثَّآليل مثلًا، فإنَّه إذا عالج الأكبر منها، الأول، لا يحتاج إلى مُعالجة الباقي؛ فإنَّ ذلك يضمحلّ إذا عُولج الأصل الأول منها، سواء كان ذلك بنوعٍ من الكيّ المعروف ببعض النباتات، أو غير ذلك، فيُعالج الكبير، أو الأساس، أو الأصل، ثم الباقي الذي في جميع الجسد يذهب، لا يحتاج إلى جميع المواضع.
توجد نبتةٌ من هذه النباتات الموجودة عند الذين يبيعون الأشجار والنَّباتات والزهور ونحو ذلك يعرفها أهلُ الجنوب، يُقال لها: بعثران، مثل: الريحان، هذه يُؤخذ رأسُها إذا جفَّ، أو غصنٌ من أغصانها الصَّغيرة إذا جفَّ، ثم يُعرض على النار هذا الغصن الصَّغير كالريحان، ثم يُوضَع على رأس الثُّؤلول الكبير، ولا يحتاج بعد ذلك إلى شيءٍ آخر، خاصةً إذا كان هذا في موضعٍ دقيقٍ: كجفن العين، أو نحو هذا، يكفي فيه مثل هذا، لا يحتاج إلى موادّ كيميائية، أو ما يُسمَّى: بالكي بالتَّبريد، أو غير ذلك مما يُشوّه الجسد، ويقشعر له الجلد، ونحو هذا.
فهناك علاجات سهلة جدًّا، وهي بإذن الله -تبارك وتعالى- كما قال النبيُّ ﷺ في حديث ابن عباس الذي مضى الكلامُ عليه فيمَن عاد مريضًا لم يحضر أجلُه، فقال: "أسأل الله العظيم، ربّ العرش العظيم، أن يشفيك" سبع مرات؛ إلا شفاه الله من هذا المرض[13].
والمقصود أنَّ هذا العلاج من ذكر الله -تبارك وتعالى-، والتَّفويض إليه، والاستعاذة بعزّته وقُدرته من شرِّ الألم؛ مما يذهب به، وتكراره يكون أنجع وأبلغ، كما قال الحافظُ ابن القيم -رحمه الله-، كتكرار الدَّواء، لاخراج المادّة، وذكر أنَّ السبع فيها خاصية، والله تعالى أعلم بذلك.
وهذا يدلّ أيضًا على جواز الرُّقى والدّعاء لإذهاب المرض، وتعاطي الأسباب؛ طلبًا للبُرْءِ، والله تعالى أعلم.
وصلَّى الله على نبينا محمدٍ، وآله وصحبه وسلّم.
- أخرجه مسلم: كتاب السلام، باب استحباب وضع يده على موضع الألم مع الدعاء، برقم (2202).
- أخرجه مالك في "الموطأ" رواية أبي مصعب الزهري، برقم (1980)، وفي رواية الشَّيباني برقم (878)، والترمذي: أبواب الطبّ عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، باب ما جاء في دواء ذات الجنب، برقم (2080).
- أخرجه أبو داود: كتاب الطب، باب كيف الرقى، برقم (3891)، والترمذي: أبواب الطبّ عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، باب ما جاء في دواء ذات الجنب، برقم (2080)، وابن ماجه: أبواب الطب، باب ما عوّذ به النبي -صلى الله عليه وسلم-، وما عوّذ به، برقم (3522)، وصححه الألباني في "السلسلة الصحيحة"، برقم (1415).
- عند مسلمٍ بالرواية الأولى، أمَّا هذا اللَّفظ فلم أجده.
- أخرجه البخاري: كتاب الأحكام، باب الاستخلاف، برقم (7217).
- متفق عليه:أخرجه البخاري: كتاب المغازي، باب مرض النبي -صلى الله عليه وسلم- ووفاته، برقم (4439)، ومسلم: كتاب السلام، باب رُقية المريض بالمعوذات والنّفث، برقم (2192).
- متفق عليه:أخرجه البخاري: كتاب النكاح، باب ما يتّقى من شؤم المرأة، برقم (5096)، ومسلم: كتاب الرقاق، باب أكثر أهل الجنة الفقراء، وأكثر أهل النار النساء، وبيان الفتنة بالنساء، برقم (2740).
- متفق عليه:أخرجه البخاري: كتاب الطب، باب الرقى بفاتحة الكتاب، برقم (5736)، ومسلم: كتاب السلام، باب جواز أخذ الأجرة على الرقية بالقرآن والأذكار، برقم (2201).
- أخرجه البخاري: كتاب تفسير القرآن، باب ما جاء في فاتحة الكتاب، برقم (4474).
- انظر: "تحفة المودود بأحكام المولود" (ص102) وما بعدها.
- أخرجه البخاري:كتاب الوضوء، باب الغسل والوضوء في المخضب والقدح والخشب والحجارة، برقم (198)، بلفظ: ((هريقوا عليَّ من سبع قِرَبٍ لم تحلل أوكيتهنَّ، لعلي أعهد إلى الناس))، وأبو يعلى في "معجمه"برقم (279)، بلفظ: ((صبُّوا عليَّ من سبع قِرَبٍ من ماء سبعة آبار شتّى)) ففعلوا، والطَّبراني في "الأوسط"، برقم (5528).
- متفق عليه:أخرجه البخاري: كتاب الطب، باب رقية النبي -صلى الله عليه وسلم-، برقم (5745)، ومسلم: كتاب السلام، باب استحباب الرقية من العين والنّملة والحمّة والنّظرة، برقم (2194).
- أخرجه أبو داود: كتاب الجنائز، باب الدعاء للمريض عند العيادة، برقم (3106)، والترمذي: أبواب الطبّ عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، برقم (2083)، وأحمد في "المسند"، برقم (2137)، وقال مُحققوه: "حديثٌ صحيحٌ"، وصححه الألباني في "صحيح الجامع"، برقم (6388).