الحمد لله، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله.
أما بعد: فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته،
هذا باب "دعاء مَن خشي أن يُصيب شيئًا بعينه"، وذكر فيه حديثًا واحدًا، وهذا الحديث جاء بألفاظٍ وروايات مُتعددةٍ، فمن ذلك: ما جاء عن عبدالله بن عامر، قال: انطلق عامرُ بن ربيعة -وهو أبوه- وسهل بن حُنيف يُريدان الغُسل.
يقول عبدُالله بن عامر: فانطلقا يلتمسان الخَمَرَ. الخَمَرُ: ما يُستتر به من شجرٍ، أو بناءٍ، أو حجرٍ، أو غير ذلك.
قال: فوضع عامر جُبَّةً كانت عليه من صوفٍ، فنظرتُ إليه، فأصبتُه بعيني، فنزل الماء يغتسل، قال: فسمعتُ له في الماء فرقعةً. وضبطه بعضُهم: قعقعةً، وضبطه بعضُهم: نافضةً؛صوتٌ يكون له في الماء، والنَّافضة يعني: كأنه أصابه شيءٌ من الارتعاش كالمحموم، صار ينتفض.
يقول: فأتيتُه، فناديتُه ثلاثًا فلم يُجبني، فأتيتُ النبي ﷺ فأخبرتُه.
قال: فجاء يمشي، فخاض الماء، كأني أنظر إلى بياض ساقيه.
قال: فضرب صدرَه بيده، ثم قال: اللهم أذهب عنه حرَّها –يعني: حرَّ العين-،وبردها، ووصبها.
فقال رسولُ الله ﷺ: إذا رأى أحدُكم من أخيه، أو من نفسه، أو من ماله ما يُعجبه فليُبَرِّكْه، فإنَّ العينَ حقٌّ.
وفي روايةٍ عن أبي أُمامة سهل بن حُنيف قال: مرَّ عامرُ بن ربيعة بسهل بن حُنيف وهو يغتسل، فقال: لم أرَ كاليوم ولا جلد مُخَبَّأة؛ فما لبث أن لُبِطَ به، فأُتي به النبي ﷺ، فقيل له: أدرك سهلًا صريعًا. قال: مَن تتَّهمون به؟، قالوا: عامر بن ربيعة. قال: علامَ يقتل أحدُكم أخاه؟! إذا رأى أحدُكم من أخيه ما يُعجبه فليدعُ له بالبركة، ثم دعا بماءٍ، فأمر عامرًا أن يتوضّأ، فغسل وجهه، ويديه إلى المرفقين، وركبتيه، وداخلةَ إزاره، وأمره أن يصبّ عليه".
أخرجه أحمد[1]، وابن ماجه[2]، وغيرهم، وتكلّم فيه أهلُ العلم في مخرجه، وإسناده، ومتنه؛ قال البُوصيري: "له شاهد"[3]، وقال السيوطي: "صحيح"[4].
والشيخ ناصر الدين الألباني لما ذكر تصحيح الحاكم قال: "وفيه نظر"[5]، وذكر فيه راويًا ضعيفًا، قال: "إلا إذا تُوبِع، ولم أجد له مُتابِعًا"، وقال في موضعٍ آخر: أنَّه صحيحٌ. وفي أكثر كُتبه قال: "صحيحٌ"[6].
هذا الحديث كما رأيتُم في هذه الرِّوايات، وهناك روايات أخرى غير هذه؛ في الرِّواية الأولى: أنَّ الذي أُصيب هو عامر بن ربيعة لما خرج مع سهل بن حُنيف، وفي الرواية الثانية: أنَّ الذي أُصيب هو سهل بن حُنيف، يعني: عكس الرِّواية الأولى، يحتمل أنهما واقعتان.
ويحتمل أن يكون ذلك من قِبَل بعض الرواة، يعني: أنه قد وقع شيءٌ من الخطأ أو الوهم.
في الرواية الأولى: أنَّ النبي ﷺ لما أُخبر بذلك جاء يمشي، فخاض الماء، فضرب صدره بيده، ثم دعا قال: اللهم أذهب عنه حرَّها، وبردها، ووصبها، فقام الرجلُ يمشي ليس به بأسٌ، ثم علَّمهم النبيُّ ﷺ كيف يقولون.
وفي الرواية الأخرى: أنَّ النبي ﷺ أُتي بالرجل إليه، ثم أمر النبيُّ ﷺ العائنَ أن يتوضأ، وأن يغسل وجهه، ويديه إلى المرفقين، وركبتيه، وداخلةَ إزاره، وأمره أن يصبّ عليه.
جاءت هذه الرِّوايات فيها هذا الاختلاف، فمنهنا تكلّم فيه بعضُ أهل العلم في تضعيفه، وبعضُهم ذهب في توجيهه إلى غير ذلك.
فهنا في هذه الرِّواية يقول: "فقال: لم أرَ كاليوم ولا جلد مُخبّأة"، هذه عبارة في الوصف في غاية الدِّقة: "ولا جلد مُخبّأة" من التَّخبية، وهو الستر، وهذا يُراد به البنت الجارية التي في خدرها، لم تتزوج بعد، فهذه لا تراها الشمسُ، فيكون جلدُها في غاية الصَّفاء والرِّقة والنُّعومة؛ لأنَّها لا تخرج، ولا تُصيبها الشمس، فيُضرب المثلُ بها، ما كان يُقال لهم: بأنَّ هذه التي لا تخرج ولا تُصيبها الشمسُ تفتقد فيتامين (د)، وأنها ستكون عليلةَ البدن! ما كان هذا يُعرف، ولو كان هذا يصحّ بحالٍ من الأحوال لما أمر الله المؤمنات بقوله:وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ[الأحزاب:33]، وفي القراءة الأخرى المتواترة: وَقِرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى،والتَّبرج يدخل فيه معانٍ، فُسِّر ذلك -كما قال بعضُ السَّلف- بالخرَّاجة، الولَّاجة، فهذه كثيرة الخروج، ذاك لونٌ من التَّبرج.
وفُسّر ذلك أيضًا بالتي تمشي في وسط الطَّريق مُتبجِّحة، جريئة بين يدي الرجال، ويدخل فيه تلك التي تخرج كاشفةً لوجهها، أو كاشفةً لمفاتنها، أو لابسةً لباسًا يزيدها فتنةً وإغراءً من هذه العباءات المزينة، أو من غير عباءةٍ، فهذا كلّه من التَّبرج.
فلو كان ذلك يضرّها –أعني: البقاء في بيتها ولا تراها الشمسُ- لو كان يضرّها في بدنها لما أمرها الشارعُبه، فالشَّريعة ما جاءت بالضَّرر، إنما جاءت بكلِّ نفعٍ ديني ودُنيوي.
ففيتامين (د) هذا الذي يقولون: البنت إذا كانت لا تخرج أو نحو ذلك، هذه كذبة كُبرى، ما كان الناسُ يعرفونها قبل نحو سنوات قليلة، إنما كثر طرح ذلك وإذاعته وإشاعته، يبدو أنَّه مثل الذي قبله من "حمى الطيور"، و"إنفلونزا الطيور"، و"إنفلونزا الأبقار"، و"إنفلونزا الجمال"، و"إنفلونزا الكلاب"، و"إنفلونزا الدَّجاج"...، ففي كل سنةٍ أو سنتين تخرج إنفلونزا جديدة يُبتزّ بها الناس، ويُخوّفون بها، والإنفلونزا لطالما أصابت الناس، وليس ثمّة كبير مشكلةٍ.
والذين كانوا يأتون في الأوقات التي كانت تُذاع فيها هذه الأمور وتُنشر بين الناس، ويُرعبون بها، الذين كانوا في نفس الوقت يأتون من المطارات الأوروبية ومن العواصم الأوروبية يقولون: ما كنا نرى شيئًا من الاحتراز إطلاقًا، ولا في الإعلام، ولا في المطارات، ولا أمصال، دعاية تُنشر هنا وهناك؛ فيبتزّ الناس بذلك.
مضت كلّ هذه الأنواع من الإنفلونزا، وهل رأيتم موتًا كثيرًا ووباءً عامًّا؟ إطلاقًا.
فكان للناس عبرة بما مضى فيما يأتي أو بقي، هكذا ينبغي أن يكون العاقلُ، فلو كان البقاءُ في بيتها يضرّها في عافيتها لما أمر الشَّارعُ بذلك، فإنَّ الشَّريعة لا يمكن أن تأتي بما يحصل به الضَّرر.
"ولا جلد مُخبّأة"، "مُخبّأة" لا تراها الشمسُ إطلاقًا، وإذا خرجت تلبس الحجابَ الكامل، كان النساءُ لا يخرجن إلا بالليل، يعني: لا توجد شمس، إذا احتاجت إلى الخروج؛ لصلة رحمٍ، أو نحو ذلك، كما في حديث عائشة حينما كان النساءُ يخرجن ليلًا إلى المناصع[7].
والمناصع: هي الأماكن التي كُنَّ يقضين بها الحاجة ليلًا، لا يخرجن إلا بالليل، فهل هؤلاء كانوا يُعانون من نقص فيتامين (د).
الشَّاهد هنا قال: "ولا جلد مُخبّأة"، يصف جلدَه بهذه الصِّفة: جلد البنت التي لا تخرج، ولا يُعرف لها خروج، فلا تُصيبها الشمس، فجلدها في غاية الرِّقة والنُّعومة، فهذه كانوا يحترزون لها، ويصونونها غايةَ الصيانة قبل زواجها.
وهنا معنى ذلك كأنَّه يقول في بعض تفسيره وتقديره -تقدير العبارة- يقول: أي: ما رأيتُ جلدًا غير مُخبَّئٍ كجلدٍ رأيتُه اليوم: "ولا جلد مُخبَّأةٍ".
ويحتمل: ما رأيتُ جلدَ رجلٍ في اللَّطافة، ولا جلدَ مُخبَّأةٍ في البياض والنُّعومة مثل رُؤيتي اليوم، أي: مثل الجلد الذي رأيتُه اليوم، وهو جلد سهلٍ؛ لأنَّ جلدَه كان لطيفًا، شديد البياض والرِّقة.
ويحتمل أن يكون المعنى: ما رأيتُ يومًا كهذا اليوم، ولا جلد مُخبَّأةٍ كهذا الجلد. فهذا تفسيرٌ قريبٌ لهذه الجملة.
ويُلاحظ أنَّ مثل هذه العبارات الدَّقيقة الموجزة تصف وصفًا دقيقًا يكاد يخترق الموصوف، وقد جرت العادةُ الغالبةُ أنَّ الذين يُصيبون بالعين يصفون بصفةٍ مُوجزةٍ، مُعبّرةٍ، مُختصرةٍ، ولا حاجةَ للأمثلة، يأتي بوصفٍ في غاية الدّقة، تعجب كيف خطر على باله؟! وكيف جرى على لسانه؟!
يعني: مَن أراد أن يصف ربما يُصيبه شيءٌ من البكوء، أو نحو ذلك، فربما يخونه التَّعبير، لربما ينحبس لسانُه، لربما يصف بوصفٍ طويلٍ مُتعثرٍ، أمَّا هذا فيأتي بالوصف بأبلغ عبارةٍ وأقصرها، تدلّ على المعنى دلالةً لا يمكن أن تفوت على سامعه، فهذا يرد ويحصل حينما يعجب الإنسانُ بشيءٍ، وتستشرف نفسُه لشيءٍ، فهو يذكر إعجابَه بهذا الجلد: بلونه، وصفائه، ورقّته، وبياضه الشَّديد، ويصفه بهذا الوصف.
وفي بعض ألفاظه ورواياته: "ولا جلدَ عذراء"[8]، وهذا المقصود به المخبّأة؛ لأنها تُخبّأ، لا يراها أحدٌ.
يقول: "فلُبِطَ سهل" يعني: صُرع وسقط على الأرض من إصابة عين عامر.
وفي روايةٍ عن الزهري قال:"حتى ما يعقل لشدّة الوجع"[9]، يعني: أصابه ما أصابه فسقط، ولُبِطَ معناه: سقط سقوطًا شديدًا، صرعته العين، فصار لا يعقل؛ ولهذا في الرِّواية التي قبلها أنَّه دعاه ثلاثًا فلم يُجبه، فهو في حالٍ من الذُّهول والاعتلال في لحظةٍ.
فقال النبي ﷺ: مَن تتَّهمون؟ يعني: مَن تظنون؟
وهذا يُؤخَذ منه: أنَّ البناءَ على غلبة الظنّ في مثل هذا لا بأسَ به؛ لأنَّ ذلك يُبنى عليه التَّطبب، وليس مجرد التُّهمة والعقوبة، وإنما التَّطبب؛ ليُؤخذ منه ما ذُكر، ثم بعد ذلك يكون سببًا لشفاء هذا المصاب.
هل تتَّهمون له أحدًا؟، كما في بعض ألفاظه، قالوا: نتّهم عامر بن ربيعة. هذا باعتبار أنَّ الذي أُصيب هو سهل -رضي الله عن الجميع-، فأتاه النبيُّ ﷺ، فأخبره سهلٌ كما في بعض رواياته.
الشاهد: أنَّ النبي ﷺ عاتبه وقال: علامَ يقتل أحدُكم أخاه؟!، هذا يدلّ على أنَّ العين قد تُورث المنيّة والموت، وتُدخل القبر بإذن الله -تبارك وتعالى-.
وهذا يدلّ أيضًا على ما ذكره بعضُ أهل العلم من أنَّ العائنَ قد يكون له اختيارٌ في هذا، وإلا فكيف وجّه إليه النبي ﷺ هذا الخطاب: علامَ يقتل أحدُكم أخاه؟!، معنى ذلك أنَّ له اختيارًا في ذلك، وهذا يحتمل، يمكن أن يكون ذلك باعتبار أنَّه لم يدعُ له بالبركة.
وأمَّا ما يذكره بعضُ الناس في الحديث عن العين: من أن زيدًا من الناس ربما يستطيع أن يُحدد مَن أراد إصابته بالعين في أيّ موضعٍ أراد، وربما خيَّره: أن يُصيبه، أو يُصيب دابَّته، أو نحو ذلك.
فهذا قد لا يخلو من مبالغةٍ، ولو كان هؤلاء يستطيعون هذا فليُوجِّهوا وليُصوّبوا أنظارَهم إلى أعداء الله ؛ فيُعطبوهم، فلا أظنّ أنَّ الأمر يبلغ بهذه الطَّريقة، كأنها آلة يُوجِّهها حيث شاء، فيُصيب مَن شاء، وما شاء، فإنَّ الأمر لا يكون بهذه الطَّريقة، والله تعالى أعلم.
فالشَّاهد: أنَّ النبي ﷺ قال: علامَ يقتل أحدُكم أخاه؟!، هذا كلّه يدلّ على أنَّ العين حقٌّ، كما صرَّح النبيُّ ﷺ في آخر هذا الحديث، قال: إذا رأى أحدُكم من أخيهيعني: في الإسلام ما يُعجبه يعني: من بدنه، أو ماله، أو غير ذلك.
وكذلك أيضًا رأى من نفسه؛ فإنَّ الإنسان قد يُصيب نفسَه بالعين؛ ولهذا فإنَّ النبي ﷺ قال هنا في هذا الحديث: إذا رأى أحدُكم من أخيه ما يُعجبه، وفي الرِّواية الأولى: إذا رأى أحدُكم من أخيه، أو من نفسه، أو من ماله ما يُعجبه.
فالإنسان قد يُصيب نفسه، وقد يُصيب ولدَه، وقد يُصيب أحبَّ الناس إليه، فهذا أمرٌ ليس باختياره على الأقرب -والله تعالى أعلم-، خلافًا لمن قال بأنَّ ذلك له اختيارٌ فيه، لكن لما كان تركُ الدُّعاء بالبركة سببًا في إصابة العين كان ذلك مُوجَّهًا إليه، يعني: من العتاب.
إذا رأى أحدُكم من أخيه ما يُعجبه فليدعُ له بالبركة، في الرواية الأخرى أنَّه أمره أن يُبَرِّك عليه: ألا برَّكْتَ عليه؟[10]، يعني: هلا قلتَ: "بارك اللهُ عليك" من أجل ألا تُؤثر فيه العين؟ ألا برَّكْتَ؟، فهذا للتَّحضيض، يعني: هلَّا دعوتَ له بالبركة؟ وهذا هو الصَّحيح؛ أن يقول مَن استشرفت نفسُه لشيءٍ، أعجبه شيءٌ من أخيه: من نفسه، أو ماله، أو غير ذلك؛ أن يدعو له بالبركة، يقول: أسأل الله أن يُبارك لك، بارك الله لك، بارك الله عليك. أو نحو ذلك.
إذا رأى سيارةً أعجبته قال: بارك الله له فيها، إذا رأى مالًا نامِيًا، أو نحو ذلك، قال: بارك الله له فيه، رأى دوابًّا، رأى هيئةً حسنةً قال: أسأل الله أن يُبارك لك في ذلك، هذا هو الصَّحيح.
وبعض الناس يقولون: قل: ما شاء الله، ليس كذلك، إنما يدعو له بالبركة، لا أن يقول: ما شاء الله.
وأمَّا قصّة صاحب الجنة: قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا[الكهف:37]، ووَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ[الكهف:39]، فهذا على الأرجح أنَّه ليس لدفع العين، فهو دخل جنَّته مُتعاظمًا، مُتعزِّزًا، يقول: مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا[الكهف:35-36]، فأصابه العُجب، فهو يقول: اخرج من حولك وطولك وقوّتك، فهذا إنما هو بإنعام الله وإفضاله، فلولا قلتَ: "ما شاء الله، لا قوةَ إلا بالله"، لا تنسب ذلك إلى نفسك وتقول: مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا، لا أنَّ ذلك من أجل العين، والرجل ما أصاب بستانه، في سورة الكهف ما أصاب بستانَه بالعين، وما كان صاحبُه يتخوف على البستان من العين، بدليل أنه دعا على بستانه: فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا [الكهف:40-41]، فحصل ما حصل من إحاطةٍ بثمره: وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا[الكهف:42]، لا أنَّه أصابها بعينٍ.
إذن الذي تستشرف نفسُه لشيءٍ ينبغي أن يدعو له بالبركة، لا أن يقول: ما شاء الله، أو أن يُقال له: قل: ما شاء الله، فهذا ليس يُجدي عنه شيئًا، والله تعالى أعلم.
وكثيرٌ من الناس يُكثر من هذا: قل: ما شاء الله، ويُلحّ عليه، فلا يبرد حرّ نفسه حتى يقول هذه الكلمة، والواقع أنها غير مُغنية عنه إلا أن يشاء الله، لكنَّه يقول: أسأل الله أن يُبارك لك في هذا. يقول: ادعُ لي بالبركة. بهذه العبارة: "هلَّا برَّكْتَ؟"، يعني: هلَّا برَّكْتَ عليه؟
قال: العين حقٌّ يعني: الإصابة بالعين حقٌّ، يعني: شيئًا ثابتًا وموجودًا لا يُنكر.
"فغسل له عامرٌ وجهه، ويديه، ومرفقيه، وركبتيه، وأطرافَ رجليه، وداخلةَ إزاره"، يغسل هذه الأطراف البارزة، ويغسل أيضًا مغابنه –مراقّه-؛ ولذلك يغسل مع هذه الأطراف أيضًا باطن الركبتين، ويغسل هذه المواضع، وداخلة الإزار، والمغابن: المراقّ.
وداخلة الإزار اختلفوا في تفسيرها؛ فذهب بعضُهم إلى أنَّ المقصود بذلك المذاكير.
وبعضهم حمل ذلك على الورك، أو الأفخاذ، أو نحو ذلك.
وبعضهم كأبي عبيدٍ القاسم بن سلام[11]، وهو الذي رجَّحه كثيرٌ من أهل العلم: أنَّ المقصود كما ذكرنا في مناسبةٍ سابقةٍ في نفض الفراش بداخلة الإزار، وقلنا: إنَّ الذي عليه كثيرٌ من المحققين أنَّ المقصود الجانب الأيمن الذي يلي الجلد من طرفي الإزار، فإنَّ الإنسان حينما يضع الإزارَ فهو يضعه كما يلبس الإحرام، فيكون هذا الجزءيلي الجلد، الجانب الأيمن، ثم بعد ذلك يطوي الإزارَ ويلفّه على جسده، فهذا الجانب منه الذي يلي الجلد -يُلامس الجلد- هو الذي يغسله لهذا المصاب بالعين، هذه داخلة الإزار: طرف الإزار الذي يلي الجسد من الجانب الأيمن.
الجانب الأيمن لأنَّه كما سبق أنَّ الإنسان يضع الإزار هكذا؛ يُمسِكه، ثم يلفّ بيده اليمنى باقي الإزار؛ لأنَّها أقوى في الحركة وأمهر، فهذا هو الذي يُغسل، وهذا الذي رجَّحه أبو عبيد القاسم بن سلام.
وجاء في بعض الرِّوايات: أنَّه غسل أيضًا صدره، وذكر المازري[12]-من الشُّراح- أنَّ الجمهور على أنَّ داخلةَ الإزار هي هذا الذي يلي حقوه الأيمن، هذا قول عامَّة أهل العلم.
وجاء في بعض ألفاظه أنَّه قال: "وحسبتُه قال: وأمر فحسى منه حسوات"، يعني: شرب منه شيئًا يسيرًا، ثم صُبَّ عليه، يُصبّ عليه من أعلى، من الخلف، صبّةً واحدةً.
يقول: "فراح سهلٌ مع الناس ليس به بأسٌ"، زالت عِلَّتُه.
الزهري أحد رواة هذا الحديث، المتوفى سنة 124هـ، من أئمة السُّنة، وهو من أحد رواته، وراويه أدرى بتفسيره، يقول: هذا من العلم، يغتسل العائنُ في قدحٍ من ماءٍ -القدح فيه ماء-، يُدخل يدَه فيه، فيُمضمض ويمجّه في القدح، ويغسل وجهَه فيه، ثم يصبّ بيده اليُسرى على كفِّه اليمنى، ثم باليُمنى على كفِّه اليُسرى، ثم يُدخل يدَه اليُسرى فيصبّ بها على مرفق يده اليمنى، ثم بيده اليُمنى على مرفق يده اليُسرى، ثم يغسل قدمَه اليمنى، ثم يُدخل اليمنى فيغسل قدمَه اليُسرى، ثم يُدخل يدَه اليُمنى فيغسل الركبتين، ثم يأخذ داخلةَ إزاره –يعني: في الماء-.
قال: فيُصبّ على رأسه صبَّةً واحدةً. أوقال: فيُصبّ على رأسه صبةً واحدةً، ويضع القدح حتى يفرغ.
هذا كما قال بعضُ أهل العلم: بأنَّه أحسن ما فُسّر به الحديث؛ لأنَّ الزهري منرُواته.
وذكر الحافظُ ابن القيم[13]-رحمه الله- هذه الكيفية، وأنَّه لا ينتفع بها مَن أنكرها، ولا مَن سخر منها، ولا مَن شكَّ فيها، أو فعلها مُجرِّبًا، غير مُعتقدٍ.
يقول ابنُ القيم في الردِّ على أولئك الذين يُنكرون هذه الأشياء: "إذا كان في الطَّبيعة خواصٌّ لا تعرف الأطباءُ عِللها، بل هي عندهم خارجة عن القياس"، يعني: يقولون: كلّ شيءٍ سليم، ولا يعرفون وجه العِلّة، يقول: "وإنما تفعل بالخاصية"، يعني: هم يرون معنويات المريض تُساهم مساهمةً كبيرةً في سرعة الشِّفاء، يقولون: هذه خواصّ، يعني: غير مُدركة ماديًّا.
يقول: "فما الذي يُنكره جهلتُهم من الخواصّ الشَّرعية؟! هذا مع أنَّ المعالجة بالاغتسال مناسبة، لا تُنكرها العقول الصَّحيحة، الماء مع العين يُوجد بينهما مُناسبة"[14]، يقول: "كغيرها من المناسبات"، يعني: التي تتفق مع العِلّة، بل قد تكون غريبةً.
يقول: "هذا الترياق -سمّ الحيّة- يُؤخذ من لحمها"، يعني: أنَّ لحمها ينفع في علاج هذا، أو تكوين الدَّواء وتركيب الدَّواء للديغ، ويقول: "وهذا علاج النفس الغضبيّة إذا غضب الإنسانُ؛ بوضع اليد على بدن الغضبان، يُمسَح فيسكن، وهذا يكون حتى في الدَّواب: يُمسَح فيسكن، فكان أثرُ تلك العين كشعلة نارٍ وقعت على جسدٍ، ففي الاغتسال إطفاءٌ لتلك الشُّعلة، ثم لما كانت هذه الكيفية الخبيثة تظهر في المواضع الرَّقيقة من الجسد؛ لشدّة النُّفوذ فيها، ولا شيء أرقّ من هذه –يعني: المواضع- فكان في غسلها إبطالٌ لعملها"، يعني: أنَّ الغسل عند نفس العائن له أثرٌ في العلاج، مثل: الحيّة إذا قُتلت خفَّ ذلك على اللديغ، والعقرب إذا قُتِلَت خفَّ ذلك على مَن أصابته.
فيقول: "كذلك إذا غسل العائنُ هذه المراق خفَّ أثرُ العين، فإذا أُخذ وصُبَّ على هذا الإنسان الذي أُصيب بالعين كان ذلك شفاءً بإذن الله -تبارك وتعالى-".
يقول:"فكان في غسلها إبطالٌ لعملها، ولا سيّما أنَّ للأرواح الشَّيطانية في تلك المواضع –يعني: المراق- اختصاصًا"، وأيضًا في وصول أثر الغسل إلى القلب من أرقّ المواضع وأسرعها نفاذًا؛ فتُطفأ تلك النار التي أثارتها العينُ بهذا الماء.
وأخذ منه أيضًا أهلُ العلم معانٍ: من جبر العائن على الوضوء، وهذه الطَّريقة، وأنَّ مَن اتُّهم بأمرٍ أحضره الحاكمُ وكشف عنه، وأنَّ العين قد تقتل، وأنَّ الدعاء بالبركة يُذهب أثرَ العين، وأنَّ تأثير العين إنما هو من حسدٍ كامنٍ في القلب.
يقولون: مع أنَّ هذا ليس بهذا الإطلاق، يعني: هي نفسٌ تستشرف، لكن لا يعني أنه يتمنى زوال النِّعمة عنه، الحسد قد يكون بإصابة الغير بالعين، وقد لا يكون، قد يكون بتمني زوال النِّعمة، وقد لا يكون.
فالإنسان قد يُصيب نفسَه، فالعين نوعٌ من الحسد، نوعٌ خاصٌّ من الحسد.
وقد اختلف العلماءُ في القصاص ممن عُرف بالإصابة بالعين إذا قتل أحدًا، هل يُقتصّ منه؟
فذهب بعضُ أهل العلم إلى تضمينه، كما قال القرطبي -رحمه الله-، يقول: "لو أتلف العائنُ شيئًا ضمنه، ولو قتل فعليه القصاص أو الدّية إذا تكرر ذلك منه، بحيث يصير عادةً"، يقول: "وهو في ذلك كالسَّاحر"[15]، يعني: يُقتل، لكن هذا ليس محل اتِّفاقٍ.
والحافظ ابن حجر -رحمه الله- يقول: "لم تتعرض الشَّافعية للقصاص"، يعني: أنَّ القرطبي مالكي، "لم تتعرض الشَّافعية للقصاص في ذلك، بل منعوه، وقالوا: إنَّه لا يقتل غالبًا، ولا يُعدّ مُهْلِكًا"[16].
وذكر النووي، وهو من أئمّة الشَّافعية -رحم الله الجميع- يقول: "ولا ديةَ فيه، ولا كفَّارة؛ لأنَّ الحكم إنما يترتب على مُنضبطٍ عامٍّ، دون ما يختصّ ببعض الناس"، يعني: أمرًا مُنضبطًا يمكن أن تُجرى عليه الأحكام، يقول: "دون ما يختصّ ببعض الناس في بعض الأحوال مما لا انضباطَ له، كيف ولم يقع منه فعلٌ أصلًا؟! وإنما غايته حسدٌ وتمنٍّ لزوال النِّعمة، وأيضًا فالذي ينشأ عن الإصابة حصول مكروهٍ لذلك الشَّخص، ولا يتعين المكروه في زوال الحياة، فقد يحصل له مكروهٌ بغير ذلك من أثر العين"[17].
ونقل ابنُ بطال عن بعض أهل العلم- وهو من شُرَّاح الصَّحيح- أنَّه ينبغي للإمام منع العائن إذا عُرف بذلك من مُداخلة الناس، وأن يلزم بيته، يقول: "فإن كان فقيرًا أجرى عليه رزقًا"، يعني: يُعطيه ما يكفيه، لا يخرج ويُؤذي الناس،"فإنَّ ضرره أشدّ من ضرر المجذوم الذي أمر عمر بمنعه من مُخالطة الناس، وأشدّ من ضرر الثّوم الذي منع الشارعُ آكلَه من حضور الجماعة"[18]، يعني: بعض الناس يُصيب بالعين كلَّ ما رآه، بعضُهم يسأل عن هذا فيقول: إذا رأيتُ شيئًا من أصحابي، من قرابتي، من أهلي، من كذا، أصبتُه، لا أكاد أُخطئه، فما العمل؟
نقول له: ادعُ له بالبركة، لكنَّه قد يغفل عن هذا؛ فيجري فيه قدرُ الله -تبارك وتعالى-.
والحافظُ ابن القيم -رحمه الله- ذكر كلامًا في هذا يتّصل بالعين، لا أريد أن أُطيل أكثر من ذلك، يأتي لاحقًا، إن شاء الله تعالى.
وأسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، وأن يجعلنا وإياكم هُداةً مُهتدين.
والله أعلم، وصلَّى الله على نبينا محمدٍ وآله وصحبه.
- أخرجه أحمد في "المسند"، برقم (15700).
- أخرجه ابنُ ماجه: أبواب الطبّ، باب العين، برقم (3509).
- "إتحاف الخيرة المهرة بزوائد المسانيد العشرة" (4/457)، برقم (3929).
- "الجامع الصغير"، برقم (5448).
- "السلسلة الصحيحة"، برقم (2572).
- "صحيح الجامع"، برقم (4020).
- متفق عليه:أخرجه البخاري: كتاب الشهادات، باب تعديل النساء بعضهنَّ بعضًا، برقم (2661)، ومسلم: كتاب التوبة، بابٌ في حديث الإفك وقبول توبة القاذف، برقم (2770).
- أخرجه ابن حبان في "صحيحه"، برقم (6105)، وصححه الألباني في "السلسلة الصحيحة" في كلامه على الحديث رقم (2572).
- أخرجه ابنُ أبي شيبة في "مصنفه"، برقم (23595).
- "حلية الأولياء وطبقات الأصفياء" (6/338).
- "غريب الحديث" للقاسم بن سلام (1/46).
- "شرح التلقين" (1/329).
- انظر: "زاد المعاد في هدي خير العباد" (4/157)، و"الطب النبوي" لابن القيم (ص127).
- انظر: "زاد المعاد في هدي خير العباد" (4/157).
- انظر: "شرح الزرقاني على المواهب اللدنية بالمنح المحمدية" (9/400).
- "فتح الباري" لابن حجر (10/205).
- انظر: "روضة الطالبين وعمدة المفتين" (9/348)، و"فتح الباري" لابن حجر (10/205).
- نقله عنه الحافظُ ابن حجر في "فتح الباري" (10/205)، وانظر: "شرح الزرقاني على المواهب اللدنية بالمنح المحمدية" (9/401).