الحمد لله، والصَّلاة والسلام على رسول الله.
أما بعد: في هذا الباب -باب "فضل التَّسبيح والتَّحميد والتَّهليل والتَّكبير"- أورد المؤلفُ حديثَ جابر بن عبدالله -رضي الله تعالى عنه- قال: سمعتُ رسولَ الله ﷺ يقول: إنَّ أفضل الدعاء: الحمد لله، وأفضل الذكر: لا إله إلا الله.
هذا الحديث أخرجه ابن ماجه[1]، والترمذي،وقال الترمذي: حسنٌ، غريبٌ، لا نعرفه إلا من حديث موسى بن إبراهيم[2]، وكذلك قال البغوي[3]، وحسَّنه الألباني[4] -رحم الله الجميع-.
في هذا الحديث يقول النبيُّ ﷺ: أفضل الدعاء: الحمد لله، وأفضل الذكر: لا إله إلا الله، وقد مضى معنا قول النبي ﷺ: أحبّ الكلام إلى الله أربع: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر[5]، وكذلك في بعض ألفاظه -كما سبق- أنَّ النبي ﷺ قال: أفضل الكلام، وذكر هذه الأربع: التَّسبيح، والتَّحميد، ولا إله إلا الله، والله أكبر[6].
وهنا يقول النبي ﷺ: أفضل الدعاء: الحمد لله.
وقد قال الحافظُ ابن حجرٍ -رحمه الله- بوجه الجمع بين هذا الحديث والحديث الآخرالذي أشرتُ إليه آنفًا: بأنَّ ذلك يمكن أن يكون باعتبار أنَّ"من" مُقدّرة، يعني: "من أفضل الدعاء: الحمد لله"؛ لأنَّه في الحديث الآخر ذكر الأربع، فذلك لا يختصّ بالتَّحميد دون غيره، ولكنه يكون بالتَّحميد، والتَّكبير، والتَّهليل، والتَّسبيح،يعني: من أفضل الذكر، أو من أفضل الدُّعاء.
وكما ذكرتُ أيضًا في مناسبةٍ سابقةٍ؛ من أنَّ أفعل التَّفضيل لا تمنع التَّساوي، ولكنَّها تمنع الزِّيادة، يعني: أن يزيد أحدُ الطرفين على الآخر في ذلك، ولكن يمكن الاشتراكُ في هذا، وذكرتُ له أمثلةً من القرآن، ومن غير القرآن، فأنت تستطيع أن تقول:إنَّ زيدًا أكرمُ الناس، وفي مناسبةٍ أخرى تذكر آخر فتقول: إنَّ عمرًا أكرم الناس، ولا تعارض، فكلاهما قد بلغ في الكرم غايته.
وهكذا يمكن أن تقول: فلانٌ أعلم الناس، وفي مناسبةٍ أخرى تذكر آخر وتقول:إنَّ فلانًا أعلم الناس، وليس فيه تناقُض، فهؤلاء بلغوا الغايةَ، بمعنى: أنَّ أفعل التَّفضيل: أكرم، أعلم، لا تمنع التَّساوي، ولكن تمنع أن يزيد أحدٌ عليه.
وذكرنا هذا في مثل قوله: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا[البقرة:114]يعني: لاأحدَ أظلم، وفي الآية الأخرى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا[الأنعام:21]، لا أحدَ أظلم ممن افترى على الله كذبًا، وهكذا، وفي الآية الأخرى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا[السجدة:22].
فهذه ثلاثة أنواع، كل نوعٍ منها يقول الله فيه أنَّه لا أحدَ أظلم منه، وقلنا:إنَّ أحد الجوابين المعروفين عن هذا السؤال هو أنَّ أفعل التَّفضيل لا تمنع التَّساوي، كلّ هؤلاء قد بلغ في الظُّلم غايته، بلغ الغايةَ في الظلم.
بهذا الاعتبار يمكن -والله تعالى أعلم- أن نجمع بين هذه الأحاديث، ولكن ذكرنا في مناسبةٍ سابقةٍ- لاسيّما في المقدّمات في الكلام على المفاضلات بين هذه الأذكار- أنَّ لا إله إلا الله هي أفضل على الإطلاق، وذكرنا وجوهًا لذلكمن النَّقل، ووجوهًا من النَّظر، وقد قال النبيُّ ﷺ: وأفضل ما قلتُ والنَّبيون قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، له الملك، وله الحمد ...[7] إلى آخره، فهي أفضل كلمةٍ على الإطلاق، وذكرنا أنها أفضل من التَّسبيح، والتَّحميد، والتَّكبير في قول كثيرٍ من أهل العلم، وهذا هو الراجح -إن شاء الله-، والله تعالى أعلم.
هنا قوله: أفضل الذكر: لا إله إلا الله، قبله قال: أفضل الدعاء: الحمد لله[8]، في الكلام على المقدّمات بيّنتُ أنَّ الدعاء على نوعين: منه ما يكون من قبيل دعاء العبادة، ومنه ما يكون من قبيل دعاء المسألة، وأنَّ دعاء المسألة أن يسأل الإنسانُ ربَّه حاجته، فيقول: يا ربّ، اغفر لي، يا ربّ، ارحمني، ونحو ذلك.
وأمَّا دعاء العبادة: فيكون ذلك بأنواع العبادات التي يُتقرّب بها إلى الله؛ فإذا صلَّى، أو صام، أو تصدّق، أو قال:"لا إله إلا الله"، كما قال النبيُّ ﷺ: أفضل الدعاء دعاء يوم عرفة، وخير ما قلتُ أنا والنَّبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له[9]، مع أنَّ هذا ليس بسؤالٍ، فذكرتُ أوجُهًا وأجوبةً لهذا، لكن منها مما يعنينا هنا: أنَّ هذا الإنسان الذي يذكر ربَّه، أو الذي يصوم، أو الذي يتصدّق؛ هو في الواقع سائلٌ، هو لماذا يفعل ذلك؟
طلبًا للثواب، طلبًا لما عند الله من الأجر، فهو سائلٌ بفعله،بعبادته، بتقرّبه إلى ربِّه -تبارك وتعالى- بهذه العبادات القولية، أو المالية، أو العملية، فكلّ عابدٍ هو سائلٌ في الواقع؛ لأنَّه يرجو ما عند الله، ويطلب الثوابَ، فذلك سؤالٌ،فصار الدعاءُ على نوعين:
دعاء مسألةٍ: يا ربّ، اغفر لي، يا ربّ، ارزقني،يا ربّ، ارحمني، يا ربّ، اجبرني.
ودعاء عبادةٍ: أن يتقرّب إلى الله بأنواع القُربات، فهو بذلك سائلٌ بلسان الحال؛ لأنَّه طالبٌ للثواب والأجر.
الدُّعاء في الواقع هو ذكرٌ، وقول النبي ﷺ: أفضل الدّعاء: الحمد لله[10]، فهذا أحد النوعين.
وأيضًا هنا ملحظٌ لطيفٌ ذكره أهلُ العلم: أنَّ هذا الحامد هو شاكرٌ لله -تبارك وتعالى-، والشكر مُؤذِنٌ بالزيادة، فالله يقول: لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ[إبراهيم:7]، فهو يحمد يطلب بذلك المزيد بهذا الحمد والشكر لله -تبارك وتعالى-.
ثم إنَّ هذا الحمد أيضًا فيه تعريضٌ بالحاجة، فالحاجة تارةً يطلبها صاحبها صراحةً، وتارةً يكون ذلك بالتَّعريض، كما قال أُمية بن أبي الصّلت مُعرضًا بحاجته عند أحد الملوك، يطلب نائلتَه، يقول:
إذا أثنى عليك المرءُ يومًا | كفاه من تعرّضه الثناء[11] |
يعني: لا أحدَ يُصرّح بحاجته، فيكون ذلك من قبيل السؤال بالتَّعريض، من غير تصريحٍ.
وقد ذكر الحافظُ ابن عبدالبر -رحمه الله- في توجيهه اعتبار أنَّ الذكر دعاءٌ عند أهل العلم، وذكر ما يدلّ على ذلك[12].
ثم أيضًا ذكر شيخُ الإسلام -رحمه الله- أنَّ لفظة "دعوة" والدعاء يتناول النوعين اللذين أشرتُ إليهما آنفًا، واستشهد بقول الله -تبارك وتعالى-: وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ[يونس:10]، فسمّى ذلك دعوة، والدّعوة والدُّعاء يكون بمعنى الطلب، وقد قال النبي ﷺ في الحديث الذي أخرجه الترمذي، استشهد به شيخُ الإسلام في دعوة ذي النون، قال: دعوة أخي ذي النون، ما هي؟ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ[الأنبياء:87]، لاحظ: ليس فيها سؤالٌ صريحٌ، لكنَّه تعريضٌ بحاجته وفقره إلى ربه -تبارك وتعالى-، من أجل أن يُخلّصه من هذه الشّدة والكربة التي وقع فيها، وذكر الحديثَ بعده، وهو قول النبي ﷺ: ما دعا بها مكروبٌ إلا فرَّج اللهُ كُربتَه[13].
يقول شيخُ الإسلام: سمَّاها دعوة؛ لأنها تتضمن نوعي الدعاء، يقول: فقوله: لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَاعترافٌ بتوحيد الإلهية، وتوحيد الإلهية يتضمن أحد نوعي الدعاء؛ فإنَّ الإله هو المستحقّ لأن يُدعا دعاء عبادةٍ، ودعاء مسألةٍ[14].
فالله -تبارك وتعالى- هو الواحد الذي ينبغي أن يتوجّه إليهالعبدُ بحاجاته، وعبادته، وسؤاله، وفقره، ومسكنته، وشؤونه كلّها، وأفضل الذكر: "لا إله إلا الله"،هذا لا شكَّ أنَّه أجلّ الذكر، وأفضل الذكر، فهذا تنصيصٌ على أنَّ هذه الكلمةهي الأفضل على الإطلاق، وذلك أنَّه لا يصحّ الإيمان إلا بها، وأنها مفتاح الجنة، وأول واجبٍ على المكلّف، وأول ما يدخل به إلى الإسلام، ولا يكون ذلك في شيءٍ من الأذكار، فهذه كلمة التوحيد، لا يُماثلها ولا يُعادلها شيء، فهيأجلّ كلمةٍ، وأشرف كلمةٍ قيلت على الإطلاق، وهي أصدق كلمةٍ.
أفضل الذكر: "لا إله إلا الله"، بمعنى: أن الإنسان إذا أراد أن يُكثر من ذكرٍ يقوله مطلقًا، فإنَّه يُردد هذه الكلمة، ولم يقل النبي ﷺ: "الله، الله، الله" كما يقول الصوفية، بذكره بالاسم المفرد، فإنَّ هذا لم يثبت عن النبي ﷺ، ولم يرد في كتاب الله -تبارك وتعالى-؛ لا في دُعاء الأنبياء، ولا في غيرهم، ولم يُرشدهم الشارعُ إليه، فضلًا عن ذكر الضَّمير كقولهم: "هو"، ويُكررون ذلك مرارًا، فيعتقدون أنَّ ذلك أجلّ الذكر، وهذا خلاف ما ذكره النبيُّ ﷺ؛ فإنَّ أفضل الذكر: "لا إله إلا الله".
إذًا أفضل الدُّعاء:"الحمد لله"، وأفضل الذكر: "لا إله إلا الله"، وأخبرنا النبي ﷺ بأنَّ أفضل الكلام، وأحبّ الكلام إلى الله هذه الأربع التي هي التَّسبيح، والتَّحميد، و"لا إله إلا الله"، و"الله أكبر"، فيُكثر الإنسان منمثل هذه الكلمات، فمثل ذلك حريٌّ وجديرٌ بالمؤمن أن يعتني به كلّ العناية.
أسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، وأن يجعلنا وإياكم هُداةً مُهتدين.
والله أعلم، وصلَّى الله على نبينا محمدٍ، وآله، وصحبه.
- أخرجه ابن ماجه: كتاب الأدب، باب فضل الحامدين، برقم (3800).
- أخرجه الترمذي: أبواب الدعوات، باب ما جاء أنَّ دعوة المسلم مُستجابة، برقم (3383).
- انظر: "شرح السنة" للبغوي (5/49).
- انظر: "صحيح الجامع" للألباني، برقم (1100).
- أخرجه مسلم: كتاب الآداب، باب كراهة التَّسمية بالأسماء القبيحة وبنافع ونحوه، برقم (2137).
- أخرجه ابن ماجه: كتاب الأدب، باب فضل التَّسبيح، برقم (3811)، وصححه الألباني في "مشكاة المصابيح"، برقم (2294).
- أخرجه مالك في "الموطأ": باب ما جاء في الدعاء، برقم (726)، وحسَّنه الألباني في "صحيح الجامع"، برقم (1100).
- أخرجه الترمذي: كتاب أبواب الدعوات، باب ما جاء أنَّ دعوة المسلم مُستجابة، برقم (3383)، وحسَّنه الألباني في "مشكاة المصابيح"، برقم (2306).
- أخرجه مالك في "الموطأ": باب ما جاء في الدعاء، برقم (726)، وحسَّنه الألباني في "صحيح الجامع"، برقم (1100).
- أخرجه الترمذي: كتاب أبواب الدّعوات، باب ما جاء أنَّ دعوةَ المسلم مُستجابة، برقم (3383)، وحسَّنه الألباني في "مشكاة المصابيح"، برقم (2306).
- انظر: "عيون الأخبار" لابن قتيبة (3/168).
- انظر: "الاستذكار" لابن عبدالبر (2/532).
- أخرجه الترمذي: أبواب الدعوات، برقم (3505)، وصححه الألباني في "تخريج الكلم الطيب"، برقم (123).
- انظر: "الفتاوى الكبرى" لابن تيمية (5/223).