الأحد 27 / جمادى الآخرة / 1446 - 29 / ديسمبر 2024
(201) دعاء الفزع في النوم ومن بلي بالوحشة " أعوذ بكلمات الله التامات من غضبه وعقابه وشر عباده ومن همزات الشياطين وأن يحضرون "
تاريخ النشر: ١٢ / ذو القعدة / ١٤٣٥
التحميل: 1989
مرات الإستماع: 1865

الحمد لله، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله.

أما بعد: فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته،

نواصل الكلام على الأحاديث الواردة عن النبي ﷺ مما يُقال عند النوم: فمما أورده المؤلفُ في هذا الكتاب "حصن المسلم": حديث عمرو بن شُعيب، عن أبيه، عن جدِّه: أنَّ رسولَ الله ﷺ قال: إذا فزع أحدُكم في النوم فليقل: أعوذ بكلمات الله التَّامات من غضبه، وعقابه، وشرِّ عباده، ومن همزات الشَّياطين، وأن يحضرون؛ فإنها لن تضرَّه، فكان عبدُالله بن عمرو يُلقِّنها مَن بلغ من ولده، ومَن لم يبلغ منهم كتبها في صكٍّ ثم علَّقها في عنقه[1].

هذا الحديث الذي يرويه عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدِّه، والمقصود بذلك عبدالله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما-، وهذا الإسناد عدَّه جمعٌ من أهل العلم أنَّه من قبيل الحسن، حديث عمرو بن شُعيب، عن أبيه، عن جدِّه، وفيه كلامٌ معروفٌ.

ومَن المراد بجدِّه؟ هل الضَّمير يرجع على عمرو، عن أبيه، وهو شُعيب، عن جدِّ عمرو، أو عن جدِّ شُعيب؟

وهذا الحديث أخرجه الترمذيُّ، وأبو داود، ولكن لفظه -وهكذا عند الأكثر-: أعوذ بكلمات الله التَّامة، بدلاً من: التَّامات، وحسَّنه الترمذي، وقال: غريبٌ، حسنٌ غريبٌ. وحسَّنه الحافظُ ابن حجر[2]، والشيخُ ناصر الدين الألباني[3] يقول: بأنَّ النبي ﷺ قال: إذا فزع أحدُكم في النوم فليقل: أعوذ بكلمات الله التَّامة ... إلى آخره، إذا فزع أحدُكم في النوم، إذًا هذا الحديث يتعلَّق بأمرين:

الأمر الأول: الفزع.

الأمر الثاني: وهو أن يكون ذلك في النوم، بمعنى: أنَّه لا يُقال ابتداءً عند النوم، يعني: ليس هذا من جملة الأذكار التي تُقال عند النوم، ولكنَّه ذكرٌ خاصٌّ يقوله النائمُ في حالةٍ خاصَّةٍ، وذلك إذا رأى ما يُفزعه.

إذن ليس هذا من الأذكار المطلقة التي تُقال عند النوم.

فليقل: أعوذ بكلمات الله التَّامة، كلمات الله بعضُهم قال: هي الكلمات القدريَّة التَّكوينية التي يكون بها الخلق والتَّدبير، وتصريف أمر الخلائق، وهذا هو الأليق في هذا ونظائره فيما يتعلَّق بالاستعاذة؛ لأنَّ هذا المستعيذ يُريد الحماية، وإنما يكون ذلك بالاستعاذة بالكلمات القدرية من أجل أن يُحفظ مما يخاف ويُحاذر.

ويحتمل أن يكون المرادُ بذلك الكلمات الدِّينية الشَّرعية: القرآن، فهو كلام الله ، الآيات ونحو ذلك مما تكلّم الله به، وشرع لأنبيائه ورسله بواسطة ملائكته، أو فيما خاطب به مباشرةً مما يتَّصل بالتَّشريع، الكلمات الشَّرعية، وهذا يحتمله قوله -تبارك وتعالى-: قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا [الكهف:109]، وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ [لقمان:27]، فهذا يحتمل أن تكون الكلمات الكونية، ويحتمل أن تكون الكلمات الشَّرعية.

وإذا استعاذ المستعيذ فلا بأس أن يستعيذ بهذا أو هذا؛ لأنَّ هذه الكلمات غير مخلوقةٍ، فإذا استعاذ بكلمات الله الشَّرعية: القرآن الذي هو كلام الله، مثلاً قصد الآيات، فهذا لا إشكالَ فيه؛ لأنَّ كلام الله غير مخلوقٍ، والاستعاذة تكون بالصِّفة، يستعيذ بكلمات الله، فكلامه صفةٌ من صفاته، كما يستعيذ بوجهه -تبارك وتعالى-: أعوذ بنور وجهك، النور الذي هو الصِّفة؛ لأنَّ النورَ منه ما يكون مخلوقًا كما مضى الكلامُ عليه في مناسباتٍ في الأمثال في القرآن، وفي تفسير سورة النور، وفي غير ذلك في الكلام على قوله تعالى: اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ [النور:35]، وذكرنا أنَّ النورَ على نوعين: منه من قبيل إضافة الصِّفة إلى الموصوف، هذا غير مخلوقٍ، ومنه ما يكون من قبيل النور المخلوق، كهذه الأنوار: أنوار الشمس والقمر والكواكب، وما إلى ذلك، هذه مخلوقة، تُضاف إلى الله إضافة خلقٍ، كما يُقال: بيت الله، وناقة الله، وأرض الله، وخلق الله، ونحو ذلك.

فالشَّاهد أنَّ هذه الكلمات هنا يُستعاذ بها؛ لأنَّها غير مخلوقةٍ، وعيسى خلقه الله بالكلمة؛ ولذلك سُمِّي بها: إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ [آل عمران:45]، فقيل له: كلمة؛ لأنَّه مُسبَّبٌ عنها، من باب تسمية الشَّيء باسم سببه، فهذه الكلمات التَّكوينية التي يكون بها الخلق والإيجاد والتَّدبير لشئون الخلائق.

أمَّا الدُّعاء فالصِّفة لا تُدْعَى، فلا يُقال: يا وجه الله، يا رحمة الله، أدركيني، يا عظمة الله، يا عزة الله، انصريني. وإنما يُقال: يا الله، يا عزيز، يا قوي، يا رحمن: وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا [الأعراف:180]، ففي الدُّعاء إنما يُدعا الله -تبارك وتعالى- بأسمائه، وأما الصِّفات فلا تُدعى الصِّفة، ولا يمكن الاستعاذة بالصِّفة، ففرقٌ بين المقامين، فهنا استعاذة بالصِّفة: بكلمات الله التَّامة، يعني: الكاملة، الشَّاملة، التي لا يتطرّق إليها النَّقصُ بحالٍ من الأحوال.

فحينما يقول الإنسانُ: "أعوذ بالله"، فالعوذ بمعنى: اللُّجوء والاعتصام، يعتصم بالله -تبارك وتعالى-، ويلجأ إليه، يعوذ بهذه الكلمات التي لا تناقضَ فيها، ولا خلل، ولا عيبَ، ولا نقصَ، ولا اختلافَ من غضبه.

إذا فزع أحدُكم في النوم فليقل: أعوذ بكلمات الله التَّامة من غضبه وعقابه[4]، وغضبه -تبارك وتعالى- هو سخطه على مَن عصاه وخالف أمره، فهذه صفة فعلية خبرية ثابتة لله -تبارك وتعالى- على ما يليق بجلاله وعظمته، فالله -تبارك وتعالى- يقول: وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ [النور:9]، وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى [طه:81]، وقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ [الممتحنة:13]، ونقرأ في الفاتحة: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ [الفاتحة:7]، والذي غضب عليهم هو الله -تبارك وتعالى-.

وفي الحديث القدسي: إنَّ رحمتي غلبت غضبي[5]، نُثبت ذلك لله على ما يليق بجلاله وعظمته، لا نُؤوِّله، ولا نُحرِّفه.

من غضبه وعقابه، العقاب يعني: العذاب الذي ينزل، وشرِّ عباده من الظُّلم والمعاصي وما يصل من الآفات والأضرار من هؤلاء الخلق.

ومن همزات الشَّياطين، الهمز كثير من العُلماء فسَّره بالغمز والنَّخس، يعني: في أصل معناه، وأنَّ كل شيءٍ قد دفعته تكون همزته، تقول: همزت القربةَ.

والمقصود بـهمزات الشياطين يعني: الوساوس والخواطر، وما يُلقونه في قلب العبد من المعاني السَّيئة، والإيرادات الفاسدة، وكذلك ما يُوقعونه بين العباد من الشُّرور والفتن وسُوء ذات البين، وما إلى ذلك.

فحينما استعاذ من شرِّ عباده خصَّ بعد ذلك همزات الشَّياطين، وهم من جملة هؤلاء العباد، لكن لشدّة خطر هذه الهمزات؛ فإنَّهم يتلاعبون بالناس بالعقائد المضلّة، والأفكار الفاسدة، والإيرادات السَّيئة، فتتحرك النفسُ ودواعيها للشَّر، والمنكر، والمعاصي، والكبائر، وما إلى ذلك.

وكذلك أيضًا قد تكون هذه الهمزات من قبيل تلاعب الشَّياطين ببني آدم، فيُصوِّرون لهم أشياء على غير حقائقها؛ فيلحقهم بسبب ذلك من الحزن والغمِّ، هذا في يقظتهم، فيتوهمون من العلل والأوصاب والأمراض، أو من المخاوف ما لا حقيقةَ له، فالشَّياطين تلقي في قلبه: أنَّ هذا كذا، وأنَّ هذا كذا، وأنَّ هذا علّة عليلة، لربما تُعيي الأطباء، وليس به بأسٌ.

وهكذا حينما يفتح الإنسانُ نافذةً يُلقي الشيطانُ منها خاطرةً، فإن وجدت محلاً قابلاً تابع ذلك عليه حتى يمتلئ القلبُ؛ فتضيق به الدنيا بما رحبت حزنًا، وغمًّا، وألـمًا يعصر قلبَه، وليس به علَّة، وهذا كثيرٌ، حتى إنَّه ربما يُصوّر للإنسان أنَّه في حال الموت، وأنَّه قد أدبر عن الدنيا، وأدبرت عنه، وربما أوصى أولاده، أو أخفى ذلك مدةً طويلةً يكتم علَّته المتوهمة، وليس به بأسٌ، هذا كلّه من لعب الشَّياطين؛ فيحيا حياةً ناقصةً، ملؤها الحزن، فإنَّ ذلك من قبيل النَّقص في الحياة، كما قال شيخُ الإسلام ابن تيمية[6] -رحمه الله-.

وأن يحضرون يعني: في أي حالٍ من أحوال العبادة: في الصَّلاة وسواس، في الذكر، في أي أمرٍ من أموره، عند مُعاشرة أهله، عند طعامه، عند دخوله في بيته، عند الاحتضار والنَّزع، فإنَّ الشياطين قد تحضر، فيستعيذ الإنسانُ بالله منهم، فهم لا يحضرون إلا بسوءٍ.

يقول: فإنَّها لن تضرَّه يعني: هذه الهمزات لن تضرّه التي أفزعته، أو هذه الأشياء التي رآها فخاف وفزع، إذا دعا بهذا الدُّعاء فإنَّ ذلك يُذهبها، وهذا من فضل الله ، وهذا يدلّ على أنَّ الفزعَ الذي يحصل للنَّائم إنما هو من الشَّيطان، وهذا إذا عرفه المؤمنُ استراح، ما عليه إلا أن يقول هذا، ومَن عُوفي فليحمد الله ، ولكن الكثيرين يُعانون من هذا؛ بعضهم ربما يترقَّب الليل ويتخوَّف قدومه؛ لما يُكابد فيه من المزعجات التي تحصل له في هذا النوم: من قبيل رؤيا سيئة جدًّا، ومن قبيل أشياء بين النوم واليقظة تتراءى له، لربما تتراءى للمرأة شياطين بصورة زوجها، لربما همَّت بها أن تُواقعها، وقد يرى أشياء مما يُسمَّى: بالجواثيم، فتخنقه، ولا يستطيع أن يتكلّم، ولا أن يستغيث بأحدٍ، ولا يستطيع أن يفكّ ويتخلّص، فيتكرر عليه هذا كثيرًا، ولربما رأى من الأشياء المخيفة التي تُلاحقه وتُطارده، أو تُشير إليه، أو تجتمع عليه وتُحيط به إحاطةَ السِّوار بالمعصم، ثم إذا كانت لحظة الحسم صاح بأعلى صوته؛ يفزع أهل الدار، فيجلس يبكي مدةً طويلةً، وينتفض، ويضطرب، ويرتعش، وبعضهم قد لا يصيح، لكنَّه يستيقظ فزعًا في ليلته، يرتعش إلى الصَّباح، ومَن حوله يُسكنونه، ولا جدوى، فهذا يحصل، نسأل الله العافية للجميع.

فإذا استعاذ الإنسانُ، وقال مثل هذا الكلام؛ فإنَّ ذلك يدفع عنه الضَّرر، فالشَّيطان لا يترك الإنسان، يريد أن يكيد له في النوم، وفي اليقظة، ويُنغِّص عليه حياته، فإن كان مُستيقظًا كدَّر عليه بأمورٍ، وإن كان نائمًا كدَّر عليه أيضًا بمثلها.

هذه الكلمات كان عبدالله بن عمرو يُعلِّمها، وفي بعض الألفاظ: "يُلقِّنها مَن بلغ من ولده"، يعني: ليتعوّذ بها، ومَن لم يبلغ منهم كتبها في صكٍّ، يعني: في كتابٍ، ثم علَّق هذا الكتاب الذي هي فيه في عنقه، في رقبته.

وفي روايةٍ عند أحمد: "فكان يُعلِّمها مَن بلغ من ولده أن يقولها عند نومه"[7]، فهذه اللَّفظة: "عند نومه" تعني: أنها تُقال عند النوم، لكن الحديث الوارد أنَّ ذلك يُقال: إذا فزع، فنبقى نتقيَّد باللَّفظ الوارد، ونعتذر لمن أوردها عند النوم أنَّ ذلك له به سلف، وهو صحابيٌّ من عُلماء الصَّحابة، هو عبدالله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما-، يقول كما عند أحمد في "المسند": "ومَن كان منهم صغيرًا لا يعقل أن يحفظها كتبها له، فعلَّقها في عنقه".

في روايةٍ عند غير أحمد وأصحاب السُّنن: "كان يُعلِّمها مَن أطاق الكلامَ من ولده"، يعني: دون البلوغ، "ومَن لم يُطق كتبها فعلَّقها عليه"[8]، فالذين يقولون: يجوز تعليق مثل هذه التَّمائم من القرآن والأدعية المأثورة، يحتجُّون بمثل هذا، وهذه مسألة مُختلفٌ فيها بين العُلماء من أهل السُّنة من السَّلف الصَّالح فمَن بعدهم، اختلفوا في تعليق التَّمائم من القرآن وأسماء الله وصفاته، ونحو ذلك، فبعضهم ذهب إلى الجواز مُحتجًّا بمثل هذا.

وبعضهم فهم ذلك أيضًا عن عائشة -رضي الله تعالى عنها-، وهو مرويٌّ عن أبي جعفر الباقر، وهو قولٌ لأحمد في روايةٍ، وأجابوا عن حديث ابن مسعودٍ المشهور: إنَّ الرُّقى والتَّمائم والتِّولة شركٌ[9]، كما عند أبي داود، وابن ماجه، وابن حبان، والحاكم، قالوا: هذا المقصود به التَّمائم التي فيها شركٌ، والقرينة على هذا عندهم هي: أنَّ التَّمائم اقترنت بالرُّقى، قالوا: والرُّقى المقصود بها الرقى الشِّركية.

وذهب طوائفُ من أهل العلم من السَّلف فمَن بعدهم إلى أنَّ ذلك لا يجوز، وهو مشهورٌ عن ابن مسعودٍ ، وابن عباسٍ، وهو ظاهر قول حُذيفة وعقبة بن عامر وابن عكيم من أصحاب النبي ﷺ، وبه قال جماعةٌ من التابعين: كأصحاب ابن مسعودٍ، وهو رواية عن أحمد[10]، واختارها كثيرٌ من أصحابه، وجزم بها المتأخِّرون من الحنابلة: أنَّ ذلك لا يجوز، واحتجّوا بهذا الحديث: إنَّ الرُّقى والتَّمائم والتِّولة شركٌ[11]، وما في معناه: كحديث عُقبة بن عامر عند ابن حبان.

وكذلك حديث عبدالله بن عكيم عند أحمد[12]، والترمذي[13]، وأبي داود[14]، والحاكم[15]، وهذا الذي رجَّحه صاحبُ "فتح المجيد"[16] الشيخ عبدالرحمن بن حسن -رحمه الله.

وذكروا لذلك وجوهًا؛ قالوا: يدلّ على المنع: أولاً: عموم النَّهي؛ أنَّ النبي ﷺ قال: إنَّ الرُّقى والتَّمائم والتِّولة شركٌ، ولم يُفسّر، ولم يستثنِ، والأصل بقاء ذلك.

الثاني: قالوا: سدًّا للذَّريعة؛ فإنَّه يُفضي إلى تعليق ما ليس كذلك، وهذا مُشاهَدٌ، وكثيرٌ من الناس يُعلِّقون ويقولون: هي آيات من القرآن، وإذا فُتحت إذا بها أسماء الشَّياطين، وقد رأيتُ هذا كثيرًا، وجربنا هذا في دروسٍ قديمةٍ من كتاب "التوحيد" في حدود سنة 1406م، وطلبنا من بعض الإخوة أن يُحضروا ما عندهم، فجاءوا بما عندهم من جدَّاتهم ونحو ذلك مما يزعمون أنَّه من آيات القرآن، وجميع الذي فُتِحَ تقريبًا كانت أسماء شياطين، ومُربّعات، وأشياء من السِّحر، وفي بيئات يستبعد فيها هذا غاية البُعد.

نقول: عجيب! من أين جاءوا بها؟! وكانت تُكْتَب على أنَّها من القرآن، وهي أسماء شياطين، وبعض هؤلاء ماتوا، ومن كبار السن، وهي محفوظة، مُنزَّهة، مُطهّرة، على أساس أنها آيات تُحفظ، لا تُدنَّس، وهي أسماء شياطين.

وفي دروسٍ في كتاب "التوحيد" في حدود سنة ألف وأربعمئة واثنين وعشرين في المسجد الآخر، أُعطينا كيسٌ كبيرٌ من هذه التَّمائم، ضخمٌ، فيه مئات، قلتُ للإخوان: افتحوا، وجلسوا يفتحون في تلك الغداة شيئًا كثيرًا، حتى تعبوا وتركوا كلَّ ذلك، لا أذكر واحدةً تُستثنى، كانت أسماء الشَّياطين والاستعانة بهم، فانظروا كيف أدَّى هذا التَّساهل والتَّرخص برخصة مَن أجاز إلى مثل هذا البلاء والشِّرك؟!

الثالث: قالوا: إذا علّق فلا بدَّ أن يُمتهن هذا المعلَّق بالدُّخول إلى الخلاء، ونحو ذلك.

وهكذا أيضًا قالوا: إنَّ القرآنَ لم ينزل بهذا أصلاً، فهذا فيه نوع ابتذالٍ وامتهانٍ، فيترك ما أُنزل القرآن من أجله؛ وهو هداية الناس إلى الإيمان، والتَّوحيد، وطاعة الله، وطاعة رسوله ﷺ، ثم بعد ذلك يتحوّل إلى رُقى تُوضَع في الأعناق، أو في وسائد الناس، وهذا خلاف المقصود من إنزاله.

ثم أجاب بعضُ هؤلاء عن حديث عبدالله بن عمرو الذي هو حديث الباب عندنا في الأذكار؛ بعضهم قال: هذا الحديث أصلاً ضعيفٌ؛ في سنده محمد بن إسحاق، وهو مُدلِّس، وقد عنعن، وقالوا: على افتراض الصّحة فليس فيه حُجَّة؛ لأنَّه ليس فيه أنَّ النبي ﷺ رأى ذلك، أو علمه وأقرَّه عليه، هذا اجتهاد الصَّحابي، وقول النبي ﷺ مُقدَّمٌ عليه، وهذا عمل فردٍ، ثم إنَّ كبار الصَّحابة ما نُقل عنهم هذا، بل نُقل الإنكار عن مثل ابن مسعودٍ -رضي الله تعالى عن الجميع-، هكذا قالوا.

وزاد بعضُهم بأنَّ غايةَ ما يدلّ عليه حديثُ عبدالله بن عمرو الجواز؛ أن يُعلَّق ذلك على الصِّغار، كان يفعل ذلك على الصِّغار، يقولون: ولكن الذين أجازوا توسَّعوا في هذه القضية، وصار يُعلّق على الصَّغير والكبير، مَن يقرأ، ومَن لا يقرأ، وهذا أمرٌ لا يصحّ، ولا يسوغ بحالٍ من الأحوال، ولا يليق.

ومن الأشياء العجيبة التي حصلت في مثل هذا فيما ذكرتُ فيما فُتح من هذه التَّمائم التي يقولون: إنَّها من القرآن؛ أخبرني أحدُ هؤلاء الذين جاءوا بتميمةٍ كانت مُعلَّقةً على أخٍ له، ربما فيه سحرٌ أو مسٌّ أو شيءٌ من الصَّرع، فأخذ بعض هذه الأشياء المفتوحة التي فيها أسماء الشَّياطين والرسومات السِّحرية إلى بيتهم من أجل أن يُقنع أهلَه ليتخلَّصوا من هذه التَّميمة التي عُلِّقت على أخيه، يقول: بمجرد ما وصلتُ البيتَ، كانوا يسكنون في عمارةٍ، بمجرد وقوفي تحت العمارة إذا بأخي يُهرول -أخوه مريض-، يقول: يُهرول فزعًا: هاتِ الذي عندك، أيش الذي جبتَه معك؟! ويسأل عن هذه الأشياء المفتوحة؛ التَّمائم التي فيها شركٌ، كأنَّ الشياطين الذين ربما يفعلون معه ما يتأذَّى به أو القرين أُشعروا بهذا، أو دفعوه دفعًا فصار يأتي وهو يُسرع ويُهرول: هاتِ الذي معك، تُريد أن تقتلني؟! تريد أن تفعل؟! وهو ما رآه! ولا علم! ولا أخبره! ولا اتَّصل به! ولا شيء، نزل وهو في حالٍ من الفزع، هذا فعل الشياطين، فهي ربما تفعل معه هذا وأكثر.

وابن مسعودٍ لما رأى على امرأته خيطًا سألها، ونزعه نزعًا شديدًا، فقالت: "إنَّ عيني تقذف"، يعني: الدمع، هذا يهودي ذهبتْ إليه فعمل لها مثل هذا الخيط كحرزٍ، أو نحو ذلك، فقال: "إنَّ آل عبدالله لأغنياء عن الشِّرك"[17]، وقطعه، ثم لاحظوا الفقه؛ قال: "ذاك شيطانٌ ينخسها، فإذا وضعتيه كفَّ عنها"[18]؛ لأنها قالت: إني لما وضعتُه –يعني- كفَّ عنها. قال: "ذاك شيطانٌ ينخسها، فإذا وضعتيه كفَّ عنها".

وسبق الحديثُ في الكلام على أسباب الاختلاف عند الكلام على تلاعب الشَّياطين، وما ذكره شيخُ الإسلام عن بعضهم[19]: أنَّ الشياطين كانوا يذهبون إلى مَن يتعاملون مع الشَّياطين من شيوخ الضَّلالة، فيصرعون بعضَ الناس، فيأتون إلى هذا الشيخ، ويُعطونه الأموال والهدايا والمنح، ثم بعد ذلك يبعث شياطينَه؛ فيكفّون عنه فيبرأ، فيعتقدون في هذا الشيخ أنَّه وليٌّ، وما إلى ذلك، وإنما ابتُلوا من قبله، هذا يفعله بعضُ الناس، ويفعله بعضُ مَن ينتسب للرُّقية، ولا أُعمم، لكن أعلم أنَّ بعضَهم يفعل ذلك، فيُرسل بعضَ هؤلاء الشَّياطين، فيتلاعبون بمَن شاء من أجل أمرٍ يريد أن يصل إليه، ولربما سألهم عمَّا حصل لهم في الليلة الماضية، والله المستعان.

نسأل الله العافية والهداية للجميع.

والله أعلم، وصلَّى الله على نبينا محمدٍ، وآله وصحبه.

  1. أخرجه أبو داود: كتاب الطب، باب كيف الرقى، برقم (3893)، والترمذي: أبواب الدَّعوات عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، برقم (3528)، وحسَّنه الألباني في "صحيح الجامع"، برقم (701).
  2. انظر: "نتائج الأفكار" (3/118).
  3. "صحيح الجامع"، برقم (701).
  4. أخرجه الترمذي: أبواب الدَّعوات عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، برقم (3528)، وحسَّنه الألباني في "صحيح الجامع"، برقم (701).
  5. أخرجه البخاري: كتاب بدء الخلق، باب ما جاء في قول الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [الروم:27]، برقم (3194).
  6. انظر: "مجموع الفتاوى" (11/239).
  7. أخرجه أحمد في "المسند"، برقم (6696)، وقال مُحققوه: "حديثٌ محتملٌ للتَّحسين، وهذا إسنادٌ ضعيفٌ؛ محمد بن إسحاق مُدلِّس، وقد عنعن. يزيد هو ابن هارون".
  8. أخرجه ابن السُّني في "عمل اليوم والليلة" (ص675).
  9. أخرجه أبو داود: كتاب الطب، بابٌ في تعليق التَّمائم، برقم (3883)، وابن ماجه: أبواب الطب، باب تعليق التَّمائم، برقم (3530)، وابن حبان في "صحيحه"، برقم (6090)، والحاكم في "المستدرك"، برقم (8290)، وقال: "هذا حديثٌ صحيحُ الإسناد على شرط الشَّيخين، ولم يُخرِّجاه".
  10. انظر: "الفروع وتصحيح الفروع" (3/248).
  11. أخرجه أبو داود: كتاب الطب، بابٌ في تعليق التَّمائم، برقم (3883)، وابن ماجه: أبواب الطب، باب تعليق التَّمائم، برقم (3530)، وأحمد في "المسند"، برقم (3615)، وقال مُحققوه: "صحيحٌ لغيره، وهذا إسنادٌ ضعيفٌ؛ لجهالة ابن أخي زينب، لكنَّه مُتابع كما سيرد، وبقية رجال الإسناد ثقات، رجال الشَّيخين غير يحيى بن الجزار، فمن رجال مسلم"، وابن حبان في "صحيحه"، برقم (6090)، و"صحيح الجامع"، برقم (1632).
  12. أخرجه أحمد في "المسند"، برقم (18781)، وقال مُحققوه: "حسنٌ لغيره، وهذا إسنادٌ ضعيفٌ".
  13. أخرجه الترمذي: أبواب الطب عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، باب ما جاء في كراهية التَّعليق، برقم (2072).
  14. أخرجه أبو داود: كتاب الطب، بابٌ في تعليق التَّمائم، برقم (3883).
  15. أخرجه الحاكم في "المستدرك"، برقم (7503).
  16. انظر: "فتح المجيد شرح كتاب التوحيد" (ص125-126).
  17. أخرجه أبو داود: كتاب الطب، بابٌ في تعليق التَّمائم، برقم (3883)، وأحمد في "المسند"، برقم (3615)، وقال مُحققوه: "صحيحٌ لغيره، وهذا إسنادٌ ضعيفٌ؛ لجهالة ابن أخي زينب، لكنَّه مُتابع كما سيرد، وبقية رجال الإسناد ثقات؛ رجال الشيخين، غير يحيى بن الجزار"، وحسَّنه الألباني في "تحقيق مشكاة المصابيح"، برقم (4552).
  18. تمام الحديث السابق.
  19. انظر: "مجموع الفتاوى" (11/239).

مواد ذات صلة